الوجه الثالث : انه لا يبعد ان يكون ذكر المريض في الآية بملاحظة أن استعماله للماء حرج عليه لا مضر به ، وكذلك يكون ذكر المسافر باعتبار كون تحصيل الماء بالنسبة اليه حرجيا، وعليه فالمقصود بذلك إخراج حالة الحرج في استعمال الماء أو في الوصول اليه .
ويشهد لذلك تعليل الترخيص في التيمم بقوله ( ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم )(1).
____________
(1) المائدة 5 | 6 .

(285)
وعلى هذا فلا ترتبط الآية بمحل البحث ، مضافاً الى أن تحديد الأمر بالوضوء والغسل بعدم الحرج لا يعني عدم صحتهما حينئذ لأن تحديد الحكم بمثلهما لا يعني الا محدودية الالزام دون عدم صحة العمل كما تقدّم .
ويرد عليه :
أولاً: ان كون المرض كناية عن الحرج في استعمال الماء خلاف المتعارف في الاستعمالات ، فان المعهود فيها ان يكنى به عن الضرر.
وثانياً : انه لا وجه للاستشهاد على ذلك بذيل الآية، لان ذلك مرتبط باصل جعل الطهارات الثلاث لا بخصوص التيمم -كما تنبه له بعض المفسرين - فالمقصود به ان الله تعالى لم يأمر بها لكي يحرج عباده ويشق عليهم وانما امر بها لتطهيرهم .
الوجه الرابع : ان يقال انه لو سلمنا ان الآية الشريفة تدل على عدم وجوب الوضوء والغسل في حال المرض الا انه يكفي في مشروعيتهما إطلاق ادلة استحبابهما وحينئذ يترتب عليهما أثرهما وهو الطهارة من الحدث (1) .
ويرد عليه :
أولاً : انه لم يقم دليل على الاستحباب النفسي للوضوء والغسل فيما عدا الوضوء التجديدي والوضوء المشروع للحائض . على ما أوضحناه في علم الفقه .
وثانياً : انه لو فرض وجود الدليل على استحبابهما النفسي فلا اطلاق له بالنسبة الى من يضره الماء فان الامر الاستحبابي بهما انما هو في الحصة التي يكون واجداً فيها لشرط الوجوب لا مطلقا.
____________
(1) لاحظ مصباح الاصول 2 : 552.

(286)
وثالثا : ان ما ذكر انما يتم فيما لوكان المستفاد من الاية مجرد تحديد وجوبهما بعدم الضرر. واما لوكان المستفاد منها تحديدهما بما أنهما شرطان للصلاة أو محصلان لما هو شرطها - من الطهارة- فانها حينئذ تكون دليلا على الفساد عند فقدان الحد المذكور.
وبذلك ظهر انه لا اطلاق لدليل مشروعية الوضوء والغسل بالنسبة الى من يضره الماء. فلا محل للبحث عن اجراء (لا ضررفيهما) حتى يبحث عن أن المستفاد منها عام للجاهل بالضرر أو مختص بالعالم به .
البحث الثاني : في أنه لو فرض اطلاق أدلة مشروعية الوضوء والغسل بالنسبة الى من كان يضره استعمال الماء فهل يقتضي (لا ضرر) فسادهما مطلقا أو بالنسبة الى العالم بكونهما ضرريين فحسب أو لا يقتضي ذلك أصلا؟
والصحيح هو الوجه الأخير. وتوضيح ذلك : ان الوضوء والغسل على الصحيح من موضوعات الأحكام ، حيث إن كلا منهما جعل في مورده موضوعا لترتب الطهارة الحدثية كما قد جعل غسل البدن بالماء موضوعا للحكم بالطهارة الخبثية .
وعليه فلا يمكن نفي صحتهما بقاعدة (لا ضرر) لان مجرد الحكم بترتب الطهارة الحدثية عليهما ليس تسبيباً الى الضرر، كما لم يكن الحكم بترتب الطهارة الخبثية على غسل الماء بالبدن تسبيباً الى الضرر وان كان استعمال الماء مضراً، فان المقامين من واد واحد . نعم بينهما فرق من جهة ان ترتب الطهارة الخبثية على استعمال الماء لا يتوقف على قصد القربة، وترتب الطهارة على استعماله في الوضوء والغسل مشروط بقصد القربة .
لكن هذا الفرق ليس بفارق لان تحقق قصد القربة بالوضوء والغسل لا يتوقف على وجود أمر مولوي بهما - من الأمر الاستحبابي أو الأمر الغيري
(287)
بناء على الصحيح من امكان التقرب بامتثال الأمر الغيري خلافاً لما هو المشهور بين المتاخرين - حتى يكون انتفاء الأمر النفسي بهذه القاعدة موجباً لفقدان قصد القربة . اذ قوام عبادية العمل باضافتها اضافة تذللية الى الله تبارك وتعالى، ويكفي في تحقق هذا المعنى قصد التوصل بالوضوء والغسل الى الغاية المترتبة عليهما - التي هي محبوبة لدى الشارع المقدس - وهي على المختار نفس الطهارة، وأما بقية الغايات فهي في طولها، كما يكفي أيضا أن يقصد التوصل الى تلك الغايات الطولية كإباحة الدخول في الصلاة والطواف .
يضاف الى ذلك ان في اقتضاء (لا ضرر) لسقوط الاستحباب النفسي في مورد ثبوته تأملا .
نعم مقتضاه انتفاء وجوبهما الغيري على نحو غير مباشر بمعنى أنه يوجب أولا ارتفاع وجوب ذي المقدمة - وهي الصلاة مع الطهارة المائية - فيما لم يكن الشخص متطهرا وكان استعمال الماء مضرا له ، فبذلك ينتفي الوجوب المقدمي الغيري ، اذ على المشهور لا يمكن انتفاء وجوب المقدمة مع بقاء وجوب ذيها،ونتيجة ذلك عدم وجوب الصلاة مع الطهارة المائية ما لم يتوضأ المكلف ولكن اذا توضأ فحيث انه قد حصلت الطهارة المائية فيجب عليه الصلاة مع الطهارة المائية، اذ ليس ايجابها حينثذ تسبيبا الى الضرر.
وبما ذكرنا يمكن ان يوجه بعض كلمات السيد الاستاذ (قده ) في المقام - مع غض النظر عن بعض المناقشات في عبارته -(1) .
____________
(1) لاحظ مصباح الاصول 2 : 552ففيه (فالوضوء الضرري وان كان وجوبه مرفوعاً بأدلة نفي الضرر إلاّ ان استحبابه باق بحاله فصح الاتيان بالوضوء الضرري بداعي استحبابه النفسي او لغاية مستحبة وتحصل له الطهارة من الحدث وبعد حصولها لا مانع من الصلاة معها=
(288)
وعلى ما ذكرناه من عدم اقتضاء (لا ضرى) لفساد الوضوء والغسل الضرري مطلقأ لا يتجه ما قيل في توجيه قصور (لا ضرر) عن إثبات فسادهما في صورة الجهل كما ذكره جمع (1) من أن دليل (لاضرر) وارد في مقام الامتنان عل الاقة الإسلامية ، فلا يكون (لا ضرر) شاملا لمورد يكون نفي الحكم فيه منافيا للامتنان ، والحكم ببطلان الطهارة المائية الضررية الصادرة حال الجهل من هذا القبيل ، فان الأمر بالتيمم واعادة العبادات الواقعة معها مخالف للامتنان .
اذ لا حاجة الى ذلك الا على سبيل التنزل عما ذكرناه . مع امكان المناقشة في ورود الحديث في مقام الامتنان فتأمل .
البحث الثالث : في ان حرمة الاضرار بالنفس هل توجب الحكم بفساد الوضوء والغسل المضرين في حال الجهل والعلم أو لا؟
ويلاحظ أولاً : إنه لم تثبت حرمة الإضرار بالنفس مطلقأ وإنما الثابت حرمته فيما يكون من قبيل هلاك النفس أو ما يلحق به -كما أوضحنا ذلك ني بحث الوضوء من شرح العروة- وعليه فالكلام في هذا البحث فيما اذا كان الضرر اللازم من الوضوء والغسل كذلك .
ولتوضيح المقام لا بد من ايضاح امرين :
الأمر الأول : ان نسبة (الاضرار المحرم ) الى الوضوء والغسل الضرري نسبة الأسباب والمسببات التوليدية كالالقاء والاحراق والرمي والقتل ونحو ذلك .
____________
= لحصول شرطها وهي الطهارة بلا حاجة إلى الاعادة . وكذا الحال في الغسل الضرري ... الخ .
(1) لاحظ مصباح الاصول : 545وغيرها.

