المقام الثاني : في ان (لا ضرر) - بناء على تفسيره بنفي الحكم الضرري - هل هو حاكم على أدلة الأحكام الأولية أو لا؟ .
قد اتضح مما سبق منا في البحث عن مفاد الحديث ان في توجيه تفسير الحديث بهذا المعنى مسلكين :
المسلك الأول : ما هو المختار وفاقاً للمشهور من ان المراد الاستعمالي بالحديث نفي تحقق الضرر خارجاً لكن المراد التفهيمي به نفي جعل حكم يفضي الى تحمل المكلف للضرر، فيكون نفي الحكم مفاداً بلسان التنزيل والكناية حيث نفي المسبب واريد به نفي سببه التشريعي .
وعلى هذا المسلك يكون حكومة (لا ضرر) على سائر الأدلة واضحة لكونها بلسان التنزيل والمسالمة الذي هو القدر المتيقن من موارد الحكومة ، بل هو المقوم له على المختار في حقيقتها كما عرفت ، فهو يندرج في المورد السادس من موارد النفي التنزيلي التي سبق ذكرها في الجهة الثانية .
المسلك الثاني : ما ذهب اليه المحقق النائيني (قده ) ومن وافقه من أن الضرر المنفي عنوان توليدي للحكم الضرري فيكون المقصود بنفي الضرر نفي سببه التوليدي وهو الحكم .
____________
(1) لاحظ رسالة لا ضرر تقريرات المحقق النائيني : 214 - 215 ، أجود التقريرات 2 : 161 ، ومصباح الاصول 2 : 541 .

(264)
وقد ذهب هؤلاء الى حكومة (لا ضرر) بهذا المعنى على ادلة الاحكام وذلك لان الحكومة على قسمين :
الأول : ما يكون ناظراً الى عقد الوضع منه كـ (لا ربا بين الوالد والولد) بالنسبة الى دليل حرمة الربا وفساده .
الثاني : ما يكون ناظرا الى عقد الحمل - وهو الحكم - كـ (وجوب الاكرام لا يثبت لزيد العالم ) . ودليل (لا حرج ) و (لا ضرر) بالنسبة الى ادلة الاحكام المثبتة للتكاليف من قبيل القسم الثاني لانها توجب تصرفاً في الحكم وتقضي باختصاص الاحكام بغير الموارد الحرجية أو الضررية ، لكن لا بلسان (ان المتضرر ليس بمكلف ) أو (ان الوضوء الضرري مثلاً ليس بوضوء) حتى يكون رفعاً لموضوع تلك الأحكام ، ولا بلسان انه لا يجب الوضوء على المتضرر - حتى يرجع الى التخصيص - بل بلسان ان الاحكام الثابتة في الشريعة ليست بضررية ولا حرجية .
وهذا غير تام لان مبناه على ان معيار الحكومة هو النظر الى دليل آخر. وقد سبق ان اوضحنا ان عنصر النظر لا يصلح مناطاً للحكومة لعدم اطراده في مواردها وعدم مقوميته لها. وانما مناطه ان يكون لسان الدليل المحدد للعام لسان مسالمة مع العام بان لا ينفي ما يثبته العام أويثبت ما ينفيه صريحا بل يفيد ذلك باسلوب التنزيل والكناية . وعلى هذا المبنى لا تصدق الحكومة مع تعرض الدليل المحدّد لعقد الحمل في الدليل الأخر حقيقة - كما في مثال ( لا ضرر ) على هذا المسلك - لان النفي حينئذ منصب على الحكم مباشرة فيكون لسانه حينئذ لسان المعارضة مع العام كما هو شأن التخصيص.
نعم إذا كان نفي الحكم نفياً تنزيلياً كما في (رفع ما لا يعلمون ) كان ذلك من قبيل الحكومة الظاهرية كما مر ذلك في الجهة الثانية وهو غير مراد
(265)
هنا لأن المراد في المقام النفي الواقعي .
التنبيه الرابع : في وجه تحديد انتفاء الحكم الضرري بحالة العلم أو الجهل في بعض الفروع الفقهية مع ان الضرر المنفي بالحديث غير محدّد بذلك .
لا اشكال في ان الضرر المنفي في هذا الحديث إنما يراد به نفس هذه الماهية من دون دخالة العلم أو الجهل به ، لأن ذلك هو معناه الموضوع له كما في سائر الالفاظ حيث إنها موضوعة لذوات المعاني لا مقيدة بالعلم ولا بالجهل . وليس هناك أية قرينة خاصة تدل على هذا التحديد ، وعليه فلا فرق في نفي الحديث للحكم الضرري بين ان يكون الضرر معلوما أو مجهولاً.
لكن ربما يظن أن المشهور خالفوا مقتضى ذلك في بعض الفروع الفقهية فحددوا نفي الحكم الضرري تارة بصورة الجهل بالضرركما في نفي اللزوم في موارد الغبن حيث التزموا بثبوته اذا كان الضرر معلوماً، واخرى بصورة العلم كما في نفي الوجوب الضرري حيث حكموا ببطلان الوضوء حيث يعلم بكونه مضراً دون ما اذا كان جاهلاً .
فلابد من تحقيق الأمر في هذين الفرعين :
الفرع الأول : تحديد خيار الغبن بالجهل بالضرر.
ان المشهور بين فقهائنا ثبوت الغبن في المعاملة الغبنية خلافا لأكثر فقهاء العامة كالحنفية والشافعية والحنابلة، وخلافا لما اشتهر في القوانين المدنية الموضوعة . قال في مصادر الحق (الفقه الاسلامي لا يعرض للغلط في القيمة الا عن طريق الغبن ثم هو في اكثرمذاهبه لا يعتد بالغبن ولوكان فاحشا الآ اذا صحبه تغرير أوتدليس وهو في ذلك يضحي باحترام الارادة في سبيل استقرار التعامل ، وهذا هو شان اكثر الشرائع الغربية فقل ان تجد
(266)
شريعة تعتد بالغبن الأ في حالات نادرة)(1) .
وقد ذهب الى عدم ثبوته بعض قدماء اصحابنا كابن الجنيد-كما قيل إن جمعا منهم لم يتعرضوا له اصلا- وتردد في ثبوته بعض المتاخرين كصاحبي الكفاية والذخيرة .
وقد استند المشهور الى وجوه عمدتها قاعدة (لا ضرر) بدعوى ان اللزوم مع الغبن ضرري فيكون منفيا . وقد عد الشيخ الانصاري هذا الوجه اقوى ما استدل به لثبوت هذا الخيار ، وذكر انه يشترط في ثبوته عدم علم المغبون بالقيمة فلو علم بالقيمة فلا خيار بل لا غبن بلا خلاف ولا اشكال لانه أقدم على الضرر (2) .
وحيث إن العلم بالقيمة مساوق مع العلم بالضرر فيرجع ذلك الى القول بعدم شمول (لا ضرر) لما اذا كان ترتب الضرر على اللزوم معلوما فيتجه بذلك الاعتراض السابق من ان الضرر النفي غير مقيد بالجهل (3).
لكن التحقيق انه لا مجال للاعتراض أصلا لان مفاد قول المشهور بالدقة ليس هو تحديد نفي اللزوم بالعلم ، وانما يرجع الى تحديده بالاقدام على الضرر لأنهم وان ذكروا أولاً انه يشترط في ثبوت الخيار عدم علم المغبون بالضرر، لكنهم عللوا ذلك بكون شرائه حينئذ اقداما على الضرر، مما يدل على أنهم يرون عدم شمول الحديث لمورد الاقدام على الضرر لا لموردالعلم به كما هوواضح .
والاقدام على الضرر اعم من العلم به لانه كما يصدق مع علم المغبون بكون المعاملة ضررية بان يطلع على القيمة السوقية للمتاع وهي
____________
(1)المصدر 2 : 132 .
(2) المكاسب المحرمة : 235 .
(3) لاحظ تقريرات المحقق النائيني :215ومصباح الاصول 2 : 43 5 - 544

