واما الجهة الثالثة : - وهي مدى تناسب مواردها في الروايات مع هذا التفسير-: فلا بد في تحقيقها من استعراض المهم منها:
1 - أما قضية سمرة فما ذكر من مناسبتها مع التحريم وجدانا محل تأمل ، وتوضيح ذلك : ان سمرة كان يرى دخوله في دار الانصاري عملا سائغا له باعتبار حقه في الاستطراق الى نخلته ، فان حق الاستطراق عرفا يترتب عليه جواز الدخول مطلقا - في كل زمان وحال - لا خصوص الدخول بالاستئذان ، فان اناطة الدخول بالاستئذان يناسب عدم الحق رأسا، وقد احتج بذلك سمرة في حديثه مع الانصاري ومع النبي صلى الله عليه وآله ، ففي رواية ابن بكير بعد ذكر طلب الأنصاري من سمرة ان يستاذن اذا جاء (فقال : لا أفعل ، هو مالي أدخل عليه ولا استاذن ، فاتى الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وآله فشكى اليه وأخبره فبعث الى سمرة فجاء، فقال له استاذن ، فابى وقال له مثل ما قال للأنصاري ) ، وفي رواية ابن مسكان ، بعد ذلك : (فقال : لا استاذن في طريقي وهو طريقي الى عذقي ،فقال : فشكا الأنصاري الى رسول الله صلى الله عليه وآله فارسل اليه رسول الله صلى الله عليه وآله فاتاه فقال : فلان قد شكأك وزعم انك تمر عليه وعلى اهله بغير اذنه فاستاذن عليه اذا اردت ان تدخل فقال : يا رسول الله استاذن في طريقي الى عذقي ؟) .

(157)
وعلى هذا فلو كان المراد بالحديث مجرد النهي التكليفي لبقي استدلال سمرة بلا جواب ، لانه يتمسك بحقه في الاستطراق و(لا ضرر) يقول (لا تضر بالانصاري ) ومن المعلوم ان النهي التكليفي عن ذلك ليس الا اعمال سلطة، وليس جوابا عن وجه تفكيك الجواز المطلق عن حق الأستطراق .
وهذا بخلاف ما لو اريد به نفي التسبيب الى الضرر بجعل حكم ضرري ، فانه يرجع الى الجواب عن هذا الاستدلال بان الاسلام لم يمض الأحكام العرفية متى استوجبت تفويت حق الآخرين والاضرار بهم ، فلا يترتب على حق الاستطراق جواز الدخول مطلقأ ولا يثبت حق الاستطراق مطلقا بل ذلك مقيد بعدم كون الدخول ضررأ على الانصاري في حقه - من التعيش الحر في داره -.
وبذلك يظهر ان (لا ضرر) على هذا التفسير اكثر تناسبا وأوثق ارتباطا بقضية سمرة منه على تفسيره بالنهي عن الاضرار.
2 - وأما قضية الشفعة فلا شهادة فيها لأحد المعنيين ، لا لما ذكره هذا القائل من عدم ثبوت تذييلها بـ (لا ضرر) اصلا، وإنما الجمع بينهما من قبل الراوي ، فانه غير تام كما سبق في الفصل الأول ، وانما بملاحظة ما تقدم هناك من أن (لا ضرر) فيها انما هوحكمة للتشريع فلا يرتبط بما هومبحوث عنه من كونه بنفسه حكما كليا.
وعلى اي تقدير فلا يتم ما ذكره هذا القائل من انه لا مساغ فيها الا للنهي التكليفي .
3 - وأما قضية منع فضل الماء فهي تناسب التفسير المذكور، لما ذكرناه في الفصل الأول من انه لا يبعد ثبوت حق الشرب من الماء للآخرين سواء كان مباحا أو مملوكا، فيمكن تطبيق (لا ضرر) فيها بعناية نفي جواز منع
(158)
الأخرين من الاستفادة من فضل الماء لانه ضرر بهم وتنقيص لحقهم وحاصله (أن حق الحائزين على الماء ليس مطلقا شاملا لجواز منع الأخرين منه ).
وربما يشكل فيها ايضا - كقضية الشفعة - بعدم ثبوت (لا ضرر) ذيلا لها وقد سبق مناقشة ذلك .
4 -واما حديث هدم الحائط : فلا يتعين كون (لا ضرر ولا ضرار) فيها تعليلا لحرمة ترك الحائط بعد هدمه ، بل يمكن أن يكون بلحاظ وجود حق للجار في المورد، بحيث يكون جواز هدم الجدار حكما ضرريا بالنسبة الى الجار بملاحظة منافاته مع حقه فيرتفع بـ (لا ضرر) .
فظهر: ان ما ذكر من عدم تناسب (لا ضرر) بهذا التفسير مع موارد تطبيقه في الروايات ليس بتام بل هو بهذا التفسيرأنسب ببعضها منه بتفسيره بالنهي - كما في قضية سمرة -.
واما الجهة الرابعة : - وهي مدى ذهاب العلماء الى هذا الرأي في تفسير الحديث -فالمقصود بالعلماء اما علماء اللغة أو الفقهاء .
اما علماء اللنة : فقد ذكرهذا القائل اتفاقهم على تفسير الفقرة بالنهي ذاكرا في ذلك بعض كلماتهم وسياتي مناقشة ذلك ، وتقييم آراء اللغويين في مثل هذا الموضوع مما يتعلق بالفقه والتشريع الإسلامي في تحقيق مسلك النهي ، حيث اعتبر هذه الجهة مؤيدة لهذا المسلك .
واما الفقهاء : فالظاهر أن اكثر فقهاء الفريقين قد فهموا من الحديث نفي الحكم الضرري كما ذكر الشيخ .
اما علماء العامة : فيكفي في تصديق ذلك عنهم ملاحظة ما نقله السيوطي في تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك عن ابي داود: من انه قال
(159)
(ان الفقه يدور على خمسة احاديث هذا احدها)(1) فإنه يبتني على تفسيره بهذا الوجه ، لانه حينئذ يكون محددا عاما للادلة الدالة على الأحكام الأولية في مختلف الأبواب وليس كذلك على تفسيره بالنهي ، كما أن تعبيره بأن الفقه يدور . . قد يدل على ان ذلك هو الرأي السائد لدى فقهائهم .
ويؤكد ذلك ما ذكره السيوطي في كتاب الأشباه والنظائر حيث قال : (اعلم أن هذه القاعدة ينبني عليها كثير من ابواب الفقه ، ومن ذلك الرد بالعيب وجميع انواع الخيار من اختلاف الوصف المشروط والتعزير وافلاس المشتري وغير ذلك والحجر بأنواعه والشفعة لانها شرعت لدفع ضرر القسمة والقصاص والحدود والكفارات وضمان المتلف والقسمة ونصب الأئمة والقضاة ودفع العائل وقتال المشركين والبغاة وفسخ النكاح بالعيوب أو الإعسمار أو غير ذلك ) .
ثم قال : (ويتعلق بهذه القاعدة قواعد : الاولى : الضرورات تبيح المحظورات بشرط عدم نقصانها عنها .
ومن ثم جاز أكل الميتة عند المخمصة واساغة اللقمة بالخمر والتلفظ بكلمة الكفر للإكراه وكذا اتلاف المال . . . الخ )(2).
فان الاستدلال بها لكثير من هذه المواضع متفرع على تفسيرها بنفي الحكم الضرري كما هو واضح .
واما علماء الخاصة : فيكفي في معرفة موقفهم ملاحظة ما ذكره صاحب العناوين فيها في ذكر المقامات التي استندوا فيها الى هذه القاعدة قال : (ويندرج تحته لزوم دية الترس المقتول على المجاهدين وسقوط النهي عن المنكر واقامة الحدود مع عدم الأمن ، وعدم الإجبار على القسمة مع عدم
____________
(1) 2 |122 .
(2) الاشباه والنظائر ط مصر دار احياء الكتب العربية ص 92 - 93 .

