التنبيه السادس : في تعارض الضررين :
ولذلك صور عديدة تعرض لها بعض الاصوليين في المقام ونحن نتعرض لتحقيقها تبعا رغم عدم ارتباط بعضها بهذه القاعدة، وهي ترجع الى صور أصلية ثلاث :
الصورة الأولى : ما اذا دار أمر شخص بين ضررين بالنسبة اليه بحيث لا بد له من الوقوع في احدهما، ومنشأ حدوث هذه الحالة أحد عوامل ثلاثة لانه اما ان يكون بفعل نفس المتضرر او بعامل طبيعي أو بفعل شخص آخر والفروض الثلالة تختلف بعض الشيء في حكم المسالة-على ما سيتضح خلال تحقيقها-ويتصورجميعها فيما اذا وقع شخص من السطح ودار امره بين ان يقع على أحد شيئين يستوجب تلفه ، أو ادخل شخص راس بعيره في قدر ثم تعذر اخراجه الا بتلف احدهما .
ولهذه الصور كما ذكر فروع ثلاثة :
الفرع الأول : ان يدور الامر بين ضررين مباحين .
والحكم التكليفي في هذه الحالة واضح اذ المفروض اباحة ارتكاب كل من الضررين تكليفا فيبقى كل منهما على اباحته بلا اشكال فنتيجة ذلك تخير المكلف عقلا في ارتكاب ايهما شاء.
واما الحكم الوضعي -وهو الضمان - فلا معنى لتحققه فيما كان العامل في هذا الاضطرار نفس المكلف أو جهة طبيعية واما اذا كان العامل شخصا آخر فاذا كان الضرران متساويين ، او كانا مختلفين ولكن ارتكب المضطر اخفهما فانه لا اشكال في ضمان الغير لما ارتكبه المضطر بخصوصه لأن وقوعه في ذلك يستند الى الغير، وموضوع الضمان اعم من تحقيق الضرر مباشرة أو تسبيباً .
واما اذا كان الضرران مختلفين وارتكب المضطرأشدهما فها هنا وجوه :
(311)
الأول : ان يضمن الضرر الأشد نظرا الى ان الغير قد سبب الى الضرر- حسب الفرض - والضرر الواقع انما هو الضرر الأشد دون الأخف ليكون ضامنا له ، فيكون ضامنأ له لما وقع لا محالة .
الثاني : ان يضمن الجامع بين الضررين ؛ نظرا الى ان الغير انما سبب الى وقوع المضطر في احدهما، وانما كان وقوعه في الأشد باختيار منه لا بتسبيب من الغير فيكون ضامناً اياه .
الثالث : ان يقال انه اذا كان المضطر عالما بأشدية أحد الضررين من الاخر، أواحتمله احتمالاً معتدا به عقلاءً فانه لا يضمنه الغير اصلا، واما اذا كان جاهلا باشدية احد الضررين أو احتمله احتمالا ضعيفاً لا يجب الاعتناء به عقلاءً، فان حكمه حكم صورة التساوي ويكون الغير ضامنا لما ارتكبه المضطر منهما .
وهذا الوجه هو الصحيح وذلك لان ما سبب اليه الغير أولا وبالذات انما هو أحد الضررين ، ولكن هذا العنوان الانتزاعي انما ينطبق عقلاءً على خصوص الأخف فيما اذا كان المضطر عالما باشدية احد الضررين ، أو محتملا لها احتمالاً معتدا به ،فلا يكون ارتكاب الأشد مستندا الى تسبيب الغير في هذه الحالة لكي يكون ضامنا له ، وهذا بخلاف ما اذا كان جاهلا بها أو محتملاً لها احتمالا ضعيفا فان العنوان الانتزاتي في هذه الحالة ينطبق على ما ارتكبه المضطر منهما . . كما في حالة تساوي المحتملين -فيكون ضامنا لذلك .
وتوضيح هذا المعنى بحاجة الى الرجوع الى كيفية تطبيق الحكم بالضمان في مورد التسبيب الى احد الضررين ، لكي يتضح تخريج هذا الوجه في ضوء ذلك فنقول : ان التسبيب الى أحد الضررين لا يستوجب الضمان بهذا العنوان لان عنوان الأحد عنوان انتزاعي جامع بين الضررين ،
(312)
والحكم بالضمان في كل ضرر انما يقتضي ثبوت الضمان بالنسبة الى كل ضرر ضرر معينا - لا الاصل الجامع بين ضررين أو اكثر- لأن العام ينحل بحسب الافراد المعينة دون المنتزعة ، ولا سبيل الى الالتزام بثبوت الضمان بالنسبة الى كلا الضررين كما هو واضح ، ولا بالنسبة الى واحد منهما معينا لأن نسبة الأحد اليهما على حد سواء، فتعيين واحد منهما ترجيح من غير مرجح ، وعلى ضوء هذا : يعرض الابهام في كيفية تظبيق الحكم بالضمان على ذلك.
وكلما طرأ الابهام في متعلق الحكم أو موضوعه من ناحية التطبيق ، فانه تدعو ألحاجة الى خطاب متمم يطبق الماهية على شيء معين ليرتفع الابهام بذلك ، ونحن نعبر عن هذا الخطاب بـ (متمم الجعل التطبيقي ) تمييزا له عن سائر انحاء متمم الجعل . وانما يعرض الابهام في مرحلة الجعل في أحد موردين :
المورد الأول : الماهيات الاعتبارية بنحو عام كالصلاة والحج والزكاة - على المختار فيها - وذلك لان المعنى الاعتباري لا ينطبق على شيء خاص قهراً، بل لا بد في تطبيقه من توسط اعتبارآخر، مثلا مجرد وجود السلام والتحية في عرف اجتماعي لايعين عملا خاصا ينطبق عليه قهراً، وهكذا وجود (الدينار) في القانون المالي لدولة لا يعين نقدا خاصا يتعين انطباقه عليه كما هو واضح ، بل ذلك منوط بتطبيق الماهية الاعتبارية ممن بيده الامر، وذلك قد يختلف من دين الى دين أو من مجتمع الى مجتمع ، أو من دولة الى دولة وهكذا . . . على ما هو ملحوظ في هذه الأمثلة .
المورد الثاني : ان تكون هناك خطابات متعددة (بالذات أو بالانحلال من خطاب واحد) وفعلية كل واحد أوتنجزه مشروط بشرط - مشترك بينها-
(313)
بالنسبة الى موضوعها، ففي هذه الحالة تعرض الحاجة الى متمم الجعل مع توفر شرطين :
احدهما: ان يتحقق المعنى المجعول شرطا بالنسبة الى احد الموضوعات لا بالنسبة الى كل واحد منها لكي يصير الحكم بالنسبة اليها فعلياً أو منجزا قهرا .
الثاني : ان لا يمكن الالتزام بعدم فعلية شيء من الحكمين أو تنجزه للعلم بتحقق ملاك الحكم بالنسبة الى احد الموضوعين .