(267)
أقل من الثمن الذي دفعه الى البائع ، كذ لك يصدق فيما اذاكان ظانا بالضرر أو محتملا ، ولكن أوقع المعاملة بما يحتوي عليه مع اطلاق الملكية حتى لما بعد انشاء الفسخ وحصول الندامة ، ففي هذه الحالة ايضا يصدق انه أقدم على البيع اللازم حتى وان كان ضررياً .
والدواعي الى الاقدام على الضرر لا تختص بصوره العلم بالضرر بل قد تكون آكد في صورة عدم العلم به مع الالتفات اليه والظن به أو احتماله ، فمن الدواعي مثلا المزاحمة مع الغيركما قد يقع في شراء المتاع في المزاد العلني .
ومنها : مشاكلة المبيع مع ما عنده بحيث يكون مكملاً له كما اذا كان عنده بعض اجزاء كتاب ما كالبحار والوسائل دون بعضها الآخر ولا يباع ذلك بمفرده في الأسواق عادة فوجده عند شخص فاشتراه بقيمة يقطع او يظن انه أزيد من القيمة السوقية .
ومنها: الحاجة الفعلية الى المتاع كما لو شرع في بحث يحتاج الى بعض المصادر التي لا تتوفر في الأسواق فيجده عند شخص فيشتريه من غير أن يراعي عدم كون شرائه له بازيد من القيمة السوقية .
ومنها : قصد انتفاع صاحب المتاع وخدمته لأسباب انسانية أو دينية كما لو بيع أمتعة شخص يحبه في المزاد العلني فيزيد في الثمن غيرمبال بالتساوي معه في القيمة السوقية لكي تكون امتعته مبيعة بأعلى الثمن ، الى غيرذلك من الدواعي والأغراض .
ت ا وبذلك يظهر انه لا حاجة في دفع الاعتراض المزبور عن المشهور الى تصحيح ثبوت الخيار مع الاقدام اذ لا وجه للاعتراف باشتراطهم للجهل بالضرر بعد تعليله بالاقدام ، بل ثبوت الخيار في ذلك انما يصحح اشتراطه بعدم الاقدام لابعدم العلم كماهوظاهر
(268)
لكن قد يشكل كلام المشهور في هذا التحديد من جهتين :
الأولى : ما ذكره المحقق الايرواني (قده ) من منع تحقق الإقدام على الضرر الحاصل بلزوم البيع مطلقا وانما يكون الاقدام بالنسبة الى أصل المعاملة وهو ليس اقداما على الضرر الحاصل باعتبار اللزوم من قبل الشارع (1) .
والجهة الثانية : ما ذكره جمع من المحققين كالمحقق المذكور والمحقق الاصفهاني من ان تحديد القاعدة بعدم الإقدام تخصيص بلا مخصص كتحديده بعدم العلم لان جعل اللزوم ولو في حالة الاقدام جعل لحكم ضرري (2) ولكن الصحيح عدم تمامية الاعتراض على المشهور في شيء من الجهتين وفاقاً لجمع آخرمن المحققين (3).
لتوضيح الحال لابد من البحث عن كل من صورتي الاقدام على الضرر وعدمه ، فهنا امران :
الأمر الأول : في صورة الاقدام والكلام فيها يقع تارة في تنقيح الصغرى من تحقق الاقدام على الضرر في حالة العلم به ونحوها واخرى في تحقيق الكبرى من (نفي قاعدة لا ضرر للضرر المقدم عليه ) فهنا نقطتان :
اما النقطة الأولى : فتوضيح القول فيها إن مبنى منع تحقق الاقدام في ذلك هو ان الشخص في حالة الغبن انما يقدم بانشائه على أصل المعاملة، ولكن الشارع يحكم عليها بحكمين حكم إمضائي يرتبط باصل المعاملة وهو الصحة، وحكم تاسيسي فيما يتعلق ببقائها وهو اللزوم وعدم حق الفسخ ،
____________
(1) لاحظ تعليقة المحقق الايرواني على المكاسب 2 : 28 و. 3 .
(2) لاحظ المصدر السابق وتعليقة المحقق الاصفهاني على المكاسب 2 : 31 .
(3) لاحظ حاشية السيد الطباطبائي على المكاسب 2 : 38 وتقريرات المحقق النائيني على المكاسب للعلامة الخونساري 2 : 60 وفي (لا ضرر) : 218 .

