الجهة الرابعة : في المصحّح اللغوي للسان التنزيل .
(243)
ان الاعتبار التنزيلي اعتبار أدبي يختلف فيه العنصر المعنوي عن
العنصر الشكلي للكلام وكل اعتبار أدبي بحاجة الى مصححين لغوي
وبلاغي .
1- فالمصحح اللغوي : هو العلاقة والتناسب بين المعنى الاعتباري
(المجازي ) والمعنى الحقيقي ، وذلك انه كلما عبّر عن معنى خاص بعنصر
شكلي يختلف عنه فإنه لا بد من تسانخ وتناسب بين الأمرين ليصح بذلك
التعبير عن المعنى المراد بالشكل الخاص ، وبدون توفر ذلك لا يصح
استعمال اللفظ في التعبير عن المراد لغة بل يكون خطأ . . وقد تعرضنا
لمصحّح الاستعمال المجازي وحدوده بنحو عام في مباحث الألفاظ .
2 - والمصحح البلاغي : - وقد يعبر عنه بالنكتة البلاغية أو وجه
العدول عن التعبير الحقيقي - وهو الجهة التي توجب اداء المعنى بنحو
الاعتبار الأدبي دون التصريح ، وذلك لان العدول عن التعبير الحقيقي وان
كان يصح لغة من دون نكتة لوجود المصحح اللغوي للاستعمال ، الاّ أن
مقتضى البلاغة اختيار التعبير الصريح في اداء المعنى ما لم يوجد دافع
لاستعمال التعبير المجازي .
ويتضح الفرق بين المصححين في المثال الآتي :
اذا عبرنا عن زيد بالأسد ، فالمصحح اللغوي لهذا التعبير هو التشابه
بينهما في صفة الشجاعة ولكن المصحح البلاغي لذلك هو قصد تحقيق
نفس الإحساس الموجود تجاه الأسد بالنسبة الى زيد.
والمصحح اللغوي لاسلوب التنزيل هو احدى نكتتين :
1- النكتة الأولى : التناسب الكائن بين التسبيب الى عدم تحقق
الطبيعة في الخارج وبين المفاد الاستعمالي لصيغة النفي من انتفائها خارجاً،
فحيث كان المعنى المراد مصداقاً للتسبيب الى عدم تحقق الطبيعة صحّ ان
(244)
يكون محتوىً لصيغة النفي على اساس التناسب المذكور.
وأوضح مصداق
للتسبيب الى ذلك هو تحريم الطبيعة تحريماً مولوياً لا سيما اذا انضم الى
ذلك تشريع اتخاذ وسائل اجرائية للصد من تحققها خارجاً كما هو مفاد مقطع
(لا ضرار) من حديث (لا ضرر ولا ضرار) على ما سبق توضيحه .
ولكن لا ينحصر مصداقه بذلك ، بل يتحقق في الموارد التالية ايضا :
1- فصل الماهية الاعتبارية عن اثارها الوضعية التي تترتب عليها
عقلاءً - كما في المورد الأول من الموارد السابقة للنفي التنزيلي ، فهذا
المعنى يكون مصداقاً للتسبيب الى عدم الماهية خارجاً باعتبار ان مطلوبية
مثل هذه الماهيات كالعقود والايقاعات ليست لذاتها، بأن تكون في حدّ
انفسها مما يدعو اليها قوة نفسية للانسان -كالغضب والشهوة- وانما هي
لأجل تلك الآثار التي تترتب عليها فاذا فصلت عنها كان ذلك موجباً لزوال
الرغبة ومؤدياً الى انتفاء الماهية خارجاً.
ولأجل ذلك قلنا فيما تقدم ان استعمال صيغة النهي في مثل هذا
المورد ليس مجازاً لان فصل الطبيعة عن آثارها يوجب انزجار المكلف عنها
بالامكان فيكون الزجر عنها زجرا حقيقياً طبعاً .
2 - تحديد الماهية التي هي متعلق للأمر المولوي -كما في المورد
الثالث من الموارد السابقة للنفي التنزيلي -.
وهذا المعنى أيضا يكون مصداقا للتسبيب الى عدم تحقق الماهية،
وذلك من جهة ان الرغبة الى الماهية في هذا المورد أيضأ ليست لذاتها وانما
لأجل امتثال الأمر وتفريغ الذمة عن المأمور به ، فاذا حدد الشارع الماهية
المأمور بها وأخرج منها حصة خاصة كان ذلك موجبا لزوال الرغبة عن تلك
الحصة ومؤدياً إلي انتفائها خارجا .
ولذلك ايضا قلنا بان استعمال صيغة النهي في هذا المورد ليس مجازا
(245)
- نظير ما سبق في المورد السابق - بنفس النكتة .
ويجمع هذين الموردين أمران :
أولاً : ان كون محتوى النفي فيهما مصداقا للتسبيب الى عدم الماهية
انما هو على أساس استلزامه لانتفاء السبب الى تحقق الماهية حيث كانت
الرغبة اليها لا لنفسها وانما لجهة خاصة فاوجب محتوى النفي زوالها .
وثانياً : إن التسبيب فيهما تسبيب حقيقي ولوعرفا - على خلاف المورد
الثالث الأتي - وذلك من جهة ان إعدام العلة سبب لعدم معلولها، ومحتوى
النفي فيهما موجب لعدم العلة في تحقق الماهية -وهي الباعث عليها
والمرغب فيها - .
