البحث الأول : في بيان المسلك المختارفي تحقيق معنى الحديث .
والمختار في معنى الحديث : ان مفاد القسم الأول منه -وهو قوله (لا
(134)
ضرر ) ما ذهب اليه الشيخ الانصاري من نفي التسبيب الى الضرر بجعل الحكم الضرري . واما القسم الثاني منه - وهو(لا ضرار) - فان معناه التسبيب الى نفي الاضرار، وذلك يحتوي على تشريعين :
الأول : تحريم الاضرار تحريما مولويا تكليفيا .
والثاني : تشريع اتخاذ الوسائل الإجرائية حماية لهذا التحريم .
وبذلك يحتوي الحديث على مفادين :
1 - الدلالة على النهي عن الاضرار.
2 - والدلالة على نفي الحكم الضرري . ومضافا لذلك دلالته بناء (على المختار) على تشريع وسائل اجرائية للمنع عن الاضرار خارجا ، وهذا المفاد استفدناه من الجملة الثانية وبعض الأعاظم استفاده من الجملة الأولى بجعل النهي المستفاد منها نهيا سلطانيا وهومناقش مبنى وبناءً كما سيتضح في موضعه ان شاء الله .
ولتوضيح استفادة ذلك من الحديث على المنهج المختار نتعرض لبيان ذلك في ضمن وجهين اجمالي وتفصيلي :
اما الوجه الاجمالي : فهوأن نفي تحقق الطبيعة خارجا في مقام التعبير عن موقف شرعي بالنسبة اليها ، يستعمل في مقامات مختلفة كإفادة التحريم المولوي أوالإرشادي أو بيان عدم الحكم المتوهم وما الى ذلك .
ولكن استفادة كل معنى من هذه المعاني من الكلام رهين بنوع الموضوع ، وبمجموع الملابسات المتعلقة به .
وملاحظة هذه الجهات تقضي في الفقرتين بالمعنى الذي ذكرناه لهما.
أما الفقرة الألى : - وهي (لا ضرر) - فلأن الضرر معنى اسم مصدري يعبر عن المنقصة النازلة بالمتضرر، من دون احتواء نسبة صدورية كالاضرار
(135)
والتنقيص ، وهذا المعنى بطبعه مرغوب عنه لدى الانسان ، ولا يتحمله أحد عادة الا بتصور تسبيب شرعي اليه ، لان من طبيعة الانسان ان يدفع الضرر عن نفسه ويتجنبه ، فيكون نفي الطبيعة في مثل هذه الملابسات يعني نفي التسبيب اليها بجعل شرعي ولمثل ذلك كان النهي عن الشيء بعد الأمربه أو توئم الأمر به دالا على عدم الأمر به كما كان الأمر بالشيء بعد الحظرأو توهمه معبرا عن عدم النهي فحسب كما حقق في علم الاصول ، وعلى ضوء هذا كان مفاد (لا ضرر! طبعا، نفي التسبيب الى الضرر بجعل حكم شرعي يستوجب له .
وامّا الفقرة الثانية : - وهي لا ضرر - فهي تختلف في نوع المنفي وسائر الملابسات عن الفقرة الأولى لان الضرار مصدر يحتوي على النسبة الصدورية من الفاعل كالاضرار. وصدور هذا المعنى من الانسان أمر طبيعي موافق لقواه النفسية غضبا وشهوة. وبذلك كان نفيه خارجا من قبل الشارع ظاهرا في التسبيب الى عدمه والتصدي له ، ومقتضى ذلك .
أوّلأ: تحريمه تكليفا فإن التحريم التكليفي خطوة أولى في منع تحقق الشيء خارجا.
وثانيأ: تشريع اتخاذ وساثل إجرائية ضد تحقق الاضرار من قبل الحاكم الشرعي ، وذلك لان مجرد التحريم القانوني ما لم يكن مدعما بالحماية اجراءً -لا سيما في مثل (لا ضرار) -لا يستوجب انتفاء الطبيعة ولا يصحح نفيها خارجا .
واما الوجه التفصيلي : لدلالة الحديث على ذلك فتوضيحه : ان هذا الحديث يمثل نفيأ لمفهومين (هما الضرر والضرار)، وهذه الصيغة - أعني صيغة النفي - رغم وحدتها صورة ووحدة المراد الاستعمالي منها تحتوي على معان مختلفة بحسب اختلاف الموارد:
(136)
فربما : يكون محتواها التحريم المولوي كما في ( لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج )(1) .
واخرى : تكون ارشادا الى عدم ترتب الاثرالقانوني المترتب على الشيء كما في (لا طلاق الا لمن اراد الطلاق )(2) فانه يدل على عدم حصول الفراق القانوني بانشاء الطلاق اذا لم يكن مرادا جديا .
وثالثة : تكون ارشادا الى محدودية متعلق الأمر كما في (لا صلاة إلآ بطهور)(3) فانه يدل على محدودية الصلاة الواجبة بالطهارة .
ورابعة : تقتضي عدم وجود حكم يبعث على وجود شيء كما في مالو قيل (لا حرج في الدين ) 0 الى غيرذلك من محتوياتها .
وعلى هذا فلا بد في معرفة معنى الحديث ، وتحقيقه من تحقيق ميزان اختلاف محتوى الكلام في هذه الموارد وغيرها رغم وحدة عنصره الشكلي ، ثم تحقيق معنى الحديث على ضوء هذا الضابط العام فهنا مرحلتان :
اما في المرحلة الأولى : فلا بد قبل توضيح الميزان فيها من التنبيه على نكتة عامة فيما يتعلق بتفسير الكلام سواء أكان من قبيل صيغة الأمرأو النهي أو النفي أو الاثبات فنقول :
ان الكلام يتألف من عنصرين عنصر شكلي يتمثل في مدلوله اللفظي ، وعنصر معنوي كامن تحت المدلول اللفظي يكون هو المحتوى الواقعي للصيغة والمصحح لاستعمالها ، وهذان العنصران لا يتحدان دائما وان كان لا بد بينهما من تسانخ وعلاقة، ولذا تكون الصيغة الواحدة ذات
____________
(1) سورة البقرة 2 : 197 .
(2) جامع الأحاديث ا : 226 | 1887 ، الفقيه 4 : 22 | 67 .
(3) الوسائل 22 : 30| 1 2794 ، الكافي 6 : 62| 2 .