(269)
فاللزوم حكم ابتدائي مجعول من قبل الشارع وليس منشأ بالمعاملة حتى يكون الضرر اللازم من جهته مقدما عليه .
ولكن هذا ليس تاما فإن اللزوم أيضاً يرجع الى إنشاء المكلف في مورد البحت حيث يكون المنشأ مطلقا بالاطلاق اللحاظي من جهة كون ما انتقل اليه اقل مما انتقل عنه بحسب القيمة السوقية وعدم كونه كذلك ، وذلك لأن مفاد بيع المغبون وشرائه في هذه الصورة هوإنشاء قطع العلقة الثابتة بينه وبين ماله وانتقالها الى الطرف الآخر مطلقا بالنسبة الى الازمنة الآتية بما فيها زمان صدور انشاء الفسخ منه الحاصل من الندامة .
وعليه فهو بانشائه هذا المعنى على سعته قد سد على نفسه باب التخلص من الضرر في صورة الندامة ولم يبق لنفسه خطاً للرجوع فيكون وزان ذلك وزان البيع والصلح المحاباتيين والوقف ونحوها من المعاملات الضررية اللازمة .
وعلى هذا : فليس حكم الشارع باللزوم الا كحكمه بالصحة حكما امضائيا اقرارا للمكلف على جميع ما يحتوي عليه انشاؤه .
واما الجهة الثانية : وهي نفي قاعدة (لا ضرر) للضرر المقدم عليه فيمكن تقريرها باحد وجهين .
الوجه الأول : ان المفاد التفهيمي للحديث انما هو نفي تسبيب الشارع الى تحقق الضرر- كما سبق - دون اعمال الولاية على المكلف عليه في كل تصرف يوجب ضررا عليه كالوقف والابراء والصلح المحاباتي والبيع في المقام ونحو ذلك . وبين الأمرين فرق واضح .
وعدم امضاء ما التزمه المكلف على نفسه من الضرر وسبب اليه عرفا إنما هو من قبيل الثاني دون الأول لأن الثاني تحديد لما يحكم به العقلاء من ان كل أحد مسلط على ماله وله ان يتنازل عنه مجانا وبلا عوض ، فضلا
(270)
عن ان يتنازل عنه بعوض يعلم بانه اقل قيمة منه - مثلا - فالحكم الامضائي في ذلك احترام لارادة المكلف وسلطنته على ماله وليس تسبيباً الى الضرر عليه.
ولو أن (لا ضرر) اقتضى نفي الاحكام الامضائية التي هى من هذا القبيل اقتضى ذلك ان ينفي صحة المعاملة الغبنية من أصلها مع ان المتسالم عليه بين فقهائنا بل جميع فقهاء المذاهب الاسلامية بل في جميع القوانين الوضعية صحة ذلك ، وهكذا في امثالها .
الوجه الثاني : ما ذكره المحقق الاصفهاني من ان مفاد الحديث حكم امتناني ولا منة في رفع اللزوم في حالة العلم بالضررونحوها(1) . واجيب عنه في كلمات المحقق الايرواني بمنع ذلك بدعوى ان المنة مقتضية لحفظ العباد عن المضار وان هم أقدموا عليه ، فلربما يندمون ويريدون الفسخ فيكون لهم مخلص عنه (2).
وهذا الوجه وان لم يكن يخلو عن تامل الاً ان الجواب عنه بما ذكر ضعيف لان صدق (الضرر) على مثل هذه المعاملة انما هوبلحاظ قصر النظر الى مرحلة المعاوضة ولحاظ القيمة السوقية واما اذا لوحظ مجموع الأغراض والدواعي فلا يصدق عليه هذا العنوان كثيراً ؛ لان هذه المعاملة قد تستوجب له نفعا ازيد كما اذا كان داعيه على اشترائه بثمن ازيد من القيمة السوقية تكميل المال الناقص الموجود عنده ، فما اشتراة بلحاظ كونه مكملا للناقص تكون قيمته له ازيد من الثس الذي اشتراه به بكثير، وهكذا قد يكون في شرائه كذلك دفعا لضرر اكثركما لو اشتراه من جهة صيانة بعض اجهزته عن الشغل والوقوف الذي يترتب عليه ضرركثير، أو اشتراه لمعالجة نفسه مع ندرة
____________
(1) لاحظ تعليقة المكاسب له 2 : 54 .
(2) تعليقة المكاسب للمحقق المذكور 2 : 30 .

