الثاني : تحديد الضرر المنفي بـ (لا ضرر) بملاحظة طبيعة معناه
التركيبي - على المختار- ويملاحظة اقترانه بـ (لا ضرار) بنحولا يقتضي نفي
الضرر اصلاً في جملة من الموارد المذكورة .
اما الجزء الأول : فيظهر بملاحظة امرين :
الأمر الأول : في التدقيق في مفهوم الضرر. ان الضرر في الشيء
كالمال - مثلا - ليس مطلق عروض النقص عليه بل كونه أنقص عما ينبغي ان
يكون عليه من الكمية أو المالية ، كما لوعرضت على المال آفة توجب نقص
ماليته ، أو نقصت كميته بضياع أو سرقة أو غصب أو بصرف المالك له فيما
لا يعذ مؤونه له ولا يعود منه فائدة عليه ، فاما لو صرف فيما يرجع الى مؤونة
الشخص وشؤونه أو ينتفع منه بنحو مناسب معه فانه لا يكون ذلك ضررا
عليه ، ولذا لا يعتبر صرف المال في مؤونته ومؤونة عياله فيما يحتاجون اليه
-من الماكل والمشرب والملبس والعلاج والوقاية والتنظيف وسائرحاجاتهم -
اضرارا بالمال لا لغة ولا عرفا، وكذلك صرف المال في اداء الحقوق العرفية
للغير وسائر الرغبات العقلائية كالسفر الى مكان آخر لغرض ثقافي أو
اجتماعي ، وهكذا لو اشترك الشخص في مشروع عام أو جهة عامة يعم
الانتفاع بها .
وبالجملة : فصرف الشخص المال في الشؤون المتعلقة بتعيش نفسه
وعياله بحسب مستواه من العرف والعادة لا يعد ضررا، لان شأن المال ان
يصرف في مثل هذه الامور بل عدم صرفه في مثل الانفاق على العيال يعد
اضرارا بهم وظلما عليهم .
واذا لم يكن صرف المال في ذلك اضرارا فلا ينقلب ضررا بالالزام
الشرعي ليكون الحكم الشرعي ضرريا .
وعلى ضوء هذا البيان : يظهر عدم صدق الضرر في جملة من الموارد
(222)
السابقة، كما تنته له جمع من المحققين :
منها: ايجاب صرف المال فيما عليه من الحقوق بحسب العرف
كالانفاق على من يجب الانفاق عليه عرفا كالزوجة والاولاد وبعض الاقرباء
بل المواشي ونحوها، وكذلك صرف المال لتفريغ ذمته عما اشتراه من غيره ،
أو اشتغلت به ذمته من جهة اتلافه لمال الغيرأو بدلا عن الانتفاع به.
ومنها: ايجاب الخمس والزكاة - في الجملة - فانها تصرف في
مصارف عمدتها التحفظ على النظام والمصالح الاجتماعية العامة .
ومنها : ايجاب صرف المال في ازالة كثير من القذارات العرفية التي
يحسن الاجتناب عنها . الى غير ذلك من الموارد المختلفة .
ويمكن ضبط الموارد الخارجة عن حدود الضرر - على ضوء البيان
الذي ذكرناه - بنحو عام في حالات ثلاث :
الأولى : أن يكون الحكم الشرعي في مورد لا يكون صرف المال فيه
ضررا عرفا، فانه لا يكون الحكم حينئذ ضرريا وهذه الحالة هي التي يندرج
تحتها أكثر الموارد السابقة .
الثانية : أن يكون الحكم الشرعي بملاحظة كشف الشارع عن كون
المورد مصداقا لجهة لا يعتبر صرف المال في تلك الجهة ضررا ، فانه حينئذ
يكون خارجا عن الضرر تخصصا وان لم تعرف مصداقية المورد لتلك الجهة
لدى العرف ، نظير ما لو انكشفت مصداقية المورد من قبل غير الشارع كما
في القذارات المستكشفة بالوسائل الحديثة فان صرف المال في ازالتها لا
يعد ضررا كما هوواضح رغم عدم تعرف العرف على المصداق فيها أيضاً .
الثالثة : ان يكون الحكم الشرعي في مورد قد اعتبر القانون حقا من
الحقوق في ذلك المورد فلا يكون صرف المال فيه ضررا ،فان الاعتبار
(223)
الشرعي لتلك الجهة يوجب انتفاء الضرر على نحو الورود.
الأمر الثاني : ان قسما من الأحكام المذكورة لا يوجب ضررأ في
الحقيقة وانما يرجع الى عدم النفع أوتحديده ، وبين الضرر وعدم النفع فرق
واضح ، فإن الضرر هو انتقاص الشيء الموجود، وعدم النفع إنما هو عدم
تحقق الزيادة عليه ، فتوهم صدق الضرر في ذلك من قبيل توهم صدقه على
الحكم بعدم تملك الربا- وهو المقدار الزائد في المعاملة الربوية -.
واظهرموارد هذا القسم تشريع الخمس والزكاة.
ا - اما تشريع الخمس من الغنيمة بمعناها الاعم -وهو الظفر بالمال
بلا عوض مادّي - فانه تحديد لنفع المغتنم لا اضرار به ، لان اعتبار الشارع
الاغتنام سببا للملكية يرجع الى توفير نفع للمغتنم ، فاذا فرضنا ان الشارع قد
اعترف اولا بكون الاغتنام سببأ لملكية جميع الغنيمة كان ايجاب دفع خمسه
بعد ذلك تنقيصا لماله وضررا به . واما اذا لم يعترف منذ البدء بكون الاغتنام
سببأ للملكية الا بالنسبة الى اربعة اخماس الغنيمة - فلا يكون ايجاب دفع
الخمس الى من فرضه الشارع له ضررا بالمغتنم لانه لم يملكه أصلا .