لكن كيف يمكن صيرورة احذ الحكمين فعليا أو منجزا- ابتداءً - لان كلا منهما مشروط بتحقق الشرط بالنسبة الى خصوص متعلقه ولم يتحقق ذلك بالنسبة الى شيء منهما، فلايكون شيء منهما فعليا أومنجزا في هذه الحالة دون عناية زائدة .
وحل ذلك : ان ينشأ هنا خطاب . اخر يطبق الأحد الانتزاعي على واحد بخصوصه . وحينئذ ينحل الاشكال ويصير الحكم الذي طبق الأحد على موضوعه أوموضوع تنجزه فعليا أومنجزا قهرا .
وكيفية تطبيق ذلك وضابطه انه متى كان الطرفان متساويين يطبق الأحد على كل منهما بشرط عدم تحقق الأخر واذا كانا مختلفين فيطبق الأحد على ذي المزية - على اختلاف بين الموارد بحسب تناسباتها لها -.
ولهذا المورد تطبيقات كثيرة متعددة خلال المباحث الاصولية والفقهية .
منها : في مورد قاعدة الاضطرار وهي ما ورد في الحديث (وكل شيء ،اضطر اليه ابن ادم فقد احله الله ) فاذا فرضنا اضطرار المكلف بالنسبة الى أحد محرمين لم يوثر الاضطرار ابتداءً في حلية شيء منهما،إذ خطاب الحلية الى كل محرم محرم فان الجامع بين محرمين ليس بمحرم ، لكن حيث لا
(314)
يمكن الالتزام بعدم تأثير الاضطرار في رفع الحرمة لحجة انه قد تعلق بالأحد الجامع ، وهو ليس بمحرم - لكي يصيرحلالا ، ولم يتعلق بشيء من الطرفين فتبقى حرمة كل منهماعلى حالها فلا بد من تعيين المضطر اليه بمتمم الجعل التطبيقي ليتاتى رفع حرمته بمعونة قاعدة الاضطرار وبموجب هذا المتمم يكون المضطر اليه في مورد التساوي احتمالا ومحتملا ما ارتكبه المضطر بشرط عدم سبق ارتكاب الاخر او مقارنته اياه .
وفي مورد التفاوت يكون المضطر اليه هو الأخف محتملا والأضعف احتمالا ، وعلى هذا لا يجوز اتكاب الأشد أو الاتوى بحجة الاضطرار الى احدهما - كما يظهر من كلمات الاصوليين في تنبيهات بحث الاشتغال في الكلام على الاضطرار الى بعض غير معين من اطراف العلم الاجمالي - لان الأشد ليس بمضطر اليه كما هوواضح عقلاءً وانما مثل ارتكاب الأشد في هذه الحالة كارتكاب الحرام فيما اضطر الى أحد شيئين احدهما محرم والأخر مكروه .
ومنها : في باب تزاحم الخطابين من جهة قصور القدرة عن الجمع بين امتثالهما بناء على أخذ القدرة الثابتة في موضوع الحكم في مرحلة الانشاء، فانه حيث لا تتوفر هذه القدرة بالنسبة الى كل من المتعلقين ، فلا يمكن الحكم بعدم توجه شيء من الخطابين -أيضا - للزوم فوت الملاكين المعلومين باطلاق اله ادة أو بجهة اخرى بعد كون القدرة عقلية لا شرعية دخيلة في الملاك ، فلا بد من اعتبار هذه القدرة لواحد منهما معيناً ليصير احد الحكمين فعليا، فاذا كانا متساويين اعتبرت القدرة لكل منهما بشرط عدم الاتيان بالأخر. واذا كانا مختلفين اعتبرت القدرة قدرة على الاهم وعلى المهم ايضا على تقدير ترك الأهم .
وبناء على المختار- في هذا الباب -من أخذ القدرة التامة في موضوع
(315)
الحكم الجزائي في مرحلة تنجز الخطاب ، ففي مورد المتساويين يحكم بكون الموضوع للحكم الجزائي هو احد الأمرين فيكون العقاب عليه ايضا لعدم موافقة العقلاء على تعدد العقوبة ولا حاجة الى اعتبار القدرة لكل واحد منهما مشروطا، واما في المختلفين فتعتبر القدرة قدرة على الأهم ، وعلى المهم على تقدير ترك الأهم .
ومنها : غير ذلك مما ذكرناه في محله - ولا يناسب ذكره في المقام - .
ومما يندرج تحت هذا المورد الثاني : مقامنا هذا حيث ان التسبيب انما هو الى احد الضررين بينما الحكم بالضمان منصب على التسبيب الى كل ضرر من الاضرار معينا .
فكيفية تخريج الحكم بالضمان على ضوء ما ذكرنا ان يعين الأحد بمتمم الجعل التطبيقي ، فاذا كان الضرران متساويين احتمالا ومحتملا - او ما هو في حكم التساوي كما لوكان التفاوت في مستوى من القلة والضعف لا يعتنى به عقلاءً - فينطبق الاحد المسبب اليه على ما ارتكبه المضطرمنهما ايا كان ويكون المسبب ضامنا له . واما اذا كانا مختلفين اختلافا معتد ا به اما احتمالا أومحتملا مع علم المضطر بذلك اوما في حكمه فان الاحد حينئذ ينطبق على الاخف والاضف فيكون هو الذي سبب اليه الغير فان ارتكبه المضطر ضمنه الغير واذا ارتكب الأشد فان ارتكابه اياه لا يستند الى تسبيب الغيرعقلاءً فلا يوجب ضمانا عليه .
وبما ذكرنا يظهر النظر في الوجه الأؤل والثاني .
اما الأول : فلأن الغير وان كان قد سبب الى الضرروكان الضرر الواقع هو الأشد ، الا ان الضرر الذي سبب اليه الغير ليس هو الأشد لينتج ضمانه اياه ، وانما هو أحد الأمرين المنطبق بمعونة متمم الجعل التطبيقي على الأخف ، فلا يكون الأشد مستندا الى الغيرأصلا، بل ما سبب اليه الغير لم
(316)
يقع خارجا ، وذلك نظير ما لو اضطر المكلف الى ارتكاب احد محرمين كشرب النجس والخمر ، وكان احدهما اشد - كالخمر في المثال - فارتكب الاشد حيث لا ترتفع عقوبته عنه لعدم كونه مضطرا اليه عقلاءً وإن كان مضطرأ الى احد الامرين وهذا واضح .
واما الثاني : فلأن احد الأمرين وان كان قد سبب اليه الغير، الا ان الضمان لا يتعلق به كما عرفت وانما يتعلق بالضرر المعين ، فلا بد من تطبيقه على معين بمتمم الجعل لكي يتحقق موضوع الحكم بالضمان فى إثرذلك .
الفرع الثاني : ان يدور الامر بين ضرر مباح وآخر محرم .