(160)
تحقق الضرر، وعدم لزوم اداء الشهادة كذلك وحرمة السحر والغش والتدليس ، ومشروعية التقاص وجواز بيع ام الولد في مواقع التسعير على المحتكر إن أجحف ، وحرمة الاحتكار مع حاجة الناس وتفريق الأم عن الولد وجواز قلع البائع زرع المشتري بعد المدة وتخير المسلم في الفسخ مع انقطاع المسلم فيه عند الحلول وتخير الرابح عند الكذب والخديعة، وفي خيار التأخير وما يفسد ليومه والرؤية والغبن وعدم سقوط خيار الغبن بالخروج عن الملك وخيار العيب والتدليس . . . )(1) الى آخرما ذكره مما يطول نقله .
وكثير من هذه المواضيع ايضا يتفرع على التفسير المذكور كما هو واضح .
البحث الثاني : في استعراض المسالك الاخرى في تفسير الحديث .
ويلاحظ : أن هذه المسالك غالباً فسرت (لا ضرر) و(لاضرار) بمعنى واحد ولم تفرق بين الجملتين من حيث المعنى التركيبي -كما تقذم - وإن كان محل العناية والأهمية في الجملة الأولى كما ذكر الشيخ الأنصاري (قده ) في رسالة (لا ضرر) بعد البحث في معنى الضرار: (فالتباس الفرق بين الضرر والضرار لا يخل بما هو المقصود من الاستدلال بنفي الضرر في المسائل الشرعية)(2) .
وهي مسالك خمسة :
المسلك الأول : تفسير (لا ضرر) بنفي الحكم الضرري وذلك بتقريب ذكره المحقق النائيني ، وتبعه عليه غير واحد(3) وهوأن الضرر المنفي
____________
(1) العناوبن : 96 .
(2) ص 418 (طبعت مع كتبه الفقهية سنة 1312 هـ ).
(3) المكاسب (رسالة في قاعدة نفي الضرر: 372) .