ولتوضيح ذلك نتعرض لبعض موارد الخمس في الغنيمة:
منها : الغنيمة القتالية وهي التي يسيطرعليها المقاتلون المسلمون في
قتال الكفار، فقد جعل الشارع اخذها سببا للملكية ، إمضاءً لقانون الاغارة
الذي كان قبل الاسلام على ان يقسم بين المقاتلين ومن بحكمهم ، واستثنى
من ذلك الخمس على ان يكون للعناوين الخاصة، ولو انه لم يجعل شيئا
للمغتنم ، لم يكن ذلك ضررا عليه أصلا فضلا عن استثناء الخمس ، لعدم
حق لهم لولا الجعل الشرعي أصلا. وربما كان استثناء الخمس بعنوان انه
حق الرئاسة كما كان هذا الحق متعارفا في الجاهلية أيضاً حيث كان ربع
الغنيمة التي يحصلون عليها بالاغارة لرئيس القبيلة أو العشيرة ويسمى
(224)
مرباعاً
(1) .
ومنها : المعادن وهي على المختار وفاقاً للمشهور من الانفال فيكون
ملكا للامام ، ومرجع جعل الخمس فيها الى الاذن في استخراجها وتمليك
أربعة اخماسها للمستخرج توسعة على المؤمنين ، ويحق لولي الأمر ان لا
يأذن في استخراجها، فينحصر حق استخراجها بالدولة ويصرف جميعها في
سبيل مصالح المسلمين .
ومنها : الأرباح الزائدة وهي - بحسب الدقة والتحليل - احد مصاديق
الغنيمة بمعناها اللغوي ، أي الفوز بالمال بلا عوض مالي . وقد اختلف فيها
المنهج الرأسمالي والاشتراكي على طرفي افراط وتفريط ، والحل الوسط في
ذلك ما تضمنه فقه أهل البيت (عليهم السلام ) من اقرار الرابح على اربعة
اخماس ، واعتبار الخمس الباقي للعناوين الخاصة .
ان قيل : ان هذا ضررعلى الناس لان لكل انسان ان يحصل على ما
يشاء من الاموال باية وسيلة وعلى اي نهج فمنع التملك لمقدار الخمس
سلب لهذا الحق .
قيل : انه لم يثبت مثل هذا الحق بشيء من الأدلة، فانه ليس مدركا
بالعقل النظري ولا من قضاء الوجدان والضمير الانساني ، ولا مما بنى عليه
العقلاء بناء عاما،أما الاولان فواضح واما الثالث فلاختلاف القوانين في
حدود قانون الملكية الفردية حسب تقييم العقلاء للمصالح الفردية
والاجتماعية وتنبههم لها .
واما تشريع الزكاة : ففيما يتعلق بالغلات الأربع لا يمكن اعتباره
حكما ضرريا بعد ملاحظة ان شأن الزارع والفلاخ ليس الا اتخاذ بعض
____________
(1) لسان العرب 8| 101 (ربع ).
(225)
المعدات ، واما التنمية فانما هي بعوامل طبيعية خلقها الله تعالى من الماء
والمطر والشمس والجو وصلاحية التربة وغير ذلك حتى ان لبعض الطيور
تأثيرا في ذلك بدفع الحشرات الضارة، وقد اشير الى بعض هذه الجهات في
سورة الواقعة حيث قال تعالى :(
أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن
الزارعون * لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون *انا لمغرمون بل نحن
محرومون )
(1) ومفاده ان عمل الانسان انما يقتصر على الحرث وهو من
مقدمات الزرع من كراب الارض والقاء البذر وسقي المبذور، واما نفس
الزرع وهو الإنبات فانه من فعله تعالى بما قدره من عوامل مختلفة ولولا فعله
سبحانه لأصبح الزرع هشيما لا ينتفع به .
وكذلك لا تعتبر زكاة الأنعام الثلاثة ضررا بعد ملاحظة اختصاصها
بالسائمة منها. وربما لوحظ في فرض الزكاة عليها بعد حلول الحول عدم
اجتماعها لدى صنف خاص من الناس وتيسر وقوعها في متناول من يريد
اقتناءها لحوائجه الشخصية أو للتنمية .
وهكذا فرض الزكاة في الذهب والفضة المسكوكين مع حلول الحول
عليهما ، فإنه ربما كان للزجر عن تجميعها أوغرامة على ذلك بملاحظة انهما
كانا في العهد السابق نقدا، وخاصة النقد كونه ميزانا للمالية ووسيلة سهلة
للتبادل بين الأمتعة، ولولاه لكان التبادل بينهما أمرا صعبا ومعرضا للضرر
والغبن وتوفر النقود وتداولها من وساثل ازدهار التجارة ونموها وذلك مورد
اهتمام الشارع وعنايته كما لعله احد اسباب تحريم (ربا الفضل ) - كما ذكرناه
في بحث الربا -.
يضاف الى ما ذكرنا ما يترتب على تشريع الخمس والزكاة من المصالح
____________
(1) الواقعة 56: 63 ـ 67 .
(226)
الاجتماعية العامة - كما اشرنا اليه أولا - بل هذا التشريع مما توجبه العدالة
من جهة استفادة الجميع من الجهات العامة التي توفرها الدولة كبناء القناطر
وتعبيد الطرق وتحقيق الأمن وغير ذلك .
فظهر ان التدقيق في (الضرر) مفهوما وانطباقا يوجب دفع دعوى
التخصيص بالنسبة الى جملة من الاحكام التي عدت ضررية بطبعها .
واما الجزء الثاني من هذا الحل - وهوتحديد الضرر المنفي بـ (لا
ضرر) - فهويتضمن جهات ثلاث .
الأولى : ان الضرر المنفي منصرف عن كل ضرر تثبته الأحكام
الجزائية، وذلك لأن الحكم المولوي لا بدّ ان يدعمه قانون جزائي يثبت
ضررا على مخالفته سواء كان ضررا دنيويا أو اخرويا، والاّ لم يكن حكما
مولويا اصلا بل كان حكماً ارشاديا، اذ الحكم المولوي - على ما اوضحناه
سابقا - يتقوم بما يستبطنه من الوعيد فاذا لوحظ الضرر الذي يولده الحكم
الجزائي الذي يندمج في الحكم الشرعي فان الأحكام الشرعية كلها
ضررية ، اذ لا فرق في ذلك بين الضرر الدنيوي الذي يثبته مثل قوله سبحانه
(
والسارق رالسارقة فاقطعوا أيديهما )
(1) وبين الضرر الاخروي الذي يثبته
مثل قوله تعالى : (
ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً انما يكألون في
بطونهم نارا وسيصلون سعيرا )
(2) وعلى هذا فنفي التسبيب الى الضرر من
المقنن إنما ينصرف الى الضرر الابتدائي على الشخص دون ما كان جزاء اً
على مخالفة القانون ، هذا ما ينبغي ملاحظته .