(289)
وفي متعلق الحرمة في الأسباب والمسببات التوليدية احتمالات ثلاثة - كما تعرضنا له في مبحث مقدمة الحرام -:
الاحتمال الأول : ان يكون مصب الحرمة إيجاد المسبب التوليدي كالحرق والضرر. وحيث إن وجود المسبب التوليدي مغاير مع وجود سببه كالالقاء للاحراق والوضوء للاضرار، فيكون ايجاده أيضا مغايرا معه لان الفرق بين الايجاد والوجود انما هو بمجرد الاعتبار. وعليه فيكون المحرم مغايرا وجودا مع ما هوسبب له .
لا يقال : ان الاحكام التكليفية تتعلق بافعال المكلفين والمسبب التوليدي كالاحراق والاضرار ليس بفعل للمكلف بل الاحراق أثر النار بشرط المماسة مع الجسم ، والضرر اثر الماء بشرط المماسة مع البدن .
فانه يقال : إن هذا أمر غالبي وليس شرطا اذ يكفي في صحة تعلق الحكم التكليفي بأمر كونه مقدورا للمكلف مع الواسطة .
الاحتمال الثاني : ان يكون مصب الحرمة السبب التوليدي وانما اخذ العنوان المسبب عنه مرآة للسبب الذي يترتب عليه ، فيكون الالقاء والوضوء بانفسمهما متعلقين للحرمة .
الاحتمال الثالث : أن يكون مصب الحرمة العنوان الثانوي المسمى بالمسبب التوليدي مأخوذا على نحو الموضوعية لكن مع عده من قبيل الاعتبارات المتأصلة ، فان تأصل الامر الاعتباري كما يكون في الاحكام التكليفية والوضعية فكذلك يتحقق في جملة من الماهيات التي هي من قبيل موضوعات الأحكام ومتعلقاتها كالغصب .
والأظهر من هذه الاحتمالات هو الاحتمال الأول كما بيناه في محله .
الأمر الثاني : في حكم الوضوء والغسل حيث يترتب عليهما الضرر المحرم .
(290)
وذلك يختلف بحسب الاحتمالات السابقة في مصب الحرمة :
اما على الاحتمال الأول : فيكون متعلق الحرمة أمرا لا اتحاد له بوجه معهما، فإن كان مضرا بصحتهما فانما هو من جهة الاخلال بقصد القربة المعتبرة فيهما، وهذا الاخلال لا يتصور في صورة الجهل بكونه مضرا على نحو الجهل المركب أو الاطمئنان لعدمه أو الغفلة عنه أو نسيانه .
وأما مع العلم به أو ما في حكمه ففيه جهتان : جهة ترتب امرمحبوب عليه وهو الطهارة . وجهة ترتب امر مبغوض عليه وهو الاضرار المحرم ، ولايبعد تمشي قصد القربة اذا اتى بها بداعي التسبيب الى الجهة الأولى .
واما على الاحتمال الثاني : فالمحرم يكون نفس الوضوء والغسل فيدخل تحت عنوان النهي عن العبادة فيحكم بالفساد - على المشهور- لأنه لا اثر للتقرب بما هومبغوض ذاتا.
واما على الاحتمال الثالث : فان قلنا بان الوضوء والغسل من قبيل موضوعات الاحكام فقط فيلحق بالاحتمال الأول حكما ، وعلى القول بانهما من قبيل متعلقات الأحكام يدخل في بحث اجتماع الأمر والنهي ، فان قلنا بالامتناع وتغليب جانب النهي فلا بدّ من الحكم بالفساد في صورة العلم وأما في صورة الجهل فمبني على القول باقتضاء القول بالامتناع الفساد مطلقا، والمختار هو عدم الامتناع ، وعلى القول به فيفصل بين صورتي العلم والجهل كما سبق في الاحتمال الأول .
التنبيه الخامس : في انه هل يستفاد من (لا ضرر) جعل الحكم ، اذا كان يلزم الضرر لولا وجوده - كما يستفاد منه نفي الحكم اذا كان يلزم الضرر بوجوده - أم لا؟ . وعلى التقدير الأول فهل هناك أمثلة فقهية تكون من هذا القبيل أم لا؟
(291)
وقد انكر المحقق النائيني (قده ) الكبرى والصغرى معاً(1) واقر السيد الاستاذ (قده ) بالكبرى ولكنه انكر الصغرى قائلا : (بان الصغرى لهذه الكبرى غيرمتحققة فانا لم نجد موردا كان فيه عدم الحكم ضررا حتى يحكم برفعه وثبوت الحكم بقاعدة لا ضرر) (2) ويظهرمن بعض الفقهاء منهم السيد الطباطبائي في ملحقات العروة الالتزام بهما معاً كما سيجيء نقل كلامه .
والكلام تارة في الكبرى واخرى في الصغرى، فهنا مقامان :
أما في المقام الأول : فتقريب انكار الكبرى ان حديث (لا ضرر) لا ناظر الى الأحكام المجعولة في الشريعة المقدسة ومقيد لها بعدم أدائها الى الضرر على المكلف ، وعدم الحكم ليس حكما مجعولاً فلا يشمله الحديث . وليس المدعى انه لا يمكن جعل الحكم العدمي - فان الاباحة التكليفية حكم عدمي وليس عدم الحكم بحسب الدقة لانها تنشأ من قبل الشارع بعنوان إرخاء العنان بالنسبة الى كل من الفعل والترك للمكلف ، وكذلك الحلية فانها بمعنى حل عقدة الحظر ومرجعها الى هدم الحكم التحريمي المجعول ، كما انه ليس المدعى أنه لا يمكن انشاء عدم الحكم بل هو امر ممكن كما في الحكم بعدم اشتغال الذمة، وانما المقصود ان مجرد عدم جعل الحكم في مورد قابل لا يمكن عده حكما حتى يكون مرفوعا بحديث (لا ضرر) .
والجواب عن ذلك : ان ما ذكر من نظر الحديث الى الاحكام المجعولة في الشريعة محل منع لان مفاد الحديث هو عدم التسبيب الى تحمل الضرر - أي نفي وجود ضرر منتسب الى الشارع المقدس بما هو
____________
(1) تقريرات المحقق النائيني : 119 وما بعده .
(2) لاحظ جامع الأحاديث . الباب 3 .