1- هدم الحكم الموجب لتحقق الماهية التي هي مرغوب عنها في
حد نفسها، وفي قوة الهدم بيان عدم وجود مثل هذا الحكم حيث يتوهم أو
يحتمل وجوده ، وذلك كما في المورد السادس من الموارد السابقة للنفي
التنزيلي .
وهذه الجهة أيضاً مصداق للتسبيب الى عدم تحقق الماهية لأن
الماهية حيث كانت مرغوبة عنها لذاتها لم يكن هناك سبب لإيجادها، الا
ثبوت حكم موجب لها وحيث ان هدم الحكم أو بيان عدم وجوده يزيل هذا
السبب كان ذلك مؤديا الى عدم ايجاد الماهية .
لكن هذا مصداق تنزيلي للتسبيب وليس حقيقياً - كما فى الموردين
الأولين - لأن السبب الحقيقي لعدم الماهية في هذه الحالة انما هي الرغبة
الطبيعية عنها، وانما كان وجود الحكم الموجب لها أوتوهم وجوده مانعا عن
فاعلية نلك الرغبة ، وبهدم الحكم أو بيان عدمه يزول هذا العائق .
2 - النكتة الثانية : تناسب واجدية حصة من الماهية لنقص أو فقدها
لكمال ، فان ذلك يصحح نفي تحقق الماهية بها تنزيلاً لوجودها منزلة
(246)
عدمها، ومن هذا القبيل نفي الانسانية عمن لم لكن له أخلاق فاضلة .
وتنطبق هذه النكتة ايضاً في موارد:
1- اذا كان المنفي موضوعاً لحكم شرعي كما في المورد الثاني من
الموارد السابقة للنفي التنزيلي ، .وذلك كما لو قيل (الفاسق ليس بعالم ) بعد
ما قيل (اكرم العالم ) فان الفسق حيث كان صفة نقص في العالم صح نفي
العالم في حالة وجوده تنزيلا، وهكذا قوله (لا شك لكثير الشك ) فان كثرة
الشك لما كانت توجب نقصا في اعتبار الشك وقيمته صحّ نفي تحقق أصل
الشك معها .
2 - اذا كان المنفي حصة من ماهية منهي عنها-كما في بعض أقسام
المورد الثالث من الموارد المذكورة - كـ (لا ربا بين الوالد والولد) فان الحق
العظيم الذي يثبت للوالد على الولد يوجب كون الزيادة - المسماة بالربا - كلا
زيادة بالنسبة اليه .
3- اذا كان المنفي نفس الحكم الشرعي لعدم استحقاق العقوبة على
مخالفته - كما في المورد الرابع من تلك الموارد - فان عدم الاستحقاق حيث
انه صفة نقص في الحكم عرفا صح نفيه تنزيلا.
وتتجلى هذه النكتة في الحكومة بلسان الاثبات إذا كان المعنى
المثبت صفة نقص كما لو قيل ان (ولد الكافر كافر) فإن إثبات تلك الصفة
تنزيلا يكون على أساس نقص مناسب لتلك الصفة وهي كون الانسان ولداً
للكافر الذي يعد صفة نقص فيه .
واما اذا كان المعنى المثبت صفة كمال فتنطبق فيها نكتة أخرى هي
عكس تلك النكتة وهي واجدية الشيء لكمال يناسب تلك الصفة كما لوقيل
ان (ولد المسلم مسلم ) فان كون الانسان ولداً لمسلم تعتبر صفة كمال فيه
وهي تناسب الصفة المثبتة له من الاسلام .
(247)
ويلاحظ ان هذه النكتة قابلة للتطبيق في بعض موارد النكتة الأولى :
فمثلا يمكن أن يقال في (لا صلاة الا بطهور) - وهو مما يندرج في المورد
الثاني منها ـ إن مصحح النفي فاقدية الصلاة في هذه الحالة لكمال وهي
ا لاقتران بالطهارة .
فظهر مما ذكرنا: انه لا يمكن ان يكون ادّعاء اقتضاء لسان التنزيل
للنظر الى دليل آخر مبنياً على اقتضاء المصحح اللغوي للتنزيل لمثل هذا
المعنى ، فان المصحح للتنزيل في كل اعتبار ادبي هو التسانخ بين المراد
الاستعمالي والمراد التفهيمي وليس للنظر دخل في ذلك .
الجهة الخامسة : في المصحح البلاغي للسان التنزيل .
قد ذكرنا في الأمر السابق ان البلاغة تقتضي اختيار المتكلم للاسلوب
الصريح في مرحلة أداء المعنى ورفض الأساليب الملتوية والمعقدة،
لأن الاسلوب الصريح أسلوب طبيعي وواضح في الأداء
والتفهيم ، ولذلك لا بد ان يكون العدول عن هذا الاسلوب واختيار
اسلوب التنزيل والكناية في موارد الحكومة مبنيا على مصحح بلاغي من
مراعاة جهة تتوفر في هذا الاسلوب دون الاسلوب المباشر الصريح .
وبما ان هذا الاسلوب أسلوب أدبي ، فنشير أولاً الى النكتة العامة في
الاعتبارات الأدبية ثم نتعرض لتحليل النكتة في مقامنا هذا على ضوء ذلك:
1- اما النكتة العامة في الاعتبارات الأدبية فهي التصرف بمشاعر
المخاطبين وعواطفهم واحساساتهم باختيار أسهل طرق التعبير وأحسنها
واوفاها، ليصل المتكلم من خلالها الى مقاصده بصورة لا تجرح ولا تمس
تلك الأحاسيس والعواطف ، بل ليستفيد منها في الوصول الى مقاصده تلك .