(137)
محتويات متعددة بحسب اختلاف الموارد كاستعمال صيغة الامر والنهي في معان كثيرة . فان هذه المعاني ليست هي المدلول الاستعمالي للكلام ، ولا هي مجرد دواع واغراض لاستعماله -كما اوضحناه في محله من علم الأصول وانما هي محتوى الكلام وباطنه .
واختلاف مفاد النفي على الانحاء السابقة وغيرها يرتبط بالعنصر المعنوي الكامن للكلام - كما هو واضح لوحدة العنصر الشكلي حسب الفرض وهو النفي - ومعرفة الضابط العام لتشخيص محتوى الكلام ، يتوقف على التعرف المسبق على العوامل المختلفة التي تؤثر في تعيين محتواه وتحديده لكي يتم استخراج هذا الضابط على أساسها .
وذلك : لان تفسير الكلام في حد نفسه عملية معقدة لا تكفي فيها معرفة الجهات اللفظتة من المفردات اللغوية والهيئات العامة فحسب على ما أشرنا إليه .
بل يمكن القول بان العوامل اللفظية بالنسبة الى سائرالجهات المؤثرة في معنى الكلام ، مثل ما يظهر من الجبل الثابت في البحر بالنسبة الى ما كان منه كامنا تحت الماء، لان هذه العوامل لا تؤلف الا جز يسيرا من مجموع ما يؤثر في محتوى الكلام ، وان كانت ظاهرة اكثر من غيرها .
وسر ذلك : ان الكلام بما انه ظاهرة حية من الظواهر النفسية او الاجتماعية فانه يتفاعل بحسب محتواه مع جميع الملابسات التي تحيط به من محيط وشائعات واعراف وغير ذلك ، فاذا ما أريد تفسيركلام ما فلا بد من ملاحظة جميع الخصوصيات التي تقترن به من الأطار الذي القي فيه ، ومن طبيعة الموضوع الذي يتحدث عنه ، ومن الصفات النفسية للمتكلم والمخاطب . . . فربما تختلف الكلمة الواحدة من زمان الى زمان او من موضوع الى موضوع أومن متكلم الى متكلم أومن مخاطب الى مخاطب .

(138)
فاذا لاحظنا الجهات المختلفة التي تحتضن الكلام وقدرنا نوع التفاعل المناسب معها : أمكننا تفسير الكلام في ظل مجموع تلك الجهات .
وقد عبرنا عن هذا المنهج في تفسير الكلام بـ (منهج التفسير النفسي ) نظرا الى أن تأثير هذه ائجهات في الكلام انما هو بلحاظ تأثيرها في الحالة النفسية للمتكلم أو المخاطب معها .
وبعد اتضاح هذه المقدمة نقول : - ان اختلاف محتوى صيغة النفي في الموارد المذكورة ، إنما ينشأ عن اختلاف المواضيع وملابساتها وتناسبات المورد بحسبها ، كما يوجد نظير هذا الاختلاف في سائر الصيغ التي تعبرعن الموقف الشرعي في موضوع ما.
ونحن نقتصر في هذا المجال على عرض جملة من هذه المواضيع بشكل عام لمختلف الصيغ كصيغة الأمر والنهي والنفي والاثبات في الجملة الخبرية مع توضيح كيفية تاثيرها في اختلاف محتوى الصيغة :
1- الموضع الأول : ان يكون مصب الحكم طبيعة تكوينية ذات اثار خارجية يرغب المكلفون فيها أو عنها من جهة نسبتها مع القوى الشهوية والغضبية للنفس ، من دون ان يكون هذا الحكم مسبوقا بحكم مخالف له علما أو احتمالا كالأمر بعد الحظر أو بعد توهمه .
ففي هذا الموضع يتضمن محتوى الخطاب أمرين : أحدهما : عام والاخر خاص بمورد صيغتي الاثبات والنفي .
اما محتواه العام : فهو الوعيد على الفعل أو الترك فان كانت الصيغة بعثا كان محتواها الوعيد علن الترك فيكون الفعل واجبا تكليفا، وان كانت الصيغة زجرا كان محتواها الوعيد على الفعل فيكون الفعل حراما تكليفا، ومجموع الصيغة والمحتوى يؤلف الحكم المولوي الخاص من ايجاب أو تحريم.