كما ينبغي أن يلاحظ أيضا ان اضرار الحاكم لا يندرج تحت عنوان
____________
(1) المائدة : 5 | 38 .
(2)النساء: 4| 10 .
(227)
( الضرار) أيضا لان الضراربحسب كونه من باب المفاعلة يقتضي ان يكون بمعنى
انهاء الضرر الى الغير المستتبع لنسبة مماثلة من نفس الفاعل أو من الغيرولو
بالقوة ، فلا ينطبق ذلك في مورد اضرار الحاكم لانه لا يستتبع اضرارا آخر لا
من الحاكم لأن عمله محدود بحد قانوني ، ولا من قبل المتضرر لان الحاكم
بملاحظة الحماية القانونية له ليس في معرض أن يقع عليه ضررممن أجرى
عليه الحكم كما هوواضح .
الجهة الثانية : ان الحديث بحسب المراد التفهيمي منه على المختار
لا يشمل جملة من الاضرار فان المراد التفهيمي له هو نفي الزام المكلف
بتحمل الضرر، وعليه فلا ينفى الحكم الشرعي فيما لوأقدم المكلف بنفسه
على تحمل الضرر كما اذا اشترى شيئا مع اسقاط جميع الخيارات أو كان
عالما بالغبن أو العيب أو صالح صلحا محاباتيا أو ألزم نفسه شيئا بالنذر
والعهد واليمين ، ففي مثل ذلك لا يعد إمضاء الشارع لما أنشأه المكلف
تسبيبا من قبله لتحمل المكلف للضرر، وانما الشخص هو الذي حمل نفسه
الضرر ابتداءً والشارع انما أقره على ذلك .
ولا يقال : ان المكلف في مورد العلم بالغبن ونحوه وان كان اقدم على
الضرر ابتداءً، لكنه لم يقدم عليه بقاءً وانما الشارع الزمه به بسبب حكمه
باللزوم - كما ذكره غير واحد من المحققين - .
فانه يقال : إن اللزوم ليس حكما تأسيسيا شرعيا وانما ينتزع من اطلاق
المنشأ لما بعد الفسخ في موارد عدم الشرط ولو ارتكازا ، وإنما الشارع أمضى
ما انشأه المنشئ بحدوده .
الجهة الثالثة : إن اقتران (لا ضرر) ب (لا ضرار) يمنع عن شموله
لجملة من الاضرار، وذلك لان (لا ضرار) كما تقدم بحسب معناه التفهيمي
يثبت عدة انواع من الأحكام الضررية دفعا لوقوع الاضرار:
(228)
منها : احكام جزائية يستتبعها الاضراربالمجتمع من قبيل حد السرقة
والمحاربة وحد القصاص والتعزير.
ومنها : حق مكافحة الاضرار ولو بانزال الضرر على الغير كما في
بعض مراتب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومنها : فروض مالية مقابل الإضرار كضمان الاتلاف وأروش الجنايات
والديات التي تفرض على نفس الجاني .
ومنها : أحكام تمهيدية مانعة عن تحقيق الاضرار كحق الشفعة .
فالضرر الذي توجبه هذه الأحكام غير مشمول لـ (لا ضرر) لان اقترانه
بـ (لاضرر) الذي يثبت مثل هذه الأحكام يكون قرينة متصلة على تحديد
مدلوله ومانعة عن شموله لمثل ذلك .
وهكذا يتضح بمجموع ما ذكرناه : عدم اتجاه ما ادعي من لزوم
تخصيص الحديث في اكثرمدلوله بناءً على تفسيره بنفي الحكم الضرري .
الطريق الثاني : - في جواب الإشكال - ان يقال ان (لا ضرر) ليس
ظاهرا الا في نفي الحكم الذي ربما يترتب على امتثاله ضرر، دون ما كان
بطبعه ضرريا من قبيل الموارد المذكورة كالخمس والزكاة والحج وغيرها،
فهي خارجة عن مصب الحديث تخصصا، وذلك باحد وجوه :
الوجه الأول : ما ذكره المحقق النائيني من ان قاعدة (لا ضرر) ناظرة
الى الأحكام ومخصصة لها بلسان الحكومة، ولازم الحكومة ان يكون
المحكوم بها حكما لا يقتضي بطبعه ضررا لانه لو اقتض بطبعه ضررا لوقع
التعارض بينهما
(1) .
وتوضيحه : ان قاعدة (لا ضرر) انما سيقت للحكومة على الأدلة
____________
(1) رسالة لا ضرر تقريرات المحقق النائيني ص 211 .
(229)
الواقعية ولا معنى للحكومة بالنسبة الى الادلة التي تثبت أحكاما ضررية
بحسب طبعها، لان النسبة بين (لا ضرر) وبينها هي التباين .
والحكومة
التضييقية - كالتخصيص - لا تعقل الأ مع كون النسبة بين الدليلين عموما من
وجه أو عموماً مطلقا ، فإنها لا تفترق عن التخصيص الا بحسب اللسان حيث
ان لسان الحكومة هو لسان مسالمة مع الدليل الأخر، ولسان التخصيص
لسان معارضة معه والا فهما يشتركان في المحتوى وهوتحديد حجية الدليل
الآخر ؛ ولذلك لا تعقل الحكومة الا في مورد يعقل فيه التخصيص وبما ان
التخصيص لا يعقل في مورد كون النسبة هي التباين فانه لا تعقل الحكومة
معها ايضا.