وهذه الجهة هي فلسفة البلاغة وسرها . ولا بدّ في ذلك من ملاحظة الحالات
النفسية للمخاطبين فيما يتعلق بالموضوع بنحو عام ليتسنى التفاعل معها
(248)
تفاعلا مناسبا ولأجل هذا المعنى كان علم البيان في الحقيقة من العلوم
النفسية .
وقد يقتضي ما ذكرنا اختيار أساليب مختلفة حسب اختلاف المقامات ،
ولذلك عرف هذا العلم بانه (علم يعرف به أداء المعنى الواحد بطرق مختلفة
في وضوح الدلالة وخفائها) الاّ ان الصحيح ان يقال في التعريف (بطرق
مختلفة في التأثير في النفس شدّة وضعفاً) لان سر الاختلاف في الاسلوب
ليس اختلاف الأساليب في مستوى الوضوح وانما منشأه اختلافها في الوقع
والتاثير النفسي المطلوب حصوله في نفس المخاطب ونوعه .
فالتعبير الحقيقي والتشبيه والاستعارة مثلا أساليب تختلف في درجة
اثارة المعنى في نفس المخاطب كما لو قيل (زيد شجاع ) أو(زيد كالأسد)
أو (جاء الاسد)، فإثارة الاستعارة للاحساس بشجاعة زيد اقوى من اثارة
التشبيه كما ان اثارة التشبيه بدورها اقوى من إثارة التعبير الحقيقي .
واما النكتة الموجبة لاختيار أسلوب الكناية من قبل الشارع في مقام
بيان تحديد الحكم فهي ترتكز على أمرين :
أحدهما : اختلاف هذا الاسلوب عن أسلوب التصريح في نوع إثارة
المعنى . ويظهر ذلك فيما لو استخدمنا هذين الاسلوبين في مقابل فكرة عامة
مخالفة لمحتواهما، فاسلوب التصريح - بلحاظ انه يمثل المعنى على ما هو
عليه - يكون جارحا لتلك الفكرة معارضا لها، ولذا قلنا إن لسانه لسان
المعارضة مع العام واذا كان المخاطب بالكلام مقتنعا بتلك الفكرة المخالفة
وكان الترابط بين الحكم والموضوع - مثل- في ذهنه ترابطاً وثيقا، فان مواجهته
بهذا الاسلوب يثير احساسه ضد مؤدى الكلام طبعا فيوجب انكاره أو استنكاره
له ، من جهة كون ذلك مجابهة واضحة مع ما ارتكز في ذهنه من الارتباط
بينهما.
(249)
واما اسلوب الكناية فإنه يثير المعنى بنحو لا يمس باعتقاد المخاطب
ومشاعره واحساسه ، لان مظهره مظهر المسالمة والاعتراف بتلك الفكرة حيث
!نه ينفي تحقق الموضوع مثلا ليترتب عليه انتفاء الحكم انتفاءً طبيعيا،
وبذلك يخيل المتكلم لمخاطبه بانه لا يعارض اعتقاده بثبوت الحكم
للموضوع ، بنحوعام بل يقره عليه ويعترف له به حتى كانه لوكان الموضوع
متحققا في المورد لثبت الحكم.
وبذلك يكون المعنى أوقع في نفس المخاطب وأقرب الى قبوله
واذعانه .
وبهذا يظهر اختلاف هذين الاسلوبين في نوع التأثير الاحساسي .
الأمر الثافي : اختلاف المواضيع التشريعية التي يتعرض لها الدليل
الحاكم أو المخصص في ارتكاز فكرة مخالفة لمؤداه في ذهن المخاطب
وعدمه .
فقد يكون المخاطب بالدليل خالي الذهن عن اية فكرة عامة مقابلة،
أو يكون له فكرة مقابلة الا انها غير مرتكزة في ذهنه ، فتزول بمجرد اطلاعه
على الدليل - حتى وان كان له مستند في تلك الفكرة من عموم أواطلاق -.
ففي هذه الحالة لا مصحح بلاغي للتعبير بلسان الحكومة حتى وان
كان هناك عموم أو اطلاق على خلاف مؤدى الدليل - بل المناسب ان يعبر
المتكلم بلسان صريح بعدم وجوب اكرام العالم الفاسق مثلا لوكان الدليل
الأول هو (اكرم العلماء)، ولا موجب لأن ينفي عنه العلم لينتج عدم وجوب
اكرا مه .
وقد يكون المخاطب بالدليل ذا ارتكاز ذهني في الموضوع على
خلاف مؤدى الدليل - والمراد بالارتكاز الفكرة الثابتة في الذهن الراسخة في
عمقه بحيث يصعب رفع اليد عنه احساساً، وان اطلع على دليل على
(250)
خلافه -.
وفي هذه الحالة يعدل المتكلم البليغ عن النفي الصريح للحكم الى
لسان النفي غير المباشر، تجنباً عن إثارة مشاعر المخاطب وأحاسيسه
واختياراً لأحسن طرق التعبير مع الجمهور وأسهلها، لجلبهم الى المقاصد
المنشودة حيث يشتد الارتباط الاحساسي في اذهانهم ويصعب تفكيك
شمول الحكم وعزله عن بعض الحصص .
ويلاحظ أن منشأ الارتكاز الذهني لا يكون امراً ادراكياً محضا كقيام
عموم أو اطلاق ، لأن ذلك بمجرده لا يستدعي مقاومة ذهنية للمخاطب في
مقابل الدليل الحاكم ، بل يرتفع الاعتقاد الإدراكي بقيام ذلك .