(139)
واحتواء الصيغة لهذا المحتوى لم يكن لمجرد خصوصية الصيغة اذ هي لا تدل الأ على البعث أو الزجر اللزومي ، وهذا المقدار ينحفظ في ظل محتويات اخرى من قبيل الارشاد ونحوه مما ياتي ، وانما تعين مدلول الوعيد بدلالة الاقتضاء بعد أن امتنع فرض محتوى اخر للصيغة لعدم وجود مبادئه فى الجهات المكتنفة بها.
وتوضيح ذلك : ان مدلول الصيغة - من البعث أو الزجر- لا معنى لاعتباره بما هو هو مجردا عن أي معنى أو اعتبارآخر، لأنه لا يكون بذلك مثار أثر خارجا أو عقلاء، فلا بد له من محتوى مسانخ له كامن فيما وراء اللفظ يكون سببا للأثر العقلائي ، وما يكون محتوى للكلام على قسمين :
أ - ما يتوقف على مبادئ مسبقة غير موجودة ولا قابلة للاعتبارفي متعلق الصيغة (ومثال ذلك ) رفع توهم الحكم السابق - كما يراد ذلك في الامر بعد توهم الحظر- فانه يتوقف على فرض توهم خارجي للحظر.
ومنه الارشاد الى عدم ترتب الاثر المطلوب على الشيء حيث يكون للشيء اثر اعتباري بطبيعته ، وهذا يتوقف على فرض اثر اعتباري ثابت للشيء مسبقا، الى غير ذلك من المحتويات الأتية .
ب - ما يكون امرا اعتباريا لا بد من جعله من قبل الشارع وهو الوعيد على الترك المقوم للوجوب أو الوعيد على الفعل المقوم للحرمة.
وعلى هذا فحيث لم يتواجد في هذا الموضع شيء من العوامل النفسية وغيرها مما يندرج في القسم الأول ليتفاعل معه المعنى حسب الفرض ، فيتعين كون المحتوى هو القسم الثاني تصحيحا لاعتبار البعث والزجرمن الحكيم .
وعلى هذا الاساس يستفاد الحكم المولوي من البعث والزجر.
وبذلك يتضح انه لا يتجه ما اشتهر في كلمات الأصوليين من ان
(140)
الاصل في الامر والنهي ان يكون مولويا ولا يحمل على الارشاد الا بقرينة .
بل الصحيح هو العكس لان حمل الأمر والنهي على الارشاد انما يكون وفق تناسبات ثابتة بحسب طبيعة الموضوع ، فلا يحتاج كونه للارشاد الى مؤونة زائدة، وهذا بخلاف حمله على المولوية لانه إنما يكون بموجب دلالة الاقتضاء بعد فقد سائر الجهات التي ترسم للكلام محتوى إرشاديا ، فهي في طول تلك الجهات المقتضية لإرشادية الإنشاء طبعا.
ويلاحظ هنا: أنه لا يفرق في استفادة الحكم المولوي من الصيغة في هذا الموضع بين ان تكون صيغة الانشاء من قبيل الامر والنهي او صيغة الاخبار من النفي والاثبات ، نعم استعمال صيغة الاخبار في هذا المجال تجوز لانه يخالف مفاده الاستعمالي ، وانما صحح ذلك التناسب بين الاخبار عن وجود الشيء مع التسبيب اليه بالأمر به - وكذلك التناسب بين الاخبارعن الانتفاء مع التسبيب الى ذلك بالنهي عنه - كما اوضحناه في البحث عن مدلول الجملة الخبرية في علم الأصول .
فهذا هو المحتوى العام للكلام في هذا الموضع .
(واما محتواه الخاص ) - بمورد الاثبات والنفي (1) - فهو تشريع اتخاذ الوسائل الاجرائية على اختلاف مراتبها-لتحقيق مقتضى الحكم - فيما كان المورد مقتضيا لمثل هذا التشريع وهذه الوسائل كاعمال القدرة في المنع عن الحرام أو الاكراه على فعل الواجب ، ويدخل في ذلك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ولو بما يتضمن ايقاع الضرر على الفاعل نفسا أو مالا مع
____________
(1) ووجه عدم اقتضاء الامر والنهي لذلك واضح لان مفادهما بالمطابقة اعتبار طلبي أو زجري فلا دلالة لهما على اكثر من ذلك وهذا بخلاف الاثبات والنفي فان مفادهما التسبيب الى الفعل أو الترك حتى كأنهما متحتقان فعلا.
فيكون الاثبات والنفي منسجمأ مع تشريع الوساثل الاجرائية أكثر من الأمر والنهي .

(141)
ملاحظة اخف الوسائل وأنسبها .
نعم ان الوسائل الاجرائية المتخذة لحماية الحكم لا بد من ان تكون جارية على وفق القوانين المجعولة في الشريعة المقدسة في هذه المرحلة، من قبيل كون ايقاع الضرر بالفاعل مالا أو نفسا باذن من ولي الأمر أو باشراف منه - كما ذكرناه في محله -.
2 - الموضع الثاني : ان يكون مصب الحكم ماهية اعتبارية ذات آثار وضعية عقلائية ويؤتى بها عادة بداعي ترتيب تلك الأثار التي يحترمها القانون ويمضيها ويحميها في مرحلة الإجراء - وذلك كالعقود والايقاعات .
ومحتوى الصيغة في هذا الفرض هو عدم ترتب الأثر المزبور على المتعلق في مورد النهي والنفي كـ (لا بيع الا في ملك ) و(لا طلاق الأ لمن اراد الطلاق ) أو على غير المتعلق في مورد الأمر والاثبات كـ ( طلقوهن لعدتهن ) (1) . ولذا يكون الحكم في ذلك حكما ارشاديا.
والعامل العام الموجب لتعين هذا المعنى كمحتوى للصيغة، هو التناسب الطبيعي بين الهدف والوسيلة، وتوضيح ذلك : ان مثل هذه الطبيعة اذا كانت ذا مفسدة بنظر المشرع فانه يكفي في تحقق هدف الشارع من الانزجار عنها فصلها عن اثارها القانونية ، فيستوجب ذلك انزجار المكلف عن الطبيعة، وتحديد الداعي الموجب لايجادها، لان الرغبة في الطبيعة -بحسب الفرض في هذا الموضع - ليس باعتبارجهة تكوينية فيها تنسجم مع قوة نفسية للانسان مثلا - كما في المورد الأؤل - وانما هي بلحاظ أثرها القانوني ، فاذا فصلت عن الأثر القانوني انزاح الداعي الى تحقيقها . فالغاء الأثر القانوني هو الوسيلة المناسبة لتحقيق الهدف المزبور عادة .
____________
(1) سورة الطلاق 65| 1 .