وليس المقصود بذلك أن كل مورد لم يحكم فيه بالتخصيص لا يحكم
فيه بالحكومة ، اذ في بعض موارد العامين من وجه يلتزم بحكومة أحدهما على
الآخر ولا يلتزم بتخصيصه به بل يتعارض الدليلان في المجمع فيتساقطان ،
وإنما المراد أن كل ما لا يعقل فيه التخصيص لا تعقل فيه الحكومة .
ويرد على ذلك أولاً : انه لم يثبت كون (لا ضرر) مسوقا للحكومة على
الأدلة الأخرى ابتداءً حتى يقال بموجبه انه ناظر إلى خصوص الأدلة التي
تثبت بإطلاقها أو عمومها حكما ضرريا، لطرو عوارض خارجية ، ويحدد
مفاده بنفي الحكم الذي لا يكون بطبعه ضرريا ، بل الظاهر منه هو نفي
التسبيب إلى تحمل الضرر مطلقا سواء كان الحكم المسبب إلى الضرر
موجبا له بالذات أو بعروض عارض ، بل شموله للأول أوضح لأنه أجلى
الأفراد فيكون إخراجه منه تخصيصا في مفاده ويعود الإشكال .
وثانيا : ان مبناه في تقريب نفي الحديث للحكم الضرري هو جعل
الضرر عنوانا للحكم فيكون مصب النفي في الحديث نفس الحكم مباشرة،
وعلى هذا المبنى لا يمكن اعتبار (لا ضرر) حاكما على الأدلة الأولية - على
(230)
ما سيتضح في التنبيه الثالث - لأن لسان نفي الحكم المثبت للموضوع في
الدليل الآخر لسان معارضة مع لسان ذاك الدليل ، فإن الدليل يثبت الحكم
للموضوع و(لا ضرر) ينفي ذلك الحكم عن موضوعه ولامعنى للحكومة في
مثل ذلك .
نعم يمكن تصوير الحكومة على المختار في مفاد الحديث من أنه
ينفي التسبيب الشرعي إلى تحمل الضرر فيكون نفيا للتسبيب بالحكم
الضرري بلسان نفي الضرر كناية ، لكن هذا اللسان إنما ينتج تقديم الدليل
فيما أمكن الجمع الدلالي بينه وبين الدليل الآخر ليكون هذا حاكما وذاك
محكوما به ، وذلك كما في مورد يكون (لا ضرر) فيه أخص من الدليل الآخر
ولو في الجملة، وأما إذا لم يمكن الجمع الدلالي بينهما بذلك بان كانت
النسبة بينهما هي التباين - كما هو الحال في مورد (لا ضرر) مع أدلة الأحكام
الضررية بحسب طبعها - فلا وجه لتقدم الدليل الوارد بهذا اللسان علن غيره
كما هوواضح .
الوجه الثاني : ما عن السيد الأستاذ (قده ) من أن (لا ضرر) إنما هو
ناظر إلى العمومات والاطلاقات الدالة على التكاليف التي قد تكون ضررية
وقد لا تكون ضررية فيحددها بما إذا لم تكن ضررية ولا يتعرض للتكاليف
التي هي بطبعها ضررية ،والشاهد على ذلك ان وجوب الحج والجهاد وغيرهما
من الأحكام الضررية كانت ثابتة عند صدور هذا الكلام من النبي صلى الله
عليه وآله في قضية سمرة، ومع ذلك لم يعترض عليه أحد من الصحابة
بجعل هذه الأحكام الشرعية
(1) .
ويرد علية :
أولا : ان الاستشهاد يبتني على تصورأن الصحابة جميعا
____________
(1) لاحظ الدراسات ص 332 .
(231)
فهموا مغزى هذا الحديث على النحو الذي استظهرناه ، مع أن الشواهد
المختلفة تدل على ان أكثرهم لم يكونوا بهذه المنزلة، وقد قال النبي صلى
الله عليه واله في خطبته التي خطبها في مسجد الخيف -وقد نقلها
الفريقان - (نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم تبلغه ، يا أيها
الناس ليبلغ الشاهد الغائب ، فربّ حامل فقه ليس بفقيه ، ورب حامل فقه
إلى من هو أفقه منه )
(1) . وفي الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام :
(وليس كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله كان يسأله الشيء فيفهم
وكان منهم من يسأله ويستفهمه ، حتى أنهم كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي
والطارئ فيسأل رسول الله صلى الله عليه وآله حتى يسمعوا)
(2) . بل كانت
معرفتهم بالقرآن كذلك وقد أوضحنا ذلك فى بعض مباحث حجية ظواهر
الكتاب ومقدمة بحث حجية خبر الواحد وذكرنا جملة من شواهد ذلك من
روايات الفريقين .
وثانيا : انه على تقدير فهمهم لمعنى الحديث وثبوت عدم اعتراضهم
أو سؤالهم أو بدعوى أنه لو كان لنقل - لتوفر الدواعي على نقله - فمن
الممكن أن يكون الوجه في ذلك تنبه فقهاء الصحابة للطريق السابق في حل
الاشكال من عدم نفي (لا ضرر) لكل ضرر من جهة عدم صدق الضرر في
كثيرمن هذه الموارد على ما سبق توضيحه . وما يبقى منها-من موارد قليلة -
فإنه ربما خصص الحديث بالنسبة إليها لأن الخاص حيث وجد يتقدم عئى
العام ، وإن كان يدور بين أن يكون ناسخا أو مخصصا إلآ انه يحمل على
الثاني بحسب المتفاهم العرفي ، فيمكن أن يكون الوجه في عدم اعتراضهم
____________
(1) جامع احاديث الشيعة 1 |29 2| ح 347 .
(2) جامع احادبث الشيعة 1 |16 |ح 62 .
(232)
بذلك تنبههم لهذا النحو من الجمع العرفي ولا شهادة في عدم الاعتراض
بنفسه على اختصاص الضرر المنفي بما كان طارئا .
وربما كان مقصوده بهذا الكلام ما يأتي في الوجه الثالث .