وانما يكون منشأه امراً احساسياً يستوجب ثبوت المعنى في نفس
المخاطب واستقراره في ذهنه وتعلقه به ، وذلك لأحد أمور:
1- شدة مناسبة الحكم والموضوع في الأذهان ، كما لو اراد الشارع
تحديد حكم وجوب اكرام العالم وكان المجتمع يرى انه لا يمكن ان يكون
هناك عالم لا يجب اكرامه لما في نفوسهم من احساس الاحترام والتقدير
بالنسبة الى العلماء. وحينئذ لما كان الشارع لا يريد أن يجابه مثل هذه
المرتكزات الذهنية بصورة علنية فانه يقول (الفاسق ليس بعالم ) .
ويمكن تخريج كثير من الامثلة السابقة في الامر الثاني على هذه
النكتة وذلك من قبيل (لا طلاق الا باشهاد) فان استعمال هذا الاسلوب في
هذه الجملة ربما كان بلحاظ شدة المناسبة بين الطلاق الانشائي والطلاق
الشرعي . وكذلك نفي المتعلق في (لا صلاة الا بفاتحة الكتاب ) ربما كان
باعتبار شدة التناسب بين الصلاة وبين المطلوبية شرعاً، وهكذا نفي الحكم
في (رفع ما لا يعلمون ) ربما كان باعتبار ما انغرس في الاذهان من أن الحكم
الشرعى يرجب الموافقة له عقلا.
(251)
2 - اشتهار ثبوت الحكم للموضوع بالدعايات ووسائل النشر والاعلام
ونحوها مما يوجب تلقينا نفسيا للمجتمع . ولعل هذه الجهة هي الموجبة
لاستعمال هذا الاسلوب في مواضيع كان محتوى الدليل فيها مخالفا لما هو
المشهور لدى العامة كـ (لا طلاق الا باشهاد) فإن العامة ترى صحة الطلاق
بلا اشهاد .
3 - أن يكون العموم الملحوظ لدى المخاطب ذا لسان آب عن .
التخصيص كما قد يقال في قوله تعالى : (
ان الظن لا يغني من الحق
شيئاً )
(1) ففي هذه الحالة لا يناسب استخدام الاسلوب الصريح وهو اسلوب
التخصيص ، باعتبار منافاته مع لسان العام . بل لا بد من اختيار أسلوب
الحكومة المنسجم معه كما مرذلك .
فهذه بعض مناشىء الارتكاز الذهني بين الحكم وموضوعه .
فمثل هذه العوامل والاسباب هي التي تقتضي أن يعبر الشارع عن
مقصوده بلسان غير مباشر حتى لا يصطدم بالمشاعر والاحاسيس والمرتكزات
الذهنية المحترمة لدى الجمهور.
فهذه هي النكتة العامة لأسلوب الحكومة .
لكن هذه النكتة إنما هي فيما كان مصب النفي أو الاثبات فيها نفس
الحكم أو ما يرتبط به كالموارد الخمسة الأولى من موارد السلب التنزيلي التي
سبق ذكرها في الأمر الأول ، وأما حيث يكون مصب ذلك امرا خارجياً مسبباً
عن الحكم كالحرج والضرر- وهو المورد السادس من تلك الموارد - فإنه لا
تتأتى فيه هذه النكتة كما هوواضح . بل لا يبعد ان تكون النكتة في العدول
الى لسان التنزيل في مثل ذلك بيان عدم تناسب ثبوت الحكم المسبب الى
____________
(1) يونس 10 | 36 .
(252)
الحرج والضرر مع المصلحة العامة .
الجهة السادسة : في اقتضاء لسان التنزيل (وهو لسان الحكومة) نظر
الدليل الى ارتكاز ذهني للمخاطب على خلافه - لا الى عموم أو اطلاق -.
قد ظهر مما ذكرنا أن اسلوب التنزيل - وهو لسان الحكومة باعتبار
مصححه البلاغي - يقتضي نظر المتكلم الى ارتكاز ذهني مخالف للدليل ،
حيث إن اختيار الاسلوب غير المباشر بالذات ، إنما هو لعدم مجابهة هذا
الارتكاز وذلك جريا على النكتة العامة للاعتبارات الأدبية من اختيار
الاسلوب المناسب مع مشاعر المخاطب واحساسه .
وبذلك يتضح بان الفكرة المخالفة التي ينظر الدليل الحاكم الى ردها
إنما هي الاعتقاد المرتكز في ذهن المخاطب ، وليس معنى متمثلاً في الأدلة
بحسب مقام الاثبات من عموم أو اطلاق ، كما اشتهر لدى الاصوليين حيث
قالوا ان قوام الحكومة بوجود عموم أو اطلاق يكون الدليل الحاكم ناظراً .اليه ؛
اذ يرد على ذلك :
أولاً : ان مصحح هذا الاسلوب كما ذكرناه في تحليل الموضوع ليس
النظر الى دليل اخر، وانما الى ارتكازمخالف سواء كان عليه دليل من عموم
أو اطلاق أو غيرهما أم لا؟ ومجرد وجود العموم أو الاطلاق لايصحح اختيار
هذا اللسان والعدول عن التعبير الصريح من قبل البليغ لأن هذا الاسلوب
اسلوب ادبي يتضمن ائبات الشيء أو نفيه تنزيلا، والاسلوب الأدبي انما
تصححه نكتة بلاغية تتعلق بكيفية التأثير في المخاطب ، ومجرد النظر الى
دليل آخر ليس كذلك كما هو واضح .