(142)
(نعم ) ربما لا يكفي مجرد الغاء الاثر، لقوة الداعي الى ايجادها أو لعدم الاحتياج البالغ إلى الحماية القانونية في المورد -كما في مورد النهي عن بيع الخمرأو النهي عن الربا فان مورد الربا من المنقولات مثلا ولا تحتاج المعاملة فيها الى حماية قانونية - فيجعل الحرمة التكليفية زيادة على الفساد الوضعي .
وعلى هذا : فالتناسب المذكور هو الموجب لتعين محتوى الكلام في الغاء الاثر القانوني .
فهذا هو العامل الاساسي العام في هذا الموضع ، الموجه لمحتوى الصيغة .
وهناك عامل آخر أخص يتواجد في مورد تحديد الموضوع فحسب -دون موردالنهي عن الطبيعة مطلقا - وهو تفاعل الصيغة مع العامل النفسي للمامور، وذلك لأن مرغوبية الطبيعة في هذا المورد انما تكون في ضوء هدف مسبق للمكلف ، وهو الوصول الى الأثر المطلوب كانفصام العلقة الخاصة مثلا -كما في الطلاق - او تحققها - كما في الزواج -.
فإذا كان الاعتبار الصادر يحذد تاثير الطبيعة، فان هذا يرجع الى تحديد الوسيلة لتحقق الهدف المفروض فيكون الهدف المفروض كموضوع مفترض لهذا الاعتبار، فاذا قيل (لا طلاق الا بشاهدين ) فهو في قوة ان يقال (اذا اردت انفصال العلقة الزوجية فلا تطلق الا بشاهدين ) فيكون الأثر المطلوب كشرط مقدر بالنسبة الى الخطاب ، فيكون مفاد الخطاب طبعا ارتباط الغاية المفروضة بالحد الخاض .
وهذا العامل كما قلنا انما يكون في مورد تحديد الطبيعة لا في مورد الغاء اثرها مطلقا، لان الغاء اثرها يرجع الى اسقاط الغاية المسبقة لا تحديد وسيلتها كما هوواضح .

(143)
(ويلاحظ ) : ان استعمال صيغة الأمر والنهي في هذا الموضع ليس مجازا بل هو استعمال حقيقي لان فصل العلقة بين الطبيعة وبين الأثر المرغوب منها ينسجم مع صيغة الزجرتمام الانسجام لانه يوجب انزجار المكلف عن ذلك بالامكان وكلما كان المحتوى المعنوي في اللفظ يحقق للعنصر الشكلي فيه التاثير المطلوب منه المسانخ اياه فإن الاستعمال يكون حينئذ حقيقيا بعد تمام المحتوئ المزبورإذ يتأتى للمتكلم حينئذ ان يقصد المدلول الاستعمالي بالكلام جدأ، وفصل العلقة في المقام مستوجب لفاعلية الزجر الانشائي ، كما أن الوعيد في النهي المولوي مستوجب لفاعلية الزجر الانشائي . وهكذا في صيغة البعث في مورد الامر بالحصة كـ ( طلقوهن لعدتهن ) (1) يكون الاستعمال حقيقيا ، فان تحديد الوسيلة بعد تعلق الغرض مسبقا باثرها نوع من البعث للشخص نحوالوسيلة المشروعة .
وبذلك يظهر: انه لا يتجه ما في كلمات جماعة من الاصوليين من اعتبار الارشاد معنى مجازيا للامر والنهي ، وكان منشأ ذلك عدم التنبيه لكيفية تفاعل الاعتبار مع الملابسات المحيطة به على ما أوضحنا ذلك .
واما صيغة الاثبات والنفي كـ ( لا طلاق الا ما اريد به الطلاق ) و(لا سبق الا في خف أوحافر اونصل ) و(لا بيع الا في ملك ) ، فانه يكون من قبيل اثبات الحكم بلسان اثبات موضوعه ، أو نفيه بلسان نفيه مبالنة في ذلك ، بلحاظ ان فصل الشيء عن اثره القانوني تسبيب الى انتفائه في الخارج على ما سبق توضيحه .
3 - الموضع الثالث : ان يكون مصب الحكم موضوعا لحكم شرعي خاص من دون رغبة طبيعية نحوه - في مورد الزجر - أو انزجارطبيعي عنه - في
____________
(1) سورة الطلاق 65| 1 .

