وامكن تلاشي عملية ترك النبي للامة بدون مرجع عن طريق ما عرف بولاية العهد ، وذلك بأن يقوم الخليفة او الامام او رئيس الدولة القائم كائناً من كان بتعيين من يتولى امور المسلمين من بعده ، لان الامام او الخليفة او رئيس الدولة الاسلامية القائم كائناً من كان هو ولي الامة والامين عليها ، ينظر للامة في حال حياته ، ويتبع ذلك ان ينظر لهم بعد مماته ، ويقيم لهم من يتولى امورهم كما كان هو يتولاها ، ويثقون بنظره لهم في ذلك كما وثقوا به في ما قبل ، وقد عرف ذلك من الشرع باجماع الامة على جوازه وانعقاده . اذ وقع بعهد ابي بكر رضي الله عنه لعمر . وكذلك عهد عمر في الشورى الى الستة ... (1) .
وقد شرعت ولاية العهد بسبب فعل ابي بكر وعمر وعدم معارضة الصحابة لهم مما جعلها وليدة الاجماع ، والاجماع سند شرعي كما يرى ابن خلدون ، وذلك حرصا على وحدة المسلمين ومصلحتهم وهروبا من الفتنة ، وحتى لا تبقى امة محمد هملاً بغير راع على حد تعبير السيدة العائشة ام المؤمنين (2) وتجنبا للوم على حد تعبير عبد الله بن عمر بن الخطاب (3) .
ويبدو ان الامام الوحيد برأي اهل السنة الذي لم يسم خليفته ، ولم يتخذ ولياً للعهد هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . فهو بالمفهوم عند ابن خلدون : ينظر للناس عند حياته ، ويتبع ذلك ان لا ينظر لهم بعد وفاته ، بعكس بقية الخلفاء ، او رؤساء الدول الاسلامية حيث ينظر الواحد منهم عند حياته ويتبع ذلك ان ينظر لهم بعد وفاته (4) .
والخلاصة ان الصحابة الكرام اكتشفوا بعد طول معاناة ان ترك الامة دون بيان المرجع والامام وولي العهد دمار محقق ، وان الوصية والتسمية افضل لمصلحة المسلمين فشرعوها ، او هكذا صور .
والاهم من ذلك ان الشريعة الاسلامية شريعة سماوية ، وقد بينت كل شيء اجمله القرآن الكريم او فصله ، وبينه الرسول ودعمه ، وخلو الدين من هذا الامر الجوهري
____________
(1) راجع مقدمة ابن خلدون ص 210 دار الفكر .
(2) الامامة والسياسة لابن قتيبة ص 23 .
(3) مروج الذهب للمسعودي ج 2 ص 353 .
(4) مقدمة ابن خلدون ص 210 دار الفكر .

( 163 )

يناقض كمال الدين وتمام النعمة ، خاصة وان الرسول قد خير واختار الموت ، ومرض قبل الموت ، وعرف انه ميت في مرضه ذاك . ثم ان الله قد قذف في قلبه محبة هذه الامة ، وجعله بالمؤمنين رؤوفا رحيما ، واطلعه على مستقبل هذه الامة ، فهل من الممكن عقلا ان يموت الرسول دون ان يبين للناس من هو المرجع من بعده ؟ ومن هو خليفته ؟ كيف تفوته هكذا امور فيتلاشاها ابو بكر وهو ليس نبياً ، وعمر وهو ليس نبيا ؟ وتحس بخطورتها عائشة ام المؤمنين وهي امرأة وليست نبياً ، فتحض عمر على الاستخلاف وتقول ( استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملاً !! ) هذا امر غير وارد قطعاً ، تدحضيه النصوص الشرعية القاطعة وتكذبه ، بالرغم من تقديرنا للواقع التاريخي الذي ساد .
فأهل السنة تشبثوا بكل شيء ليبرروا هذا الواقع الذي حدث . تشبثوا بالنص ، وعندما خذلهم النص تشبثوا بالافتراض ، وعندما انهار الافتراض تشبثوا بالشورى وعندما انهارت الشورى تشبثوا بالرأفة بالمسلمين والحرص على مصلحتهم ووحدتهم ومستقبلهم حتى لا يتركوا هملاً وبلا راع . واستقروا بعد طول ترحال على مبدأ ان الامام القائم او الخليفة القائم هو الذي يسمي من يليه ، اي يحدد للامة الشخص الذي عليها ان تبايعه (1) .

المرجع بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند اهل السنة

الخليفة او الامام او رئيس الدولة الاسلامية ، القائم مقام النبي هو المرجع الديني والدنيوي معاً ، كيف لا وهو خليفة رسول الله . فما كان الرسول يقوم به يقوم به الخليفة . فهو ينظر في مصالح الامة لدينهم ودنياهم ، وهو وليهم والامين عليهم ينظر لهم ذلك في حياته ويتبع ذلك ان ينظر لهم بعد مماته ، ويقيم لهم من يتولى امورهم كما كان يتولاها ، ويثقون بنظره لهم في ذلك كما وثقوا به فيما قبل (2) فهو يملك كافة الاختصاصات التي كان يختص بها النبي وكافة الصلاحيات المخولة للنبي كامام وكولي
____________
(1) راجع كتابنا النظام السياسي في الاسلام فقد استعرضنا فيه كافة النظريات التي تشبث بها اهل السنة ونقدناها نقدا علميا ص 8 وما فوق .
(2) راجع مقدمة ابن خلدون دار الفكر ص 210 .