وثانياً: انه يصح استعمال هذا اللسان بالبداهة اللغوية حتى فيما لم
يكن هناك عموم أو اطلاق اذا كان هناك ارتكاز ذهني للعرف يخالف بعمومه
مؤدى الدليل ، اما من جهة تصور الإجماع الحجة أو لشدة تناسب الحكم
(253)
والموضوع أو لغير ذلك من عوامل الارتكاز الذهني .
ومن هنا صح قوله عليه السلام (لا طلاق الا باشهاد) مثلا رغم ورود
الأمر بالإشهاد في الاية عقيب ذكرالطلاق مما يمنع عن تحقق إطلاق لها في
ذلك ، قال تعالى (
يا ايها النبي اذا طلقتم النساء فطلقهوهن لعدتهن واحصوا
العدة . . . )
(1) ثم قال في الآية التالية : (
فاذا بلغن أجلهن فأمسكوهن
بمعروف أو فارقوهن بمعروف واشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة
لله )
(2) .
فهذا يؤكد أنه ليس مصحح هذا الاسلوب ومقتضاه وجود عموم أو
اطلاق ، بل العبرة بالارتكاز الذهني للمخاطب ولو كان على خلاف الدليل
كما في الطلاق باعتبار اشتهار فتوى العامة فيه .
وثالثاً : انه قد يكون صدور الدليل المتضمن لهذا الاسلوب على
أساس عدم وجود دليل على الحكم فلا يعقل ثبوت مفاده مع وجود الدليل
عليه وذلك كما في (رفع ما لا يعلمون ) (وكل شيء لك حلال ).
وهكذا يتضح انه لا تتوقف صحة استعمال هذا الاسلوب على وجود
عموم أو اطلاق فلا يكون صدور الحاكم لغواً لو لم يكن هناك دليل محكوم
في رتبة سابقة - على ما هو المعروف منهم بين الاعلام -.
نعم هنا نكتة أخرى هي أن رد الارتكاز الذهني - ولو بنحوغير صريح -
يستبطن نفي ما يكون حجة على هذا الارتكاز لدى المخاطب - بما في ذلك
العموم والاطلاق - فيما اذا كان المتكلم مطلعاً عليه فيكون تحديد ذلك
ملحوظا بنحو غير مباشر في لسان التنزيل ، الاً ان هذا اللحاظ غير المباشر
____________
(1) الطلاق 65| 1 .
(2) الطلاق 65 | 2 .
(254)
ليس هو المصحح لهذا الاسلوب كما هوواضح .
الجهة السابعة : في مدى اشتراك الحكومة والتخصيص في
الأحكام .
قد ظهر بما ذكرنا ان الحكومة والتخصيص متحدان بحسب
المحتوى، وانما يختلفان في أسلوب أداء المعنى، حيث انه اسلوب مسالم
للعموم في الأول ، ومعارض معه في الثاني . ويتفرع على هذه الجهة
اشتراك الحاكم والمخصص في الأوصاف والأحكام المنوطة بمحتوى الدليل
دون الأحكام المنوطة باسلوبه .
توضيح ذلك : ان الاحكام التي تثبت للدليل المخصّص أو العام على
قسمين :
1- القسم الأول : ما يكون منوطا بمحتوى الدليل ، وهو القسم الأكبر
منها لأن اكثر الاحكام المذكورة للخاص في المباحث المختلفة انما تثبت
له باعتبار واقعه من اخراج بعض افراد العام عن تحته وفيما يلي بعض امثلة
ذلك :
منها: اتصاف المخصص المنفصل بكونه معارضا مع العام ، فان
التعارض كما اشرنا من قبل انما هو وصف للدليل بلحاظ مدلوله التفهيمي لا
باعتبار لسانه ومعناه الاستعمالي .
ومنها: تأثير المخصص في تحديد ظهور العام حيث يكون متصلا،
وفي تحديد حجيته حيث يكون منفصلا فان هذا التأثيرانما هوبلحاظ محتواه
المصادم للعام ، لا باعتبار أسلوبه كما هو واضح . وكذلك القول في مدى
اعتبار ظهور العام وحجيته مع الشك في المخصص المتصل أو المنفصل .
ومنها : امتناع تخصيص الأحكام العقلية، وسر الامتناع ان التخصيص
يرجع الى أوسعية مقام الاثبات عن مقام الثبوت في الحكم المخصص ،
(255)
والحكم العقلي ليس له مقامان إثبات وثبوت ، واستلزام التخصيص لذلك
ايضا بلحاظ محتواه لا بلحاظ مفاده الاستعمالي .
ومنها : امتناع تخصيص العام في اكثر افراده من جهة لزوم التناسب
بين التعبير في مقام الاثبات وبين مقام الثبوت فلا يناسب التعبير بالعموم
اثباتا، الاّ حيث يثبت الحكم لما يناسب العموم في الواقع وتخصيص العام
بهذه الكثرة ينقض التناسب المذكور.
ومنها: كون التخصيص أهون وجوه التصرف في الظاهر ولذا يتعين
حيث يدور الأمر بينه وبين حمل الأمر على الاستحباب في مثل (يستحب
إكرام العلماء) و(اكرم العالم العادل ) ووجه ذلك : استلزامه رفع اليد عن
اصالة العموم واصالة العموم اضعف الظهورات المنعقدة للكلام ، بخلاف
حمله على الاستحباب فإنه مستوجب لرفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب
وهو ظهور قوي .
فهذا القسم من احكام المخصص يشترك معه فيها الدليل الحاكم ،
لأنها منوطة بمحتوى الدليل وهو متحد فيهما، ولو لم تثبت تلك الأحكام
للحاكم كان مرجعه إلى تأثير أسلوب اللهليل في تحقق الوصف أو الحكم
المنوط بمحتواه أو في عدم تحققه وهو امر غير معقول .