(144)
مورد البعث اليه - كـ (لا شك لكثير الشك ) و(لا سهو للامام مع حفظ المأموم ) فان الشك في الصلاة موضوع لجملة من الاحكام .
ومحتوى الصيغة في هذا الموضع -حيث تكون صيغة نفي -ليس هو التسبيب الى عدم تحقق الموضوع إذ لا وجه لارادة ذلك ، وانما هوعدم ترتب ذلك الحكم الشرعي بالنسبة الى الحصة الخاصة، فان ارتباط الطبيعة في ذهن المخاطب بتلك الأحكام ، يوجب ان يكون محتوى الكلام ناظرأ لهذا الارتباط بمقتضى التفاعل الطبيعي بين الكلام وبين التصورات الذهنية للمخاطب ، فيكون مؤداه تحديد هذا الارتباط وخروج المنفي عنه .
4 - الموضع الرابع : أن يكون مصب الحكم حصة خاصة من ماهية مامور بها يظن سعتها لهذه الحصة فيكون الداعي لاتيانها تفريغ الذمة واداء الوظيفة كما في (لا صلاة الا بفاتحة الكتاب ) و(لا صلاة لمن لم يقم صلبه في الصلاة) .
ومحتوى الصيغة في هذا الموضع هو عدم ترتب الاثر المذكور- وهو- فراغ الذمة على الاتيان بالحصة، فيرجع الى اشتراط المتعلق بالقيد الخاص ، ولذا يكون الحكم حكما ارشاديا الى الجزئية والشرطية .
وسر تعين هذا المعنى كمحتوى للصيغة هنا عاملان - على غرار ما سبق في الموضع الثاني -:
الأول : التناسب الطبيعي بين الهدف والوسيلة فانه يكفي في حصول هدف الشارع - وهو عدم تحقق الحصة المذكورة تحديد الأمر بالطبيعي لتخرج هي عن المتعلق ، وذلك موجب لانزجار المكلف عنها، لان الاتيان بها إنما يكون بقصد امتثال الأمر بالطبيعة وهو ينتفي مع تحديده بحصة خاصة .
الثاني : تفاعل الكلام مع الحالة النفسية للمخاطب ، وذلك لان باعث
(145)
المكلف على الاتيان بهذه الحصة هوتفريغ الذمة عن الطبيعي المامور به ، فالنفي الملقى في هذه الحالة يتفاعل حسب التناسب مع هذا الباعث النفسي ويفيد تحديد العامل فيه وهو الأمر الشرعي بحصة معينة .
وكيفية استعمال صيغ الأمر والنهي والاثبات والنفي في هذا الموضع يماثل ما مضى في الموضع الثاني .
5 - الموضع الخامس : ان يكون مصب الحكم حصة من ماهية منهي عنها يظن سعتها لهذه الحصة، فيكون الرادع النفسي عنها هوقصد اطاعة الحكم المتعلق بالطبيعي كما في (لا ربا بين الوالد والولد) .
ومحتوى الصيغة في هذا الموضع نفي تعلق الحكم التحريمي بالحصة، فيرجع الى تقييد متعلق الحرمة بالقيد الخاص ، وذلك لنظير ما تقدم في الموضع الثالث فان ارتباط الطبيعي في ذهن المخاطب بالحكم التحريمي يوجب ان يكون محتوى الكلام ناظرأ لهذا الارتباط وتحديدا للحكم التحريمي بتحديد متعلقه .
6 - الموضع السادس : ان يكون مصب الحكم طبيعة يرغب المكلف عنها أو يرغب إليها، اما لانسجام المتعلق مع القوى النفسية والشهوية، أو للأثر القانوني المترتب على الشيء عادة أو لاجل تفريغ الذمة وامتثال القانون ، لكنه معرض عنها لتصورثبوت حكم مخالف لجهة رغبته وهذا هو الفارق بين هذا الموضع والموضع الأول كما هو واضح ، سواء كان هناك حكم كذلك بالفعل ، او كان هذا التصور توهما أو احتمالا، وقسم من هذا الموضع هو الذي يتعرض له في علم الأصول بعنوان (الأمر بعد الحظر) .
وفي هذا الموضع يتفاعل الكلام مع التصور الذهني المضاد، فيكون محتواه نفي الحكم المتصور، ، مع انه لولا التصور المذكور لافاد الحكم المولوي أو الحكم الارشادي ولا فرق في ذلك بين أن تكون صيغة الحكم
(146)
انشاءا أوخبرا .
ففي الانشاء تتبدل الصيغة من اداة ايجابية بناءة الى اداة هدم سلبية - حيث يكون محتواها سلب الحكم السابق فحسب - رغم ان عنصرها الشكلي يمثل معنى ايجابيا من قبيل الطلب والزجر، ولذلك يكون استعماله مجازيا يختلف فيه المراد التفهيمي عن المراد الاستعمالي .
لكن مصحح الاستعمال المذكور هو ان هدم الاعتبار السابق أو رفع توهمه ، يتيح المجال للعامل النفسي ويرفع العائق امام فاعليته ، فيخيل بذلك أن هذا الهدم أو الرفع هو العامل الفاعل للبعث والزجر، وذلك من قبيل الامر بالاصطياد بعد تحريمه أولا في حال الاحرام في قوله تعالى : ( فاذا حللتم فاصطادوا )(1) فان هذا الأمر ليس محتواه الا رفع التحريم السابق ، دون بناء حكم ايجابي - كما هومقتضى مدلوله - الا انه صح استعمال صيغة البعث لان هدم التحريم السابق يستتبع الانبعاث نحو الاصطياد بفاعلية العامل الطبيعي عند الانسان نحو الصيد، فيكون استعمال صيغة الأمر في ذلك بلحاظ استتباع محتواه الهادم للانبعاث نحوه حتى كأنه العامل لذلك .
واما استعمال صيغة الاخبار في هذا الموضع فهو ايضا استعمال مجازي ، لان مفاد صيغة النفي مثلا هومجرد الاخبار عن نفي وجود الطبيعة خارجا، لا سلب وجود حكم موجب لتحققها خارجا لولا هذا النفي ، لكن صحح ذلك أن سلب الحكم وان كان في الواقع مجرد عدم تسبيب الى وجود الطبيعة ، لكن حيث تكون الطبيعة مرغوبا عنها لذاتها - أو غيرمرغوب اليها - الا على تقدير ثبوت هذا الحكم كان نفي الحكم في هذا السياق بمثابة التسبيب الى عدم تحقق الطبيعة، وبذلك صح نفيها خارجأ نفيا تنزيليا.