( 164 )

للامة . وقد افردنا فصلا في كتاب النظام السياسي لهذه الاختصاصات (1) ونقلنا قول صاحب كتاب نظام الحكم المرحوم ظافر القاسمي حيث قال ( ان اختصاصات الخليفة تشمل جميع الشؤون الداخلية والخارجية والعسكرية ، وان اعباءه تقع عليه وحده ، وانه اذا فوض شيئا منها فان ذلك لا يسقط حقه الاصيل بممارستها ) (2) .
ولقد حاول الامام الماوردي ان يكشف ويحدد هذه الاختصاصات على الصفحتين 15 و 16 من الاحكام ، وكذلك الفراغ على الصفحة 11 . ولقد لخصنا هذه المحاولة في كتابنا النظام السياسي ص 194 . والمرجعية الدينية تابعة بالضرورة لرئاسة الدولة ، لان رئيس الدولة هو خليفة النبي ، والنبي كان هو المرجع الديني والدنيوي معا . فما كان يمارسه النبي يمارسه الخليفة ، لانه هو القائم مقام النبي في كل امر من الامور عدا النبوة ، بل ان هنالك امورا دخلت باختصاصهم وقالوا بأن النبي نفسه لم يمارسها وهي ولاية العهد . فالنبي ترك الامة بدون راع وبدون ولي وبدون مرجع وبدون امام برأيهم ، ثم قام ابو بكر بمبادهة منه وتشجيع من اكابر الصحابة باتخاذ عمر وليا لعهده وتوليته خليفة من بعده . ثم جاء عمر فعهد لستة ، ومن يدقق بالعهد يكتشف انه عهد عمليا لعثمان ، لان عثمان كان يعرف بالرديف ، والرديف بلسان العرب هو الرجل الذي بعد الرجل ، والعرب تقول ذلك للرجل الذي يرجونه بعد زعيمهم (3) ومن جهة ثانية فان طلحة كان غائباً ، فلو وقف الزبير وطلحة وعلي في صف ، ووقف الثلاثة الآخرون في صف عثمان لكان عثمان هو الخليفة لان التنفيذ الحرفي لوصية الفاروق يؤدي حتماً لاستخلاف عثمان ـ دقق بكل المصادر ستصل الى هذه النتيجه ـ .
وفي خلافة بني امية كان رئيس الدولة هو الذي يسمي خليفته على الغالب ، او كان الغالب هو الخليفة وهو المرجع وهو الذي يعين المرجع من بعده . وفي خلافة بني العباس كان الامر كذلك ، وفي خلافة بني عثمان كان الامر كذلك .
وهذا المبدأ ـ اي ان الخليفة هو المرجع وانه هو صاحب الحق بتولية الخليفة الذي يليه ليكون خليفة من بعده ومرجعا ـ سنة ابو بكر وعمر رضي الله عنهما ، ونسج الخلفاء
____________
(1) النظام السياسي ص 187 .
(2) راجع نظام الحكم للاستاذ ظافر القاسمي ص 353 .
(3) راجع نظام الحكم للاستاذ ظافر القاسمي وقد نقلها عن الطبري ص 197 ـ 198 .

( 165 )

على منوالهما . والفرق ان ابا بكر وعمر كانا يتوخيان ان لا يسند هذا الامر لقريب لهما ، بينما كانت الامور فيما بعد عكس ذلك ، وقد جرت العادة فيما بعد واستقرت على ان يسمي رئيس الدولة الحالي خليفته من بعده ويرشحه للامة . وقد صور هذا الامر كأنه حق للخليفة القائم ، وقد فهم كثير من علماء اهل السنة ذلك ومنهم ابن خلدون اذ يقول بالحرف : ان الامام ينظر للناس في حال حياته ويتبع ذلك ان ينظر لهم بعد وفاته (1) .

الحاكم القائم هو المرجع عند اهل السنة

اهل السنة يعتبرون الخليفة الذي يتولى رئاسة الدولة ويمارسها بالفعل هو المرجع بالذات في كل الامور الدينية والدنيوية . فأبو بكر هو المرجع الاعلى في زمانه ، وعمر هو المرجع الاعلى في زمانه ، وعثمان ومعاوية ويزيد ومروان بن الحكم ... الخ كل واحد منهم يقوم بدور ومهمة المرجعية في زمانه . وينطبق هذا الوصف على خلفاء بني العباس وبني عثمان . فكل واحد منهم مرجع في زمانه ، هو بالذات او من يوكل له هذه المهمة . فالعبرة بالمرجعية الفعلية هو الغلبة . فالحاكم الغالب على الامة هو وليها وامامها ومرجعها في كافة الشؤون الدينية والدنيوية .
ذكر ابو يعلى العز فقال ( روي عن الامام احمد مادل على ان الخلافة تثبت بالغلبة والقهر ، ولاتفتقر الى العقد ) فقال في رواية عبدوس بن مالك العطار ( ومن غلب بالسيف حتى صار خليفة وسمي امير المؤمنين فلا يحل لاحد يؤمن بالله واليوم الآخر ان يبيت ولا يراه اماماً براً كان ام فاجراً ) وقال في روايه ابي الحارث في الامام يخرج عليه ( من يطلب الملك فيكون مع هؤلاء قوم ومع هذا قوم ( تكون الجماعة مع من غلب ) وذلك اعمالاً للقاعدة الشرعية التي وضعها عبد الله بن عمر بن الخطاب عندما صلى بأهل المدينة يوم الحرة وقال للناس : نحن مع من غلب والناس يبايعون الغالب ) (2) .
الا ترى كيف انتهت الامور واقعيا بالنظام السياسي الاسلامي . فعلى الامة ان تبايع الغالب بغض النظر عن دينه وصفاته ، وبغض النظر عن موقف الشرع منه ، بل اصبحت تلك المقولات جزءاً من الشريعة السياسية .
____________
(1) المقدمة لابن خلدون .
(2) نظام الحكم للقاسمي .

( 166 )

والخلاصة ان الحاكم القائم الغالب هو المرجع في كافة شؤون الامة عند اهل السنة .