(271)
وجوده في السوق أو عدم امكان تحصيله الا بالمسافرة الى بلد آخر يحتاج الى مؤونة كثيرة، فبملاحظة مثل هذه الجهات لا يصدق انه جلب الضرر على نفسه الإقدام على هذه المعاملة فلا معنى للمنة عليه برفع لزوم العقد في مثل ذلك .
وبذلك كله يظهر صحة قول المشهورمن عدم ثبوت الخيارمع الغبن .
الأمر الثاني : في صورة عدم الاقدام .
والمقصود من التعرض لهذه الصورة بيان سر التفريق بينها وبين صورة الاقدام حيث يقال ان حكم الشارع فيها غير منفي بـ (لا ضرر) بخلاف هذه الصورة، وذلك لأنه ربما يتوهم بان البيان الذي ذكرناه في عدم اقتضاء (لا ضرر) لنفي اللزوم في حالة الاقدام من كون اللزوم مدلولاً لاطلاق المنشأ، فيكون الحكم به حكماً امضائيا و(لا ضرر) لا ينفي مثل ذلث وهذا البيان ينسحب الى صورة عدم صدق الاقدام كما اذا كان المشتري غافلا عن القيمة السوقية أومعتقدا بالتساوي أو بان قيمة ما انتقل اليه ازيد مما يبذله من الثمن أو كان مسترسلا ومعتمدا على اخبار البائع بالقيمة السوقية ، فان اطلاق المنشأ يتحقق في هذه الصورة أيضاً، فلا يمكن نفي اللزوم فيها لهذه القاعدة ونتيجة ذلك بطلان تمسك المشهور بهذه القاعدة لاثباتها لخيار الغبن مطلقا.
وتحقيق الحال في ذلك : انه لايتحقق للمنشأ في شيء من موارد هذه الصورة اطلاق لحاظي بالنسبة الى تساوي الثمن والمثمن في القيمة السوقية وعدمها بل هي على ثلاثة أقسام :
القسم الأؤل : ما يكون المنشأ فيه مقيدا بالتقييد اللحاظي وذلك كما اذا كان المشتري مسترسلا ومعتمدا على اخبار البائع بتساوي الثمن والمثمن في القيمة السوقية ، فان الشراء حينئذ يكون مشروطا بشرط مقدر وهو التساوي
(272)
في القيمة .
وحينئذ يحكم بالخيار من جهة تخلف الشرط ومرجع الشرط الى ان التزامي مشروط بالتزامك بان المبيع تساوي قيمته هذا المقدار الخاص ، ولازمه تقييد التزامه بتطابق قول البائع مع الواقع ولا حاجة في ثبوت الخيار حينئذ الى قاعدة (لا ضرر) .
القسم الثاني : ما يكون المنشأ فيه مقيدا تقيدا ذاتيا كما في الغافل والجاهل المركب ونحوهما .
والمراد بالتقييد الذاتي : ان يكون القيد غيرملحوظ حال الانشاء ولكن يكون ثابتا في نفس المنشأ في مرحلة الارتكاز واللاشعور الذهني .
ووجه التقييد الذاتي في الغافل ونحوه هو ان المرتكز في ذهن كل معامل بلحاظ الغرض النوعي العقلائي في المعاملات والمعاوضات التي لا تبتني على جهة المحاباة عدم كون ما انتقل اليه اقل مالية بمقدار لا يتسامح به مما انتقل عنه ، فهذا الارتكاز الذهني يوجب تضيقا ذاتيا للمنشا وان كان في مرحلة اللاشعور - بعد محدودية الرضا الباطني بذلك - وحيث إن المتخلف ليس هو الصورة النوعية، فيحكم بالخيار. ولذا احتج العلامة لخيار الغبن بقوله تعالى : ( الا ان تكون تجارة عن تراض )(1) وذكر بعض علماء القانون في الاشارة الى موقف النافين لخيار الغبن بانهم يضحون باحترام الارادة في سبيل استقرار التعامل (2) مما يدل على انتفاء الرضا الباطني في صورة الغبن .
وعلى ضوء ذلك يثبت الخيار في هذه الصورة من غيرحاجة الى قاعدة
____________
(1) النساء 4|29 .
(2) مصادر الحق 2 : 133 .

