الوجه التاسع : ما يمكن ان يقال على ضوء ما ذكره في موضع آخر حيث قال : (ان التخصيصات الكثيرة التي يدّعون ورودها على القاعدة ليست كما يقولون ، وأنها مبتنية على ارادة المعنى الذي رجحوه من التعميم للتكليفي والوضعي وللضرر الناشئ من اركان المعاملة وشروطها وما يترتب عليها مما هو خارج عنها(2) فلعل التسليم بورود تلك التخصيصات على
____________
(1) لاحظ رسالة لا ضرر للعلامة شيخ الشريعة - الفصل الثامن - ص 40 للسيد مير فتاح ، العنوان العاشر.
(2) رسالة (لا ضرر) للعلامة شيخ الشريعة - الفصل التاسع - ص 45 .

(178)
الحديث في تفسيره بنفي الحكم الضرري يكون قرينة على بطلان هذا الاحتمال ، فيتعين احتمال النهي ، وبعبارة أخرى لازم تفسير الحديث بنفي الحكم الضرري كثرة التخصيص بخلاف تفسيره بالنهي المولوي عن الاضرار، فهذه قرينة عقلية على بطلان - تفسيره بنفي الحكم الضرري .
لكن هذا الوجه ايضا غير تام لما سيأتي في التنبيه الثاني من تنبيهات القاعدة من عدم ثبوت استلزام ارادة نفي الحكم الضرري لتخصيص الحديث كذلك .
هذه هي الوجوه التي افادها العلأمة شيخ الشريعة (قده ) في ترجيح هذا المسلك ، وقد ظهرعدم نهوض شيء منها على ذلك . وعلى هذا: فهذا المبنى - بعد تمامية تصويره - ليس له معين في حد نفسه في مقابل سائر الوجوه والمعاني التي يصح ارادتها من الحديث .
البحث الثالث : في مناقشة هذا المسلك .
ويظهر ذلك مما سبق في تحقيق معنى الحديث على المختار.
ففيما يتعلق بـ (لا ضرر) قد اوضحنا ان معنى الضرر بما انه معنى اسم مصدري لا يتضمن النسبة الصدورية - فلا تناسب بينه وبين احتمال النهي لانه ماهية مرغوب عنها لا تتحمل الآ بتصور التسبيب الشرعي فيكون نفيه نفيا لذلك بالطبع ، وإنما المناسب مع النهي هو الإضرار والضرار، مع تأيد ذلك بفهم اكثر الفقهاء وأنسبيته مع بعض موارد الحديث كقضية سمرة على ما مر سابقا.
واما فيما يرتبط بـ (لا ضرار) فان افادته للنهي صحيحة ، لكن لا يقتصر مفادها على ذلك لأن مؤداه التسبيب الى عدم الاضرار بالغير، وهذا المعنى كما يقتضي النهي عنه فانه يقتضي تشريع اتخاذ الوسائل الاجرائية لمكافحته على ما سبق ايضا.

(179)
وقد يعترض على هذا المسلك بوجوه اخرى : منها: ما تقدم في اثناء المباحث السابقة وتقدم القول فيها .
ومنها : ما أورده السيد الاستاذ (قده ) من انه لا يمكن الالتزام باحتمال النهي في المقام ، (اما بناءً) على اشتمال الحديث على جملة (في الاسلام ) كما في رواية الفقيه ونهاية ابن الأثير فظاهر، لان هذا القيد كاشف عن ان المراد هو النفي في مقام التشريع لا نفي الوجود الخارجي بداعي الزجر، (واما بناءً) على عديم ثبوت اشتمالها عليها كما هو الصحيح ، فلان حمل النفي على النهي يتوقف على وجود قرينة صارفة عن ظهور الجملة في كونها خبرية، كما هي ثابتة في قوله تعالى : ( لا رفث ولا فسوق )(1) فان العلم بوجود هذه الامور في الخارج مع العلم بعدم جواز الكذب على الله سبحانه وتعالى ، قرينة قطعية على ارادة النهي ، وأما في المقام فلا موجب لرفع اليد عن الظهور وحمل النفي على النهي ، لامكان حمل القضية على ا لخبرية (2) .
وفيما ذكرنظر في كلا الشقين :
اما الشق الأول : فيلاحظ على ما ذكر:
أولا : انه لا وجه لذكره بعد ان كان مبناه ومبنى المعترض عليه جميعا - وهو العلامة شيخ الشريعة - عدم صحة هذه الزيادة فالبحث في الصيغة التي ثبت ورود الحديث بها لا غيرها .
وثانيا : ان وجود هذه الزيادة وان كان يمنع عن جعل المقصود بـ (لا ضرر) نفس النهي عن الاضرار، إلآ انه لا يمنع من استفادة التحريم المولوي
____________
(1) البقرة 2 | 197
(2) لاحظ مصباح الاصول 2 | 526.