وفي هذه ألحالة يكون الحكم التكليفي بعد عروض الاضطرار الى ارتكاب احد الضررين نفس الحكم المفروض قبل عروض ذلك - كما في الفرع الأول - فما كان مباحا أولا يكون مباحا كذلك بعد الاضطرار، كما أن ما كان محرما يبقى على حرمته بعد ذلك . ولا ترتفع الحرمة أو تنجزها بالاضطرار فان الاضطرار انما يؤثر في احدى حالتين : الأولى : ان يتعلق بامر محرم .
الثانية: ان يتعلق بأحد امرين وينطبق على المحرم بمتمم الجعل التطبيقي .
والمقام ليس من قبيل الحالة الأولى لان احد الأمرين - حتى فيما كان الامران جميعا محرمين - ليس بمحرم فضلا عما اذا كان احدهما حلالا والاخر حراما ، ولا من قبيل الحالة الثانية ؟ لان الاضطرار وان تعلق باحد الامرين الا انه لا ينطبق على الحرام الذي يكون طرفه حراما اخف من الأول حرمة - كما اتضح مما ذكرناه في ألفرع الأول - فضلا عما اذا كان طرفه مباحا كما في المقام ، فالمضطر اليه هنا بمقتضى متمم الجعل انما هو خصوص المباح ، ولا مبرر لارتكاب الحرام في ذلك .

(317)
واما الحكم الوضعي : فهوواضح فانه اذا كان الغير هو السبب للوقوع في الضرر وارتكب المضطر الضرر المباح كان الغير ضامنا له لانه المضطر اليه بمتمم الجعل التطبيقي واما اذا ارتكب المضطر الضرر المحرم فلا يكون ضامنا له لانه لم يسبب اليه الغير.
الفرع الثالث : ان يدور الأمر بين ضررين محرمين .
وحينئذ يكون المضطر اليه في حالة التساوي ونحوه كل منهما بشرط عدم ارتكاب الاخر سابقا أو مقارنا ، وفي حالة التفاوت ما كان اخف محتملا و اضعف احتمالا ، وذلك بمؤونة متمم الجعل التطبيقي على ما سبق شرحه في الفرع الأول .
وعليه فبالنسبة الى الحكم التكليفي ترتفع الحرمة عن المضطراليه - بناء على ان مقتضى قاعدة الاضطرار رفع حرمة المضطر اليه -واما ان قلنا بان مفادها رفع تنجزها على ما قربناه في محله فتبقى الحرمة ولكن لا يستحق العقاب بمخالفتها الا اذا كان الاضطرار بسوء الاختيار.
واما بالنسبة الى الحكم الوضعي : فاذا كان الضرر بتسبيب الغير فينطبق احد الأمرين (المسبب اليه ) على المضطر اليه بمتمم الجعل التطبيقي فيكون الغير ضامنا له لو ارتكبه المضطر، واما لو ارتكب غيره كان يرتكب ما هو اقوى محتملا فلا يكون الغيرضامنا لعدم تسبيبه اليه عقلاءً كما عرفت توضيحه .
الصووة الثانية : ان يدور امر الضررين بشخصين عكس الصورة الأولى ، ومثاله المعروف ما اذا دخل رأس دابة شخص في قدر شخص آخر ولم يمكن تخليصها منه الا بكسر القدر او ذبح الدابة .
ويخرج عن محل البحث ما اذا كان مال الغير نفساً محترمة كالعبد المسلم أو ما بحكمه فان الضرر حينئذ يكون دائرا بين اشخاص ويتعين فيه
(318)
اتلاف المال الآخرتحفظا على نفس العبد .
ولهذه الصورة ايضا فروع ثلاثة :
الفرع الأول : ما اذا كان ذلك بفعل احد المالكين .
وقد ذكر السيد الأستاذ (قده ) ان الحكم فيه وجوب اتلاف ماله وتخليص مال الأخر مقدمة لرده على مالكه لقاعدة اليد ولا يجوز اتلاف مال الغير ودفع مثله او قيمته الى مالكه ، لانه متى امكن رد العين وجب ردها ولا تصل النوبة الى المثل أو القيمة والانتقال الى المثل والقيمة انما هوبعد تعذر العين (1).
والتحقيق أن يقال : انه اما ان ياذن له مالك المال الاخر بايقاع الضرر المادي على ماله ولو بشرط الضمان أو لا ياذن له في ذلك .
فعلى الأول : يلحق هذا الفرع من ناحية الحكم التكليفي بالصورة . الأولى وهو ما اذا كان الضرر يدور بين مالين لشخص واحد ، فلا بد من ملاحظة ان اتلاف كل من المالين هل هو في نفسه عمل مباح فيتخير، أو ان اتلاف احدهما مباخ والاخر محرم ولو من جهة صدق الاسراف ونحوه ، فيتعين اختيار المباح ، أو ان اتلاف كل منهما محرم فيجوز ارتكاب المضطر اليه منهما وهو في المتساويين ما اختاره المضطر، وفي المختلفين ما كان اخف محتملا واضعف احتمالا كما سبق بيانه ؟ وعلى الثاني حيث لا ياذن مالك المال الأخر بايقاع الضرر على ماله ويطالب بدفع النقيصة الحاصلة من الحالة الطارئة على ماله بسبب محل ا لآخر .
فان كان ايقاع الضرر على مال نفسه مباحا فلا بد من ايقاع الضرر
____________
(1) لاحظ مصباح الاصول 2 : 563 .

(319)
عليه دون مال الغير وذلك لا من جهة قاعدة اليد فانه ربما لا يكون تحت يده ، بل مقدمة لدفع العيب الطارئ على مال الاخر ، ولا يجوز ايقاع الضرر الذي يتوقف عليه التخليص بمال الغير لانه تصرف في مال الغير بغير اذنه .
واما ان كان ايقاع الضرر على مال نفسه محرما فيندرج في باب تزاحم الحكمين ويلحقه احكام هذا الباب .
الفرع الثاني : ان يكون بفعل شخص ثالث غير المالكين .
وقد ذكر السيد الاستاذ (قده ) ان في مثله يتخير في اتلاف مال أيهما شاء ويضمن مثله أو قيمته لمالكه اذ بعد تعذر إيصال كلا المالين لمالكهما فعليه ايصال احدهما بخصوصه ، والآخر بماليته من المثل أو القيمة ، لعدم امكان التحفظ على كلتا الخصوصيتين . الا اذا كان التصرف في احدهما اكثر عدوانا في نظر العرف فيجب عليه اتلاف الأخر(1).
لكن الظاهر انه لا وجه للحكم بجواز ايقاع الضرر في احد المالين مخيرا في ذلك مطلقا بحسب الوظيفة العملية ولوبحكم العقل ، بل عليه استئذان كل من المالكين في التصرف في ماله .
فان اذن له في ذلك احدهما دون الأخر فيتعين ايقاع الضرر على ماله وان كانت اباحته مشروطة باعطاء قيمته أومثله أو الأرش فلا بد من بذله له .
وان اذن له كل منهما فلا مانع له من هذه الجهة في ايقاع الضررعلى أيهما شاء.