وبذلك يظهر النظر في جملة من كلمات المحقق النائيني (قده ) حيث
فصل بين موارد الحكومة والتخصيص في جملة من المواضيع السابقة :
منها: تفصيله بينهما في تحقق التعارض بين الدليلين حيث قال
بتحققه في موارد التخصيص دون الحكومة - وسيأتي توضيح ذلك -.
ومنها: ما يظهرمن بعض كلماته في بحث حجية الظن (1) من انه اذا
____________
(1) لاحظ أجود التقريرات 2 : 77 .
(256)
شك في التخصيص أمكن الرجوع الى العام وذلك كما لوقال (اكرم العلماء)
وشك في انه هل قال (لا تكرم العالم الفاسق ) أو لا. ولكن اذا شك في
الحكومة لم يمكن الرجوع الى العام كما لو شك في انه هل قال (العالم
الفاسق ليس بعالم ) أم لا، وكأن مبنى ذلك أن التمسك بالعام في مورد
الحكومة المشكوكة يكون من قبيل الشبهة المصداقية لنفس العام ولا يجوز
التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لنفسه اتفاقاً .
2 - والقسم الثاني : ما يكون منوطاً بالاسلوب الاستعمالي للدليل ، وله
أمثلة:
منها : امتناع تخصيص العام حيث يكون لسانه بدرجة من القوة يأبى عن
التخصيص كما قيل به في قوله (
ان الظن لا يغني من الحق شيئا )
(1) وقوله
(ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا)
(2) فان هذا الحكم منوط
باسلوب الدليل المخصص لأنه من جهة كونه أسلوب معارضة مع العام ،
يكون كاسرا لقوة لسانه فيكون استخدامه في تحديد العام أمراً مستهجنا .
ومنها : إمكان كون المخصص عقليا فإن هذا الامكان باعتبار أن
العقل إنما يدرك الواقع بصورته التي هوعليه كما هو شأن الدليل المخصص
- حيث ان لسانه موافق لواقعه -.
ومنها: عدم نظر المخصص إلى فكرة مخالفة من ارتكاز ذهني
للمخاطب أو عموم أو اطلاق الا في حالات خاصة كان يكون المنفي هو
الحكم العام نحو(وجوب اكرام العلماء لا يثبت في حق زيد).
ووجه عدم نظره : أن الأسلوب الصريح أسلوب طبيعي لايختص
____________
(1) يونس 10 | 36 .
(2) لاحظ جامع الأحاديث - أبواب النجاسات - الباب 23 الحديث 5: 43 4 -ج 1 : 0 5 - 51 .
(257)
بقصد نفي فكرة مخالفة كما يختص الأسلوب الكنائي بذلك من جهة
مصححه البلاغي .
وهذا القسم من أحكام المخصص لايشترك فيها معه الدليل الحاكم
لأنه منوط باسلوبه ، والدليل الحاكم يختلف عن المخصص في الأسلوب فان
أسلوبه أسلوب كنائي غير مباشر.
ففي المثال الأول : يجوز تحديد العام الآبي عن التخصيص بلسان
الحكومة، لأن لسانه لسان مسالم للعموم فلا يكسرشوكة لسان العموم حتى
يكون مستهجناً. وبذلك أجبنا فيما سبق عما قيل من استهجان تخصيص
(لاضرر) لانه حكم امتناني ، مع أن تفسيره بنفي الحكم الضرري موجب
لتخصيصه لا محالة كما سبق التعرض له .
وفي المثال الثاني لا يجوز كون الحاكم عقلياً لأن اسلوب الحكومة
تعبير عن الشيء بغير ما هو عليه لأنه اعتبار أدبي ، والأعتبار الأدبي اما اعطاء
حد شيء لشيء آخرأوسلب حد الشيء عن نفسه ، وهذا يغاير كيفية ادراك
العقل .
وربما يظهر من كلمات بعض الأعاظم - في مبحث الاستصحاب -
نفي امكان كون الحاكم عقلائياً - أيضاً - لكن قد يقال في دفع ذلك ان الفكرة
الذهنية للعقلاء كما يمكن ان تكون على امرحقيقي فكذلك يمكن ان تكون
على امر اعتباري كما قد يقال بذلك في اعتبار الامارات علما .
وفي المثال الثالث : يكون الدليل الحاكم بمقتضى مصححه البلاغي
مقتضيا للنظر الى فكرة مخالفة كما تقدم توضيحه سابقا.
ويتفرع على هذا الفرق بين الحاكم والمخصص توفر الحاكم على
مزية دلالية عامة، من حيث اقتضاء اسلوبه للنظر الى اللهليل المخالف - ولو
(258)
بنحو غير مباشر- ولأجل ذلك يتقدم أحد العامين من وجه على الآخر اذا كان
باسلوب الحكومة من غير حاجة الى مزية اخرى، وهذا بخلاف المخصص
فانه لا يستتبع اسلوبه المباشر أية مزية دلالية وانما يكون تقدمه رهين وجود
مزايا خارجة عن مقتضاه الطبيعي توجب أظهريته على العام فيتقدم بملاك
الأظهرية .
الجهة الثامنة : في وجه تقدم الحاكم على المحكوم .