الوجه الثالث : ما يبتني على جهتين :
الأولى : ان مورد هذه الكبرى في قضية سمرة إنما كان هو الضرر
الطارئ لأن ملكية النخلة في ملك الغير تستتبع حق الاستطراق إليها متى شاء
مالكها، كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله إنه قضى في
رجل باع نخله واستثنى نخلة فقضى له (بالمدخل إليها والمخرج منها ومدى
جرائدها)
(1) إلاّ أن عموم هذا الحق في مورد قضية سمرة للدخول بدون
الاستئذان كان ضررا على الأنصاري ، لأن البستان - الذي كانت فيه النخلة -
كان محل سكناه وسكن أهله ، فكان الدخول بدون استئذان موجبا لهتك
حرمتهم . وعلى هذا : فالضرر الطارئ هو القدر المتيقن من مفاد الحديث
لكونه موردا لالقائه في جهته .
والجهة الأخرى : ان الأحكام التي هي بطبعها ضررية كانت من
مشهورات أحكام الإسلام وحيث ان الصحابة كانوا حديثي عهد بالإسلام
فكانوا يحسون بثقل ذلك ومشقته ، ولم ينقل عن أحد منهم تصور شمول
الحديث لهذه الأحكام ، فكان ذلك قرينة متصلة للكلام على أن المنفي
شرعاً إنما هوخصوص الضرر الطارئ فلا ينعقد له ظهور في العموم .
التنبيه الثالث : في وجه تقديم (لا ضرر) على ادلة الأحكام الاولية .
وقد ذكر في ذلك وجوه كثيرة الا أن المشهور بين المحققين أنه على
نحو الحكومة التضييقية وهو الصحيح ، وحيث شاع لديهم التعرض لحقيقة
____________
(1) الوسائل كتاب التجارة ابواب احكام العقود 8 1 | 1 9| ح23219 .
(233)
الحكومة في المقام فلا بأس بالبحث عنها أولاً، فيقع الكلام في مقامين :
المقام الأول : في حقيقة الحكومة التضييقية .
ويلاحظ ان الحكومة تطلق على معنيين فتارة يراد بها الخصوصية
التي توجد في الدليل الحاكم التي توجب تقديمه على الدليل الأخرمتى لم
يكن هناك مانع من ذلك ، وبهذا المعنى تعد الحكومة من المزايا الدلالية
لأحد المتعارضين . واخرى يراد بها التحكيم وهو العلاج الخاص بين
الدليلين المتعارضين حيث يكون احدهما باسلوب الحكومة كما يراد
بالتخصيص أيضا نوع علاج خاص بين العام والخاص أو العامين من وجه
وحقيقة هذا العلاج الحكم باوسعية مقام الاثبات عن مقام الثبوت في الدليل
الأخر تقديما للدليل المتضمن لاسلوب الحكومة، فيقابل النسخ وغيره من
وجوه التقديم . وهذا المعنى من شؤون المعنى الأول وآثاره ، ونحن نبحث
أولاً عن حقيقة الحكومة بالمعنى الأول ثم نتعرض لوجه تقديم الحاكم على
المحكوم وكيفيته وشرائطه .
وذلك في ضمن جهات :
الجهة الأولى: في ذكر تقسيمات الحكومة ومحل البحث من
اقسامها :
التقسيم الأول : ان محتوى الدليل - بحسب المراد الاستعمالي -
يكون على أحد نوعين :
ا - ان يكون محتواه اعتبارا ادبيا تنزيليا وذلك من قبيل اثبات الحكم
بلسان اثبات موضوعه أو نفيه بلسان نفيه كأن .يقال بعد الأمر باكرام العلماء
مثلا (المتقي عالم ) و(الفاسق ليس بعالم ) فان الأول يثبت وجوب الاكرام
للمتقي بلسان تحقق موضوع الوجوب وهو العالم ، كما أن الثاني ينفي وجوب
الاكرام عن العالم الفاسق بلسان نفي تحقق موضوعه . ومن الواضح ان
اندراج المتقي تحت العالم وخروج العالم الفاسق عنه اعتبار ادبي تنزيلي .
(234)
وسيجيء توضيح هذا القسم في التقسيم الثاني .
2 - ان يكون محتواه اعتبارا حقيقيا متاصلا . وقد يمثل لذلك بحكومة
الامارات على الأحكام التي اخذ العلم أو عدمه حدأ لها كالاصول العملية
وذلك على القول بان مفاد ادلة حجية الامارات - كخبر الثقة أو الخبر الموثوق
به - هو تتميم كشفها باعتبارها علما . وذلك ليس على سبيل التنزيل والاعتبار
الأدبي ليكون تقدمها على الاصول العملية ونحوها على نحو الحكومة
التنزيلية ، وإنما على سبيل الاعتبار المتأصل بملاحظة أن للعلم عند العقلاء
قسمين : قسما تكوينيا وقسما اعتباريا وقد امضى الشارع -بما انه رئيس
العقلاء - العلم الاعتباري العقلائي .
فعلى هذا الرأي اذا فسرنا عدم العلم المأخوذ في موضوع جريان
الأصل مثلا كـ (رفع ما لا يعلمون ) بعدم العلم التكويني وقامت امارة كخبر
الثقة على الحرمة فان هذه الحالة تخرج عن حدود الأصل بنحو الحكومة،
لأن العقلاء يرون انفسهم عالمين علما قانونبا فلا يجدون انفسهم مشمولين
كـ(رفع ما لا يعلمون ) رغم تفسير العلم بالعلم التكويني .
ولا يمكن اعتبار ذلك من قبيل الورود لتوقف الورود على انتفاء
الموضوع في الدليل الأول وجدانا بمؤونة من التعبد، وعدم العلم التكويني
الموضوع في دليل الأصل حسب الفرض لا ينتفي وجدانا بوجود علم
اعتباري (نعم ) لوكان موضوع الأصل عدم العلم الجامع بين العلم التكويني
والعلم الاعتباري ، لكان تقدم الامارة عليه بنحو الورود لانتفاء الموضوع
حينئذ حقيقة بمعونة الاعتبار.