(161)
في الحديث عنوان ثانوي متولد من الحكم ، ونسبته اليه نسبة السبب التوليدي الى مسببه ، كالقتل الى قطع الرقبة والاحراق الى الإلقاء في النار والايلام الى الضرب ونحو ذلك .
واطلاق العناوين التوليدية على اسبابها شائع متعارف لا يحتاج الى أية عناية فيكون مجازا والمقام من هذا القبيل ، فيكون المراد من نفي الضرر نفي سببه المتحد معه وهو الحكم ، والفرق بين هذا المسلك ومسلكنا أننا نرى أن المنفي هو التسبيب للضرر ولازمه نفي الحكم الضرري بينما هذا المسلك يرى أن المنفي مباشرة هو الحكم الضرري .
(ان قيل ): انه يعتبر في العنوان التوليدي عدم تخلل ارادة من فاعل مختار بينه وبين السبب كعدم تخللها بين الإلقاء والاحراق ، والمقام ليس من هذا القبيل في مثل ايجاد الوضوء والحج الضرريين ، لأن الحكم فعل للشارع والضرر انما يترتب على امتثال العبد بارادته واختياره ، فكيف يحمل الضرر على الحكم .
(قيل ):إن ارادة العبد في عين كونها اختيارية مقهورة لارادة الله سبحانه ، لان العبد ملزم عقلا ومجبور شرعا بالامتثال ، فالعلة التامة لوقوع المتوضئ أو الشريك أو الجار في الضرر هي الجعل الشرعي .
ولكن هذا التقريب ضيف :
أولا : لان الإشكال المطروح لا واقع له ، فان المقام ليس من قبيل الأسباب والمسببات التوليدية ، ومجرد كون ارادة العبد مقهورة لارادة المولى لا يجعله من قبيلها موضوعا ولا يلحقه بها حكما، مضافا الى أن ذلك انما يتأتى في ارادة العبد المطيع دون العاصي كما اعترف به ومن المعلوم أن الاحكام لا تختص بالمطيعين دون العصاة .
وثانياً: ان الضرر المترتب على العمل لا يترتب عليه دائماً مباشرة،
(162)
بل قد يكون العمل مجرد معد للضرر كما لوكان الوضوء مما يوجب استعداد المزاج لمرض ما . وحينئنن لا يمكن اتصاف الحكم بانه ضرر بلحاظ توليده للعمل المضر.
وثالثا : إن العنوان التوليدي إنما ينطبق على سببه بالمعنى المصدري المتضمن للنسبة الصدورية لا بالمعنى الاسم المصدري ونحوه مما لا يتضمن نسبة صدورية ولذا لا يقال على الالقاء انه احتراق ولكن يقال إنه احراق ، لأن الاحراق يتضمن نسبة صدورية دون الاحتراق ، وعلى هذا فما ينطبق على الحكم هو عنوان الاضرار والضرار لا عنوان (الضرر) لأنه معنى اسم مصدري على ما سبق .
ورابعا : ان هذا المقدار ليس إلا تصويراً لتفسير الحديث بنفي الحكم الضرري وذلك لا يقتضي تعينه بعد عدم انحصار ما يحتمل معنى للحديث بهذا التصوير.
المسلك الثاني : أن يكون المراد بالحديث النهي عن الضرر والا ضرا ر .
وهذا المسلك هو العمدة في تفسير الحديث في مقابل تفسيره بنفي الحكم الضرري ، وقد ذهب اليه جمع من اللغويين ونقل عن بعض فقهاء العامة . وقد اختاره من المتاخرين جماعة منهم صاحب العناوين والعلامة شيخ الشريعة .
وعلى هذا المسلك يكون مفاد (لا ضرر) متحدا مع مفاد (لا ضرار) - بعد الاعتراف بوحدة معنى المادة فيهما على ما تقدم تحقيقه - فيكون التكرار لمجرد التاكيد كما نقل عن بعض اللغويين على مامر.
وربما قال جمع منهم بالتفرقة بينهما تخلصا عن التكراربوجوه ضعيفة سبق التعرض لها ولنقدها.

(163)
وينحل هذا المسلك في نفسه الى عدة وجوه ، لأن النهي الذي يتضمنه الحديث تارة يجعل نهيأ تحريميا أوليأ ، واخرى يقال إنه نهي تحريمي سلطاني وثالثة يدعى أنه جامع بين النهي التكليفي والإرشادي .
ونحن نتعرض لتحقيق أصل هذا المسلك وفق الوجه الاول من هذه الوجوه لانه اقواها وأرجحها ، ثم نتعرض للوجهين الآخرين عقيب ذلك ، وان كانت جملة من الأبحاث الآتية في هذا الصدد مما يتعلق بأصل هذا المسلك فتنطبق على جميع الوجوه .
ولتحقيق هذا المسلك لابد من البحث :
أولا : في تصويره .
وثانياً : فيما ذكر ترجيحا له واثباتا لتعينه .
وثالثاً : فيما يرد على هذا المسلك أو اورد عليه .
ورابعاً: في الوجهين الأخيرين مما قيل بناءً عليه .
فهنا ابحاث اربعة :
البحث الأول : في تصوير هذا المبنى . وهو يتوقف على توضيح امرين :
الأول : كيفية ارادة النهي من هذا التركيب .
لا اشكال في ان مفاد (لا) في الحديث هو النفي فيكون معنى الحديث استعمالا الإخبار عن نفي الضرر والضرار على ما هو المنساق منه ، وانما اريد النهي - على تقديره - في مرحلة الإرادة تجوزا .
والجهة المصححة لهذا الاستعمال هي التناسب الموجود بين نفي الطبيعة وبين التسبيب الى انتفائها باعتبارها فعلا محرما .
واما العناية الموجبة لهذا التجوز فهى اظهار المبالغة في الزجر عن الشيء حتى كأن الفعل لا يوجد خارجا أصلا، كما تستعمل صيغة الاثبات
(164)
في البعث الى الشيء بمثل هذه العناية وقد ذكرفي علم المعاني أنه قد يقع الخبر موقع الانشاء لاظهار الحرص في وقوع الفعل حتى يخيل اليه حاصلا وقد اوضحنا القول في ذلك بتفصيل في بحث استعمال الجملة الخبرية في مقام الطلب من علم الاصول .
الثاني : في ثبوت استعمال هذا التركيب في النهي .
لا إشكال في ثبوت استعمال الجملة الخبرية باقسامها في غير مورد الانشاء الطلبي والزجري سواء كانت جملة اسمية كـ (هي طالق ) أوجملة فعلية بالفعل الماضي كـ (بعت ) و(اشتريت ) أو بالفعل المضارع نحو (إني أريد أن انكحك ) .
لكن الامر ليس كذلك في مورد الإنشاء الطلبي والزجري على ما يشهد به موارد الاستعمالات فلم يثبت استعمالها في مورد إنشاء هذين المعنيين ، اذا كانت الجملة اسمية من قبيل (زيد قائم ) أو (زيد ليس بقائم ) بان يراد بالأول بعثه الى القيام وبالثاني زجره عنه وإن كان الاستعمال صحيحا ممكنا كأن يقول الولد لولده (أنا مسافر غداً وأنت معي ) ومراده طلب السفر معه .
واما في مورد الفعل الماضي فربما قيل انه لم يثبت أو لا يصح ايضا كما عن السيد الأستاذ(قده )(1).
لكنه ليس بواضح فانه يشيع استعماله في الدعاء كـ (رحمك الله وأعزك ) كما يستعمل في معنى الأمر اذا كان جزاء كـ (اذا استيقن انه زاد في صلاته ركعة اعاد صلاته ) وربما استعمل فيه ابتداءً كقوله عليه السلام (أجزء امرؤ قرنه آسى أخاه بنفسه )(2) .