(273)
(لا ضرر) .
وقد ذهب الى هذا المسلك جماعة من محققي فقهائنا كالمحققين النائيني والاصفهاني والايرواني وغيرهم .
الا ان هذا الوجه انما يصح إذا لم يكن هناك ارتكازثانوي - بملاحظة الجو والمحيط أو التأثر من فتوى الفقهاء أو القانون الوضعي -يوجب اضمحلال الارتكاز الأول . ولذا ذكرنا في محله : أنه لو فرض عرف خاص في بعض انحاء المعاملات أو مطلقاً يتضمن اشتراط حق استرداد ما يساوي مقدار الزيادة على تقدير عدم ثبوت الخيار ، فانه يكون هذا المرتكز الخاص هو المحكم والمتبع في مورده .
القسم الثالث : ما يكون المنشأ فيه مطلقا بالاطلاق الذاتي .
والاطلاق الذاتي هو الشمول الذي يتحقق في الكلام في حالة عدم التقييد اللحاظي والذاتي من غير ملاحظة الخصوصية ورفضها كما هو الحال في الإطلاق اللحاظي . ويكون ذلك في موارد :
منها: عدم مسبوقية ذهن المنشىء بانقسام الماهية الى قسمين كما لو وقف دارا على العلماء من غير علم بانقسامهم الى اصولي واخباري ، وهكذا لوكان مسبوقا لكن لم يلتفت الى هذا التقسيم حال الانشاء مع عدم تحديده بأحد الأقسام ارتكازا - اذ لو حدده كان تقييداً ذاتيا - وهذا كثيرا ما يتفق في جملة من المعاملات كالوقوف والنذور والوصايا ونحوها، وفي هذه الحالة " يتحير المنشىء ايضاً في حدود انشائه لعدم ملاحظة القيد ورفضه كما في موارد الاطلاق اللحاظي ، ولذا يستفتى فيها الفقيه .
وهذا الاطلاق لا يعتبر فعلاً للمنشأ لانه أمر قهري ولذا لا يستحسن ولا يستقبح بخلاف الاطلاق اللحاظي كما ان التقابل بينه وبين التقييد اللحاظي تقابل السلب والايجاب بينما التقابل بين الاطلاق والتقييد اللحاظيين من
(274)
قبيل تقابل العدم والملكة .
ثم ان الحاكم بالشمول في موارد الاطلاق الذاتي انما هو القانون فان لم يكن هناك مانع منه فيحكم القانون بالشمول والا فلا يحكم بذلك .
وهذا الاطلاق في المقام ملغى بحكم قاعدة (لا ضرر) لان الحكم باللزوم من قبل الشارع حينئذ يكون حكما ابتدائيا من غير صدق اقدام للمنشىء بالنسبة اليه ، فهنا يصح التمسك بالقاعدة .
وهنا جهتان تحسن الاشارة اليهما :
الجهة الأولى : ان وجه تمسك جماعة من الفقهاء السابقين بقاعدة (لا ضرر) من دون اشارة الى الشرط الضمني - كالشيخ في الخلاف - أو عدم الاكتفاء ببيان محدودية التراضي (المشير الى الشرط الضمني ) - كالعلآمة في التذكرة - هوأن في الشرط الضمني المذكور نوع خفاء خصوصا فيمن عاش في مجتمع لا يرى البيع الاّ نوع مغالبة متأثراً بفتاوى من لا يرى خيار الغبن - كاكثر فقهاء العامة - لا سيما ان بعفض المسلمين ربما تأثروا بالقوانين البشرية السابقة فزال بذلك ارتكازه الاول . وقد قيل ان بعض فقهاء الشام قد تأثروا بالفقه والعادات الرومية وبعض فقهاء الشرق تأثروا بالتشريع والتقاليد الايرانية ولذلك كان الأولى الاستدلال بقاعدة (لا ضرلر) التي هي نص تشريعي لا بتخلف الشرط الضمني .
الجهة الثانية : انه قد ادعى بعض الاعاظم ثبوت حكم عقلائي على ثبوت الخيار في حالة الغبن - بدلا عن التمسك بالارتكاز الموجب للتقييد - فيكون ذلك هو الدليل على الخيار من جهة عدم الردع عنه .
لكن الحق انه لم يثبت حكم عقلائي كذلك أصلا.

(275)
الفرع الثاني : تحديد الوضوء الضرري بالعلم بكونه ضرريا .
نقل بعض المحققين عن الشيخ الانصاري أنه يشترط في جريان ادلة نفي الضرر علم المكلف بكون الوضوء ضرريا(1) وقد ذكر السيد الاستاذ تسالم الفقهاء على صحة الوضوء في حالة الجهل (2)وحينئذ يتجه الاعتراض السابق من ان دليل نفي الضررينفي جعل الحكم الضرري مطلقا سواء كان الضرر معلوما أو مجهولا . كما أن دعوى تسالم الفقهاء على ذلك غير تامة لأن المسالة غير معنونة في الكتب الفقهية للقدماء والطبقة الوسطى، وأما المتاخرون الذين طرحت المسالة في كلماتهم فلهم فيها اقوال ثلاثة : بطلان الوضوء مطلقا وصحته مطلقا والتفصيل بين ما اذا كان الضرر معلوما فيبطل الوضوء وبين ما اذا كان مجهولا فيصح .
ويلاحظ أن استيعاب البحث في هذه المسالة وجهاتها يوجب تفصيلا بالغا في الكلام وهوخارج عن حدود هذا البحث -وانما محله موضعها من علم الفقه - ولكنا نتعرض لبعض ما يرتبط بالمقام في ضمن امورثلاثة :
احدها: انه هل هناك اطلاق يقضي بصحة الوضوء أو الغسل الضرريين حتى نحتاج لإثبات بطلانه في حالة العلم أو مطلقا الى التمسك بحديث (لا ضرر) ليقع البحث في حدود مقتضاه ، أو انه لا اطلاق في الأدلة اصلا فيبطلان من هذه الجهة؟
ثانيها : ان (لا ضرر) هل يقتضي بطلانهما في حالة العلم أومطلقا أو لا يقتضي ذلك أصلا ؟
ثالثها : ان حرمة الاضرار بالنفس في مورد الضرر المحرم هل تمنع عن
____________
(1) رسالة لا ضرر تقريرات المحقق النائيني : 215 .
(2) مصباح الاصول 2 : 544.