____________
(1) سورة المائدة 5 | 2 .

(147)
وذلك كما لو قيل - نفيا لمانعية بعض مايحتمل مانعيته للصلاة -: (لا اعادة للصلاة بكذا)، فان الاعادة لا يرغب اليها المكلف بطبعه الا لطلب شرعي فحسب فلو دل الدليل على نفي الطلب الشرعي لزم من ذلك عدم تحققها عادة بفاعلية الرغبة الطبيعية عنها فصح نفيها تنزيلا.
ثم ان هذا الموضع لا يختص بما لوكان متعلق الحكم نفسه موردا لحكم منساق او متوهم - كما في مثال الاصطياد والصلاة - بل يعم ما لوكان متعلقه امرا مستبا عن الحكم السابق أو المتوهم ، وذلك كأن يقال في معرض توهم جعل الشارع لتكليف مؤد الى الحرج : -(لا حرج قي الدين ) أو(لا تحرج نفسك ) فهنا ايضا يتفاعل الكلام مع التوهم المذكور ويكون محتواه ومفاده - التفهيمي نفي جعل حكم مسبب الى الحرج . ومقطع (لا ضرر) من الحديث من هذا القبيل على ما يتضح قريبا.
فهذه مواضيع عامة يتغير بمقتضاها المحتوى الذي تستنبطه صيغ الحكم ومنها النفي ، وقد اتضح من خلال ذلك ان المحتويات المختلفة للنفي وغيره انما هي مرهونة بتناسبات مختلفة يتفاعل معها الكلام فترسم له على ضوئها معان مختلفة تكون محتوى له . هذا تمام الكلام عن المرحلة الأولى .
واما المرحلة الثانية : فهي من تطبيق الضابط المذكور على الحديث أوتوضيح معنى الحديث على ضوء ذلك :
اما المقطع الأول : من الحديث وهو(لا ضرر)، فهويندرج في المورد السادس الذي ذكرناه فيفيد نفي جعل حكم ضرري وذلك على ضوء أمور ثلاثة:
1 - الأزل :
ان من الواضح جدا أن متعلق النفي في هذا المقطع - وهو الضرر-
(148)
ليس ماهية اعتبارية ذات آثار وضعية حتى يرجع نفيها الى فصلها عن آثارها ويندرج في الموضع الثاني ، ولا هوحصة من موضوع ذي حكم شرعي . او متعلق للوجوب أو للحرمة حتى يراد نفي الحكم المترتب على الطبيعي فيندرج في احد المواضع المتوسطة الباقية ، فلا محالة يدور الأمر فيه بين احتمالين :
أ - ان يكون ماهية مرغوبا إليها لانسجامها مع القوى الشهوية أو الغضبية - من قبيل الموضع الأول - فيكون مفاد نفيه حينئذ التسبيب الى عدم تحققه بتحريمه والمنع عن ايجاده خارجا، فيصح حمل النفي في الحديث حينئذ على النهي كما هومؤدى بعض المسالك في المقام .
ب - ان يكون ماهية مرغوبا عنها، لكن النفي لرفع توهم تسبيب الشارع اليه بالزامه به بما يوجب الضيق والضرر للمكلف ، فيندرج في المورد السادس ويكون مفاد نفيه نفي التسبيب الى الضرر، بجعل حكم ضرري نظير (لاحرج ) كما نسب الى المشهور.
2 - الثاني : ان هذين الاحتمالين يتفرعان على كون معنى هيئة (الضرر) معنى مصدريأ محتويا للنسبة الصدورية إلى الفاعل -أي الضار- كالاضرار والضرار، أو معنى اسم مصدري خال عن هذه النسبة كالضيق والحرج والمنقصة .
فعلى الأول : يمثل الضرر كالاضرار طبيعة موافقة للقوى النفسية للانسان -كالغضب والحقد وحب الايذاء ونحوها - التي يلجا اليها الانسان كثيرا ارضاء لنفسه . وحينئذ يكون مفاد لا ضرر تحريمه وتشريع ما يمنعه خارجا.
وعلى الثاني : يكون الضرر بمعنى المنقصة الواردة على المتضرر، وهو امر لا يتحمله الانسان بطبعه بل هومكروه له أشد الكراهة ، وانما يتحمله
(149)
لو ظن ان الشارع حمله اياه فنفي الضرر في هذا السياق النفسي يرجع الى نفي تسبيب الشارع له دفعأ لتوهم ايجابه على المكلف وتحميله عليه .
3 - الثالث : ان الصحيح هو الاحتمال الثاني ، لان الحس اللغوي لمن عرف اللغة العربية يشهد بان الضرر انما يمثل المعنى نازلا بالمتضررلا صالرأمن الفاعل ، فهومعنى اسم مصدري كالمضرة والمنقصة ، وليس معنى مصدريا كالاضرار، كما تقدم ذكر ذلك في البحث من معنى الهيئة الافرادية للكلمة .
وعلى هذا فيكون مثل هذا التركيب مثل سائر الأمثلة المماثلة له حالا كـ (لاحرج ) مايكون المعنى المنفي عنه عملا مرغوبا عنه للمكلف بحسب طبعه وانما يتحمله بتصورتشريع يفرضه عليه فيكون المنساق من النفي قصد نفي التشريع المتوهم أو المترقب فحسب .
وبذلك يكون مفاد (لا ضرر) نفي التسبيب إلى الضرر لجعل حكم ضرري كما هو مسلك المشهور.
واما المقطع الثانى : من الحديث - وهو (لا ضرار) - فانه يندرج فى الموضع الأول من المواضع السابقة على ما اتضح بما ذكرناه في مورد (لا ضرر) آنفا - لان الضرار هو الاضرار المتكرر أو المستمر، وقد ذكرنا ان الاضرار بالغير عمل يمارسه الانسان بطبعه لأجل ارضاء الدواعي الشهوية والغضبئة، فاذا نهي عنه كما في جملة من الايات (1) فهو ظاهر في النهي التحريمي زجرأ للمكلفين عن هذا العمل كما هوواضح .

____________
(1) كقوله تعالى ( لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده ) البقرة 2 | 233 و( اشهدوا اذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد ) البقرة 2 | 282 ( ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن ) الطلاق 65 | 676 .

(150)
واذا نفي كما في هذا الحديث فانه يدل على التسبيب الى عدم تحقق هذا العمل وذلك من خلال ثلاثة امور.
الأمر الأول : جعل الحكم التكليفي الزاجر عن العمل وهو الحرمة .
وهذا الحكم يستبطن الوعيد على الفعل ويترتب عليه بحسب القانون الجزائي الشرعي :
أولا : العذاب الاخروي في عالم الأخرة .
وثانيا : العقوبة الدنيوية بالتعزير ونحوه حسب رأى ولي الأمر بالحدود المستفادة من الأدلة الشرعية .
وثالثا: الضمان في موارد الاتلاف وكون الشيء المتلف ذا مالية لدى العقلاء.
الأمر الثاني : تشريع اتخاذ وسائل مانعة عن تحققه خارجا، وذلك من قبيل تجويزإزالة وسيلة الضرر وهدمها اذا لم يمكن منع ايقاعه الا بذلك ، كالأمر باحراق مسجد ضرار(1) والحكم بقلع نخلة سمرة ونحو ذلك .
وهذا التشريع يرتكز على قوانين ثلاثة :
1 - قانون النهي عن المنكر فان للنهي مراتب متعذدة - كما ذكر في الفقه - اخفها النهي القولي وأقصاها الاضرار بالنفس ، وبينهما مراتب متوسطة، ولاتصل النوبة الى مرحلة اشد الا بعد تعذر المرحلة السابقة عليها أو عدم تاثيرها في الكف عن المنكر.
2 - قانون تحقيق العدالة الاجتماعية بين الناس . وهذا من شؤون الولاية في الأمور العامة الثابتة للنبي صلى الله عليه واله وائمة الهدى عليهم
____________
(1) ورد ذكر في كتب التفسير في تفسير قوله تعالى : ( فى والذين اتخذوا مسجدا ضرارا... ) التوبة 9 | 107 لاحظ مجمع البيان ط 3 : 2 7-73.