____________
(1) المحاضرات ج 2 ص 137 .
(2) نهج البلاغة (في حث اصحابه على القتال : 180 - 181).

(165)
واما في مورد الفعل المضارع فلا اشكال في ثبوت استعمالها في البعث والزجر كما هو شائع كـ (يعيد صلاته ) أو(لا يعيد صلاته ) على ما هو واضح .
(واما تركيب لا النافية): -وهومورد البحث هنا-فربما يشكل ذلك كما ذكر المحقق الخراساني (ان ارادة النهي من النفي وان كان غير عزيز الا انه لم يعهد في مثل هذا التركيب )(1) ورد عليه العلآمة شيخ الشريعة بشيوع هذا المعنى في التركيب وذكر جملة كثيرة من الأمثلة ادعى فيها انها تعني النهي (2).
والحق ان القولين لا يخلوان عن افراط وتفريط ،اما الأول فلمعهودية ارادة النهي من النفي كما في قوله تعالى ( لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) (3) وغير ذلك من الاستعمالات .
واما الثاني : فلأن شيوع هذا المعنى في التركيب المزبور بالمستوى الذي يمثله ذكر تلك الامثلة غير ثابت فان جملة منها ليست بهذا المعنى كما ياتي تفصيله في التعرض لما ذكرفى ترجيح هذا المسلك .
لكن يكفي في ما هو الغرض في المقام (من تصوير هذا المسلك ) اصل ثبوت استعمال هذا التركيب في هذا المعنى .
وعلى ضوء هذا يتضح تمامية هذا المسلك تصويرا .
البحث الثاني : في تعيين هذا المسلك وترجيحه .
ويستفاد من كلام العلامة شيخ الشريعة في هذا الصدد وجوه :
____________
(1) كفاية الاصول : 382 .
(2) رسالة لا ضرر له : 37- 39 .
(3) البقرة 2 : 197 .

(166)
الوجه الأول : ما يظهر من مجموع كلامه (1) من تعين ارادة النهي في الحديث نظرا الى شيوع ارادته من هذا التركيب في مثل هذا الموضوع دون غيره من المعاني التي يصح ان تراد بهذا التركيب .
وهذا ينحل الى عقدين سلبي وايجابي .
اما العقد السلبي : وهوعدم شيوع غيره ، فلأن في قبال احتمال النهي وجهين :
احدهما : نفي المسبب وارادة نفي السبب كما هومبنى تفسيره بنفي الحكم الضرري .
والثاني : نفي الحكم بلسان نفي موضوعه .
والأول غيرمعهود في هذا التركيب أصلا. والثاني معهود لكن فيما لا يماثل المقام موضوعاً وهوما اذا ثبت حكم لموضوع عام واريد نفيه عن بعض اصنافه كـ (لا سهو في سهو) ومن الواضح ان المقام ليس من هذا القبيل ، اذ لم يجعل لنفس الضررحكم يراد نفيه عن بعض اصنافه ، واما نفي حكم موضوع آخر عنه فارادته تحتاج الى قرينة واضحة وهي منتفية في مقامنا .
واما العقد الإيجابي : - وهو شيوع ارادة النهي من هذا التركيب - فقد ذكر له امثلة من الكتاب والسنة وقال بعدها (ولو ذهبنا لنستقصي ما وقع من نظائرها في الروايات واستعمالات الفصحاء - نظما ونثرا - لطال المقال وأدى الى الملل وفيما ذكرنا كفاية في اثبات شيوع هذا المعنى في هذا التركيب ، اعني تركيب (لا) التي لنفي الجنس (2).

____________
(1) يظهر ذلك بملاحظة ما ذكره أول الفصل الثامن من شيوع ارادة النهي وما ذكره بعد ذلك ص 37 - 40 حول سائر الاحتمالات .
(2) رسالة لا ضرر للعلامة شيخ الشريعة ص 37- 39.