من الذي يقوم مقام الحاكم في المرجعية

مادام الحاكم حيا وغالبا فهو المرجع الاعلى للامة في كافة شؤونها الدينية والدنيوية . وقبل ان ينتقل هذا الحاكم الى جوار ربه ولو كان في النزع الاخير يعين للامة اماماً وولياً ومرجعاً لها من بعده ، وهو اهل لذلك ومخول بذلك . ولم لا ؟ فهو وليهم والامين عليهم ينظر لهم في ذلك في حياته ، ويتبع ذلك ان ينظر لهم بعد وفاته ، ويقيم لهم من يتولى امورهم كما كان هو يتولاها ويثقون بنظره لهم في ذلك كما وثقوا به فيما قبل . وقد عرف ذلك من الشرع باجماع الامة اذ وقع بعهد ابي بكر لعمر بمحضر من الصحابة فأجازوه واوجبوا على انفسهم به طاعة عمر (1) .
ونضيف : ان تولية معاوية ليزيد تمت بمحضر من بقي من الصحابة . فاذا عين الحاكم القائم خليفته ومرجعية الامة من بعده تقوم الامة عملياً بمبايعته ، ومن يعارض الامة فهو مفسد في الارض .
وصلاحيات الخليفة القائم بتعيين من يخلفه صلاحيات مطلقة لا راد لها ومعللة بكونه موضع الثقة على حد تعبير ابن خلدون ( وابو بكر على فراش الموت عهد الى عمر وقال لكاتب عهده عثمان : لو كتبت لك لكنت اهلاً لها ) (2) .
ثم ها هو عمر وهو على فراش الموت ايضا يفكر بأمر المسلمين ويقلب الامر على وجوهه المختلفة ، ويبحث عن الرجل الذي يستطيع ان يقوم مقامه فيقول ( لو كان ابو عبيدة حيا وليته واستخلفته ، ولو ادركت خالد بن الوليد استخلفته ووليته ، ولو ادركت سالماً مولى ابي حذيفة لاستخلفته ) (3) ومعنى هذا ان سالما مولى ابي حذيفة لو كان حيا لكان بامكانه ان يتسلم الخلافة مع ان سالما ليس قريشياً ولا يعرف له نسب في العرب ، ومع هذا كان يؤم المهاجرين والانصار في مسجد قباء ، كما يروي
____________
(1) مقدمة ابن خلدون ص 210 دار الفكر .
(2) راجع ص 429 ج 3 من تاريخ الطبري وص 37 من سيرة عمر لابن الجوزي .
(3) راجع مرض عمر وموته في تاريخ الطبري وفي طبقات ابن سعد وراجع ص 15 من الامامة والسياسة .

( 167 )

البخاري . وبالمناسبة اذا كانت خلافة سالم جائزة وهو الذي لم يعرف له نسب في العرب ، فكيف لا تكون جائزة خلافة الانصار ، اليسوا اقرب عرقيا لرسول الله ؟ ثم الم يحتج الثلاثة الذين حضروا السقيفة بأنهم اولى من الانصار لانهم اهل النبي وعشيرته . ثم ماذا تبقى من قاعدة : الائمة من قريش ؟ ثم كيف ان معاذ بن جبل من الانصار وكان لا يجوز تولية الانصار يوم السقيفة ، فكيف جازت فكرة تولية معاذ فيما بعد ؟ ثم ان خالداً قاتل الاسلام بكل فنون القتال حتى اسلم ، وعلي قاتل مع الاسلام بكل فنون القتال ، فبأي مبدأ يقدم خالد على علي ؟ !
وقيل لعمر ( استخلف عبد الله بن عمر ) ورفض عمر ذلك لسبب بسيط جداً وهو ان عبد الله بن عمر عجز عن طلاق امرأته كما قال عمر (1) .
وتصور بربك ان عمر ( رضي الله عنه ) فكر اخيراً بأن يعهد بالخلافة لعلي بن ابي طالب عليه السلام ولكن رهقته غشية (2) الا ترى ان صلاحيات الخليفة القائم بتسمية ولي عهده او امام المستقبل من بعده في نظر اهل السنة صلاحيات مطلقة . ويجدر بالذكر ان ولاية العهد اصبحت جائزة ومشروعة في نظر علماء اهل السنة بسبب عهد ابي بكر لعمر وعهد عمر للستة او عملياً لعثمان . وبعد ان تولى الامويون رئاسة الدولة اصبح العهد هوالطريقة المتبعة على الاغلب في تولية الخليفة وتعيين مرجع المستقبل ، وهكذا الحالة في عهد العباسيين والعثمانيين ، فاما عهد الىالولد او عهد لاحد افراد الاسرة المالكة (3) .
واصبحت التسمية او ولاية العهد او مرجعية المستقبل امراً شرعياً وذلك حرصاً على مصلحة المسلمين . انظر لقول ام المؤمنين : ( استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملاً ) ثم انظر الى رد عمر عليها ( ومن تأمرني ان استخلف ؟ ) فلو امرته ام المؤمنين ان يستخلف اي شخص لفعل .
____________
(1 و 2) راجع على سبيل المثال شرح النهج ج 1 ص 64 لعلامة المعتزلة راجع كتابنا النظام السياسي في الاسلام .
(3) راجع نظام الحكم للقاسمي ص 197 ـ 198 .

( 168 )

المرجعية الجماعية عند أهل السنة

قال ابن خلدون ( ان الصحابة كلهم لم يكونوا اهل فتيا ، ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم ، وانما كان مختصا بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه وسائر ادلته ، بما تلقوه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم او ممن سمعه منهم وعن عليتهم ، وكانوا يسمون ( ( القراء ) ) اي الذين يقرأون الكتاب لان العرب كانوا امة امية ، فاختص من كان قارئاً للكتاب بهذا الاسم لغرابته يؤمئذ وبقي الامر كذلك صدر الملة ) (1) .
وبحلول العهد الاموي تكونت المقاطع الاساسية لنظرية عدالة كل الصحابة بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي ، فأصبح الصحابة جميعا وبدون استثناء وبدون مقدمات كلهم عدولاً ، وكلهم من اهل الجنة ولا يدخل احد منهم النار (2) ولا يجوز عليهم الكذب ، وتحولوا لمراجع دينية كل واحد منهم مرجع قائم بذاته ومستقل عن سواه ، وان اخذت من اي واحد منهم جاز .
فرأي ابي بكر شرع لانه صحابي بالدرجة الاولى ، شأنه شأن كل الصحابة ، فهو من العدول وكذلك رأي عمر ، وكذلك رأي اي صحابي على الاطلاق .
يقول ابو حنيفة ( اذا لم اجد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله اخذت بقول اصحابه ، فاذا اختلفت آراؤهم في حكم الواقعة الواحدة اخذت بقول من شئت وادع من شئت ) (3) .
وجاء في اعلام الموقعين لابن القيم ( ان اصول الاحكام عند الامام احمد خمسة : الاول النص ، والثاني فتوى الصحابة ، فعمل الصحابي على خلاف عموم القرآن دليل على التخصيص وقول الصحابي بمنزلة عمله ) (4) .
____________
(1) راجع طبقات ابن سعد ج 4 ص 168 وراجع آراء علماء المسلمين ص 50 وما فوق .
(2) وقد نقلنا تعريف ابن حجر الذي اجمع عليه اهل السنة وحللناه في الباب الاول من هذا البحث .
(3) راجع المستصفى للغزالي ص 135 ـ 136 وراجع آراء علماء المسلمين للسيد الرضوي ص 88 .
(4) راجع المدخل الى علم اصول الفقه لمعروف الدواليبي وراجع ص 87 من آراء علماء المسلمين للسيد مرتضى الرضوي .