واما ان لم ياذن له كل منهما وطالبه برفع الحالة الطارئة الموجبة لنقص ماله ، فلا محالة يقع النزاع بينهما وبين هذا الأجنبي فيرجع في حل النزاع الى الحاكم الشرعي ، والظاهر انه ليس له الامر يايقاع الضرر على مال
____________
(1) لاحظ الدراسات : 6 34 . ومثله في مصباح الاصول 2 : 563لكن لم يذكر فيه قوله (إلاّ اذا كان . . . ).

(320)
احدهما بلا مرجح ، بل يرجع الى القرعة لانها مرجح عقلائي حيث لا مرجح عند تزاحم الحقوق والرغبات كما في المقام اذ المفروض ان كلامنهما يرغب في ارجاع نفس ماله اليه على ما كانت عليه من الحالة الأولية وقد اوضحنا ذلك في رسالة القرعة .
واما القول بثبوت الاختيار للجاني في ايقاع الضرر على مال كل منهما اراد وضمانه ، فليس له وجه يعتمد عليه وربما يكون له غرض خاص في اتلاف مال احد المالكين كما اذا كانت البقرة في المثال حلوبا وتعلق غرض شخصي منه بذبحها.
الفرع الثالث : ان يكون الحالة الطارئة لعامل طبيعي كالزلزلة ونحوها .
وفي هذه إلحالة : (تارة)لا يريد احدهما تخليص ماله كما لو قال صاحب القدر اني لا احتاج الى القدر فعلا ولكن الأخر أراد تخليص ماله - وهو البقرة - وحينئذ فللاول ان ياذن للثاني في اتلاف ماله مع الضمان فيستقر الضمان عليه ، ولولم ياذن له في ذلك فلا يبعد ان يجوزتكليفا لمن يريد تخليص ماله ان يوقع الضرر في مال الأخر مع بذل الغرامة له .
واخرى : يريد كل منهما تخليص ماله عن هذه الحالة الطارئة . وحينئذ اذا تراضى الطرفان في طريق رفعها بايقاع الضرر على احد المالين مع بذل غرامته -ولوعلى وجه القرعة-فالصلح خير، وان لم يتراضيا بذلك فيحصل بينهما تخاصم لا بد لرفعه من الرجوع الى الحاكم . وللحاكم بماله من السلطنة والولاية ان يرفع الخصومة بينهما بايقاع الضرر على أحد المالين ، لكن في ايقاعه على واحد معين منهما لا بد من مرجح طبيعي أوجعلي :
والأول : فيما اذا كان ايقاع الضرر على أحد المالين أقل - من حيث زوالى المالية أو تنقيصها من ايقاعه على الأخر- فيتعين عليه في هذه الحالة اختيار أخف الضررين تقليلا للخسارة التي يتحملها المتخاصمان - على ما
(321)
سيجيء بيانه - كما إذا فرض انه لو أمر بذبح البقرة فان التفاوت بين البقرة الحية والمذبوحة عشرة دنانير، ولو أمر بكسر القدر فالخسارة خمسة دنانير، فلا بد له من الأمر بكسر القدر دون ذبح البقرة .
والثاني : هو الرجوع الى القرعة في صورة تساويهما من حيث المالية لأنها مرجع عقلائي حيث لا مرجح كما أشرنا اليه سابقا.
ثم إن فيمن يتحمل الخسارة الحاصلة من ايقاع الضرر على أحد المالين - بحسب النظر البدوي - احتمالات ثلاثة :
الأول : أن يتحملها من رجع ماله الى حالله الطبيعية . وربما ينسب هذا الوجه الى المشهور.
والوجه فيه : ان ايقاع الضرر على مال الغير- باتلاف عين مال الأخر أو صفته - انما هو فداء لماله وتخليص له فتكون الخسارة عليه .
وهذا مخدوش لان الحالة الطارئة الناشثة من عامل طبيعي قد طرأت على كل من المالين ، فلم يبق شيء منهما على حالته الطبيعية وبذلك نقصت قيمة كل واحد منهما، والمفروض ان كلا من المالكين يطالب بتخليص ماله ، فتوجه الخسارة الناشئة من علاج هذه الحالة الطبيعية الى خصوص من خلص ماله بلا مشاركة للآخرفيها ليس له اي وجه .
الثاني : انه يتحملها كل منهما على سواء بتوهم انه مقتضى قاعدة العدل والانصاف ، فانه لا يعتبر في إجرائها التساوي في جميع الجهات ، فتكون العبرة بذات المالين لا بمقدار ماليتهما ولا بما تكون الحالة الطارئة مقتضية لحصوله من الخسارة . ففي رواية النوفلي عن السكوني - التي تجعل مؤيدة لتلك القاعدة - عن الصادق عن ابيه في رجل استودع رجلا دينارين فاستودعه اخر دينارا فضاع دينار منها . قال يعطى صاحب الدينارين دينارا ،
(322)
ويقسم الآخر بينهما نصفين مع ان احتمال كون التالف من مال صاحب الدينارين واحتمال كونه من مال صاحب الدينار ليس على سواء بل الأول ضعف الثاني ، ويتضح ذلك : فيما لوفرض ان رجلا استودع تسعة وتسعين درهماً لدى رجل واستودع الآخر درهما واحدا وتلف احدهما عند الودعي من دون تعد وتفريط فان احتمال كون التالف من الأول بنسبة (99 بالمائة) ومن الثاني بنسبة(1 بالمائة) .
والجواب عن ذلك مضافا الى ان الرواية غيرمعتبرة سندا فان النوفلي لم يوثق ولاعبرة بكونه من رواة اخباركامل الزيارات لابن قولويه : ان قاعدة العدل والانصاف انما تقتفي الحكم بالتساوي في الخسارة مع التساوي في جميع الجهات احتمالا ومحتملا لا مع عدم التساوي كما في مورد الرواية، فان المناسب ان يعطى صاحب الدرهمين درهما وثلث وصاحب الدرهم ثلثي الدرهم كما اوضحناه في محله وسيجيء ما يقتضيه قانون العدل في المقام .
الثالث : ان يتحملها كل منهما على حد سواء في صورة تساري الضررين ، وفي صورة عدم التساوي يتحملها كل واحد بالنسبة . وقد اختاره السيد الاستاذ (قده ) وعلل تقسيم الضرر بينهما بقاعدة العدل والانصاف الثابتة عند العقلاء وأضاف : انه يؤيدها ما ورد فيمن تلف عنده درهم مردد بين ان يكون ممن اوغ عنده درهمين ومن اودع عنده درهما واحدا من الحكم باعطاء درهم ونصف لصاحب الدرهمين ونصف درهم لصاحب الدرهم الواحد فانه لا يستقيم الآ على ما ذكرناه من قاعدة العدل والانصاف )(1) .
وفي هذا التقريب جهات من البحث :
____________
(1) لاحظ الدراسات : 347 (وفي مصباح الاصول 2 : 4 56) أحال الى ما تقدم في بحث القطع .