(292)
مشرع ومقنن - وهذا المعنى كما يصدق في موارد جعل الحكم الذي يلزم منه الضرر- سواء كان وضعيا أو تكليفيا، وسواء كان الزاميا أو غير الزامي كالترخيص في الدخول لمن له حق الاستطراق بغير استئذان على نحو يوجب ذهاب حق التعيش الحر بالنسبة الى صاحب الدار، كما في قضية سمرة بن جندب - فكذلك يصدق في حالة عدم جعل الحكم أحيانا فيعدّ نفس عدم جعل الحكم ممن بيده التشريع تسبيبا منه الى الضرر.
مثلا : اذا فرض أن الشارع منع الزوجة المعدمة من الاكتساب اذا كان على نحو ينافي حقوق زوجها وفرض عدم جعل وجوب الانفاق عليها، فيعد نفس هذا تسبيبا منه الى تضررها، أو سلب حق التعيش مع الكرامة بالنسبة اليها . وكذلك لو فرض أنه حرم إضرار بعض الناس ببعض تكليفا ولم يجعل حكما اجرائيا يخؤل للسلطة مكافحة الاضرار والمنع عنه خارجا .
والحاصل : ان عدم جعل الحكم المانع عن الضرر يعد تسبيبا منه اليه بعد فرض كمال الشريعة كما يدل عليه قوله تعالى ( اليوم اكملت لكم دينكم )(1) ويؤكده الروايات الدالة على انه ما من واقعة الاّ ولها حكم (2) وقوله صلى الله عليه وآله (يا ايها الناس ما من شيء يقربكم من الجنة ويباعدكم من النار الا وقد امرتكم به ، وما من شيء يقربكم من النارويباعدكم من الجنة الاّ وقد نهيتكم عنه )(3) مضافا الى سلب حق التشريع عن غير الله تعالى .
وعليه فلا يقدح عدم صدق الحكم على مجرد عدم جعل الحكم بعد صدق التسبيب الى تحمل الضرر.
____________
(1) المائدة 5 |3 .
(2) جامع احاديث الشيعة 1 :133- 143| 30-32.
(3) ورد ذلك في صحيحة أبي حمزة الثمالي المذكورة في الوسائل - كتاب التجارة - أبواب مقدماتها - الباب 2 1 ج 7 1 : 5 4 | 939 1 2 .

(293)
بل يمكن أن يقال : بان عدم الحكم في ذلك يعد حكما كما يعد عدم القيام لأحد الشخصين مع القيام للآخرمع تساويهما في الرتبة توهينا للأول ، وكذلك يعد عدم التقييد في الموضع القابل له اطلاقا .
ويلاحظ : أن هذه الكبرى منتجة وإن انكرنا وجهود صغرى لها، بمعنى أنه لم يوجد هناك مورد يكون (لا ضرر) فيه دليلأ على ثبوت الحكم -وذلك لأن نتيجة كون الكبرى مثبتة للحكم هي عدم حكومتها أي (لا ضرر) على ادلة حرمة الاضرار بالغير إذا كان عدم الاضرار بالغير ضررا على المالك كما اذا تصرف المالك في ملكه بما اوجب الاضرار بجاره ، لان مقتضاه على هذا التقدير نفي كل من حرمة الاضرار بالغير وجواز التصرف في الملك - لكون الأولى تسبيبا للضرر بالنسبة الى المالك والثاني تسبيبا للضرر بالنسبة الى الجار- فيتعارض (لا ضرلر) فيهما ويسقط .وتصل النوبة الى أدلة حرمة الاضرار بالغير فيحرم بمقتضاها تصرف المالك في ملكه بما يضر بجاره ، فهذا مقدار من الانتاج للكبرى المذكورة ، ولو لم تثبت هذه الكبرى لكان (لا ضرر) نافيا لحرمة الإضرار بالغير دون جواز التصرف في الملك فتكون حاكمة على ادلة حرمة الاضرار كما يأتي توضيح ذلك في التنبيه الآتي .
واما في المقام الثاني : - وهو وجود صغرى لهذه الكبرى - فقد ذكر لها موردان :
المورد الأول : الحكم بضمان التالف في غير الموارد التي يكون هناك سبب للضمان فيها ، كالاتلاف واليد العادية فان دليل الضمان فيها نفس أدلته دون قاعدة (لا ضرر) . وقد عدّ(1) من موارد انحصار الدليل للضمان
____________
(1) لاحظ تقريرات المحقق النائيني : 220 و221 .