(167)
والامثلة التي ذكرها هي كما يلي :
1- قوله تعالى : ( لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) (1).
2 - وقوله تعالى :( فان لك في الحياة أن تقول لا مساس ) (2) في مجمع البيان : معنى (لا مساس ) أي لا يمس بعضنا بعضا(3).
3 - ومثل قوله صلى الله عليه وآله :(لاجلب ولاجنب ولا شغارفي الا سلام ) .
4 - وقوله صلى الله عليه وآله :(لا جلب ولا جنب ولا اعتراض ).
5 - وقوله صلى الله عليه وآله :(لا خصى في الاسلام ولا بنيان كنيسة).
6 - وقوله صلى الله عليه وآله :(لا حمى في الاسلام ولا مناجشة) .
7 - وقوله صلى الله عليه وآله :(لا حمى في الاراك ).
8 - وقوله صلى الله عليه وآله : (لا حمى الا حمى الله ورسوله ) .
9 - وقوله صلى الله عليه وآله :(لا سبق الا في خف أوحافرأو نصل ) .
10 - وقوله صلى الله عليه واله :(لا صمات يوم الى الليل ).
11 - وقوله صلى الله عليه وآله : (لا صرورة في الاسلام ) .
12 - وقوله صلى الله عليه وآله :(لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) .
13 - وقوله صلى الله عليه وآله :(لا هجر بين المسلمين فوق ثلاثة ايام ) .
14 - وقوله صلى الله عليه وآله :(لا غش بين المسلمين ).

____________
(1) لبقرة 2 : 197 ،
(2) طه 20 : 97 .
(2) ط جديد ج 4 ص 28 .

(168)
ويرد على هذا الوجه :
أولا: ما تقدم من ان شيوع ارادة النهي من هذا التركيب لا يؤثر في تقوية هذا الاحتمال وتضعيف سائر الاحتمالات بمجرد التماثل التركيبي بين المقام وبين الموارد الاخرى، مع اختلافها في ملابسات وخصوصيات موءثرة في تغيير المعنى ، بل لا بد من احراز اتحادها في ذلك . وجملة (لا ضرر) لا تشترك مع الامثلة المضروبة في هذه الجهة لان طبيعة الموضوع المنفي فيها امرمرغوب عنه مما يجعل الانسان لا يتحمله الا بتصورتسبيب شرعي فالنفي الوارد في هذا السياق النفسي يهدف بالطبع إلى ابطال التصور المذكور، ونفي التسبيب الشرعي الى ذلك ، وليس شيء من هذه الأمثلة من هذا القبيل فانها بين طباثع خارجية مرغوبة لذاتها لانسجامها مع القوى الشهوية والغضبية، وبين طبائع اعتبارية مرغوبة لاثارها القانونية - كما سيتضح مما ياتي - فشيوع ارادة النهي في هذا المجال لا يحسم الموقف لصالح احتمال النهي في الحديث .
وثانيا: ان استعمال هذا التركيب في النهي ليس بشائع بالمستوى المدعى ، إذ جملة من الأمثلة المذكورة انما هي من قبيل نفي الحكم بلسان نفي موضوعه ، اما لتعذر ارادة النهي فيها وان افادت التحريم أو لعدم ظهورها في ذلك .
اما القسم الأول : - وهوما يتعذر ارادة النهي منها - فهوما اقترن بكلمة (في الاسلام ) فان وجود هذه الكلمة يقتضي كون نفي الماهية بلحاظ عالم التشريع أي عدم وقوعه موضوعا للحكم لا نفيها خارجا بداعي الزجر عن ايجادها .
ففي هذا القسم حتى، لو اريد التحريم -كما في (لا خصى في الإسلام ) مثلا - فانما يكون ذلك على سبيل نفي الحكم (اي الجواز) بلسان نفي
(169)
موضوعه لا على ارادة النهي ، وان كان نفي الجواز والنهي يرجعان الى مؤدى واحد، الا انه لا ينبغي الخلط بينهما في مقام التدقيق في انحاء استعماله هذا التركيب كما هو واضح.
واما القسم الثاني : - وهو ما لا يكون ظاهرا في التحريم - فهو الموارد التي كان المنفي فيها ماهية اعتبارية، فان نفي الماهية الاعتبارية ظاهر حسب تناسبات الحكم للموضوع في نفي صحتها-كما تقدم توضيح ذلك في ذكر الضابط العام لتشخيص محتوى صيغ الحكم - فتكون هذه الموارد من قبيل نفي الحكم بلسان نفي موضوعه .
سواء في ذلك ما كان النفي فيه نفيا للماهية خارجا أو في وعاء التشريع .
فمن الأول قوله (لا سبق الا في خف أو حافر أو نصل ) فان المراد بالسبق العقد الخاص فالمقصود بالحديث بطلانه الا في الموارد المستثناة، وثبوت حرمته بدليل آخر لا يقضي باستفادته من هذا الدليل .
ومن الثاني : قوله (لا شغار في الاسلام ) فان الشغار نوع خاص من النكاح كان معروفاً في الجاهلية وقوله (لا حمى في الإسلام ) فان المراد بالحمى اعتبارمرعى ومرتع مختصا بشخص أو قبيلة، فيمنع الغير من الرعي فيه وهذا نوع من الحكم الوضعي الذي يندمج فيه الحكم التحريمي ومرجع نفيه الى الغائه أو اسقاط ما كان يترتب عليه من الأثار في العرف الجاهلي لا تحريمه تحريما مولويا .
ويحتمل ان يكون من هذا القبيل قوله (لا رهبانية في الإسلام ) بناءً على انها التزام وتعهد نفسي بترك الاشتغال بالدنيا وملاذها والعزلة من اهلها والتعمد الى مشاقها، فيكون المراد بنفيها الغاء هذا العهد وعدم استتباعه لوجوب الوفاء فلا يكون في هذا المورد تحريم مولوي .