( 169 )

وبالمناسبة نذكر ثانية بأن سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تعني القول والفعل والتقرير . وانت تلاحظ ان لكل صحابي سنة قول وفعل وتقرير . انظر الى قوله ( وقول الصحابي بمنزلة عمله ) فقول الصحابي يخصص عموم الكتاب ( القرآن ) ويقيد مطلقاته ، وعمل الصحابي يخصص عموم الكتاب ويقيد مطلقاته . فأنت تلاحظ ان قول الصحابي يعامل كأنه وحي من السماء لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ والكارثة اي صحابي بالمعنيين اللغوي والاصطلاحي ـ . فأبو بكر صحابي ومعاوية صحابي ومروان بن الحكم صحابي وعبد الله بن ابي سرح صحابي ، والاربعة كما يتصور اهل السنة مراجع ونجوم ، وبأي واحد منهم يجوز الاقتداء به والاهتداء .
والخلاصة ان لدى اهل السنة مرجعية جماعية . فكل واحد من الصحابة بلا استثناء مرجع قائم بذاته منزه ، ممتنع عليه الكذب ، ينطق بالحق المبين لانه من اهل الجنة . ومن يشك بهؤلاء المراجع جميعاً او بأي واحد منهم فهو زنديق لا ينبغي ان يؤاكل او يشارب او يصلى عليه . وبعد ان انتقل الصحابة كلهم الى جوار ربهم حل محلهم التابعون ، وبانتقال التابعين الى جوار ربهم حل محلهم العلماء من اهل السنة ، والاحزاب التي تكونت عندهم .

كيف تعمل المراجع عند اهل السنة

بعد وفاة النبي وفي زمن الخلفاء الراشدين كان الخليفة هو المرجع الاعلى للمسلمين ، فهو صحابي ومن العدول حقيقة وبنفس الوقت هو الخليفة ، يسأل من يشاء من الصحابة ويأخذ برأيه او برأي من يشاء . وغالباً ما كان يسأل ابو بكر وعمر القراء كعلي ، وابي بن كعب ، ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت ... ولا تثريب عليه لو اخذ برأيه لان المطلوب هو معرفة الحكم الشرعي . وفكرة عدالة الصحابة بالمعنى الذي طرحه الامويون وروجوا له واقروه لم تكن موجودة ، والاكثرية الساحقة من الصحابة كانت ادوارهم بالمرجعية محدودة جداً بمعنى انهم لم يكونوا مراجع .
ولم يختلف الامر كثيرا في العهد الاموي ، فمعاوية بوصفه صحابي ومن العدول بعد ان تكرست نظرية عدالة الصحابة اصبح هو المرجع الاعلى للمسلمين ، ويمارس


( 170 )

مرجعيته كما مارسها من سبقه بالخلافة ، فله ان يسأل من يشاء ويأخذ برأي من يشاء وقد افادته فكرة عدالة كل الصحابة لانها جعلته من اهل الجنة وبررت له الجلوس محل ابي بكر وعمر وعثمان وعلي مع انه الطليق ابن الطليق ، وبررت له ان يتمتع بنفس الصلاحيات بوصفه خليفة . واذا تعددت آراء الذين سألهم معاوية او الذين عرضوا عليه آراءهم ، فلمعاوية الحق بأن يأخذ ما يشاء ممن يشاء .
اما بالنسبة لطلاب العلوم فهم احرار بقبول ما يرونه من آراء الصحابة في المسألة الواحدة اذا تعددت . وتتكرر الحالة مع التابعين ، وتتكرر الحالة مع علماء المسلمين بعد التابعين ، وتتكرر فيما يتصل بالاحزاب . وبعد زوال الخلافة الاسلامية اصبح كل عالم من علماء اهل السنة مرجعاً قائماً بذاته يفتي لنفسه ولاتباعه ، واصبح كل حزب من الاحزاب العربية خاصة مرجعاً قائماً بذاته ومهمته منصبة على اثبات انه على الحق ، وتكثيف الجهود ليستحوذ وحده على السلطة في اي مصر يتواجد فيه .

* *





( 171 )

الفصل الخامس
المرجعية البديلة


اجتهد البعض في مورد النصوص الشرعية ( مع انه لا اجتهاد في مورد النص ) وقادهم هذا الاجتهاد الى نتيجة أن المرجعية الشرعية التي عينتها وحددتها العقيدة الالهية ليست في مصلحة الاسلام ولا في مصلحة المسلمين ، لاعتقادهم ان النصوص المتعلقة بتحديد وتعيين المرجعية الالهية هي من التحليل العقلي للنبي وليست اوامر الهية ، وان النبي عندما وضع مرتكزات هذا التحليل كان لا يعرف توجهات الرأي العام الاسلامي ، وانه يرفض رفضا قاطعا ان يجمع لبني هاشم النبوة والخلافة ، وعز على هذا البعض ان يواجهوا النبي صراحة بما في نفوسهم . وتلاحقت الاحداث سريعا ، ووضعت المرجعية البديلة على عجل ، وتصور الذين وضعوها انهم يحسنون صنعاً ، ويخدمون الاسلام والنبي بفعلتهم هذه ، وتصوروا انهم وحدهم الذين اناطت بهم العناية الالهية امر التخطيط لبناء مستقبل الاسلام ، لانه برأيهم لا يوجد في صفوف المسلمين من هو اكثر اهلية منهم للقيام بهذا العمل الخطير ، فحزموا امرهم وشرعوا بترجمة ما بيتوه .