(294)
بقاعدة (لا ضرر) ما اذا حبس الانسان حتى فات عمله ، أوحبسه حتى أبق عبده أو فتح شخص قفص طائر فطار، بدعوى انه لولا الحكم بالضمان في مثل ذلك للزم الضررعلى الشخص .
وقد انكر المحقق النائيني الحكم بالضمان فيها معللا بعدم دلالة (لا ضرر) عليه فان دلالته عليه تبتني على القول بان المستفاد منه نفي الضرر غير المتدارك فيدل على الحكم بتدارك الضرر الواقع إما من قبل من سبب اليه - ان كان هناك انسان صار سببا لوقوع الضرر- أو من بيت المال ان لم يكن كذلك (1) وبظهر من السيد الاستاذ (قده ) موافقته معه في ذلك (2).
لكن الظاهر انه لا وجه لانكار الضمان في ذلك فان ثبوته لا يبتني على مسلك الفاضل التوني في مفاد الحديث -من نفي الضرر غير المتدارك - الذي قد سبق ابطاله - بل يكفي فيه نفس ما دل على قاعدة الاتلاف لاندراجه تحتها، فان حبس الحر- اذا كان كسوبا - يكون كحبس العبد والدابة ونحوهما ، تفويتا لمنافعه المقدر وجودها لدى العقلاء فيكون ضامنا لعمله ، كما ان حبس الانسان اذا أدى الى أن تشرد دابته أو يابق غلامه أويسيل الماء - المفتوح لجهة - مما يوجب خراب الدار والبستان ، أو يحترق ما في القدر أو ما في الدار بنار كان قد اشعلها تحت القدر وكان قادرا عليها كل ذلك ونحوه يكون اتلافا للمال عقلاءً .
ولا حاجة الى قاعدة (لا ضرر) في ذلك بل يفي بجعل الضمان قاعدة (لا ضرار) بالمعنى الوسيع الذي ذكرناه الذي هو امضاء للقاعدة العقلائية لانها تستبطن تشريع احكام رادعة عن تحقيق الإضرار بالنسبة الى الغير، فالحكم بالضمان على من أضر، من اوضح اسباب الردع عن الاضرار
____________
(1) لاحظ المصدر السابق .
(2 ) لاحظ مصباح الاصول 2 : 560 .

(295)
الصادر من الحابس ونحوه وبذلك يتضح انه لا يرد على اثبات الضمان بقاعدة (لا ضرر) في المقام ما ذكره السيد الاستاذ (قده ) من ان الضرر اللازم على المتضرر - المقتضى لجعل الضمان - معارض بالضرر المترتب على الحكم بالضمان على الحابس (1) لان (لا ضرر) من جهة مقابلته بـ (لا ضرار) لا اطلاق لها بالنسبة الى نفي الضرر الذي يشرعه القانون من باب مكافحة الاضرار- كما سبق توضيحه في التنبيه الثاني -.
المورد الثاني : اثبات حق الطلاق للحاكم الشرعي بقاعدة (لا ضرر) و(لا حرج ) فيما اذا صارت الزوجة محرومة عن حقوق الزوجية خارجا، مع مطالبتها لها وعدم طريق لاستيفائها، بان لم يمكن إجبار الزوج على الوفاء بها ولو بتعزيره إن تخلف عن أدائها - وذلك كما لو كان الزوج مفقودا أو غائبا ولم يكن طريق لإجبار الزوج على طلاقها -.
فيقال حينئذ بان لها ان تطالب الحاكم الشرعي بان يطلقها وعلى الحاكم الاستجابة لطلبها وطلاقه نافذ . وعمدة النظر في المقام الى خصوص حق الانفاق .
وقد التزم بحق طلاق الحاكم في الموضوع السيد الطباطبائي في ملحقات العروة تمسكا بقاعدتي (لا ضرر) و(لا حرج ) مضافا الى الروايات الخاصة . وقد ناقش المحقق النائيني في التمسك بهما فإنهما لا يثبتان حكما وجودياً كما ناقش في الروايات التي استدل بها بانها غير معمول بها وهي معارضة بغيرها - وسيجيء تفصيل ذلك -كما استبعد كلامه جمع آخرمن المتأخرين .
ونحن نجعل محل الكلام بعض فروض المسألة وهوما لو امتنع الزوج
____________
(1) المصدر السابق : 561 .

(296)
عن اداء النفقة لزوجته ، ونبحث .
تارة : في انه هل يمكن الحكم بثبوت حق الفسخ للزوجة بملاحظة طبيعة عقد النكاح في نفسه ؟
واخرى : في ثبوت حق الفسخ أو الطلاق للحاكم بملاحظة (لا ضرر، ولا ضرار) .
وثالثة : في ثبوت ذلك بملاحظة الأدلة الخاصة، فهنا أبحاث ثلاثة :
البحث الأول : في انه هل يثبت حق الفسخ للزوجة عند عدم انفاق الزوج عليها بمقتضى تخلف الشرط الارتكازي الضمني - كما ذكره جمع في وجه ثبوت خيار الغبن -أم لا؟
وتقريب ثبوته : ان ما تنشئه المرأة في عقد النكاح وان كان هو الزوجية الدائمة الا انها مقيدة بسبب الشرط الارتكازي ، بان يبذل لها الزوج النفقة بحدودها الشرعية، وليس للمنشأ اطلاق بالنسبة الى الزوجية بعد فسخها من ناحية اخلال الزوج بالنفقة . فان الزوجية المنشأة بحسب طبعها احداث علقة خاصة بين الرجل والمرأة، حقيقتها المشاركة في الحياة على نحو خاص يشتمل على نحو قيمومة للزوج بالنسبة الى الزوجة وتكفل مؤونتها اللازمة - مضافا الى الاستمتاع الجنسي - قال الله تعالى : ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما انفقوا من اموالهم ) .
وقد جاء في تفسير القرطبي (1) انه فهم العلماء من هذه الآية انه متى عجزعن نفقتها لم يكن قواما عليها واذا لم يكن قواما عليها كان لها فسخ العقد لزوال المقصود الذي لاجله شرع النكاح . ثم نقل قول الشافعي ومالك . بذلك ومخالفة ابي حنيفة . وقد ورد في رواية ضعيفة عن سفيان بن عيينة عن
____________
(1) القرطبي 5 : 169 .

(297)
ابي عبدالله عليه السلام في حديث انه قال (فالرجل ليست له على نفسه ولاية اذا لم يكن له مال وليس له على عياله امر ولا نهي اذا لم يجر عليهم النفقة)(1).
وليس المقصود الاستدلال بالآية والرواية، بل المقصود ان المرتكز الذهني للزوجة انشاء الزوجية الدائمة بشرطها وشروطها والنفقة منها .
ويمكن الايراد عليه - مع غض النظر عن مخالفة الروايات الأتية لثبوت خيار الفسخ للزوجة في صورة الاخلال بالنفقة - بوجهين يمكن دفعهما :
الوجه الأول : ان بين البيع والنكاح فرقا، فان قوام البيع بالمالين وقوام النكاح بالشخصين حتى أن المهر ليس من أركانه ، ولذا لو اخل به يصح العقد ويثبت مهر المثل - ففي البيع حيث ان النظر الى المالين فيقتضي بحسب الشرط الارتكازي العقلائي عدم نقصان ما انتقل اليه عما انتقل عنه بحسب المالية - فيكون منشأ لخيار الغبن - كما يقتضي عدم كونهما معيبين - فيكون منشأ لخيار العيب - وهكذا بالنسبة الى ساثر الشؤون الراجعة الى المالين . ويمكن ادعاء مثل هذا الشرط الارتكازي في ما يرجع الى الزوجين في النكاح ، بالنسبة الى فقدان العيوب التي تختل بها الحياة الزوجية، وقد حددها الشارع بعيوب خاصة، وكذا ياتي فيها خيار التدليس فيما يتعلق بذلك .
واما ما لا يرجع الى وصف الزوجين بل كان من الاحكام الثابتة في الشريعة الاسلامية ، كوجوب إنفاق الزوج على الزوجة فلا يمكن عده من الشروط الارتكازية العقلائية .