(180)
من الحديث على ان يكون من قبيل نفي الحكم بلسان نفي موضوعه استعمالا، ويراد به تفهيما نفي جواز الضرر في الشريعة الاسلامية ومدعى المعترض عليه هو دلالة الحديث على الحرمة سواءاً كانت مراداً استعماليا أم تفهيميا ، كما يظهر من آخر كلامه في المقام (1).
ان قيل : انه يعتبر في نفي شيء في الشريعة المقدسة ثبوت الحكم المنفي للشيء مسبقا كأن يثبت له في الشرائع السابقة كما في قوله عليه السلام (لا رهبانية في الإسلام ) فان الرهبانية كانت مشروعة في الامم السابقة فكان نفيها في الاسلام نفيا لمشروعيتها،والإضرار ليس كذلك (فان حكمه السابق حيث لم يكن اباحة بل كان إما تحريما أوقبيحا على ما يستقل به العقل فارادة نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ينتج ضد المقصود وهونفي الحرمة أو القبح الثابتين سابقا) .
قيل : إن هذا البيان أولا: منتقض بقوله (لا مناجشة في الإسلام ) فانه لا اشكال في ان المراد نفي مشروعيتها مع أنها ايضا قبيحة عقلا. وقد ذكر الشيخ الأنصاري في المكاسب المحرمة بعد ذكر النجش انه يدل على قبحه العقل ، لانه غش وتلبيس واضرار . . . فالنجش اما منحصر بمورد الاضرار كما يظهر من المصباح المنير(2)أو اعم من ذلك ، فكيف يوجه نفي الحكم فيها بلسان نفي موضوعه مع أنه قد ينتج ضد المقصود.
وثانيا : انه يمكن حل ذلك بملاحظة مجموع جهتين :
الأولى : ان نفي الحكم بلسان نفي موضوعه لا يختص بما لو كان
____________
(1) لاحظ مصباح الاصول 2 | 526.
(2) المصباح المنير 2 : 594 .

(181)
الحكم ثابتا للشيء في الشرائع السابقة، بل يكفي ثبوته له عرفا وعادة - كما اعترف به - فان للعرف أيضا قانونا وان لم يكن مدونا، واضافة النفي الى الاسلام يكفي في مصححه ثبوت الحكم في القانون العرفي كما هوواضح .
الثانية : انه لا يبعد القول بان الاضرار في العرف الجاهلي كان مباحا ومجوزا وذلك بملاحظة عملهم الخارجي ، فقد كان يتعارف لديهم المعاملات الضررية كالقمار والربا وغيرهما كما كان من عاداتهم وأد البنات والإغارة والنهب ، وكانت سيرتهم على وفق قانون (الحق للقوة) حيث كان القوي يظلم الضعيف ويغصب حقه ،كما كانوا يضارون النساء كثيراً، ولذلك ورد النهي عن مضارتهن في جملة من الآيات القرآنية كقوله تعالى : ( ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن )(1) كما ورد التنديد بالظالم في كثير منها .
ولا ينافي ذلك حكم العقل بقبح الاضرار فان الأحكام الحاكمة في العرف الجاهلي كان كثير منها على خلاف ما يحكم به العقل ، كما اشير الى ذلك في كثير من الآيات الشريفة في مقام المحاجة معهم ولا يختص ذلك بإباحة الاضرار.
وعلى هذا فيكون المقصود بالحديث أن الجواز الثابت للاضرار في العرف الجاهلي غير ثابت له في الاسلام .
واما الشق الثاني : فيرد على ما ذكر في إبطاله : ان مجرد انحفاظ كون الجملة خبرية على تقدير تفسير الحديث بنفي الحكم الضرري لا يصلح ترجيحا لهذا التفسير، ومبطلا لاحتمال النهي الا اذا لم يكن التفسير المذكور مقتضيا للتجوز في أية جهة اخرى بحيث تتطابق عليه الارادة الاستعمالية والارادة التفهيمية من جميع الجهات ، وإلا لو كان هذا التفسير يقتضي نحو
____________
(1) الطلاق 65 : 6 .

(182)
تجوز آخر في الحديث لكان الوجهان سواءً في مخالفتهما للأصل ، فلا بد من قرينة معينة لأحدهما بعد رجود القرينة الصارفة عن ارادة المعنى الحقيقي وهو نفي الضرر خارجأ .
وقد اتضح مما ذكرناه سابقاً : أن نفي الحكم الضرري معنى مجازي للحديث لان المراد الاستعمالي به هو نفي وجود الطبيعي خارجا، لكنه استعمل بداعي التعبير عن عدم التسبيب التشريعي الى تحقق الضرر، وعليه فلا يرد الاعتراض المذكور.
البحث الرابع : في الوجهين الاخرين في تقرير هذا المسلك .
قد سبق ان ذكرنا ان هذا المسلك ينحل الى وجوه ثلاثة :
اولها واقواها : ان يراد بالحديث النهي التحريمي المولوي . وهذا الوجه هو المنساق من كلام من فسر الحديث بالنهي من غيرتوضيح لنوعه . وانما كان اقوى من الوجهين الاخرين لانه لا يتجه عليه اعتراض زائد عما يرد على اصل هذا المسلك بخلاف هذين الوجهين كما سوف يتضح ذلك .
الوجه الثاني : ان يراد بالنهي ما يعم النهي التحريمي المولوي والنهي الإرشادي .
وقد ذكر ذلك الشيخ الانصارى (قده ) في الرسائل حيث قال بعد ذكر احتمال النهي (ولا بد ان يراد بالنهي زائداً على التحريم الفساد وعدم المضي ، للاستدلال به في كثير من رواياته على الحكم الوضعي دون محض التكليف ، فالنهي هنا نظير الأمر بالوفاء بالشروط والعقود. فكل اضرار بالنفس أو بالغير محرم غير ماض على من أضره ، وهذا المعنى قريب من الأول بل راجع اليه )(1) .