الشروع بوضع معالم المرجعية البديلة

النبي على فراش الموت ، وجبريل الامين لا ينقطع عن زيارته ، واكثر ما كان يأتيه جبريل في مرضه ، النبي على علم بمستقبل هذه الامة ، وقد ادى النبي دوره كاملاً وبلغ


( 172 )

رسالات ربه ، وبين لهم كل شيء على الاطلاق ، وهو على علم تام بما يجري حوله ، ومدرك انه السكون الذي يسبق الانفجار فينسف الشرعية السياسية والمرجعية ، وبنسف الشرعية السياسية والمرجعية يتجرد الاسلام من سلاحه الجبار ويتعطل المولد الاساسي للدعوة والدولة .
ولكن مثل النبي لا ينحني امام العاصفة ، ولا يقعده شيء عن متابعة احساسه العميق بالرأفة والرحمة لهذه الامة ، وبالرغم من كمال الدين وتمام النعمة الالهية والبيان الالهي الشامل لكل شيء تحتاجه الامة بما فيه كيف يتبول وكيف يتغوط افرادها ، الا انه اراد ان يلخص الموقف لامته حتى تهتدي وحتى لا تضل ، وحتى تخرج بسلام من المفاجآت التي تتربص بها وتنتظر موت النبي لتفتح اشداقها فتعكر صفو الاسلام وتعيق حركته وتغير مساره .

المواجهة الصاخبة

النبي على فراش المرض ، وبيته المبارك يغص بأكابر الصحابة ، وقد اصر النبي على تلخيص الموقف والتذكير بالخط المستقبلي لمسيرة الاسلام فقال النبي ( قربوا اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده ابداً ) ما هو الخطأ بهذا العرض النبوي ؟ من يرفض التأمين ضد الضلالة ؟ ولماذا ؟ ولمصلحة من ؟ ثم ان من حق اي مسلم ان يوصي ، ومن حق اي مسلم ان يقول ما يشاء قبل موته ، والذين يسمعون قوله احرار في ما بعد باعمال هذا القول او ابطاله ، هذا اذا افترضنا ان محمداً مجرد مسلم عادي وليس نبياً وقائداً للامة .
فتصدى الفاروق عمر بن الخطاب ووجه كلامه للحضور وقال ( ان النبي قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله ) فاختلف اهل البيت فاختصموا ، منهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله كتاباً لا تضلوا بعده ابداً ، ومنهم من يقول ما قال عمر . فلما اكثروا اللغو والاختلاف عند النبي قال لهم رسول الله ( قوموا عني ) (1)
____________
(1) صحيح بخاري كتاب المرضى باب قول المريض : قوموا عني ج 7 ص 9 وراجع صحيح مسلم في آخر كتاب الوصية ج 5 ص 75 وصحيح مسلم بشرح النووي ج 11 ص 95 ومسند الامام احمد ج 4 ص 356 ح 2992 وشرح النهج لابن ابي الحديد ج 6 ص 51 .
( 173 )

وفي رواية ثانية ان الرسول عندما قال ( ائتوني بكتاب اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده ابدا ) تنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا ( هجر رسول الله ) قال النبي ( دعوني فالذي انا فيه خير مما تدعوني اليه ) (1) .
وفي رواية ثالثة قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( ائتوني بالكتف والدواة او اللوح والدواة اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده ابداً ) فقالوا ( ان رسول الله يهجر ) (2) .
وفي رواية رابعة للبخاري : ان النبي قال ( ائتوني بكتاب اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده ) قال عمر بن الخطاب ( ان النبي غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا ، فاختلفوا واكثروا اللغط ) قال النبي ( قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع ) (3) .
رواية بلفظ خامس للبخاري : قال النبي ( ائتوني اكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده ابداً ) فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع ، فقالوا ( ماشأنه اهجر ؟ استفهموه فذهبوا يرددون عليه ) فقال ( دعوني فالذي انا فيه خير مما تدعوني اليه ) (4) .
رواية بلفظ سادس للبخاري : قال النبي ( ائتوني بكتف اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده ابداً ) فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا ( ما له أهجر استفهموه ) فقال النبي ( ذروني فالذي انا فيه خير مما تدعوني اليه ) (5) .
رواية بلفظ سابع للبخاري قال النبي ( هلم اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ) قال عمر ( ان النبي غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله ) واختلف اهل البيت واختصموا فمنهم من يقول ( قربوا يكتب لكم رسول الله كتاباً لن تضلوا بعده ) ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلما اكثروا اللغط والاختلاف عند النبي قال ( قوموا عني ) (6) .
____________
(1) راجع صحيح بخاري ج 4 ص 31 وصحيح مسلم ج 3 ص 16 ومسند الامام احمد ج 1 ص 222 وج 3 ص 286 .
(2) راجع صحيح مسلم ج 2 ص 16 وج 11 ص 94 ـ 95 بشرح النووي ومسند الامام احمد ج 1 ص 355 وتاريخ الطبري ج 2 ص 193 والكامل لابن الاثير ص 320 .
(3) راجع صحيح بخاري ج 1 ص 37 .
(4) راجع صحيح بخاري ج 5 ص 137 وتاريخ الطبري ج 3 ص 192 ـ 193 .
(5) صحيح بخاري ج 2 ص 132 وج 4 ص 65 ـ 66 .
(6) صحيح بخاري ج 8 ص 161 .

( 174 )

وفي رواية ان عمر بن الخطاب قال ( ان النبي يهجر ... ) (1) وقد اعترف الفاروق انه صد النبي عن كتابة الكتاب حتى لا يجعل الامر لعلي (2) .

تحليل المواجهة
اطراف المواجهة

الطرف الاول : هو محمد رسول الله وخاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم وامام الدولة الاسلامية ( رئيسها ) .
الطرف الثاني : هو عمر بن الخطاب احد كبار الصحابة ووزير من ابرز وزراء دولة النبي والخليفة الثاني من خلفاء النبي فيما بعد .
مكان المواجهة : بيت النبي .
شهود المواجهة : كبار الصحابة رضوان الله عليهم .