____________
(1) كتاب الكافي - الاصول - كتاب الحجة الباب 103 (باب ما يجب من حق الإمام على الرعية . 0 0) 1 : 335 و336 | 6 .

(298)
كيف وفي بعض المجتمعات البدوية يشترك الزوجان في تحصيل النفقة كما هو الغالب في اهل الريف الذين يكون شغلهم الزراعة والفلاحة وتربية المواشي ، وكذا في بعض المجتمعات المتحضرة -كما يقال - التي يكون لكل من الزوجين فيها شغل كالطبابة والتعليم ونحوهما. بل نقل عن بعض المجتمعات البدوية ان الزوجة هي التي تتكفل النفقة .
وعلى هذا فلا يمكن عدّ الانفاق من الشروط الارتكازية للنكاح .
الوجه الثاني : ان الشرط الارتكازي انما يؤثر في تحقق الخيار عند التخلف في صورة نفوذه عند التصريح به فان مرجع اشتراط الانفاق على النحو الذي يقتضيه هذا التقريب هوجعل الخيار عند التخلف ، ومقتضى ما عللوا به عدم صحة شرط الخيار في النكاح عدم صحة جعل الخيارولو بتخلف الوصف أو الشرط الا ما دل عليه النص قال الشيخ الأنصاري (في بحث خيار الشرط بعد ذكر عدم دخوله في النكاح اتفاقا)(1) . ولعله لتوقف ارتفاعه شرعا على الطلاق وعدم مشروعية التعامل فيه .
وقد يحكم ببطلان اصل النكاح الذي جعل فيه شرط الخيار ،وقد علل ذلك السيد الاستاذ (قده ) بان شرط الخيار يرجع الى تحديد الزوجية بما قبل الفسخ لا محالة، وهو ينافي قصد الزواج الدائم أو المؤجل الى أجل معلوم ، وهذا بخلاف سائر الشروط الفاسدة فإنها بحسب الارتكاز العرفي لا ترجع في خصوص النكاح الى جعل الخيارعلى تقدير التخلف ، وانما ترجع الى تعليق الالتزام بترتب الاثار على وجود الشرط وفسادها لا يسري الى العقد(2).
____________
(1) لاحظ المكاسب : 233 .
(2) العروة الوثقى مع تعليقة الخوئي (ره ) 2 : 638 مسألة5 385.

(299)
ويمكن الجواب عن الوجه الأول : بانه لا يعتبر في تاثير الشرط الارتكازي ان يكون شرطا ارتكازيا لدى جميع المجتمعات والملل والنحل ، ولا اشكال في أن الإنفاق كان أمرا ملحوظا في عقد النكاح في المجتمع الإسلامي والمجتمع العربي قبل الإسلام ، بل قد اختلف فقهاء الخاصة والعامة في كون اليسار من الامور الدخيلة في الكفاءة وعدمه على قولين مشهورين (1) وسوف يظهر ارتكازية هذا الشرط مما ياتي في جواب الوجه الثاني .
وعن الوجه الثاني : بانه لا اجماع على عدم ثبوت خيارتخلف الوصف والشرط في النكاح وانما قام الاجماع على عدم صحة اشتراط الخيار فيه ، كيف وقد التزم بثبوت خيار الفسخ للزوجة عند الاعسار أو انكشافه جمع من فقهاء الفريقين ، ولذلك لو قدّر قيام الاجماع المذكور ايضا فلا ينبني الشك في عدم شموله للمقام .
اما فقهاؤنا فقال المحقق في الشرائع : لوتجدّد عجز الزوج عن النفقة هل تتسلط الزوجة على الفسخ فيه روايتان اشهرهما انه ليس لها ذلك ، وعقبه في الجواهر(2) بقوله (لا بنفسه ولا بالحاكم وفي المسالك انه المشهور) .
ونقل العلامة في المختلف (3) في بحث اعتبار اليسار في الكفاءة عن ابن اس ير انه قال : (والأولى ان يقال ان اليسار ليس بشرط في صحة العقد ، وانما للمرأة الخيار اذا لم يكن موسرا بنفقتها وليس العقد باطلا بل الخيارلها . . . ) ثم
____________
(1) لاحظ اختلات فقهائنا في الجواهر 30 : 03 1 والحدائق ط الاولى 6 : 144 . واختلاف فقهاء العامة في المغني لابن قدامة 7: 376 و 377 والخلاف للشيخ الطوسي 4 : 1 27 و 272 .
(2) الشرائع 2 : 300، جواهر الكلام 30 : 105 .
(3)كتاب النكاح : 576.

(300)
قال العلآمة (وهو الوجه عندي . . . واما اعتبار اليسار فلو نكحت المرأة ابتداء لفقير عالمة بذلك صح نكاحها اجماعا ولو كانت الكفاءة شرطا لم يصح ) - الى ان قال - (نعم أثبتنا لها الخيار دفعا للضرر عنها ودفعا للمشقة اللاحقة بها بسبب احتياجها مع فقره الى مؤونة يعجزعنها ، ولا يمكنها التزوج بغيره ، فلو لم يجعل لها الخيار كان ذلك من اعظم الضرر عليها وهو منفي اجماعا) . وذكر في مسألة الاعسار المتأخر(1) بعد نقل قول المشهور من عدم خيار للزوجة في الفسخ - (قال ابن الجنيد بالخيار لرواية عن الصادق ولاشتماله على الضرر إذ لا يمكنها الانفاق فلو لم يجعل لها الخيار لزم الحرج المنفي بالاجماع ) وقد توقف العلأمة نفسه في هذه المسالة وقد نقل في الحداثق (2) ان السيد السند في شرح النافع مال الى قول ابن الجنيد من ثبوت حق الفسخ كما نقل عن ظاهر المسالك التوقف . والغرض : انه لا اجماع في المقام بين الخاصة على عدم الخيار للزوجة .
واما العامة ففي المغني لابن قدامة(3) (ان الرجل اذا منع امرأته النفقة لعسرته وعدم ما ينفقه فالمرأة مخيرة بين الصبر عليه وبين فراقه ، وروي نحو ذلك عن عمر وعلي وأبي هريرة وبه قال سعيد بن المسيب والحسن ، وعمر ابن عبدالعزيز وربيعة وحماد، ومالك ، ويحيى القطان ، وعبدالرحمن بن مهدي ، والشافعي ، وإسحاق ، وابو عبيد ، وابوثور، وذهب عطاء والزهري ، وابن شبرمة، وابو حنيفة، وصاحباه الى انها لا تملك فراقه بذلك ولكن يرفع يده عنها لتكتسب . . .).
____________
(1) المصدر السابق 582 .
(2) ا لحد ائق 4 2 : 77 - 78 .
(3) المغني 9 : 4 24 .