ويلاحظ : ان هذا النوع من الحكومة تترتب عليه آثار التضييق
والتوسعة معاً فانه يوجب تضييق الدليل المحكوم بحسب المراد التفهيمي ،
ان كان موضوعه كالأصل عدم الماهية، وتوسعته ان كان موضوعه وجود
(235)
الماهية كما في جواز الاخبار عما يعلم ونحوه .
هذا الا ان ثبوت هذا النوع من الحكومة محل تأمل .
وعلى تقديره فهو خارج عما هو المقصود بالبحث في المقام فان (لا
ضرر) ليس بمندرج في هذا القسم .
وتحقيق القول في هذا القسم من الحكومة (في وجه تقديم الامارات
على الاصول ) قد تعرضنا له في محله من علم الاصول .
التقسيم الثاني : ان مفاد الدليل الحاكم اما توسعة في الدليل المحكوم
أو تضييق فيه ، وبهذا الاعتبار تنقسم الحكومة الى قسمين :
ا - الحكومة على نحو التوسعة . وهي في الاعتبارات الأدبية عبارة عن
تنزيل شيء منزلة شيء آخر ليترتب عليه الحكم الثابت لذلك الشيء ، اثباتا
للحكم بلسان جعل موضوعه . واختيار هذا الاسلوب من قبل المتكلم قد
يكون لأجل إثارة نفس الاهتمام الثابت للحكم الأول من جهة تكراره والتاكيد
عليه بالنسبة الى الحكم الثاني ، فيعدل المتكلم عن الاسلوب الصريح الى
هذا الاسلوب الذي يظهره بيان حدود موضوع الحكم الأول استغلالاً للتاثير
النفسي الثابت للمنزل عليه لتحقيق مثله بالنسبة الى المنزل .
ومثال ذلك : ما ورد من ان الفقاع خمر فان اعتبار الفقاع خمرا تنزيلا
إنما يقصد به تفهيماً كونه حراما أيضاً كالخمر، ولكن اختير هذا التعبير بدلاً
عن أن يقال (ان الفقاع حرام ) لكي يوجد تجاهه نفس الاحساس الموجود
تجاه الخمر، لأن الخمر من جهة التشديدات المؤكدة حولها قد اكتسبت
طابعاً خاصا من المبغوضية والحرمة، واعتبار الفقاع خمرا يثير في نفس
المخاطب نفس الاحساس الموجود تجاه الخمر بالنسبة اليه .
وما ذكرناه هو النكتة العامة في الاعتبارات الأدبية من قبيل اعتبار زيد
اسدا، فان العدول عن التصريح بشجاعته في ذلك انما هو لاثارة نفس
(236)
المشاعر التي يثيرها عنوان الاسد عند المخاطب تجاه زيد، وقد أوضحنا
ذلك في بعض مباحث الألفاظ في علم الاصول .
وهذا القسم أيضا ليس بمقصود بالبحث فان (لا ضرر) ليس من هذا
القبيل بالنسبة الى ادلة الأحكام .
2 - الحكومة على نحو التضييق . وهي ان يكون مؤدى الدليل الحاكم
تحديد ثبوت الحكم لموضوعه نافياً لتصورثبوته له بنحوعام ، وذلك كأن ينفي
موضوع الحكم أومتعلقه بغرض نفي نفس الحكم على سبيل الكناية كقوله
عليه السلام : (لا ربا بين الوالد والولد) فان المقصود من نفي الربا هو نفي
حرمته لانفي حقيقته ولكنه تعرض لذلك بلسان نفي الموضوع على نحو
الكناية دون التصريح .
وهذا القسم هو المقصود بالبحث في المقام .
الجهة الثإنية : في أقسام الحكومة التنزيلية . ومواردها واختلاف مؤدى
الدليل الحاكم بحسبها .
ان الحكومة التنزيلية تنقسم الى قسمين :
الأول : ان يكون بلسان الاثبات ومفاده اعطاء شيء حد شيء اخر
وتنزيله منزلته ، كما اذا قام الدليل على ان (ولد المسلم مسلم ) فان الاسلام
بما انه عبارة عن عقيدة خاصة فلا يتصف به غير المميز، ولكن الدليل
المذكور ينزل ولد المسلم منزلة المسلم فيضيق دائرة الدليل الدال على ان
غير المسلم نجس مثلا.
الثاني : ان يكون بلسان النفي ، وهو الأكثر تداولا في الأدلة.
وللنفي التنزيلي - باعتبار مصبه - موارد يختلف بحسبها نوع المراد
التفهيمي من الدليل الحاكم :
ا - ان يكون المنفي موضوعا لدى العقلاء لاعتبار متأصل كالعقود
(237)
والايقاعات . والمراد التفهيمي بنفي الطبيعي في ذلك نفي الآثار القانونية
التي ينشا المعنى بداعي ترتيبها ، كحصول الفراق بالطلاق ، واذا كان المنفي
حصة من الطبيعي الموضوع للحكم كقوله : (لا طلاق الا باشهاد) كان مقتضاه
اشتراط ترتب تلك الاثار بحصول الشرط المذكور.
2 - ان يكون المنفي موضوعا لأحكام شرعية كـ (لا شك لكثير الشك )
و(لا شك للامام مع حفظ الماموم ) والمراد التفهيمي بنفي الطبيعي في ذلك
عدم ترتب ذلك بالنسبة الى الحصة الخاصة .
3 - ان يكون المنفي متعلقا للحكم كـ (لا صلاة الا بفاتحة الكتاب )
و(لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الصلاة)، و(لا ربا بين الوالد والولد) والمراد
التفهيمي بنفي الطبيعي في ذلك نفي ثبوت الحكم لها ايجابا أو تحريما،
ومرجعه الى اشتراط المتعلق بالشرط المذكور.
4 -أن يكون المنفي نفس الحكم الشرعي كما في (كل شيء لك
حلال ) و(رفع ما لا يعلمون ) بناء على كون (ما) كناية عن الحكم الواقعي ،
اذ لا يراد بمثل هذه الألسنة التصويب ودوران الاحكام مدار علم المكلف
وجهله ، ولا ثبوت حكم ظاهري في موردالجهل بالحكم الواقعي - كما عليه
كثير من الاصوليين - بل مفادها عدم ترتب اثر الحكم ، كاستحقاق العقوبة
على مخالفته في ظرف الجهل بوجوده ارشادا الى عدم كون الحكم بحد من
الاهمية بحيث يكون احتمال وجوده منجزا له . وقد أوضحنا ذلك في مبحث
اصالة البراءة .