(170)
وبذلك ظهر أن معنى النهي لا يتجه في الأمثلة المذكورة، إلا فيما لم يقترن بزيادة في الاسلام وكان المتعلق ماهية خارجية يؤلى بها لبعض الدواعي الشهوية والغضبية كـ ( لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) (1) .
الوجه الثاني : تبادر النهي من الحديث وانسباقه الى الذهن .
قال (قده ) (في كلام له عن هذا المسلك ) : (وهو الذي لا تسبق الاذهان الفارغة عن الشبهات العلمية الأ اليه )(2) وقال (وبالجملة : فلا اشكال في أن المتبادر الى الأذهان الخالية من اهل المحاورات قبل ان ترد عليها شبهة التمسك بالحديث في نفي الحكم الوضعي ليس الا النهي التكليفي )(3).
(ويلاحظ عليه ) : انه لا يتجه التمسك بالتبادر في المقام - كما سبق - وذلك لان الشك (تارة) يكون في تشخيص المراد الاستعمالي وضعا أو انصرافا و(أخرى) في تشخيص توافق المراد التفهيمي مع المراد الاستعمالي وعدمه . (وثالثة) في تشخيص المراد التفهيمي المردد بين وجوه بعد العلم بعدم توافقه مع المراد الاستعمالي . والتمسك بالتبادر انما يتجه في المرحلة الأولى لاثبات العلقة الوضعية أو الانصراف . واما في المرحلتين الاخيرتين فلا عبرة بادعاء التبادر بل المناط في المرحلة الثانية وجود القرينة المعينة لهذا المعنى او ذاك بعد وجود القرينة الصارفة عن المراد الاستعمالي .
ومن المعلوم ان حمل الحديث على النهي ليس تحديدا لمدلوله الاستعمالي وانما هو اقتراح في المراد التفهيمي بعد الاعتراف بتخالفه مع المراد الاستعمالي .
فلا بد اذن من ملاحظة الجهات المحيطة بهذا الحديث لملاحظة مدى توفر القرينة على أحد الوجوه المقترحة في تحديد المراد التفهيمي وقد
____________
(1) البقرة 2 : 197 .
(2 و 3) رسالة لا ضرر: 40 - 41 (الفصل الثامن ) .

(171)
عرفت مقتضاها في كل من الجملتين .
الوجه الثالث : ما ذكره بعد ذلك بقوله (مضافا الى ما عرفت من ان الثابت من صدور هذا الحديث الشريف انما هوما كان في قضية سمرة بن جندب وأنه ثبت فيها (لا ضرر ولا ضرار على مؤمن ) ولا شك ان اللفظ بهذه الزيادة ظاهر في النهي(1) .
(ويلاحظ عليه ) أولاً : ان هذه الزيادة لم ترد الا في مرسلة ابن مسكان عن زرارة وهي ليست بحجة وعلى تقدير حجيتها فان موثقة ابن بكير- التي تنقل نفس القضية عن زرارة دون تلك الزيادة- مقدمة عليها على ما مر تحقيقه في البحث عن متن الحديث في الفصل الأول .
وثانيا : انه على تقدير ثبوت هذه الزيادة فانا لا نسلم منافاته مع ارادة نفي التسبيب الى الحكم الضرري اذ يمكن نفي ذلك بالنسبة الى المؤمن .
الوجه الرابع : ما ذكره بقوله (على ان قوله صلى الله عليه وآله لسمرة انك رجل مضار ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن -كما في رواية ابن مسكان عن زرارة - انما هو بمنزلة صغرى وكبرى،فلو اريد التحريم كان معناه انك رجل مضار والمضارة حرام وهو المناسب لتلك الصغرى، لكن لو اريد غيره مما يقولون صار معناه انك رجل مضار والحكم الموجب للضرر منفي أو الحكم المجعول منفي في صورة الضرر، ولا اظن بالاذهان المستقيمة ارتضاءه )(2).
ويرد عليه أولا : ان القول المذكور لم يتضمنه الا رواية ابن مسكان . وقد سبق عدم اعتبارها في الفصل الأول .

____________
(1) نفس المصدر ص ا 4 .
(2) رسالة لا ضرر للعلامة شيخ الشريعة : 41 - 42 .

(172)
وثانيا : ان مقتضى ما ذكره استفادة التحريم من (لا ضرار) - لا من (لا ضرر) ولا منهما جميعا - لأن المستعمل في التطبيق هووصف باب المفاعلة - وهو مضار- وعليه فلا مانع من ان يراد بـ (لا ضرار) نفي التسبيب الى الضرر بنفي الحكم الضرري ويراد ب (لا ضرالهم الحرمة التكليفية فتتناسب الصغرى مع الكبرى .
الوجه الخامس : اتفاق اهل اللغة على فهم معنى النهي من الحديث .
قال (قده ) (في كلام له ) : (ولنذكر بعض كلمات ائمة اللغة ومهرة أهل اللسان تراهم متفقين على ارادة النهي لا يرتابون فيه ولا يحتملون غيره ، ففي النهاية الاثيرية: قوله (لا ضرر) اي لا يضر الرجل اخاه فينقصه شيء من حقه ، والضرار فعال من الضر اي لا يجازيه على اضراره بادخال (الضرر عليه ) . وفي لسان العرب -وهوكتاب جليل في اللغة في عشرين مجلداً(1)- معنى قوله (لا ضرر) لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئا من حقه . و(لا ضرر) أي لا يجازيه على اضراره بادخال (الضرر عليه ) . وفي تاج العروس مثل هذا بعينه ، وكذا الطريحي في المجمع )(2).
وفي هذا الوجه ملاحظتان :
الأولى :
في مدى اصالة هذه المصادر الخمسة في ذكر هذا الرأي ومدى التزام مؤلفيها به .
1 - واما النهاية لابن الاثير (ت 606 هـ ) فقد تقدم انها في جزء مهم
____________
(1) قد طبع الكتاب أولا في عشرين مجلدا وعليه جرى هذا القائل وقد طبع ثانياً في بيروت في خمسة وعشرين مجلدا وقد جاء قي مقدمة هذه الطبعة 1 | 6 انه ثلائون مجلداً كما جاء في مقدمة تاج العروس انه سبعة وعسرون مجلداً. منه .
(2) لسان العرب 4 | 482، مجمع البحرين 3 | 173، تاج العروس 3 | 248 ، النهاية لابن الأثير 3| 81 ، رسالة لا ضرر لشيخ الشريعة : 43.