(323)
ا - الأولى : انه لا يصح جعل مقتضى قاعدة العدل والانصاف في مورد تلف الدرهم في يد الودعي التنصيف ، ولم يستقر على الحكم بالتنصيف بناء من العقلاء بل مقتضى العدل عندهم اعطاء صاحب الدرهمين درهما وثلث درهم واعطاء صاحب الدرهم ثلثي الدرهم -كما أشرنا اليه هنا وفصلناه في مبحث القطع - واما الرواية فهي على تقديرتمامية سندها، انما تشتمل على حكم تعبدي غيرموافق للقاعدة مع انه غيرتام من جهة عدم ثبوت وثاقة النوفلي كما مر.
2 - الثانية : ان ما ذكره هو في تقريب القاعدة - في مبحث القطع - لا ياتي في المقام فانه قال : ان هذه القاعدة مبنية على تقديم الموافقة القطعية في الجملة مع المخالفة القطعية كذلك - على الموافقة الاحتمالية - في تمام المال فانه لو أعطى تمام المال - في هذه الموارد - لاحدهما القرعة مثلا احتمل وصول تمام المال الى مالكه ، ويحتمل عدم وصول شيء منه اليه بخلاف التنصيف فانه يعلم وصول بعض المال إلى مالكه جزما ولا يصل اليه بعضه الآخر كذلك ، فيكون التنصيف مقدمة لوصول بعض المال الى مالكه ، ويكون من قبيل صرف مقدار من المال مقدمة لايصاله الى مالكه الغائب حسبة ، الا انه من باب المقدمة الوجودية والمقام من قبيل المقدمة العلمية(1) ووجه عدم جريانه في المقام واضح ، اذ ليس، هنا مال مردد بين الشخصين حتى يكون التقسيم بالنسبة مقدمة لايصاله الى مالكه من باب المقدمة العلمية بل الكلام في ان الخسارة الواقعة على احد المالين لابد وأن تقسم بينهما بالنسبة، فهذا غير داخل في القاعدة على التقريب الذي ذكره
____________
(1) لاحظ مصباح الاصول 2 : 62 .

(324)
لها.
3 - الثالثة : انه بنفسه قد انكر ثبوت القاعدة في محل آخر وناقش في التقريب الذي سبق عنه حيث قال (ان القاعدة في نفسها غيرتامة اذ لم يثبت بناء ولا سيرة من العقلاء على ذلك حتى تكون ممضاة لدى الشارع اللهم الا اذا تصالحا وتراضيا على التقسيم على وجه التنصيف فانه أمرآخر، والا فجريان السيرة على ذلك بالتعبد من العقلاء أو الشارع استنادا الى ما يسمى بقاعدة العدل والانصاف لا أساس له ، وان كان التعبير حسنأ اذ لم يقم اي دليل على جواز ايصال مقدار من المال الى غير مالكه مقدمة للعلم بوصول المقدار الأخر الى المالك ، نعم في المقدمة الوجودية ثبت ذلك حسبة واما العلمية فكلا، فقياس احدى المقدمتين بالاخرى قياس مع الفارق الظاهر كما لايحفى)(1).
والصحيح في تقريب المدعى ان يقال :
ان الحالة الطارئة بسبب طبيعي على كل من المالين لما أوجبت نقصا في مالية كل واحد منهما ، اذ ليست قيمة البقرة بعد دخول رأسها في القدر متساوية مع قيمتها بدون ذلك ولا القدر الذي فيه راس البقرة تساوي قيمته لو لم يكن كذلك وارجاع كل منهما الى حالته الطبيعية غيرممكن وارجاع أحدهما اليها يستلزم ايقاع الضرر بالنسبة الى الاخر والمفروض لزوم ايقاعه على ما هو اقل قيمة ، فحينئذ يكون النقصان الموجب لزوال ماليته أو نقصانه مسببا عن الحالتين غير الطبيعيتين الطارئتين على كل منهما .
فلا بد من ملاحظة ان الخسارة الحاصلة باية نسبة معلولة لحصول تلك الحالة في القدر وبأية نسبة معلولة لحصولها في البقرة، وبحكم العقلاء يكون ثلثا الخسارة على صاحب البقرة وثلثها على صاحب القدر، على ما
____________
(1) لاحظ مستند العروة - كتاب الخمس : 147 .

(325)
فرضناه سابقا من ان التفاوت بين البقرة في حالتها الطبيعية وبين البقرة المذبوحة هو عشرة دنانير والتفاوت بين القدر على حاله الطبيعي والقدر المكسور خمسة دنانير، فالحالة الطارئة عليهما التي تدعو الى ايجاد ما يوجب الخسارة المالية بأدنى مستوياتها الممكنة يقتضي تقسيم الخسارة على المالين بملاحظة النسبة بين الضررين لو فرض وقوع الضرر مع كل منهما .
ونظير المقام ما قاله بعض المحققين في مسألة ان المؤونة التي أنفقت على الغنيمة بعد حصولها بحفظ ورعي وجمع وغيرها هل تقدم على الخمس أم لا ؟قال بان تقديم الخمس على المؤن مخالف للعدل . وربما أورد عليه بانه لم يعلم في قواعد الفقه قاعدة تسمى بقاعدة العدل وانما ذلك يشبه الاستحسان الذي هومن مبادئ فقه الحنفية ، وقد اجيب عنه بان قاعدة العدل من اعظم قواعد الفقه وان لم تكن معنونة في ابوابه كسائر القواعد ويستدل لها من الكتاب بقوله تعالى : ( ان الله يامر بالعدل والاحسان ) (1) ولا ريب ان من العدل ان تكون مؤونة المملوك على مالكه ومن البغي ان تحمل مؤونته على غير مالكه .
والظاهر انه لا ينبغي الاشكال في أصل القاعدة كما دلت عليه الايات الشريفة كقوله : ( واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل) (2) وقوله تعالى : ( وأمرت لاعدل بينكم ) (3) الا ان البحث يقع في أساسه وضابطه الكلي وقد أوضحنا بعض القول فيه في بعض المباحث الاصولية .
الصورة الثالثة : فيما اذا دار الامر بين تضرر شخص والاضرار بالغير
____________
(1) النحل 16 | 90.
(2) النساء 4 | 58.
(3) الشورى 42 | 15 .

(326)
من جهة التصرف في ملكه تصرفا يضر بجاره - مثلا - وقد طرح المحقق النائيني البحث في هذه الصورة حول ان قاعدة السلطنة هل هي محكومة مطلقا بقاعدة (لا ضرر) أو فيما لم يلزم من عدم السلطنة ضرر عليه ؟واما اذا لزم فلا تكون محكومة لها بل تكون قاعدة السلطنة هي المرجع (1) . وربما يعد منع المالك أي تصرف ضررا عليه ولو كان مضرا بجاره كما سياتي عن الشيخ الانصاري ، وهو غير تام .
وايا كان فينبغي تعميم البحث لما اذا لزم من عدم تصرفه ضررعلى المالك وما ا.ذا لزم منه فوت مصلحة بل الاعم من ذلك ايضاً.
والتعرض لهذه المسالة في غاية الاهميه لكثرة الابتلاء بها وسعة حدودها .