(276)
الحكم بصحتهما مطلقا أو في صورة العلم أم لا ؟وذلك مع فرض وجود اطلاق قاض بالصحة ، فهنا أبحاث ثلاثة :
اما البحث الأول : فعمدة الادلة الواردة في الوضوء والغسل هي الآية الواردة في تشريعهما في سورة المائدة وهي قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم الى المرافق وأمسحوا برؤوسكم وأرجلكم الى الكعبين وان كنتم جنباً فاطهروا وان كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون )(1).
والظاهر انه لا اطلاق في الآية يقتضي صحة الوضوء والغسل في حالة الضرر بل الظاهر منها بطلانهما في هذه الحالة، ولا بدّ في توضيح ذلك من تفسير الآية فانها من مشكلات آيات القرآن الكريم وقد اختلفت في تفسيرها الانظار، ويتضح معناها على ضوء جهتين :
الأولى : إن الآية كما تنبه له صاحب الجواهر (قده )(2) ناظرة الى تقسيم المكلف المحدث الى قسمين :
الأول : من قام من النوم الى الصلاة .
الثاني : من صدر منه الحدث الاصغر أو الأكبر في حالة اليقظة .
وقد تعرض للقسم الأول بقوله ( اذا قمتم الى الصلاة )(3)فان المراد
____________
(1) المائدة5 | 6 .
(2) 1 : 51 ط النجف .
(3) المائدة5 | 6.

(277)
بذلك القيام من النوم كما جاء في موثقة ابن بكير(1) فأمرتعالى بالوضوء من لم يكن جنبا بالاحتلام كما امر بالغسل من كان جنبا وانما ذكر الوضوء والتيمم مفصلا دون الغسل لانه كان معروفا عندهم فإنهم كانوا يغتسلون من . الجنابة وذلك بخلاف الوضوء والتيمم . ثم ذكر حالة المرض والسفر وامر فيهما بالتيمم .
وقد تعرض للقسم الثاني بقوله :( أو جاء احد منكم من الغائط )(2) مشيراً الى الحدث الأصغر بالجملة الأولى ، فان الغائط هو المكان المنخفض ، والتعبير المذكور كناية عن التخلي حيث كان المتعارف لدى العرب ان يرتادوا المكان المنخفض عند ذلك ، والى الحدث الأكبر بالجملة الثانية فانه المقصود بملامسة النساء .
وبملاحظة نظر الآية الى هذا التقسيم يندفع التكرار الذي قد يتوهم فيها بتصور ان الآية انما تتعرض الى تقسيم المحدث الى من لا عذر له في عدم استعمال الماء ومن له عذر.
وقد تعرض للأول بقوله ( اذا قمتم - الى قوله - فاطهروا ) وقد اشير فى هذا القسم الى المحدث بالحدث الاصغر مطلقاً بقوله : ( اذا قمتم الى الصلاة )(3) والى المحدث بالحدث الاكبر بقوله : ( وان كنتم جنبا )(4) .
وقد تعرض للقسم الثاني بقوله :( وان كنتم مرضى )(5)وذكر ان الحكم حينئذ هو التيمم .

____________
(1) جامع الأحادبث - كتاب الطهارة - الباب ا - الحدبث 28 - ط ا ج 2 : 9 34 .
(2) المائدة 5 | 6 .
(3) المائدة 5 | 6 .
(4) المائدة 5 | 6 .
(5) المائدة 5 | 6 .

(278)
فعلى هذا التصوريشكل :
أولاً : بانه لا وجه لذكر (على سفر) لأن ذكر السفر باعتبار انه حالة فقدان للماء فيغني عنه قوله :( لم تجدوا ماءً)(1) بل مقتضى ذكر السفرفي مقابل عدم وجدان الماء هو كونه موضوعا لجواز التيمم بنفسه ولا ينبغي الشك في عدم كونه كذلك ، الآ ان يجعل ذكر السفر تمهيدأ وتوطئة لذكر عدم الوجدان على ان يكون عدم الوجدان نتيجة له وهو خلاف الظاهر.
وثانياً: انه لا وجه لذكر بعض حالات الحدث الأصغر من التخلي وملامسة النساء في القسم الثاني من الآية لان ذلك مذكور بنحو اعم في القسم الأول منها، فان التخلي يندرج تحت (القيام الى الصلاة) لانه مشير الى الحدث الأصغر وملامسة النساء يندرج تحت ( وان كنتم جنباً )(2) فلا موجب لذكرهما في هذا القسم بالخصوص ، بل يكفي ذكر الاعذار التي هي نقطة تميز بين القسمين ، فكان المناسب ان يقال في الشق الثاني (وان كنتم مرضى أولم تجدوا ماءً فتيمموا).
لكن لا يتجه الاشكال في شيء من الجهتين لما اوضحناه من الآية انما تتعرض للتقسيم بنحوآخر دون النحو المذكور، وعلى ذاك النحو لا يرد شيء من الاشكالين .
اما الاول : فلان (على سفر) انما يرتبط بالقسم الأول وهو من قام من النوم للصلاة وعدم وجدان الماء انما يرتبط بالقسم الثاني المذكور بقوله : ( أو جاء احد منكم ) (3) فإن ( فلم تجدوا )(4) عطف على مدخول ( أو ) في هذه
____________
(1) المائدة 5 | 6 .
(2) المائدة 5 | 6 .
(3) المائدة 5 | 6 .
(4) المائدة 5 | 6 .