(173)
منها تجميع لكتاب غريبي الحديث والقرآن لابي عبيد احمد بن محمد الهروي المتوفى سنة (401 هـ ) وكتاب الغيث في تهذيب القرآن والحديث للحافظ ابي موسى محمد الاصفهاني (ت 581هـ ) وقد جعل لكل منهما علامة . وقد جعل هنا علامة الأول مما يعني انه نقله عن كتاب الهروي وليس من كلامه هو.
2‌ـ (واما لسان العرب لابن منظور ت 711 هـ‌) فهو وان كان كتابا جامعأ الا انه ليس الا تجميعا لعددة كتب لغوية وهي تهذيب اللغة للازهري (ت‌370‌هـ)‌والصحاح للجوهري (ت 393 هـ ) ونقد الصحاح لابن بري والمحكم لابن سيدة الأندلسي والنهاية لابن الاثير.
وقد صرح بذلك مؤلفه في مقدمة كتابه كما صرح بانه ليس مسؤولاً عما في الكتاب (1) وقد اعتبره بعض محققي هذه الكتب كالنهاية كتاب اللسان نسخة من نسخها في مرحلة تحقيقها(2)وقد نقل في اللسان عبارتين تتضمنان تفسير
____________
(1) قال في مقدمة لسان العرب 1 |8 ط بيروت (وليس لي في هذا الكتاب فضيلة أمت بها ولا وسيلة اتمسك بها سوى اني جمعت فيه ما تفرق في تلك الكتب من العلوم وبسطت القول فيه ولم اشبع باليسير وطالب العلم منهوم فمن وقف فيه على صواب أوذيل أو صحة أوخلل فعهدته على المصنف الأول وحمده وذمه لأصله الذي عليه المعول لانني نقلت من كل أصل مضمونه ولم ابدل منه شيئا فيقال انما اثمه على الذين يبدلون بل اديت الأمانة في نقل الأصول بالنص وما تصرفت فيه بكلام غير ما فيه من النص فليعتد من ينقل من كتابي هذا انه ينقل عن الأصول الخمسة وليغن عن الاهتداء بنجومها فقد غابت لما طلعت شمسه ) وقد اكد ذلك في اثناء الكتاب ففي 4 | 42 (قال عبدالله محمد بن المكرم : شرطي في هذا الكتاب ان اذكرما قاله مصنفو الكتب الخمسة التي عنيتها في خطبته لكن هذه نكتة لم يسعني اهمالها. قال الهيثمي . . . ) .
(2) لاحظ مقدمة النهاية : 19 قال (ولما كان ابن منظور قد افرغ النهاية في لسان العرب فقد اعتبرنا ما جاء من النهاية في اللسان نسخة وأثبتنا ما بينه وبينها من فروق ).

(174)
الحديث بالنهي :
احداهما : عبارة النهاية لابن الاثير وقد نسبها اليه صريحا .
والثانية : عبارة الأزهري في تهذيب اللغة ولم يصرح باسمه وانما عبر بقوله (قال :وروي عن النبي صلى الله عليه وآله . . . ) والكلام الذي نقله هذا القائل هو جزء من هذه العبارة . فليس ذلك قول لابن منظور نفسه .
3 - واما الدر النثير للسيوطي (ت 911 هـ ) فهو:
أولا : مختصر نهاية ابن الأثير واسمه الكامل (الدر النثير تلخيص نهاية ابن الأثير) وقد اضاف على ذلك اضافات قليلة كما ذكر في مقدمة محقق النهاية(1)وعبارته في المقام نص عبارة ابن الأثير فهو الحقيقة ليس مصدرا آخر.
وثانيا : ان الظاهر ان السيوطي لا يلتزم بان معنى (لا ضرر) هو النهي ، فانه في كتبه الحديثية والفقهية جرى على ما بنى عليه اكثر فقهاء العامة من تفسير الحديث بنفي الحكم الضرري ، ففي كتابه تنوير الحوالك في شرح موطأ مالك نقل عن ابن داود قوله (ان الفقه يدور على خمسة احاديث وهذا احدها)(2) وفي كتابه الأشباه والنظائر(3) ـ وهو مؤلف في القواعد الفقهية - قد فرع عليها فروعا كثيرة لا تنسجم الا مع التفسير المذكور كما تقدم ذكر ذلك .

____________
(1) قال في ص 8 ثم رأى السيوطي ان يفرد زياداته على النهاية وسماها التذييل والتهذيب على نهاية الغريب . ويوجد هذا ا التذييل بآخر نسخة من نسخ النهاية بدار الكتب المصرية وهو في سبع ورقات ) وقد ذكر في ص -19 - 20 ( وقد نظرنا في الدر النثير للسيوطي وسجلنا تحقيقاته وزياداته ومعظمها عن ابن الجوزي ولعله اطلع على غريبه فهو يكثر النقل عنه ) .
(2)المصدر 2|22 .
(3) الاشباه والنظائر 84 - 85 .