5 - ان يكون المنفي انتساب المعنى الى المكلف - كما في حديث
الرفع - اذا كانت (ما) كناية عن الفعل دون الحكم ، وذلك بناءً على المختار
من أنه لا يعني رفع الفعل في حدّ نفسه ، ولذلك لا يرتفع الحكم فيما كان
الأثر مترتبا على نفس الفعل من دون اعتبار صدوره من الفاعل ، كما لو القى
(238)
النجس في الماء عن اكراه ، فإنه ينجس الماء حينئذ لكون نجاسة الماء اثرا
لنفس الملاقاة بالمعنى اسم المصدري . وانما المقصود بذلك نفي انتسابه
الى المكلف فيرتفع الأثر المترتب على ذلك كبيع المكره وطلاقه .
6 - ان يكون المنفي طبيعة توهم تسبيب الشارع الى تحققها سواء
كانت متعلقا للحكم أو معلولا له في وعاء الخارج ، من قبيل ما لوقيل :(لا
حرج في الدين ) فان الحرج ليس متعلقا للحكم ، وانما هو امريترتب على
الحكم فيكون المقصود بنفي الطبيعة حينئذ نفي جعل الحكم المؤدي اليها،
ولكن عبرعن نفيه تنزيلا بنفي تحقق الطبيعة خارجا.
هذه هي موارد النفي التنزيلي وما ذكرناه انما هو خصوص ما كان منها
من قبيل الحكومة، بأن كان نظر المتكلم في نفيه التنزيلي للمعنى الى فكرة
مخالفة لمؤدى الكلام - على ما هومعيار الحكومة على التحقيق كما يأتي -.
وهناك مورد سابع لا يندرج في الحكومة وهو حيث يستفاد منه الزجر
والتحريم المولوي من قبيل قوله تعالى : (
لا رفث ولا فسوق ولا جدال في
الحج )
(1) وضابطه - كما يظهر مما تقدم - أن يكون مصب النفي طبيعة
تكوينية ذات آثار خارجية يرغب المكلفون فيها لانسجامها مع القوى الشهوية
أو الغضبية للنفس ، من دون ان يكون هذا الخطاب مسبوقا بحكم مخالف
له ولو توهما كالأمر بعد الحظر أو بعد توهمه .
ووجه عدم اندراج هذا المورد في الحكومة كونه مقيدا بعدم سبق حكم
مخالف له ولو توهما، ومع هذا القيد لا يمكن ان يتوفرفيه الشرط السابق من
نظر المتكلم الى فكرة مخالفة ، ووجه تقييده بذلك انه لو سبق الخطاب حكم
آخر، كان مفاده هدم ذلك الحكم ونفي التسبيب الى الطبيعة ، فيندرج حينئذ
____________
(1) البقرة : 2 | 197 .
(239)
في المورد السادس من الموارد السابقة .
ويلاحظ ان سر اختلاف المحتوى في اكثر هذه الموارد قد تقدم
ايضاحه مفصلا في ذكر الضابط العام لاختلاف محتوى صيغ الحكم عند
ذكر المسلك المختار في الحديث ، ويظهر الحال في الباقي ايضا على ضوء
ذلك .
هذا وهناك تقسيم اخر لموارد الحكومة يتردد في كلمات المحقق
النائيني ومن وافقه
(1) وملخصه : ان الدليل الحاكم على قسمين :
1- ان يكون شارحا لعقد الوضع من الدليل المحكوم ، والمراد بعقد
الوضع ما يعم موضوع الحكم ومتعلقه كحديث (لا ربا بين الوالد والولد)
بالنسبة الى دليل حرمة الربا وفساده ، فان الربا متعلق للحرمة وموضوع
للفساد.
2 - ان يكون شارحا لعقد الحمل منه - وهو الحكم - ومثل له بـ (لا
ضرر) بناءً على مختاره (قده ) من ان الضرر عنوان ثانوي للحكم ، وقد ذكر
أن هذا القسم اظهر افراد الحكومة ، لأن هدم الموضوع يرجع بالواسطة الى
التعرض للحكم .
ولكن هذا التقسيم غيرتام .
اما أوّلاً: فلان كون القسم الثاني من قبيل الحكومة مبني على مبناه
من ان مناط الحكومة هو النظر الى دليل آخر، وأما على المختار من ان مناطه
ان يكون لسان الدليل لسان مسالمة مع العام فلا يكون منها لان لسان الدليل
في هذا القسم لا محالة لسان معارضة، لانه ينفي ما يثبته العام صريحأ، مع
ان التمثيل لهذا القسم بحديث (لا ضرر) انما يتجه على مبناه وهو غير تام
____________
(1) لاحظ رسالة (لا ضرر) تقريرات المحقق النائيني : 3 1 2 وفوائد الاصول 4 : 592 - 593
مفصلاً ، وأجود التقريرات 2 : 2 6 1 - 63 1 و505 - 7 0 5 ، ومصباح الاصول 2| 1 4 5 -
542.
(240)
كما مر، وسيتضح القول في ذلك تفصيلاً.
واما ثانياً: فلان القسمة غير حاصرة، إذ لا يشمل مثلاً ما اذا كان
الدليل الحاكم متعرضاً لنفي ما يكون معلولا للحكم في الخارج كـ (لا حرج
في الدين ) .
الجهة الثالثة: في حقيقة الحكومة التضييقية مع المقارنة بينها وبين
التخصيص .