ومنشأ تفصيل القول فيها في كلمات المتأخرين في الفقه ما ذكره الفاضل السبزواري في كتاب الكفاية، حيث نقل عن الاصحاب جواز تصرفات المالك في ملكه مطلقا ثم تامل فيه وصار كلامه موردا للبحث عندهم ، قال (قده )(2) (المعروف من مذهب الاصحاب ان ما ذكر في الحريم للبئر والعين والحائط والدار مخصوص بما اذا كان الاحياء في الموات فيختص الحريم بالموات واما الاملاك فلا يعتبر الحريم فيها لأن الاملاك متعارضة وكل واحد من الملاك مسلط على ماله له التصرف فيه كيف شاء قالوا فله أن يحفربئرا في ملكه وان كان لجاره بئرقريب منها وان نقص ماء الاولى وان ذلك مكروه . قالوا : حتى لوحفرفي ملكه بالوعة وفسد بئر الجارلم يمنع عنه ولا ضمان عليه ، ومثله ما لو أعد داره المحفوف بالمسكن حماما أو خانا أو
____________
(1) لاحظ تقربرات متن رسالة لا ضرر: 224 .
(2) الكفاية : 241 (تذ نيب ) .

(327)
طاحونة أو حانوت حداد أو قصار لان له التصرف في ملكه كيف شاء .
ويشكل هذا الحكم في صورة تضرر الجار تضررا فاحشاً نظرا الى ما تضمنته الاخبار المذكورة من نفي الضرر والاضرار وهو الحديث المعمول به من الخاصة والعامة المستفيض بينهم خصوصا ما تضمنته الأخبار المذكورة من نفي الاضرار الواقع في ملك المضار. وفي المسالك نعم له منع ما يضر بحائطه من البئر والشجر ولو لمرور اصلها اليه والضرر المؤدي الى ضرر الحائط ونحو ذلك .
وقد تعرض لهذا الكلام صاحب الرياض (1) وناقش فيه وفصل القول فيه صاحب مفتاح الكرامة(2) وأشار الى كلامهما الشيخ الأنصاري (قده ) في ا لرسائل(3) .
ونحن نقتصر على نقل كلامين في الموضوع كلاما لصاحب الجواهر وكلاما للشيخ الانصاري :
قال الاول (4) (وبالجملة فالغرض ان المسالة لم يكن فيها اجماع محقق على جهة الاطلاق . فيمكن ان يقال بمنع التصرف في ماله على وجه يترتب عليه الضرر في مال الغير، مثلا بتوليدية فعله ، بحيث يكون له فعل وتصرف في مال الغيرواتلاف له يتولد من فعله فعل في مال الغير، لا تلف خاصة بلا فعل منه ، وخصوصا مع زيادته بفعله عما يحتاج اليه وغلبة ظنه بالسراية ، وقاعدة التسلط على المال لا تقتضي جواز ذلك ، ولا رفع الضمان الحاصل بتوليد فعله .

____________
(1) الرياض 2 : 320 .
(2) مفتاح الكرامة 7 : 2 2 - 23 .
(3) الرسائل 2 : 538 - 539.
(4) الجواهر ط القديم 6 :85 1 وط الحديث 38 : 52.

(328)
(نعم ) لوكان تصرفه في ماله لا توليد فيه على الوجه المزبور وان حصل الضرر مقارنا لذلك لم يمنع منه ).
وقال الشيخ الانصاري : (الاوفق بالقواعد تقدم المالك لان حجر المالك في التصرف في ماله ضرر يعارض بذلك ضرر الغير فيرجع الى عموم قاعدة السلطنة ونفي الحرج ) .
ولتوضيح القول فيه لا بد من ذكر أمور:
الأمر الأول : في انه هل هناك ما يدل على جواز تصرفات المالك في ملكه مطلقا لكي نحتاج فى رفع اليد عنه لما يدل على خلافه ويكون مقدما عليه أم لا؟
وما يمكن ان يستدل به وجهان :
الوجه الأول : ما ينسب الى النبي صلى الله عليه وآله (الناس مسلطون على اموالهم ) وقد وصفه في مفتاح الكرامة بانه (المعمول عليه بين المسلمين ) وقال : بل هو متواتر وأخبار الاضرار على ضعف بعضها وعدم مكافئتها لهذه الادلة يحمل على ما اذا كان لا غرض له الا (الاضرار)(1) واطلاقه يدل على ان للمالك ان يتصرف في ماله باي تصرف ولو كان مضرا بجاره .
ويمكن المناقشة فيه من جهتين :
الأولى: انه خبر ضعيف غير مجبور بعمل الاصحاب فانه لم يرد في جوامعنا الحديثية الا في كتاب البحار(2) واما في الكتب الفقهية فقد ذكره الشيخ في الخلاف (3) وربما يوجد في بعض مصنفات العلامة ولعل صاحب
____________
(1) مفتاح الكرامة : 7| 22 .
(2 ) بحار الانوار 2 : 2 27 | 7 .
(3) الخلاف 3 : 76 1 - 77 1 ذيل المسالة 0 29 .

(329)
عوالي اللآلي قد اخذه منها ويوجد في كلام المحقق الثاني غيره التعبير بمضمونه من دون الاشارة الى انه رواية، واما في كتب الحديث للعامة فالظاهر انه غير موجود في كتبهم المشهورة، كما يعلم بمالاحظة المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي ومفتاح كنوز السنة ، نعم لا يبعد ؟جوده في بعض كتبهم الحديثية غير المعروفة ، فما وصفه به في مفتاح الكرامة لا يخلو عن المبلغة.
الثانية : ان مفاد هذا الكلام ليس ازيد من عدم محجورية المالك في تصرفاته في امواله بحيث يحتاج الى استئذان من غيره ، وليس في مقام بيان الجواز التكليفي والوضعي بالنسبة الى جميع انواع التصرفات حتى في حال الاضرار بالغير ولو شك في كونه في مقام البيان من هذه الجهة مضافا الى الجهة الاخرى فلا ، أصل يحكم بذلك كما قرر في علم الاصول .
الوجه الثاني : ان يقال ان اعتبار شيء مملوكا لاحد بملكية تامة يندمج فيه جواز مطلق التصرفات فيه تكليفا ووضعا، على ما هو التحقيق من ان الاحكام الوضعية - كالملكية - مشتملة على نحو الاندماج على ما يناسبها من الأحكام التكليفية، والمرتكز لدى العقلاء ان المندمج في الملكية مطلق جواز التصرفات كما يشير الى ذلك ما جاء عن بعض مخالفي هود عليه السلام من قوله تعالى : ( أصلاتك تأمرك ان نترك ما يعبد آباؤنا أو ان نفعل في اموالنا ما نشاء . . . )الخ (1).
ويرد عليه : ان ما يندمج في اعتبار الملكية التامة ليس جواز مطلق التصرفات بل هو جواز التصرفات في الجملة - كمايؤكد ذلك ما ذكره بعض
____________
(1) هود 11 | 87 .