(301)
وفي نيل الاوطار(1) : (ان الزوج اذا اعسرعن نفقة امراته واختارت فراقه فرق بينهما واليه ذهب جمهور العلماء على ما حكاه في فتح الباري ، وحكاه صاحب البحر عن الامام علي عليه السلام ، وعمر، وابي هريرة ، والحسن البصري ، وسعيد بن المسيب ، وحماد وربيعة، ومالك ، واحمد بن حنبل ، والشافعي ، والامام يحى ، وحكى صاحب الفتح عن الكوفيين أنه يلزم المرأة الصبر وحكاه في البحر عن عطاء ، والزهري ، والثوري ، والقاسمية ، وابي حنيفة واصحابه وأحد قولي الشافعي ) .
وتعرض لنقل اقوال الصحابة والتابعين وفقهاء العامة ابن حزم ايضا في كتاب المحلى(2)ثم ان القائلين بهذا القول اختلفوا في انه هل للزوجة طلب الفسخ أو الطلاق أو هي مخيرة بينهما؟ ففي نيل الأوطار(3) نقل للعامة في ذلك أقوالا ثلاثة وفي المغني (4) (كل موضع يثبت لها الفسخ لاجل النفقة لم يجز الا بحكم الحاكم . . . فاذا فرّق بينهما فهو فسخ لا رجعة له فيه وبهذا قال الشافعي وابن المنذر، وقال مالك : هوتطليقة وهو احق بها ان أيسر في عدتها . . .) .
فظهر بذلك انه لا اجماع هناك في عدم خيارتخلف الشرط الضمني الارتكازي والصريح في عقد النكاح ، لكنه مخالف للروايات الأتية، ومع ذلك يمكن القول بان الشرط المرتكز هو ان يكون الخيار لها بالرجوع الى الحاكم وفسخه ، وان لم يتيسرفبنفس الزوج ، فلا مخالفة لمفاد الروايات
____________
(1) نيل الاوطار 7 : 133 - 134 .
(2)ج 10 | 94 - 95 .
(3) نيل الاوطار 7 :135 .
(4) المغني 9 : 48 2 - 249 .

(302)
المشار اليها. وعلى تقدير منع ذلك ، فالوجه في عدم الحاق النكاح عند الإعسار بخيار الغبن في استحقاق الفسخ انما هو الروايات الواردة في الموضوع .
البحث الثاني : في انه هل يثبت حق الفسخ للزوجة أو حق الطلاق للحاكم بقاعدة (لا ضرر ولا ضرار)؟ اما (قاعدة لا ضرر)، فلإثبات ذلك بها تقريبان : التقريب الأول : ما يماثل التقريب الذي يذكر لإثبات خيار الغبن في صورة عدم اقدام المغبون على الضرر - وهو ان يقال : إن حكم الشارع باستمرار الزوجية حتى بعد فسخ الزوجة لها من جهة حرمانها من حقها - المعبّرعن هذا الحكم باللزوم -ضرر على الزوجة فهو منفي .
وعلى هذا التقريب يكون التمسك بـ (لا ضرر) تمسكا به لنفي الحكم لا لإثباته ، كما انه انما يتجه في فرض انكار ارتكازية الشرط أو تاثير الشرط الارتكازي ونحو ذلك - كما يظهر مما سبق في التنبيه السابق -.
وقد يعترض على هذا التقريب بما عن شيخنا الحلي (قده ) من ان الضرر المتوجه على الزوجة في حال عدم قيام الزوج بحقوقها ليس مسببا توليديا عن نفس لزوم النكاح لينتفي بالحديث المذكور اذ من المعلوم ان اختيار الزوج دخيل في البين (1) .
وهذا الاعتراض مبني على ما ذهب اليه (قده ) وفاقا لشيخه المحقق النائيني من أن الضرر المنفي عنوان توليدي لنفس الحكم الشرعي ، كالاضرار فيكون الحكم الشرعي منفيا حيث ينطبق عليه الاضرار. وقد مرت مناقشة هذا المبنى في محله وذكرنا ان الصحيح في تخريج ما ذهب اليه
____________
(1) بحوث فقهية : 207 .