إن في وجه تقدّم الحاكم على المحكوم وجوها ثلاثة :
الوجه الأولى : ما ذكره المحقق النائيني والسيد الاستاذ (قدس سرهما)
من أنه لا تعارض بين الحاكم والمحكوم أصلا وذلك باحد تقريبين :
الأول : ما في كلمات المحقق النائيني ومن وافقه
(1) من عدم معقولية
المعارضة بين الحاكم والمحكوم من جهة أن المحكوم يثبت حكماً على
تقدير، غير متعرض لثبوت ذلك التقدير ونفيه ، وأما الدليل الحاكم فهو ناظر
إلى إثبات ذلك التقدير ونفيه .
وتوضيحه : ان التعارض بين الدليلين فرع تعرضهما لنقطة واحدة،
والحاكم والمحكوم ليسا كذلك اذ كل منهما يتعرض لما لايتعرض له الأخر،
فان الحاكم مثلا يتعرض لوجود الموضوع أو لنفيه وأما المحكوم فهويتعرض
لاثبات الحكم لموضوعه على نحو القضية الحقيقية ، وهذا المقدارلا تعرض
فيه لوجود الموضوع في المورد وعدمه لان القضية الحقيقية في قوة القضية
الشرطية، وكما أن القضية الشرطية لا تتعرض لوجود الشرط ، وانما تفيد ثبوت
التالي عند ثبوت الشرط ، فكذلك القضية الضيقية لاتتعرض لوجود الموضوع
وانما مفادها ثبوت الحكم عند تحقق الموضوع .
____________
(1) لاحظ أجود التقريرات 2 :5 0 5 - 6 0 5 ، ونظيره مصباح الاصول 2 : 542إلأ أته خصه
بالحكومة على عقد الوضع .
(259)
ويرد عليه : إن التعارض بين الدليلين ليس بحسب المراد الاستعمالي
فيهما قطعا، وإلاً لم يقع التعارض بين القول المثبت لمعنى مع القول النافي
له بلسان المجاز أو الكناية ، كما لو قيل (زيد بخيل ) و (زيد كثير الرماد) أو
(زيد جبان ) و (زيد أسد) لأن كل منهما بحسب المراد الاستعمالي يتعرض
لما لا يتعرض له الآخر .
وانما العبرة في التعارض بالمراد التفهيمي من الدليلين وهو مختلف
في الحاكم والمحكوم ، فإن الحاكم وان كان ينفي ما هو موضوع للمحكوم
استعمالاً - مثلاً - ألا ان المراد به تفهيماً نفي نفس الحكم الذي يثبته
المحكوم فهما متعارضان .
يضاف إلى ذلك ان هذا لايتم في قسم من قسمي الحكومة لدى
هؤلاء وهو حيث يكون الحاكم متعرضاً لعقد الحمل من المحكوم ، فإنه
حينئذ يتعرض لنفس ما يثبته المحكوم أوينفيه كما هوواضح .
الثاني : ما قد يظهر من بعض كلمات السيد الأستاذ (قده ) من ان
الدليل الحاكم شارح للمراد من المحكوم ومبين للمراد منه والشارح لا يعارض
المشروح .
ويرد عليه :
أولاً : إن مبنى إدعاء الشارحية هو الاعتقاد بان الحاكم ناظر إلى
المحكوم ومسوق للتعرض له ، وقد سبق عدم تمامية هذا الرأي بل
أوضحنا ان الحاكم انما ينظر إلى الارتكاز الثابت في ذهن المخاطب على
الارتباط بين الحكم وموضوعه بنحو عام ، وهذا النظر هومصحح لسانه
التنزيلي دون النظر إلى اطلاق وعموم .
وثانيا : ان الشارحية انما هي سمة لأسلوب الدليل الحاكم ولسانه واما
واقعه ومحتواه فهو كالمخصص واقع في المعارضة مع العام حيث إنهما
جميعا يقتضيان كون مقام الاثبات في الدليل العام اوسع من مقام الثبوت
(260)
على خلاف المراد التفهيمي للدليل المزبور.
وبذلك يتضح أنه لايتم تقديم الحاكم على اساس عدم معارضته مع
المحكوم وشرحه له .
نعم : لوفسرنا التعارض بالتنافي في الحجية -كما ذهب إليه المحقق
الخراساني - لم يكن هناك تعارض بين الحاكم والمحكوم كسائر موارد الجمع
العرفي لكن حجية أحد الدليلين فيهما في طول حجية الأخر، لكن عدم
التعارض بين الدليلين بهذا المعنى لا يغني عن وجود نكتة دلالية مثلا تفرض
تقديم أحد الدليلين على الأخر، بل هومتفرع على وجود مثل هذه النكتة .
الوجه الثاني : أن يقال إن الحاكم مسوق لتحديد المحكوم لكونه ناظرا
إليه مباشرة فهو قرينة شخصية قد نصبها المتكلم على مراده بالمحكوم .
وهذا الوجه مبني على الرأي المعروف لدى الأصوليين من تقوم
الحكومة بنظر الحاكم إلى الدليل المحكوم وقد سبق انه غير تام .
الوجه الثالث :. ما هو المختار وهو ان اسلوب الحكومة وإن لم يكن
مسوقاً للنظر إلى أي دليل آخر بل هو ناظر بالاصالة إلى ارتكاز ذهني عام
مخالف لمؤدى الدليل لكنه ناظر بنحو غير مباشر الى نفي مايكون حجة على
هذا الارتكاز المخالف ، وبذلك يستبطن تحديد تلك الحجة متى كانت
عموما أو اطلاقا، وهذه مزية دلالية تستوجب تقديمه على تلك الحجة
وتحديدها به .