(279)
الجملة لا على الجملة الشرطية الأولى في قوله : ( وان كنتم مرضى)(1) فلا تكرار .
واما الثاني : فلان المراد بالقيام الى الصلاة هو القيام من النوم ، كما ان المراد بكونهم جنبا هو الاحتلام فلا يشمل ذلك حدث التخلي أوملامسة النساء.
ونظير هذه الآية في تأليفها ومعناها قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا الا عابري سبيل حتى تغتسلوا وان كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيداً طيباً )(2).
فان القسم الاول منها ناظر الى النوم ايضاً لان المراد بقوله ( وانتم سكارى )(3) هو السكر من النوم كما في بعض الروايات الصحيحة(4).
الجهة الثانية : ان مفاد الآية من القسم الأول تحديد توجه الأمر بالوضوء والغسل بشرطين هما عدم التضرر من استعمال الماء، ووجدان الماء فينتج ذلك فسادهما في حالة الضرر، ويظهر ذلك بملاحظة امور: الأول : ان ما جاء في نهاية هذا القسم منها من الأمربالتيمم لمن كان مريضاً أو على سفر لا يقصد به موضوعية هذين العنوانين لجواز التيمم ، بان يكون مجرد المرض والسفر موضوعاً لكفاية التيمم ولو كان مرضا لا يضره استعمال الماء أوينفعه ذلك ، أوسفرا يتوفرفيه الماء بكثرة . بل ذكر المرض
____________
(1) المائدة 5 | 6 .
(2) النساء 4 | 43 .
(3) النساء 4 | 43.
(4) كصحيحة زرارة لاحظ تفسير البرهان 1 | 370 .

(280)
إنما هو لكونه عادة حالة تضرر باستعمال الماء فيكون كناية عن التضرر بالاستعمال . كما ان ذكر السفر انما هو باعتبار ان السفر في تلك الازمنة في مثل الجزيرة العربية كان حالة فقدان للماء عادة فهوكناية عن هذا المعنى ولا موضوعية له كما ترهم بعض المفسرين (1).
الثاني : ان ظاهر الآية بحسب صدرها وان كان يقتضي عموم الأمر بالوضوء والغسل لحالة التضرر باستعمال الماء ، الا انه يتحدد بمقتضى قوله في نهاية القسم الأول منها ( وان كنتم مرضى أو على سفر)(2)لان التفصيل قاطع للشركة وبذلك يكون عدم الضرر قيدا ماخوذا في موضوع الأمر بالوضوء والغسل .
الثالث : ان الأمر بالوضوء والغسل في الآية ليس امرا نفسيا بل هو امر مقدمي لتحقق المامور به الذي هو الصلاة مع الطهارة، اما على أنهما بانفسهما طهور أو لكونهما محصلين للطهارة كما هو الاظهر على ما يشير اليه التعبير عن الغسل بقوله : ( فاطهروا) (3) وما جاء في ذيلها ( ولكن يريد ليطهركم )(4).
وعلى ضوء هذا فتحديد الأمر بالوضوء والغسل بحالة عدم الضرريعني فسادهما في هذه الحالة لانه يقتضي عدم وفائهما بتحقق المامور به -وهو الصلاة مع الطهارة - أو قل عدم وفائهما بتحقق شرطه وهو الطهارة .
ويلاحظ ان الغسل المذكور في الآية وان كان هو غسل الجنابة لكن يجري ذلك في ساثر الأغسال بلحاظ اتحاد هذا الغسل وغيره في الحكم ،
____________
(1) كصاحب المنار في تفسير المنار 5 : 8 1 1 و 28 1 و 9 2 1 .
(2) النساء 4 |43 .
(3) المائدة 5 | 6 .
(4) المائدة 5 | 6 .

(281)
ولذا ورد ان غسل الحيض والجنابة واحد .
وهكذا يظهر أن مقتضى الآية فساد الوضوء والغسل في حالة كونهما ضرربين .
وهناك تقرير آخر لدلالة الآية على هذا المعنى مبناه على القول بأن المراد بعدم وجدان الماء في الآية هوما يعم كونه مضراً أو غيرميسرفيقال : ان التعبير بعدم وجدان الماء في حالة الضرريدل على ان وجود الماء كأن لم يكن في هذه الحالة شرعا، ومقتضى ذلك عدم صحة الوضوء والغسل به فيها.
لكن المبنى المذكور ضيف لان اطلاق عا"م الوجدان في مورد المرض غير مناسب عرفا فلا يقال مثلاً لمريض يضره استعمال الماء وهوعلى ضفة النهر انه غيرواجد للماء كما هوواضح .
هذا وقد يعترض على التقرير الذي ذكرناه بوجوه :
الوجه الأول : ان ظاهرالآية ان قوله : ( وان كشم مرضى أو على سفر أو جاء احد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءً فتيمموا صعيدا طيباً)(1) جملة واحدة مستقلة عما قبلها، وعليه يكون مفادها اشتراط الامر بالتيمم في المريض والمسافر أيضاً بعدم وجدان الماء . فلو كان المريض واجدا للماء يجب عليه الوضوء والغسل .
وقد ذهب الى ذلك بعض علماء العامة، ففي الخلاف (المجدور والمجروح وما اشبههما ممن به مرض مخوف يجوز له التيمم مع وجود الماء وهو قول جميع الفقهاء الاّ طاووساً ومالكاَ فانهما قالا يجب عليهما استعمال
____________
(1) المائدة 5 | 6 .