(151)
السلام ، والفقهاء في عصر الغيبة إذ لا بد من العدالة في حفظ النظام .
3 - حماية الحكم القضائي فيما إذا كان منع الاضرار حكما قضائيا من قبل الوالي بعد رجوع المتخاصمين اليه -كما في مورد قضية سمرة حيث شكا الأنصاري دخوله في داره بلا استئذان فقض النبي صلى الله عليه واله بعدم جواز دخوله كذلك ، وحيث أبى سمرة عن العمل بالحكم ، أمر صلى الله عليه واله بقلع النخلة لتنفيذ الحكم بعدم الدخول عملا .
(ويلاحظ ) : ان ولاية اتخاذ وسيلة اجرائية لمنع الاضرار، انما هي للحاكم الشرعي دون عامة المسلمين ، أما على القانونين الاخيرين فالامر واضح لان تحقيق العدل وحماية القضاء انما هومن وظيفة الحاكم المتصدي للحكومة والقضاء وأما على القانون الاول : فلأن المختار أن ولاية النهي عن المنكر فيما كان بالاضرار بالفاعل نفسا أو مالا تختص بالحاكم الشرعي خلافا لما افتى به جمع من الفقهاء.
(ويلاحظ ايضا) أن هذا الجزء من مفاد (لا ضرار) هو مبنى تعليل الأمر بقلع النخلة في قضية سمرة بهذه الكبرى، وهو أمر أشكل على جمع من الفقهاء حتى استند إلى ذلك بعض الاعاظم في جعل النهي في الحديث حكما سلطانيا، بتصور تبريره حينئذ للأمر بالقلع وهو ضعيف . وسيأتي توضيح الموضوع في التنبيه الأول من تنبيهات القاعدة .
الأمر الثالث : تشريع احكام رافعة لموضوع الاضرار من قبيل جعل حق الشفعة لرفع الشركة ، التي هي موضوع لإضرار الشريك ، أو عدم جعل ارث للزوجة في العقار لعدم الاضرار بالورثة - كما في الحديث (1) .
فاتضح مما ذكرناه مجموعا : أن الحديث بجملة (لا ضرلر) يدل على
____________
(1) الوسائل - كتاب الفرائض - أبواب ميراث الأزواج - الباب 9 ج 26 : 08 2 | 32842 .

(152)
نفي جعل الحكم الضرري وبجملة (لا ضرار) يدل على تحريم الاضرار وتشريع الصد عنه خارجا ورفعه في بعض الموارد موضوعا .
(ويلاحظ ): انه ربما يعترض على تفسير(لا ضر) بنفي الحكم الضرري بعلة وجوه ذكرها العلامة شيخ الشريعة في (رسالة لا ضرر) ، ترجيحا لمسلك النهي في تفسير الحديث ، وسوف يأتي استعراض تلك الوجوه ونقدها في البحث عن هذا المسلك بما يتضح به جملة من الجهات التي ترتبط بهذا التفسير.
ونذكر هنا كلاما للشيخ الأنصاري (قده ) من ترجيح هذا التفسير وما ذكره العلآمة شيخ الشريعة في تعقيبه ونقده مع تحقيق القول في ذلك تكميلا للقول في هذا المبنى .
قال الشيخ (قده ) في الرسائل بعد ذكر المعاني المحتملة في الحديث : (والاظهر بملاحظة نفس الفقرة ونظاثرها وموارد ذكرها في الروايات وفهم العلماء هو المعنى الأول (1) يعني بذلك تفسير الحديث بنفي الحكم ا لضرري.
وهذا الكلام ينحل الى دعاو اربع وقعت جميعا موردا للانكار من قبل العلامة شيخ الشريعة فقال :.
(والشواهد الأربعة كلها منظورة فيها ممنوعة على مدعيها. اما نفس الفقرة فقد عرفت ظهورها في الحكم التكليفي . واما نظائرها فقد قدمنا عدم النظير لهذا المعنى في هذا التركيب (2).

____________
(1) المصدر ط رحمت الله ص 315، الرسائل 2 : 535 .
(2) قال في ص ا 4 من الرسالة (ان المعنى الثالث من نفي المسبب وارادة السبب لم يعهد في مثل هذا التركيب ابدا وانما المعهود النهي أو نفي الكمال فى (لا صلاة لجار المسجد الا =