(303)
المشهور من تفسير الحديث بنفي الحكم الضرري هوان مفاده نفي التسبيب الشرعي الى تحمل ضرر من الغير.
وعلى هذا فيمكن التمسك به في المقام حيث يفرض سقوط الحكم بالانفاق لعدم قدرة الزوج أو ثبوته في حقه مع عدم عمله على وفقه ولو إجبارا ، إذ يصدق على جعل لزوم الزوجية وبقائها أنه تسبيب الى الضرر من قبل الشارع فينتفي بلا ضرر.
وبذلك يظهر ان هذا التقريب ايضا تام لولا دلالة الروايات على خلافه ، حيث إنها تدل على ان ازالة الطلاق لا بدّ ان يكون صادرا عن الولي الإجباري وهو الحاكم .
التقريب الثاني : انه يلزم من عدم جعل سلطنة لغير الزوج على الطلاق وازالة عقد الزوجية تسبيب الشارع الى ضرر الزوجة ، فيستكشف من (لا ضرر) وجود هذا الحق للحاكم .
وعلى هذا التقريب يكون التمسك بـ (لا ضرر) استدلالا به في اثبات وجود حكم شرعي . وعليه يبتنى تمسك السيد الطباطبائي بهذه القاعدة وبـ (لا حرج ) لهذا المدعى . بل على هذا الاساس يبتنى تمسك العلامة بـ (لا ضرر) في اثبات حق الفسخ للزوجة، وكذا استدلال ابن الجنيد ب (لا حرج ) لهذا المدعى فانه ليس نظرهم الى دفع اللزوم . بل وكذا تمسك الشيخ والعلآمة وغيرهما بـ (لا ضرر) لإثبات خيار الغبن الذي هو من الحقوق القابلة للارث .
ويلاحظ : ان بين رفع الحكم بـ (لا ضرر) وأثباته به فرقا، فان الامر في الأؤل واضح لان المفروض تعين الحكم الموجب للضرر وهو ما يتوهم بسبب عموم أو اطلاق أو غيرهما . ولكنه ليس كذلك في الثاني لأن الحكم الذي يراد استكشافه لا يكون متعينا غالبا لامكان رفع الضرر بجعل عدة
(304)
احكام ، كما أشار الى ذلك الشيخ الانصاري (قده ) في خيار الغبن فلا يمكن استكشاف حكم معين منها الاّ بمؤونة زائدة .
ففي المقام يدور الامر بين ان يكون الحكم المجعول لرفع الضرر عن الزوجة هو ثبوت حق الطلاق للحاكم عند وجود الشرائط التي منها مطالبة الزوجة بالطلاق ، وبين ان يكون ثبوت هذا الحق لنفس الزوجة وبين ثبوت حق الفسخ لأحدهما . وبين الطلاق والفسخ فرق فإنه على تقدير الطلاق قد يكون الطلاق رجعياً فيكون للزوج الرجوع في اثناء العدة اذا تمكن من الانفاق وهذا بخلاف الفسخ .
وتعين احد هذه الاحكام بحاجة الى مزيد بيان .
ويمكن تقريب ثبوت حق الطلاق بان المستفاد من الادلة العامة هو ان وظيفة الزوج احد الأمرين اما إمساك بالمعروف أو تسريح باحسان ، ويشهد له بالخصوص معتبرة جميل ، عن أصحابنا، أو عن عنبسة بن مصعب ، وسورة بن كليب ، عن احدهما قال : اذا كساها ما يواري عورتها ويطعمها ما يقيم صلبها اقامت معه والاّ طلقها)(1).
واذا امتنع الزوج من الطلاق ولو بمراجعة الحاكم الشرعي يكون الحاكم هو المتصدي للطلاق لانه ولي الممتنع .
ويشهد لذلك ما ورد في المفقود من انه يطلقها الولي ولو باجباره على ذلك ، وإن لم يكن لها ولي طلقها السلطان (2) وكذلك ما ورد في ان حق
____________
(1) لاحظ الوسائل - كتاب النكاح . أبواب النفقات - الباب 1 - الحديث 4 ج 21 | 510ولاحظ ان الكافي الموجود عندنا يختلف مع ما نقله الشيخ عنه في سند الرواية لكن لا يسع المقام بيان ذلك (منه ).
(2) لاحظ المصدر السابق . كتاب الطلاق . أبواب أقسام الطلاق وأحكامه . الباب 23 الحديث 5ج 22| 158 .

(305)
الطلاق لا يكون بيد الزوجة مطلقا ولو بجعل الزوج ، ففي معتبرة محمد بن قيس عن ابي جعفر عليه السلام انه قضى في رجل تزوج امرأة واصدقته هي واشترطت عليه ان بيدها الجماع والطلاق . قال : خالفت السنة ووليت حقا ليست باهله ، فقضى أن عليه الصداق وبيده الجماع والطلاق وذلك السنة(1).
فمن ذلك وغيره يعلم ان الحكم بعدم كون الطلاق بيد الزوجة ليس من باب اللا اقتضاء، بل من باب اقتضاء العدم . هذا ما يتعلق باثبات حق الفسخ للزوجة أو حق الطلاق للحاكم بقاعدة (لا ضرر) .
واما اثبات حق الطلاق للحاكم بقاعدة لاضرار فيختص بالزوج الذي يكون مضاراً قال تعالى : ( فى ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ) (2) ووجه استفادته منها : ما سبق في شرح مقطع (لاضرار) من انه يستفاد منه ان للحاكم الشرعي الحق في المنع عن الاضرار حدوثا وبقاءً بانسب وأخف الوسائل الممكنة، وهو في المقام بعد سلسلة من الاجراءات طلاق الزوجة ، فيكون حكم طلاق الزوجة حكم نخلة سمرة بن جندب التي امر النبي صلى الله عليه وآله بقلعها، وعلى هذا فتثبت للحاكم هذه السلطة لانها من شؤون الولاية التنفيذية ، وقد أشير الى هذا التقريب فيما عن شيخنا الحلي (قده )(3) .
البحث الثالث : في حكم المسالة على ضوء الروايات الواردة في المقام ، وهي روايات عديدة :
فمنها : ما رواه الصدوق ، عن ربعي بن عبدالله ، والفضيل بن يسار،
____________
(1) لاحظ الوسائل كتاب النكاح . أبواب المهور. الباب 9 2 - الحديث ا ج 1 2 | 289 .
(2) البقرة 2 | 231 .
(3) بحوث فقهية : 209 - 210 .

(306)
جميعاً، عن ابي عبدالله عليه السلام في قوله تعالى : ( ومن قدر عليه رزقه فيلنفق مما آتاه الله )(1) قال : ان انفق عليها ما يقيم ظهرها مع كسوة والاّ فرق بينهما . وللصدوق سند صحيح الى كل منهما في المشيخة . وقد رواه الشيخ بسند فيه محمد بن سنان ، عنهما الأ انه قال (ما يقيم صلبها)(2).
ومنها: ما رواه الصدوق بسنده المعتبر عن عاصم بن حميد عن ابي بصير قال : سمعت ابا جعفر عليه السلام يقول : (من كانت عنده امرأة فلم يكسها ما يواري عورتها ويطعمها ما يقيم صلبها كان حقا على الامام ان يفرق بينهما).
ومنها: ما نقله في الكافي - بسند مخدوش - عن روح بن عبدالرحيم قال : قلت لابي عبدالله عليه السلام : قوله عز وجل :( ومن قدر عليه رزته فلينفق مما آتاه الله ) قال : (اذا انفق عليها ما يقيم ظهرها مع كسوة والا فرق بينهما).
والظاهر ان كلا من الصدوق والكليني يفتون بذلك كما افتى به بعض آخر من فقهائنا ، فقد ذكر في الحدائق (3)في عداد اقوال علمائنا انه (قيل بان الحاكم يبينها وهذا القول نقله السيد السند في شرح النافع قال : نقل المحقق الشيخ فخر الدين عن المصنف انه نقل عن بعض علمائنا قولا بان الحاكم يبينها).
ويظهرمن كلام المحقق النائيني المناقشة في الاستدلال بها بوجهين :
____________
(1) الطلاق 65 |7 .
(2) لاحظ الوسانل . كتاب النكاح - أبواب النفقات - الباب 10 الحديث ا ج ا 2| 509 .
(3)ج 6 ص 141 ط الحجر.