(282)
الماء)(1).
وفي بداية المجتهد لابن رشد نقل عن عطاء انه لا يتيمم المريض ولا غير المريض اذا وجد الماء(2) .
وقد ذكرفي وجهه ان الضمير في ( لم تجدوا ماء)(3)يعود الى المريض والمسافر ايضا .
ويؤيد ذلك عدة روايات من طرقنا تدل على تعين الغسل على المريض وان اصابه ما اصابه .
منها : ما رواه سليمان بن خالد وأبو بصير وعبدالله بن سليمان جميعا عن أبي عبدالله عليه السلام (انه سئل عن رجل كان في أرض باردة فتخوف إن هو اغتسل أن يصيبه عنت من الغسل كيف يصنع ؟ قال : يغتسل وان اصابه ما اصابه . قال : وذكر أنه كان وجعا شديد الوجع فاصابته جنابة وهو في مكان بارد ، وكانت ليلة شديدة الريح باردة ، فدعوت الغلمة فقلت : لهم احملوني فاغسلوني ، فقالوا: نخاف عليك . فقلت ليس بد، فحملوني ووضعوني على خشبات ثم صبوا عليّ الماء فغسلوني )(4).
ونحوها صحيحة محمد بن مسلم (5).
لكن يرد على هذا الاعتراض : انه لا يمكن الالتزام بالوجه المذكور.
اما أولاً : فلأنه مخالف لاجماع المسلمين ولا يعتد بخلاف من ذكرنا ، كما هو مخالف للروايات الكثيرة التي دلت على عدم تعين الوضوء والغسل
____________
(1)الخلاف 1 : 151 مسألة 100 .
(2) بداية المجتهد ا : 66 ط 1401هـ .
(3) المائدة5 | 6 .
(4-5) لاحظ جامع الأحادبث كتاب الطهارة أبواب التيمم الباب 7 ث 3| ح 8 1 | 2 326 ص - 0 5 و 9 1 |63 2 3 ص 51 .

(283)
في حال المرض ، وهي مقدمة على تلك الروايات من جهتين :
إحداهما : تواتر هذه الروايات .
والجهة الاخرى : انه قد روى بعضها المتأخرون من رواة اصحابنا عمن بعد الصادق عليه السلام من الأئمة ، كما رواه أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي عن الرضا عليه السلام في الرجل تصيبه الجنابة وبه قروح وجروح أو يكون يخاف على نفسه من البرد. قال : (لا يغتسل يتيمم )(1) وقد اوضحنا في بحث تعارض الادلة وغيره أن المتاخرين من رواتنا من اصحاب الكاظم والرضا عليهما السلام ممن ألفوا جوامع حديثية كانوا ينظرون في أسئلتهم للإمام المتاخر الى ما روي عن الامام الباقر والصادق عليهما السلام فهي حاكمة على تلك الروايات ، ومقامنا من هذا القبيل .
وأما ثانيا : فلان هذا المعنى ليس ظاهرا من الاية أيضا إذ لو اراد ذلك لم تكن حاجة بل لم يكن وجه لذكر المرض والسفر وما بعدهما حيث كان يكفي أن يقول ( وان لم تجدوا ماءً فتيمموا صعيدا طيباً)(2)).
الوجه الثاني : ان الأمر بالتيمم في حالة المرض والسفر بعد الأمر بالوضوء والغسل أولا بنحو عام ليس مفاده عرفاً الا عدم لزوم الوضوء والغسل في حصول الطهارة لا عدم كفايتهما في ذلك ، والسرفيه انه متى حدد الحكم الالزامي بعذرمن الأعذار كالاضطراروالحرج ونحوهما - سواءً كان التحديد تحديدا مباشرا أو تحديدا غير مباشر كما إذا كان بنكتة كون التفصيل قاطعا للشركة -كما في المقام - فان المنساق عرفا انتفاء الالزام في حالة العذرلا عدم مطلوبية الشيء في هذه الحالة، فيقتضي عدم صحته واجزائه اصلاً،
____________
(1) المصدر السابق نفس الموضع ح 13 عن أبي عبدالله 3 1 |3257، عن ابي الحسن الرضا 4 1 | 3258 ص 49 .
(2) المائدة 5 | 6 .

(284)
فلو قيل مثلا (احفظ خطبة من نهج البلاغة وان كان عسرا فاقرأ صحيفة من القرآن ) فانه لا يستفاد منه الا عدم الالزام بحفظ الخطبة في صورة تعسره لا عدم اجزائه كما هو واضح .
والمقام من هذا القبيل لان المرض وعدم الوجدان اللذين اخذا موضوعين للحكم الثاني - وهو الأمر بالتيمم - إنما هما من الاعذار لعدم الاتيان بمتعلق الامر الأول - من الوضوء والغسل - وعليه فيستفاد من الآية اجزاء الطهارة المائية لمن يضره الماء .
ويرد على ذلك : ان ما ذكر انما يتم فيما اذا كان موضوع الحكم الثاني عنوان الحرج والعسر ونحوهما فيستظهر من الكلام ان متعلق الأمر الأول يؤثر أثره المطلوب في حالة العذر، وعنوان الضرر ليس من هذا القبيل عرفا ، ولذا لو قال الطبيب للمريض (يجب عليك لاستعادة نشاطك ان تمشي كل يوم مقدار كيلو متر، وان كان يضرك ذلك فاستعمل العلاج الخاص ) فانه لا يقتضي ان المشي ينفعه في استعادة نشاطه من حالة تضرره به .
وكذا في المقام فمن الجائز ان يكون الأثر النفسي المطلوب من الطهارة المائية لا يحصل بها في حالة المرض والتضرر أصلا .