(153)
واما موارد ذكرها في الروايات ففيه : انه قد اتضح عدم ذكرها في شيء من الروايات ث الا في قضية سمرة المناسب للتحريم وجدانا، وان حديث الشفعة والناهي عن منع الفضل لا مساغ لما فيها الآ النهي التكليفي تحريما أو تنزيها، واما فهم العلماء فهو ايضا ممنوع ، ولم نجد للمتقدمين والمتأخرين ما يعين انهم فهموا هذا المعنى الاعن قليل نادر لا يكفي فهمهم في تعيين المعنى ، وقد ذكر في حديث اللهعائم تعليلا لحرمة الترك )(1).
ولتحقيق القول فيما ذكر (ره ) لا بد من ملاحظة كل واحد من هذه الجهات :
اما الجهة الأولى- من ظهور نفس ألفقرة - فقد يشكل ما ذكره الشيخ من ظهورها في نفي الحكم الضرري وما ذكره هذا القائل من ظهورها في النهي عن الاضرار جميعا، بتقريب : ان نفس الفقرة بملاحظة عدم ارادة المعنى الاستعمالي الظاهر منها ليس لها ظهور في حد ذاتها في المعنى المجازي المقصود بها ، وانما ذلك رهين قرينة اخرى وذلك : لانه لا اشكال في ان المعنى الاستعمالي الظاهر من الفقرة -وهو الاخبار عن نفي تحقق الضرر خارجا - ليس بمقصود بها على كل حال ، سواء فسر المراد الجدي بنفي الحكم الضرري أو بالنهي عن الاضرار لاختلاف المدلول الاستعمالي مع هذين المعنيين بوضوح ، وحينئذ فيدور الأمر بين أن يراد بها نفي التسبيب الى الضرر بجعل حكم موجب له ، أو يراد التسبيب الى عدم نفي الاضرار الذي ينتج النهي عنه ، ولامعين لشيء منهما في نفس الفقرة.

____________
= في المسجد) ولا علم إلا مانفع ) و(لا سفر إلا برفيق ) و(لا كلام إلآ ما افاد وان أمكن ارجاع الثلائة إلى جهة واحدة .
(1) رسالة (لا ضرر) ص 42

(154)
وبعبارة اخرى ان كلا المعنيين يشتركان في كون حمل الفقرة عليهما بحاجة الى تجوز وعناية فالاول بحاجة الى التجوز بارادة نفي السبب - وهو الحكم الضرري - من نفي المسبب - وهو الضرر كما ان الثاني بحاجة الى التجوز في ارادة النهي الذي هوسنخ معنى إنشائي من النفي الذي هومعنى خبري . فليس ادعاء ظهور الفقرة بذاتها في احد الاحتمالين بأولى من ادعاء ظهوره في الأخربل لا قضاء لذات الفقرة بعدعدم ارادة مدلولها الاستعمالي لشيء من المعنيين .
ولكن التحقيق : عدم ورود هذا الايراد على ما ادعاه الشيخ من ظهورها في نفي الحكم الضرري لما اوضحناه من ان طبيعة معنى الضرر - حيث انه معنى اسم مصدري -يجعل الفقرة ظاهرة في هذا المعنى ، لأنه يمثل معنى مرغوبا عنه لايتحمله أحد الا بتوهم تسبيب شرعي ، ومفاد النفي في مثل ذلك نفي التسبيب المتوهم ، فيكون ذلك قرينة داخلية على التجوز المذكور .
(نعم ) هذا الايراد يرد على القول بظهور الفقرة في النهي عن الاضرار مع عدم وجود قرينة عليه منها، بل ما ذكرناه قرينة على خلافه ، فان ارادة النهي لا يناسب مع نوع الموضوع المنفي لعدم وجود علاقة بين نفي الضرر والنهي عن الاضرار شرعا .
واما الجهة الثانية : وهي مدى تناسب معاني نظائر الفقرة مع ذلك التفسير ، فالبحث تارة في وجود مماثل لهذه الفقرة بنفس هذا المعنى .
(واخرى) في وجود مماثل لها بخلاف هذا المعنى كمعنى النهي مثلا.
اما الأول : فقد جاء في رسالة لا ضرر للشيخ تنظيرذلك بقوله (لا
(155)
حرج في الدين )(1) وذكرت هذه الجملة تنظيرا في كلام السيد الأستاذ ايضا(2) لكنا لم نطلع على مصدر لها، والذي يوجد في القران الكريم هو قوله تعالى ( إما جعل عليكم في اللهين من حرج ) (3) وقوله ( إما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ) (4) وهما ليستا بنفس سياق الحديث ، فانهماكالصريح في نفي الحكم الحرجي حيث لا يحتمل فيهما ارادة النهي عن الاحراج كما هو ظاهر .
واما الثاني : فقد ذكر هذا القائل في كلام اخر له بعد ان ساق موارد كثيرة من استعمالات (لا) النافية للجنس من الكتاب والسنة : (ان نظائر هذه الفقرة فيهما وفي استعمالات الفصحاء قد اريد بها النهي )(5). وسيأتي نقل كلامه ونقده تفصيلأ في البحث عن مسلك النهي .
ونقتصر هنا على القول بأن في اعتبار تركيب آخر نظيرا لهذه الفقرة ينبغي عدم الاقتصار على ملاحظة تماثله معها في تركيب (لا) النافية للجنس ، لأن التماثل بهذا المقدار تماثل شكلي محض ، وعدم وجود المماثل للفقرة شكلا وبهذا المعنى لا يكون نقطة ضعف في تفسيرها بذلك ، لأن الاختلاف بينهما في المعنى ينشأ حينئذ عن اختلاف الخصوصيات المؤثرة في ترسيم محتوى الكلام ، فلا يقاس بعضها حينئذ ببعض.
بل ينبغي في مقام التنظير اعتبار توفر الخصوصيات الموجودة في هذه الفقرة فيما يدعى نظيرا لها، بان يكون المنفي ماهية لا رغبة اليها لذاتها،
____________
(1) المكاسب للشيخ : 372 .
(2) لاحظ الدراسات ص 326 فانه قال (كما في قضية لا حرج في اللهين ) .
(3) الحج 2 2 | 78 .
(4) المائدة 5 | 6 .
(5) رسالة لا ضرر للعلامة شيخ الشريعة ص 37- 39 .

(156)
إلا بتصور تسبيب شرعي اليه كـ (لا حرج في الدين ) لأن هذه الجهة مؤثرة في تشكيل محتوى الكلام باعتبار تفاعل الكلام مع الحالة النفسية والذهنية للمخاطب .
فإذا اعتبر هذا المقياس في التماثل ، يعلم ان شيئا من الموارد الكثيرة التي ذكرها هذا القائل ممايماثل هذه الفقرة، انما تشترك معها في العنصر الشكلي فحسب حيث استخدمت في جميعها صيغة النفي .