(307)
الأول : انها غير معمول بها(1) وذلك لان قدماءنا بين من قال بلزوم صبرها وبين من قال بان لها فسخ العقد كابن الجنيد . لكن قد ظهرمما ذكرنا انه لا وجه لدعوى الاعراض عنها، بل توقف من توقف في الموضوع قد يكون لعدم الاطلاع على صحة سند ما صح منها كما اشار اليه صاحب ا لحد ائق (2 ) .
الثاني : معارضتها بمثل النبوي (تصبر امرأة المفقود حتى ياتيها يقين بموته أو طلاقه ) والعلوي ( هذه امرأة ابتليت فلتصبر) ونحو ذلك (3).
ولعله يشير بنحو ذلك الى ما رواه الشيخ عن محمد بن علي بن محبوب ، عن بنان بن محمد، عن ابيه ، عن ابن المغيرة، عن السكوني ، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام ان عليا عليه السلام قال في المفقود: لا تتزوج امراته حتى يبلغها موته أو طلاقه أو لحوقه بأهل الشرك )(4).
لكن لا يمكن الاعتماد على شيء من الاخبار الثلاثة: (اما رواية السكوني ) فلأن في سندها بنان بن محمّد وهو عبدالله بن محمّد بن عيسى
____________
(1 و 2) تقريرات المحقق النائيني : 221 ، ومن الغريب ما أورده السيد الاستاذ على ذلك من ان الروايات الامرة بالصبر واردة فيما إذا امتنع الزوج من الموافقة (لاحظ مصباح الاصول 2 : 561) فان نظر المحقق النائيني إلى النبوي والعلوي الآتيين وهما واردان في المفقود ولا يرتبطان بمن امتنع عن الموافقة .
(3) قال في ج 6| 141 ط الحجر وظاهرشيخنا الشهيد الثاني في المسالك التوقف أيضاً حيث اقتصرعلى نقله الأقوال وادلتها ولم يرجح شيئاً في البين إلأ أن الظاهر انه لم يقف على صحة الخبرين اللذين قدمناهما دليلا لابن الجنيد فانه إنما نقل رواية ربعي والفضيل عارية عن وصفها بالصحة والظاهر انه اخذها من التهذيب فانها فيه ضعيفة وإلأ فهي في الفقيه صحيحة وأما صحيحة أبي بصير فلم يتعرض لها والظاهر انه لووقف على صحة هاتين الروايتين لما عدل عنهما بناء على عادته وطريقته كما علمته من سبطه في شرح النافع .
(4) الوسائل 22 | 57 1 - 58 1 | 28266 .

(308)
الأشعري ولم تثبت وثاقته (1).
واما الأولان : فلم يتعرض لهما الا الشهيد الثاني حيث قال : (لوتعذر البحث عنه من الحاكم اما لعدمه أو لقصور يده تعين عليها الصبر الى ان يحكم بموته شرعا، أو يظهر حاله بوجه من الوجوه لاصالة بقاء الزوجية، وعليه يحمل ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله . . . وعن علي عليه السلام . . . ومن العامة من أوجب ذلك مطلقا عملا بهاتين الروايتين )(2)وقد ذكر السيد الطباطباثي في مقام الجواب عن هذه الروايات الثلاث انه لا عامل بها مع ان الاولين عاميان (3) .
والظاهر انه لا اعتبار لهما سندأ حتى عند العامة وان كانا موافقين لفتاوى اهل الرأي وبعض الظاهرية كما تقدم .
اما النبوي : ففي المغني لابن قدامة(4) متعرضا للاستدلال به (فاما الحديث الذي رووه عن النبي صلى الله عليه وآله فلم يثبت ولم يذكره اصحاب السنن ) .
واما العلوي : ففيه ايضا بعد ذكرنقله عن الحكم ، وحماد، عن علي (وما رووه عن علي فيرويه الحكم وحماد مرسلاً والمسند عنه مثل قولنا)
____________
(1) نعم في موثقة سماعة قال سألته عن المفقود فقال إن علمت أنه فهي ارض في منتظرة له ابداً حتى يأتيها موته او ياتيها طلاق . . (الوسائل ج 0 2 ص 06 5 حديث 26214) ولكن موردها خصوص المفقود الذي يعلم حياته ولا مانع من العمل بها في موردها وجعلها مخصصة لتلكم الروايات والحكم بلزوم الصبرعلى المرأة وإن لم يكن للمفقود مال ينفق عليها منه ولا ولي ينفق عليها من مال نفسه .
(2) لاحظ الجواهر ط الحديث 32 ص 290.
(3) ملحقات العروة ص 270 .
(4)ج 9ص 135 .

(309)
وغرضه بالمسند عنه ما ذكره من انه قد روى الجوزجاني وغيره باسنادهم عن علي في امرأة المفقود تعتد أربع سنين ثم يطلقها ولي زوجها ، وتعتد بعد ذلك أربعة اشهر وعشراً فان جاء زوجها المفقود بعد ذلك خير بين الصداق وبين ا مرا ته .
وقال الزيلعي (1) : (قلت رواه عبدالرزاق في مصنفه في كتاب الطلاق : اخبرنا محمد بن عبيدالله العرزمي عن الحكم بن عتيبة : ان عليا قال في امرأة المفقود: هي امرأة ابتليت فلتصبر حتى ياتيها موت أو طلاق انتهى . اخبرنا معمرعن ابن ابي ليلى عن الحكم : ان علياً قال مثل ما سبق . اخبرنا ابن جريح قال : بلغني ان ابن مسعود وافق عليا على انها تنتظره أبداً . انتهى .
ونقل المحدث النوري في المستدرك (2) عن ابن شهرآشوب في المناقب (وروي أن الصحابة اختلفوا في امرأة المفقود فذكروا ان علياً عليه السلام حكم بانها لا تتزوج حتى يجيء موته وقال : هي امراة ابتليت فلتصبر. وقاله عمر: تتربص اربع سنين ثم يطلقها ولي زوجها ثم تتربص اربعة أشهر وعشرا . ثم رجع الى قول علي ).
وعلى اي حال فلا حجية للنبوي ولا للعلوي .
فظهر أن الصحيح هو الاعتماد على ما يدل على ان الحاكم يفرق بينهما، والظاهر أنه على نحو الطلاق ، ولا فرق بين كونه موسراً أو معسراً ، خلافا لصاحب الحدائق حيث فصل بينهما فحمل هذه الروايات على الموسر ووافقه بعض المتاخرين .
____________
(1) نصب الراية ج 3 ص 473 .
(2) المستدرك للنوري 5 1 : 337| 0 43 8 1 .