ان الصفات التي يتصف بها الدليل - كالحكومة والورود والتزاحم
والتعارض - تنقسم الى قسمين :
ففئة منها يتصف بها الدليل بلحاظ محتواه - أعني مدلوله التفهيمي -
كحالة التعارض والورود، فان التعارض مثلاً ليس الاّ حالة تصادم بين
المدلولين التفهيميين للدليلين ، ولذا لا يتحقق التعارض بين قولين يتحد
المدلول التفهيمي لهما وان اختلف المراد الاستعمالي فيهما كـ (زيد
جواد) و(زيد كثير الرماد) وكذلك الورود فان ورود احد الدليلين على الآخر
انما هو باعتبار واقع مؤداه من غير اعتبار باسلوب الدليل .
وهناك فئة اخرى يتصف بها الدليل بلحاظ أسلوبه ولسانه في التعبير
عن المعنى، لا بلحاظ واقع مؤداه ومحتواه ، ولذلك يمكن ان يتصف
الدليلان المتماثلان في المحتوى بوصفين متقابلين من هذه الفئة لمجرد
الاختلاف في الاسلوب .
ومن هذه الفئة على ما نراه هي الحكومة والتخصيص .
فحقيقة الحكومة إنما هي تحديد العموم بأسلوب مسالم معه وهو
اسلوب التنزيل والكناية -الذي هو اداء للمعنى بلسان غير مباشر-كنفي
الملزوم استعمالا مع ارادة نفي ما يتوهم لازمأ له . وانما كان ذلك اسلوب
مسالمة لأن الدليل الحاكم الذي يصاغ بهذا الاسلوب لا يمثل محتواه
(241)
المعارض للعام المحكوم - بلسان معارض معه - بأن يثبت ما نفاه العام أو
ينفي ما أثبته ، وانما يؤدي ذلك بلسان منسجم معه حيث يمثل نفسه على انه
بيان لحدود الموضوع وعدم تحققه في المورد - مثلاً - ليتمثل انتفاء الحكم
في المورد انتفاءً طبيعيا باعتبار عدم تحقق موضوعه ، فهويتضمن نحوا من
الالتواء وعدم الصراحة في أداء المعنى .
وحقيقة التخصيص على العكس فإنها عبارة عن تحديد العموم
باسلوب معارض معه وهو اسلوب الصراحة بأن ينفي ما يثبته العام أو يثبت ما
ينفيه صريحا، من غير أن يلجأ الى طريقتن غير مباشرة كان ينفي الموضوع
لينتهي بذلك الى نفي الحكم ، فالدليل المخصص - على خلاف الحاكم -
يعكس معارضة محتواه مع العموم فيكون مفاده استعمالا موافقا لما يراد به
تفهيما من دون لف ودوران في عرض المعنى .
وبذلك يظهر ان الحاكم والمخصص أسلوبان مختلفان في أداء
المعنى الواحد وتفهمه فقول الشارع (لا يجب اكرام العالم الفاسق ) وقوله
(العالم الفاسق ليس بعالم ) كلاهما يدلان على معنى تفهيمي واحد وهوعدم
وجوب اكرام العالم الفاسق ، لكنهما يختلفان في المراد الاستعمالي أي في
اسلوب التعبيرعن نفي الحكم حيث يؤديه الأول صراحة والثاني على نحو
الكناية من غيرتصريح ، وذلك تفنن أدبي في اساليب إبراز المعنى الواحد .
هذا ولكن هناك اتجاه آخر في حقيقة الحكومة هو المعروف بين
الاصوليين ، وهو ان قوام الحكومة بنظر أحد الدليلين الى الدليل الآخر وسوقه
قرينة شخصية لبيان المراد من ذلك الدليل سواء كان ذلك بلسان التنزيل كما
في نفي الحكم بلسان نفي موضوعه أم لا كما لوجعل الحكم المضاف الى
العام منفيا عن حصة أوفرد من الموضوع كأن يقال (وجوب إكرام العلماء غير
ثابت للفاسق أو لزيد) لان هذا اللسان ناظر الى اثبات الحكم للعام .
(242)
ولكن هذا الاتجاه ليس بصحيح عندنا وتوضيحه : ان لكل باب مورداً
متيقناً له ، يكون أساسا في تحليل ذلك الباب وماخذا لملاكه وتحديده ،
كموارد قصور القدرة اتفاقا بالنسبة الى باب التزاحم مثلا ، فكل تحليل لأي
باب إنما يصح - بعد تمامية تصوره في حدّ نفسه - اذا أمكن شموله للمورد
المتيقن للباب ، ولا ضير بعد ذلك لاندراج موارد أخرى تحت الباب وعدم
اندراجها، والاّ لم يكن تحليلا لذلك الباب وانما يكون تحديدا لظاهرة
اخرى .
وموارد التنزيل بالنسبة الى الحكومة من هذا القبيل فانها هي القدر
المتيقن لها فلا يصح أي تحليل للحكومة الاّ اذا تم اندراج موارد التنزيل فيه
وليس بامكان احد أن ينكر تحقق الحكومة في موارد نفي الحكم بنفي
موضوعه من قبيل قوله (العالم الفاسق ليس بعالم ) مثلاً.
والاتجاه المذكور غير قادر على ذلك ، لان لسان التنزيل لا يقتضي
نظرا الى دليل آخر أصلا لا بالمطابقة - كما هو واضح - ولا بالالتزام ، لأن
دلالته عليه بالالتزام انما تتم لوكانت صحة هذا اللسان لغة أو بلاغة تقتضي
نظره الى دليل آخر، وليس الأمر كذلك ، فان صحة هذا اللسان لغة انما
تتوقف على وجود تناسب بين المعنى الاستعمالي والمراد التفهيمي - كما هو
شأن كل اعتبار ادبي - ولا تعلق لذلك بالنظر الى دليل آخر.
كما ان صحته
بلاغة - بمعنى النكتة المصححة للعدول الى هذا اللسان من اللسان الصريح -
انما هي الحذر من مواجهة احساسات المخاطب ضد الكلام حيث يكون
ثبوت الحكم لموضوعه بنحو عام مرتكزا في ذهنه ولا أهمية لوجود دليل آخر
وعدمه في ذلك . وسوف يتضح هذا من خلال التعرض للمصحح اللغوي
والبلاغي لهذا اللسان ، ثم سنعود الى بيان الموضوع بعد ذلك تفصيلا .