بقي هنا امران :
الأمر الأوّل : انه قد يوحي كلمات كثير من الأصوليين ان الدليل
الحاكم بموجب نظره إلى المحكوم يوجب تقدمه عليه مطلقا بلا اسثشاء
وشذوذ، وهذا لا يخلو عن غلو وافراط ، فان هناك جملة من الحالات تطرأ
على هذا الأسلوب -كما تطرأ على اسلوب التصريح - لايجوز فيها تقديمه
(261)
على معارضه أصلا:
فمنها : ما اذا كان الدليل المتضمن لهذا الأسلوب مخالفا لحكم ثابت
بالكتاب أو السنة ومثال ذلك ما روته الغلاة من ان الصلاة والزكاة والحج كلها
رجل ، وان الفواحش رجل فان ذلك ناظر إلى أدلة إيجاب العبادات وتحريم
الفواحش ولو بنحوغير مباشرفيكون من قبيل اسلوب الحكومة لكنه مندرج
في ما دّل على لزوم طرح ما خالف الكتاب فيجب طرحه والغاؤه رأسا .
ومنها: ما اذا كان تقديم الدليل المزبور على معارضه موجبا لالغاء
موضوعية العنوان الماخوذ في ذاك الدليل - وذلك فيما إذا كانت النسبة بين
المدلول التفهيمي للدليلين عموما من وجه - فيمتنع تقديمه عليه دلالة وذلك
نظير امتناع تخصيص أحد العامين من وجه بالأخر في هذه الحالة .
ومنها: ما اذا كان تقديم الدليل المزبورموجبا لبقاء افراد قليلة تحت
الدليل الأخر بما يستهجن معه القاء العموم ، فان ذلك من قبيل التخصيص
المستهجن ومثال ذلك ما لو ورد (اكرم العلماء) . وورد ايضا (من كان علمه
كسبيا لا بمعونة الإلهام القلبي فانه ليس بعالم ).
فمن هذه الحالات وامثالها يؤدي التعارض بين الدليل الكائن باسلوب
الحكومة والدليل الأخر الى الغاء هذا الدليل رأساً، أو يؤدي الى تاويله اذا
كان صالحاً لذلك كما يحمل قوله صلى الله عليه وآله (لا صلاة لجار
المسجد إلا في المسجد)
(1) مثلا على نفي الكمال لمخالفة مفاده الاولى من
نفي الحقيقة والصحة في غير المسجد ؛ للحكم القطعي الثابت بالكتاب
والسنة لصحت صلاة جار المسجد في غير المسجد .
وبذلك يظهر أن هذه المزية ليست الا كسائر المزايا الدلالية التي هي
مزايا نوعية تقبل الاستثناء.
____________
(1) الوسائل 5: 194 ح6310 باب 2 .
(262)
الأمر الثاني : قد يظهر من كلمات الاصوليين ايضاً ان المزية الدلالية
للحاكم توجب تقديمه على المحكوم بنحو التحكيم ، من غير ان يكون هناك
احتمال اخر في البين . والمراد بالتحكيم هو رفع اليد عن الشمول الأفرادي
للعام كالتخصيص ،ولذلك لم يطرحوا فيه احتمال النسخ الذي ذكروه في
تعارض العام والخاص . وربما كان مبنى هذا الرأي تصورهم للحكومة على
انها تفسيروشرح للمراد بالدليل المحكوم ولكنا اوضحنا فيما سبق ان التفسير
والشرح انما هو سمة لاسلوب الحاكم ولسانه واما واقعه فهو واقع المعارضة
والمنافاة كالدليل المخصص .
والصحيح ان نفس الاحتمالات والأبحاث الواردة بشأن الخاص
والعائم تأتي بالنسبة الى الحاكم والمحكوم ، لانها لا ترتبط باسلوب الخاص
وانما ترتبط بمحتواه المماثل لمحتوى الحاكم . ففيما اذا ورد الحاكم متأخرا
عن وقت العمل بالمحكوم ، يرد فيه احتمالات اخرى غير التحكيم .
منها: ان يحمل على النسخ بملاحظة ورود الحاكم بعد وقت العمل
بالعام ، والالتزام بالتحكيم يستلزم تاخير البيان عن وقت الحاجة وتاخير البيان
وان لم يكن ممتنعا على كل حال لكنه بحاجة الى مصحح خاص .
ومنها: ان يحمل على الحكم الولائي فيما كان الموضوع مناسبا مع
ذلك .
ومنها: ان يتصرف في ظهور الحاكم ويؤخذ بالدليل المحكوم كأن
يحمل قوله (الفاسق ليس بعالم ) على ان اكرام العالم الفاسق مرجوح في
امتثال قوله (اكرم عالما) فيؤخذ باطلاق هذا الدليل وان كان ظاهر الدليل
الأول هوعدم كفإية اكرام العالم الفاسق في الامتثال ، الا انه كنمت القرينة على
ارادة المرجوحية لمصلحة مقتضية لذلك ، وقد ذكرنا في مبحث تعارض الأدلة
من علم الاصول المصالح المقتضية لكتمان القرائن كالتقية والسوق الى
الكمال والقاء الخلاف بين الشيعة وغير ذلك .
(263)
ومنها: ان يؤخذ بالعام ويلغي الخاص رأساً حملاً له على التقية
والمداراة ونحوهما .
والالتزام بالتحكيم من بين سائر الاحتمالات غير متعين بل لا بد ان
يكون على أساس ضوابط النشر والكتمان التي ذكرناها في محله ، وهذه
الضوابط كما قد تنتج التحكيم فكذلك قد تنتج غيره من الوجوه على ما
أوضحناه في مبحث تعارض الادلة تفصيلاً .