(330)
اهل القانون (1) .
الأمر الثاني : في انه لوفرض وجود اطلاق لدليل سلطنة المالك بالنسبة الى التصرفات التي يصدق عليها انها اضرار بالنسبة الى جاره ، فهل ما يدل على حرمة الاضرار بالغير يكون مقدما على الاطلاق المفروض ؟ لاسيما فيما إذا فرض أن من عدم التصرف المفروض يلزم ضرر على المالك ؟
____________
( 1 ) ففي مصادر الحق فى الفقه الاسلامي للدكتور عبدالرزاق السنهوري (ج ا ص ا 3 تحت عنوان الملك التام ) بعد أن نقل ان المادة 11 من مرشد الحيران عرفته على الوجه الاتي : (الملك التام من شأنه أن يتصرف به المالك تصرفا مطلقا فيما يملكه عينا ومنفعة واستغلالا فينتفع بالعين المملوكة وبغلتها وثمارها ونتاجها ويتصرف في عينها بجميع التصرفات الجائزة) واستنتج منه ان عناصر حق الملك في الفقه الاسلامي كما عن الفقه الغربي ثلاثة عددها- قال بعد ذلك : (وليس حق المادة مطلقا كما توهم عبارة مرشد الحيران ، بل هوحق مقيد بوجوب عدم الاضرار بالجار وقد ورد هذا القيد في نصوص مرشد الحيران ذاتها فنصت المادة 57على ان (للمالك ان يتصرف كيف شاء في خالص ملكه الذي ليس للغيرحق فيه فيعلي حائطه ويبني ما يريده ما لم يكن تصرفه مضرا بالجار ضررا فاحشا) وعرفت المادة 59 الضرر الفاحش بانه (ما يكون سببا لوهن البناء أو هدمه أويمنع الحوائج الأصلية أي المنافع المقصودة من البناء ، واما ما يمنع المنافع التي ليست من الحوائج الاصلية فليست بضرر فاحش) وبينت المادة 60 حكم الضرر الفاحش فقالت : يزال الضرر الفاحش سواء كان قديما أو حادثا .
وقال في الوسيط (ج 8 ص 557) في مادة 341 تحت عنوان (أعمال سلبية من المالك ) ، الأمثلة كثيرة على الأعمال السلبية التي تقتضي من المالك حتى يقوم بما للملكية من وظيفة اجتماعية وذكر في عداد بعض الأمثلة : 1- يجب على المالك أن يمتنع عن استعمال ملكه بحيث يضر بالجار ضررا فاحشا واذا جاز للمالك أن يطلب من جاره ان يتحمل مضار الجوار المألوفة فليس له أن يحمله المضار غير المألوفة للجوار، وفي هذا المعنى تقول المادّة 807 مدني ( 1 - على المالك ألا يغلوفي استعماله حقه إلى حد يضر بملك الجار. 2 - وليس للجار ان يرجع على جاره في مضار الجوار المألوفة التي لا يمكن تجنبها وإنما له ان يطلب ازالة هذه المضار اذا تجاوزت الحد المألوف على أن يراعي في ذلك العرف وطبيعة العقارات وموقع كل منها بالنسبة إلى الاخر، والغرض الذي خصصت له . الخ ما ذكره ).

(331)
فيمكن أن يقال ان أدلة حرمة الاضرار كمقطع (لا ضرار) مقدمة على اطلاق دليل السلطنة وإن كان بينهما عموم من وجه ، لأن الاضرار من العناوين الثانوية وما يدل على الحرمة بالعنوان الثانوي مقدم على ما يدل على الجواز بالعنوان الأولي .
ولكن قد يمنع من صحة التمسك به في المقام بأحد تقريرين : التقرير الأول : انه فيما اذا كان ترك الاضرار بالغير ضرراً على المالك يكون قوله (لا ضرر) حاكما على دليل حرمة الاضرار، لانه متقدم بالحكومة التضييقية على كل حكم ولوكان حكماً بالعنوان الثانوي .
ويمكن الجواب عنه بوجهين :
أحدهما: انه لا يعقل حكومة (لا ضرر) على (لا ضرار) من جهة ان معنى حكومته عليه حلية الاضرار وارتفاع الحرمة وحيث ان كلا من الحرمة وانتفائها ضرري ، فان في وجود الحرمة ضرراً على المالك وفي انتفائها ضررا على الجار، وقد سبق ان (لا ضرر) كما انه حاكم على الاحكام الوجودية فكذلك هو حاكم على الأحكام العدمية، فيستحيل حكومته عليهما لانه يلزم منه ارتفاع النقيضين وحكومته على احدهماترجيح بلامرجح .
وثانيهما: ان في قضية سمرة بن جندب لوحظ أولاً (لا ضرر) الدال على نفي استحقاق دخول سمرة في دار الانصاري بلا استئذان وعدم ترتب ذلك على حق الاستطراق ، ثم رتبت عليه حرية الاضرار بعد تحقق صغراها - بملاحظة ان الدخول بغير استئذان من غير حق اضرار بحق الأنصاري - وعليه فـ (لا ضرار) في الرتبة المتأخرة عن (لا ضرر) فلا يكون حاكما عليه لكن في هذا الوجه تأمل .
التقرير الثاني : ما يظهر من كلا أ السيد الاستاذ (قده ) من عدم اطلاق
(332)
لقوله (لا ضرر) يشمل به مثل المقام (1) وذلك بأحد وجهين :
احدهما: ان مقتضى الفقرة الأولى عدم حرمة التصرف لكونه ضررا على المالك ، ومقتضى الفقرة الثانية - وهي (لا ضرار) حرمة الاضرار بالغير على ما تقدم بيانه ، فيقع التعارض بين الصدر والذيل فلا يمكن العمل باحدى الفقرتين.
ويرد عليه : انه ان قلنا بان (لا ضرر) حاكم على الأحكام الوجودية كحرمة الاضرار المفادة بـ (لا ضرار) فقط فلا معارضة بين الصدر والذيل لانه لا معارضة بين الدليل الحاكم والمحكوم ، ونتيجة ذلك الحكم بجواز التصرف المفروض لسقوط (لا ضرار) بكونه محكوما. وان قلنا بانه حاكم على الأحكام الوجودية والعدمية كما هو المختار فحيث انه لا يعقل حكومة (لا ضرر) على (لا ضرار) في المقام على ما تقدم فلا مانع من التمسك بالفقرة الثانية، وقد وافق هو على هذا المبنى - من حكومة لا ضرر بالنسبة الى الاحكام العدمية - الأ انه ذكر انه لم يجد مثالاً يثبت فيه حكم بواسطة لاضرر بنفي الحكم الوارد من جهة قاعدة (لا ضرار) وما ذكرنا لا يقتضي اثبات حكم بلا ضررحتى يقال بان لسان (لا ضرار) هولسان النفي لا لسان الإثبات بل إبقاء (لا ضرار) بلا حاكم عليه .