(175)
4 - واما تاج العروس للزبيدي : فالظاهر انه اخذ ما ذكره من النهاية اما مباشرة أو بتوسط لسان العرب أو الدر النثير، فانها جميعا من مصادره كما يظهرمن مقدمة كتابه ، وقد اعتمد عليه محقق النهاية في تحقيق نصها-كما ذكره في مقدمتها - وعبارته في المقام عين عبارة النهاية .
مضافا الى ان كلامه قد لا يدل على جزمه بذلك فانه لم يتضمن الا نقل هذا التفسير حيث قال (والاسم الضرر فعل واحد والضرار فعل الاثنين وبه فسر الحديث (لا ضرر ولا ضرار)، اي لا يضر الرجل أخاه فينقصه شيئا من حقه ولا يجازيه على اضراره بادخال الضرر عليه ، وقيل هما بمعنى وتكرارهما للتأكيد) .
5 - واما مجمع البحرين : فهو ايضا ذكر عين عبارة النهايه في المقام وقد صرح في المقدمة بانها من مصادره .
وبذلك يتضح :
اولاً: ان ذكر هذا الرأي في كلمات هؤلاء لم يكن عن التزام به من قبلهم جميعا، بل كان ذكر اكثرهم لذلك على سبيل النقل - ولو احتمالاً- كما في المصادر الأربعة الأولى ، وذلك ان اكثر الكتب اللغوية شأنها تجميع الكلمات والاقوال كالجوامع الحديثية ، ولذا كانوا يذكرون الاسناد اليها في العهد الأول .
وثانيا : ان اصل هذا التفسير ينتهي الى كلامين تقدم ذكرهما في أول هذا الفصل احدهما للازهري في تهذيب اللغة، والثاني للهروي في الغريبين ، وسائر المتأخرين عنهما انما ذكروا نص هذين الكلامين أو احدهما - ولو ملخصا - من دون تصرف زائد في ذلك .
وعلى ضوء ذلك يظهر ان ما ذكرمن نسبة فهم هذا المعنى الى مهرة اللغة لا يخلوعن نظروتأمل .

(176)
والملاحظة الاخرى : ان الاحتجاج بقول أهل اللغة ضعيف لعدم حجية اقوالهم في حد انفسها - على ما اوضحناه في علم الاصول - لا سيما في مثل هذا الموضوع الذي لا يرتبط بتفسير مفرد لغوي ، وانما يرتبط بتشخيص ألمعنى المجازي للكلمة، وخصوصا مع تعارضه مع فهم الفقهاء الذين هم اكثر اطلاعا على المناسبات الدخيلة في تشخيص المراد التفهيمي ، لا سيما في النصوص التشريعية حيت تقدم أن اغلب فقهاء الفريقين فهموا من الحديث نفي مجعولية الحكم الضرري .
الوجه السادس والسابع والثامن : ما نقله (قده ) عن صاحب العناوين من انه قال :
1- (والحق ان سياق الروايات يرشد الى ارادة النهي من ذلك ، وان المراد تحريم الضرر والضرار والمنع عنهما ، وذلك إما بحمل (لا) على معنى النهي ، واما بتقديركلمة (مشروع ومجوزومباح ) في خبره مع بقائه على نفيه ، وعلى التقديرين يفيد المنع والتحريم .
2 - وهذا هو الانسب بملاحظة كون الشارع في مقام الحكم من حيث هو كذلك ، كما في مقام ما يوجد في دين وما لا يوجد، وان كان كل من المعنيين مستلزما للآخر إذ عدم كونه من الدين ايضا معناه منعه فيه ومنعه فيه مستلزم لخروجه عنه .
3 - مضافا الى ان قولنا (الضرر والضرار غير موجود في الدين ) معنى يحتاج تنقيحه الى تكلفات ، فان الضرر مثلا نقص المال أو ما يوجب نقصه ، وذلك ليس من الدين بديهة إذ الدين عبارة عن الاحكام لا الموضوعات ، فيحتاج حينئذ الى جعل المعنى هكذا : ان الحكم الذي فيه ضرر أو ضرار
(177)
ليس من الدين ، وهذا غير متبادر وإن بالغ فيه بعض المعاصرين )(1) .
وهذه الوجوه غير تامة أيضا .
أما الأول : فلمنع إرشاد سياق الروايات الى ارادة النهي من (لا ضرر) لا سيما على المختار من دلالة (لا ضرار) على النهي . كما ان الوجهين المذكورين لتخريج ارادة التحريم ضعيفان وانما الصواب ما تقدم ذكره في تصوير هذا المسلك :
وافا الثاني : فلأن كون الشارع في مقام الحكم والقضاء لا يقابل كونه في مقام بيان تحديد الأحكام الشرعية بعدم الضرر تطبيقا لذلك في المورد كما هوواضح .
واما على الثالث : فلان مبناه ثبوت زيادة (في الإسلام ) ليكون المنفي وجود الضرر في وعاء التشريع ، وأما على تقدير عدم ثبوتها -كما هو الصحيح - فان المنفي حينئذ يكون وجود الضرر في الخارج ، وهو غير مراد تفهيما على كل تقدير سواء فسر بالنهي أو بنفي الحكم الضرري ، لكن مصححه على الأول التسبيب الى عدم الإضرار وعلى الثاني عدم التسبيب الى وقوع الضررولا ترجيح للأول على الثاني بل سبق تعين الثاني .