النتائج الاولية للمواجهة
1 ـ الانقسام

ان الحاضرين قد انقسموا الى قسمين : ـ
القسم الاول : يؤيد الفاروق فيما ذهب اليه من الحيلولة بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبين كتابة ما يريد . وحجة هذا الفريق ان الفاروق من كبار الصحابة واحد وزراء النبي ومشفق على الاسلام ، وان النبي مريض وبالتالي فلا داعي لازعاجه بكتابة هذا الكتاب . ثم ان القرآن وحده يكفي ، فهو التأمين ضد الضلالة ولا داعي لاي كتاب آخر يكتبه النبي .
____________
(1) راجع تذكرة الخواص للسبط الجوزي الحنفي ص 62 وسر العالمين وكشف ما في الدارين لابي حامد الغزالي ص 21 .
(2) راجع شرح نهج البلاغة لعلامة المعتزلة ابن ابي الحديد ج 3 ص 113 سطر 27 طبعة اولى مصر واوفست بيروت وج 12 ص 79 سطر 3 بتحقيق محمد ابي الفضل وج 3 ص 803 دار مكتبة الحياة وج 3 ص 167 دار الفكر .

( 175 )

القسم الثاني : يرفض المواجهة اصلا بين التابع والمتبوع ، وبين نبي ومصدق به وبين رسول يتلقى تعليماته من الله ، وبين مجتهد يعمل بما يوحيه له اجتهاده ، وبين رئيس دولة ونبي بنفس الوقت ، وبين واحد من وزرائه . ويرى هذا القسم ان تتاح الفرصة للنبي ليقول ما يريد ، ولكتابة ما يريد ، لانه نبي وما زال نبياً حتى يتوفاه الله ، ولانه رئيس الدولة وما زال رئيسا للدولة حتى يتوفاه الله ويحل رئيس آخر محله . ثم على الاقل لانه مسلم يتمتع بالحرية كما يتمتع بها غيره ، ومن حقه ان يقول ما يشاء وان يكتب ما يشاء . ثم ان الاحداث والمواجهة تجري في بيته ، فهو صاحب البيت ، ومن حق اي انسان ان يقول ما يشاء في بيته .

2 ـ بروز قوة هائلة جديدة

برز الفاروق كقوة جديدة هائلة استطاعت ان تحول بين النبي وبين كتابه ما يريد ، واستطاعت ان تستقطب لرأيها عدداً كبيراً من المؤيدين بمواجهة مع النبي نفسه وبحضور النبي نفسه (1) واستطاع ان يحرك الاحداث وان يقودها بكفاءة . ولحد الآن : لا احد يدري على وجه اليقين من الذي اوصى للانصار بفكرة الاجتماع بسقيفة بني ساعدة ، ولا كيف التم شمل هذا الاجتماع ولا من الذي دعا اليه . ولا احد يدري كيف علم به عمر من دون كل المهاجرين . فالثابت ان الذين حضروا هذا الاجتماع من المهاجرين ثلاثة فقط هم : ابو بكر الصديق وعمر وابو عبيدة . والثابت ايضا ان ابا بكر رضي الله عنه كان يساعد العترة الطاهرة بتجهيز النبي . والثابت ايضا ان عمر رضي الله عنه هو الذي دعا ابا بكر واخبره بحادث اجتماع السقيفة . والثابت ايضا ان ابا بكر وعمر وجدا وهما في طريقهما الى السقيفة ابا عبيدة بالصدفة (2) .
فالفاروق كان يعيش في صميم الاحداث ويتابعها متابعة دقيقة ، دقيقة بدقيقة . وفي داخل السقيفة كان له الدور الاعظم ، فلو اراد لكان هو الخليفة . وبعد الخروج من السقيفة ومبايعة الاكثرية الحاضرة لابي بكر الصديق ، هو بنفسه الذي قاد عملية اتمام البيعة وهو الذي صاح بالمهاجرين انه قد بايع الصديق وبايعه الانصار وان عليهم ان
____________
(1) راجع مراجع يوم الرزية وكيف اجمعت على ان الفاروق هو الذي قال حسبنا كتاب الله .
(2) راجع على سبيل المثال الامامة والسياسة لابن قتيبة ص 5 وما فوق .

( 176 )

يقوموا فيبايعوا ، فنهض عثمان ومن معه من بني امية فبايعوا الصديق . وعثمان والامويون بأغلبيتهم هم اول من بايع الصديق ، وعمر بن الخطاب نفسه هو الذي نظم الذين بايعوا ابا بكر في السقيفة وجهز منهم سرية ، واخرجت علياً ومن معه من بيت فاطمة الزهراء ليبايعوا الصديق (1) وهو نفسه الذي احضر الحطب وهم باحراق بيت فاطمة ان لم يخرج المعتصمون به (2) وهو نفسه الذي هدد علياً بالقتل ان لم يبايع (3) وهو نفسه الذي اشار على ابي بكر الصديق بأن يترك لابي سفيان ما بيده من الصدقات ليضمن ولاءه (4) واشار عليه بأن يعين يزيد بن ابي سفيان قائداً لجيش الشام (5) وهو القوة الهائلة التي صنعت الاستقرار لدولة ابي بكر ، ولم يطل بقاء الصديق في الحكم طويلا فانتقل الى جوار ربه وورث عمر دولة آمنة مستقرة ، وانتقلت اليه السلطة بيسر وسهولة وبدون معارضة ، وكان الانتقال خطوة طبيعية تتبع خطوة ، وعاجلا ام آجلاً سيكتشف الباحثون ان للفارق قدرة هائلة على التخطيط والتنظير ما توفرت لاحد قط من اقرانه (6) فقد قام بدور الهيئة التأسيسية لعصر ما بعد النبوة ، ورتب كل شيء لمستقبل الحكم في الاسلام ، فلن يجمع الهاشميون الخلافة والنبوة ابداً ، وستكون الخلافة تداولاً في غيرهم ، وحقاً خالصاً لمن غلب بغض النظر عن شرعية او عدم شرعية وسائل الغلبة .