والوجه الثاني : ان حديث (لا ضرر) لا يشمل المقام لا صدرا ولا ذيلا ، لكونه واردا مورد الامتنان على الامة الاسلامية فلا يشمل موردا يكون شموله له منافيا للامتنان ومن المعلوم ان حرمة التصرف في الملك بما يضر بالجار مخالف للامتنان على المالك ، والترخيص فيه خلاف الامتنان على الجار، فلا يكون شيء منهما مشمولا لحديث (لا ضرر). ثم قال (وبما ذكرناه يظهر انه لا يمكن التمسك بحديث (لا ضرر) فيما كان ترك التصرف
____________
(1) لاحظ مصباح الاصول 2 | 566 .
(333)
موجبا لفوات المنفعة وان لم يكن ضررا عليه . لان منع المالك عن الانتفاع بملكه ايضا مخالف للامتنان فلا يكون مشمولا لحديث (لا ضرر) فلا يمكن التمسك بحديث (لا ضرر) في المقام اصلا بل لابد من الرجوع الى غيره .
فان كان هناك عموم أو اطلاق دل على جواز تصرف المالك في ملكه حتى في مثل المقام يؤخذ به ويحكم بجواز التصرف ، والا فيرجع الى الأصل العملي وهو في المقام اصالة البراءة عن الحرمة فيحكم بجواز التصرف .
ثم قال (وبما ذكرناه ظهر الحكم فيما اذا كان التصرف في مال الغير موجبا للضررعلى الغيروتركه موجبا للضررعلى المتصرف ، فيجري فيه الكلام السابق من عدم جواز الرجوع الى حديت (لا ضرر) ، لكونه واردا مورد الامتنان فيرجع الى عموم ادلة حرمة التصرف في مال الغير كقوله عليه السلام (لا يحل مال امرئ الا بطيب نفسه ) وغيره من ادلة حرمة التصرف في مال الغير ويحكم بحرمة التصرف .
ويردعليه :
أولا : ان المسلم انما هوملاحظة جهة الامتنان في هذا الحديث في الجملة -ولو على نحو الحكمة - لا على نحو العلة حتى يكون مخصصا له بصورة الامتنان ، فانه ليس في شيء من ادلتها ما يدل على ذلك أو ما يمنع عن الأخذ بالاطلاق . وقضية سمرة بن جندب انما تدل على ان النبي صلى الله عليه وآله كان بصدد تمييز الحقوق وايصال ذي الحق الى حقه بالصرامة التي تقتضيها مرحلة القضاء أو التنفيذ.
وثانيا : ان البيان المذكور يقتضي قصور (لا ضرر) عن شمول كل من حرمة الاضرار وجوازه ، ونتيجة ذلك انه لا يصلح للحكومة على، (لا ضرار) فيبقى (لا ضرار) بلاحاكم عليه كما ذكرناه أولا، ومعه لا وجه للرجوع الى ما دل على جواز التصرف في ماله لو فرض شموله للمقام ، لان الجواز هنا
(334)
جواز اقتضائي فلا ينافي ما دل على الحرمة، كما لا وجه للرجوع الى البراءة ايضا .
وثالثا : انه على تقدير قصور (لا ضرار) فيمكن الرجوع الى غيره من الادلة الدالة على حرمة مال الغير، فان الاضرار بالغير اما ان يكون بالتصرف الحقيقي في ماله ولو على نحو التوليد، كوهن الحائط بسريان الرطوبة، واما ان يكون بالتصرف الحكمي فيه كما لو بنى معمل دباغة أو حدادة في منطقة سكنية مما يوجب عدم قابلية الدور المجاورة للسكنى ، وفي كلتا الصورتين يكون المالك بعمله هذا قد ألغى احترام مال الغير وان نوقش في صدق التصرف الذي هو بمعنى التغيير والتبديل خصوصا في القسم الاخير ، فيأتي في المقام ما يدل على حرمة مال الغير بدون تقييده بعنوان التصرف . كما في قوله : (لا يحل مال امرئ مسلم الا عن طيب نفسه )وقوله : (وحرمة ماله كحرمة دمه ) .
ولا يعارضها ايضا ما دل على جواز التصرف في ماله كما لا تجري اصالة البراءة كما تقدم .
الأمر الثالث : في انه هل يمكن ادعاء انه اذا لزم من ترك التصرف ضرر على المالك فترتفع حرمة الاضرار بقاعده رفع المضطر اليه أم لا؟ الظاهر هو الثاني لوجهين :
الأول : ان وصول مطلق الضرر على المالك لا يوجب صدق الاضطرار على الاضرار بالغير، بل مفهوم الاضطرار يختص بما اذا وقع الشخص في الضيق ولا مهرب له إلا ارتكاب المحرم ، مثل هلاك النفس وما يلحق به ، أو قل انه يختص بمورد الضرورة التي تجوز ارتكاب المحرمات .

(335)
فاذا وصل الى هذا الحد فلا اشكال في الجواز التكليفي .
الوجه الثاني : ان حديث الرفع بقرينة قوله (عن امتي ) ظاهر في كون الرفع امتنانا على الامة فلا يصلح لرفع ما يكون في رفعه خلاف المنة بالنسبة الى بعض الامة .
الامر الرابع : في ان دليل الحرج هل يقتضي جواز التصرف في مال النفس بما يوجب الضرر المالي على الغير أم لا؟
فقد يقال : انه يقتضي ذلك لان حجر المالك عن الانتفاع بما له حرج عليه ، فيرتفع بدليل نفي الحرج.
ويرد عليه :
أولاً: ان الحرج المنفي إنما هو بمعنى المشقة التي لا تتحمل عادة لا مطلق الكلفة، والا لاقتضى ارتفاع مطلق التكاليف . ومن المعلوم ان منع المالك عن التصرف في ماله خصوصا اذا كان فيه إضرار فاحش بالغير لا يكون حرجيا عليه مطلقا بل قد يكون وقد لا يكون .
وثانيا : إن اجراء لا حرج بالنسبة اليه معارض باجرائه في ناحية الجار فان جواز التصرف للمالك في ماله على نحو يوجب الضرر الفاحش في مال الجار حرجي عليه ، كما اوضحنا ذلك في بحث التقية .
وبما ذكرنا يظهر ان مقتضى القواعد. حرمة الاضرار بالغير وان كان التصرف في مال نفسه .
نعم ، إذا كان عدم التصرف الخاص في ماله مولدا للضرر الذي يحرم ايقاعه على نفسه فالظاهر عدم الحرمة من جهة صدق الاضطرار لو كان ، والا تزاحمت الحرمتان فلا بد من ملاحظة الأهم والمهم .
وفي كل مورد حكمنا بالترخيص التكليفي ، فان كان الضرر عليه مما
(336)
يكون له ضمان فيحكم بالضمان ولا يمكن رفعه بحديث (لا ضرر) اما لانه في مقام الامتنان أو لان الحكم بالضمان بطبعه ضرري و(لا ضرر) لا يرفع مثل ذلك . هذا تمام الكلام في قاعدة (لا ضرر) .

والحمد لله رب العالمين .