3 ـ بروز فكرة التغلب وترجيح التابع على المتبوع

نبتت بهذه المواجهة فكرة التغلب وترجيح التابع على المتبوع ، او المساواة بين التابع والمتبوع وخلق حالة من الشبهات والحيرة مع من يكون الصواب هل هو مع التابع او مع المتبوع ؟
____________
(1) راجع على سبيل المثال الامامة والسياسة لابن قتيبة ص 5 وما فوق .
(2) راجع مراجع التحريق الذي ذكرناها اكثر من مرة .
(3) الامامة والسياسة ص 13 .
(4) راجع شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن ابي الحديد ج 1 ص 306 ـ 307 تحقيق حسن تميم مكتبة الحياة .
(5) راجع تاريخ الطبري ج 3 ص 209 ـ 210 وتاريخ الحكم للقاسمي ص 152 .
(6) راجع الكامل في التاريخ لابن الاثير ج 3 ص 24 وراجع شرح النهج لعلامة المعتزلة ابن ابي الحديد مجلد 3 ص 107 .

( 177 )

فحجة الفاروق ان النبي قد اشتد به الوجع ، وكتابة الكتاب بمثل هذه الحالة قد تشكل خطراً . وشايع الفاروق بذلك مجموعة من الصحابة ، وهذا شك .
وحجة الطرف الآخر ان محمداً ما زال نبياً وسيبقى نبياً حتى تصعد روحه الطاهرة الى بارئها ، وانه لا ينطق عن الهوى وهذا يقين . فترك اليقين الى الشك غير معقول والمرض ليس مانعاً من القول .

حادثتان مشابهتان

الاولى : لقد مرض الصديق واشتد به الوجع كما يجمع على ذلك كل اتباع الملة . فلما تم لابي بكر ما اراد من المشورة دعا عثمان خاليا ـ اي وحده ـ وقال له ( اكتب اما بعد ) ثم اغمي عليه من شدة الوجع ، فكتب عثمان ( فاني استخلف عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيراً ) فلما افاق ابو بكر من اغمائه قال لعثمان ( اقرأ علي ) فقرأ عليه ما كتب ، فقال ابو بكر ( اراك خفت ان يختلف الناس ان اقتتلت نفسي في غشيتي ؟ ) قال عثمان ( نعم ) قال ابو بكر ( جزاك الله خيراً عن الاسلام واهله ) واقرها ابو بكر (1) تلك حقيقة بالاجماع .
الثانية : مرض عمر نفسه . قال طبيبه ( لا ارى ان تمسي ، فما كنت فاعلاً ؟ ) فقال لابنه عبد الله ( عبد الله ناولني الكتف ) فمحاها ، وقال من شدة الوجع . ( والله لو كان لي ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطلع ) .
وكان رأسه في حجر ابنه عبد الله فقال لابنه ( ضع خدي بالارض ) فلم يفعل فلحظه وقال ( ضع خدي بالارض لا ام لك الويل لعمر ولام عمر ان لم يغفر الله لعمر ) (2) .
وبالرغم من شدة وجع ابي بكر فقد اوصى وكتب ما اراد ، وبالرغم من شدة وجع عمر فقد اوصى وكتب ما اراد ورتب امر الشورى واطمأن ان عثمان سيكون الخليفة ، واطمأن انه لا يسلط هاشمي على رقاب الناس حتى ولو كان ذا قوة وذا امانة . ونفذت
____________
(1) راجع تاريخ الطبري ج 3 ص 429 وص 176 من نظام الحكم للقاسمي وص 37 من سيرة عمر لابن الجوزي وج 2 ص 85 من تاريخ ابن خلدون وص 120 من كتابنا النظام السياسي في الاسلام .
(2) راجع الامامة والسياسة ص 21 ـ 22 والطبقات لابن سعد وص 120 ـ 121 من كتابنا النظام السياسي على سبيل المثال .

( 178 )

بدقة وصية الاثنين وسمح لهما بقولها وسمح لهما بالتوجيه بالرغم من اشتداد الوجع بكل واحد منهما . فعندما كتب كل واحد وصيته كان ما زال رسمياً على رأس عمله ( خليفة للمسلمين ) ومن حقه ان يمارس عمله ما دام حياً او لم يعزل .
تلك حقيقة مسلم بها بالاجماع وقولاً واحداً لا خلاف عليه . فكيف يسمح لابي بكر ولعمر بالتوصية وكتابة ما ارادا ، مع ان المرض قد اشتد بكل واحد منهما اكثر من اشتداده برسول الله ، ويحال بين الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبين كتابة ما اراد .
الا يحق لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم ما يحق لابي بكر وعمر رضي الله عنهما ؟ هذا مع الافتراض ان محمداً على قدم المساواه مع ابي بكر وعمر ، وهذا افتراض مرفوض شكلا وموضوعاً ، لان محمداً نبي مرسل من الله وامام ، بينما ابو بكر وعمر من الاتباع ، ومحمد يوحى اليه ، وقد اكد وقال اكثر من مرة ان اكثر ما كان يأتيه الوحي كان يأتيه وهو مريض (1) والله يقول ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) ويقول ( وما صاحبكم بمجنون ) ( ما ضل صاحبكم وما غوى ) ( ان هو الا وحي يوحى ) فكيف يتحول بطرفة عين من كانت هذه صفاته وملكاته الى رجل حاشا له ان يهجر ؟ !! ولا يؤمن على كتابة وصية !!
ومع ان هذه حقائق دامغة لا قوة في الارض تستطيع ان تنكرها او تدافع عنها ، ومع ان هذه الواقعة نسفت مستقبل الاسلام كله ، وكانت هي البذرة التي انطلقت منها كل المآسي والنكبات التي حلت بالمسلمين ، الا ان اهل السنة يتجاهلونها تماما ولا يفكرون بها الا انها مجرد قصة .
وهكذا وعملياً رجح قول التابع على قول المتبوع ، فأصبح التابع مرجعاً والمتبوع متفرجاً ، وتم للتابع ما اراد ، وغلبت مشيئته ، واستقطب الناس لها ، فوجدت واقعياً فكرة الغلبة واثمرت واعتبرت الغلبة فيما بعد مبدأ شرعياً ، واجيز للامة ان تتفرج على الصراع بين متغالبين ثم تقف في النهاية مع الغالب مهما كانت صفاته ومهما كان دينه (2) فطمع المتبوع بالتابع ، وتقدم المفضول على الافضل .
____________
(1) راجع الطبقات لابن سعد ج 2 ص 193 .
(2) راجع نظام الحكم للقاسمي ص 344 ـ 345 وكتابنا النظام السياسي في الاسلام ص 153 .

( 179 )

ومن هنا فلا ينبغي ان ندهش اذا رأينا معاوية بن ابي سفيان يعتلي سدة الخلافة ، وهو الطليق ابن الطليق ومن المؤلفة قلوبهم ، وينازع بالخلافة اول من اسلم وولي الله بالنص ، ومولى كل مؤمن ومؤمنة بالنص ، ويحاول ان يقنع المسلمين بأنه افضل من علي واصلح للامة منه . ولاينبغي ان ندهش اذا وجدنا في عصور الاسلام من يقول هذا مجتهد وهذا مجتهد وكلاهما في الجنة .
ولاينبغي ان ندهش عندما يطالب مروان بن الحكم بالخلافة ، وهو ابن الحكم بن العاص الذي كان محظورا عليه ان يدخل المدينة في زمن الرسول وابي بكر وعمر حتى تولى الخلافة عثمان فأدخله معززا مكرما ، واتخذ ابنه مروان رئيسا لوزرائه وزوجا لابنته .
لقد تداعت الفوارق بين التابع والمتبوع ، وبين المتقدم عند الله وفي الاسلام والمتأخر في موازين الله والاسلام . فالوليد بن عقبة يتأمر على الحسين بن علي والوليد يعظ وعلى الحسين ان يسمع وعظ هذا الواعظ ، والوليد يصلي بالناس صلاة الصبح اربعا وهو سكران ويسأل المأمومين ان كانوا يرغبون بالزيادة ، وبعد ذلك فانه لا حرج ان يكون هذا الرجل اماما للحسين بن علي بن ابي طالب واميراً عليه ، ومرجعا يمكن للحسين اذا اراد ان يسأله في امور دينه ودنياه !!!

4 ـ ظفر الغالب ونجاحه

اصبح الغالب ـ اي غالب وايا كان ـ هو الظافر ، وهو سيد الموقف ، وهو امام المسلمين ورئيس دولتهم ، وهو مرجعهم في كل الامور الدينية والدنيوية ، وهو الحائز لكل وسائل القوة ، بيده السيطرة الكاملة على كل موارد الدولة يعطي لمن يشاء ويمنع العطاء عمن يشاء ، لا رقيب عليه الا الله ومقدار دينه ، وهو القائد العام لجيوش الاسلام يستعملها لتحقيق الامنين الخارجي والداخلي ولتطويع الرعية رغبة ورهبة ، وهو المسيطر سيطرة تامة على وسائل الاعلام ، فلو شاء جعل الابيض اسود ، ولو شاء جعل الاسود ابيض ، ويمكنه بسيطرته على وسائل الاعلام ان يجعل القزم عملاقا وان يحول العملاق الى قزم ، وتحول مؤيدوه الى واجهة له بيدهم الحل والعقد ، ومع الايام اصبحوا مراجع . فهم يتبنون وجهة نظر الغالب ويستعملون وسائله بالمرجعية ، فهم سادات المجتمع ، وهم الفراقد المتألقة ، واذا سار معهم اي واحد قادوه الى نقطة


( 180 )

الارتكاز ومحور الهداية ـ اي عين ما يراه الغالب . وعزف العامة على ذات الوتر واتحدت الامة على هذه الشاكلة ، وكلما مضت سنة ترسخت هذه السنة وتوطدت ، وكلما مر عقد ضربت جذورها في الارض واصبحت رأيا عاما وقناعة وعقيدة سياسية .

5 ـ عزل العترة الطاهرة

بهذا المناخ نادت العترة الطاهرة بالشرعية ، وقالت ان لها حقا وتطالب به ، ولكن الناس يحولون بينها وبين حقها الشرعي . كانت معارضة ابي الحسن لابي بكر معارضة متحضرة وشرعية ومنطقية جداً بشهادة بشير بن سعد اول من بايع ابا بكر حيث قال عندما سمع حجة الامام ( لو كان هذا الكلام سمعته منك الانصار يا علي قبل بيعتها لابي بكر ما اختلف عليك اثنان ) (1) .
ولكن تبقى السلطة سلطة ، وتبقى المعارضة معارضة ، ولايمكن بالفطرة للقائمين على السلطة او للسلطة بأي مقياس ان تثق سياسياً بالمعارضة ولا ان تسلم للمعارضة مكتسباتها . ولكن لان فاطمة بنت محمد بجانب الامام علي ، فقد رئي عدم قتله بالرغم من انه هدد بالقتل ان لم يبايع ، ورئي عدم اكراهه على البيعة تقديراً لفاطمة .
ولم تتخذ اية اجراءات فعالة ضد الامام وزوجته الزهراء عندما كانا يطوفان ليلاً في مجالس الانصار ويسألان النصرة ، فكان الانصار يقولون ( يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، ولو ان زوجك وابن عمك سبق الينا قبل ابي بكر ما عدلنا به ) ، فيقول علي ( افكنت ادع رسول الله في بيته لم ادفنه واخرج انازع الناس سلطانه ؟ ) فتقول فاطمة ( ما صنع ابو حسن الا ما كان ينبغي له ، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم عليه وطالبهم ) (2) .
ومع هذا فالنتجية المنطقية كانت عزل الامام بعد وفاة فاطمة وعزل شيعته . وتجلت الرغبة بعزل الامام عن بني هاشم خاصة بمحاولة السلطة اجتذاب العباس اليها باغرائه ببعض الامر له ولعقبه . ولكن العباس رفض ذلك رفضا قاطعاً ورد رداً حاسماً على السلطة (3) .
____________
(1 و 2) الامامة والسياسة ص 12 على سبيل المثال .
(2) الامامة والسياسة ص 15 ـ 16 .