____________
(1) فرائد الاصول 2 |535 ؟ الرسائل ط رحمت الله ص 315 .

(183)
والكلام تارة في تصوير هذا الوجه واخرى في مدى انسجامه مع ظاهر الكلام .
اما من الناحية الأولى : فقد يشكل هذا الوجه من جهة اقتضائه الجمع بين ارادة الحكم المولوي والإرشادي والجمع بين الحكمين يستلزم تعدد المراد التفهيمي بالنفي اي استعمال اللفظ في أكثر من معنى مجازي وهو خلاف الظاهر على الأقل .
ولكن التحقيق عدم اتجاه هذا الاشكال لعدم الحاجة الى قصد معنيين بل يمكن ارادة النهي ، فإن معنى النهي بحقيقته وهو الزجر جامع بينهما ، الا أنه اذا كان محتواه الوعيد على الفعل كان نهيا مولويا تحريميا . واذا كان محتواه الارشاد الى عدم ترتب الأثر المرغوب من الشيء - من الأثر القانوني في موضوعات الأحكام ، أو امتثال الحكم المتعلق بالطبيعة في متعلقاتها - كان ارشاديا ، ولا مانع من اجتماع الأمرين كما في مورد تحريم الربا ، وعليه يمكن ارادة كلتا الحرمتين ، كما يمكن ارادة الحلية التكليفية والوضعية جميعا من الحكم بها في نحو ( أحل الله البيع ) (1).
نعم ، يشكل الوجه المذكور من جهة اخرى وهي الجمع بين ارادة متعلق الحكمين ، وذلك لان الضرر على هذا التقديرلا بد ان يكون ملحوظا باللحاظين الاستقلالي والمرآتي في حال واحد . أما اللحاظ الاستقلالي فباعتبار الحكم التكليفي ، لان النهي التحريمي المولوي انما يتعلق بالإضرار بما هو اضرار. وأما اللحاظ المرآتي فباعتبار الحكم الوضعي لانه لا معنى لفساد الإضرار بذاته وانما يتجه الحكم عليه بالفساد إذا أخذ مرآة لماهية يعقل اتصافها بالفساد .

____________
(1) البقرة 2 :275 .

(184)
والجمع بين اللحاظين وان لم يمتنع عقلا إلا انه خلاف الظاهر جدا لانه يقتضي استعمال اللفظ في معنيين معا، نعم لوكان المنفي ماهية يمكن تعلق التحريم والفساد بها مباشرة احتمل الوجه المذكور معنى للكلام .
واما من الناحية الثانية : فيلاحظ ان هذا الوجه يخالف ظهور الجملة من جهات ، مضافا الى ما سبق فى اصل احتمال النهي .
منها : كون الضرر مرآة لما يكون ضررا لكي يعقل ان يكون متعلقا للحكم الوضعي ، ولا اشكال في مخالفة ذلك للظاهر إذ الظاهر هو تعلق النفي به نفسه .
ومنها : الجمع بين إرادة الضرر بنفسه وجعله مرآة لما ينطبق عليه وهو مخالفة اخرى للظاهر كما تقدم ، ويتفرع على ذلك أنه يكون اسناد التحريم الى الضرر اسنادا مجازياً بلحاظ مرآتيته لما يصدق عليه ، وحقيقيا اخرى باعتبار ملحوظيته ذاتاً .
ومنها: تعميم الحكم للحكم الإرشادي بناءً على ان الأصل في النواهي ان تكون مولوية كما هو المعروف بين الاصوليين فيكون خلاف الأصل .
وهكذا يتضح مدى التكلف الذي يتضمنه هذا التقرير.
الوجه الثالث : ان يكون النهي نهياً سلطانياً كما ذهب اليه بعض الأعاظم (1) . وأوضحه بأن للنبي صلى الله عليه واله شؤونا :
أحدها : تبليغ الأحكام الإلهتة وهو ما يعبر عنه بالنبوة أو الرسالة باعتبار إنبائه صلى الله عليه واله عن احكامه وارساله لذلك . وامره ونهيه فيما يتعلق بهذا الشأن يكون ارشادا الى امر الله ونهيه ، كما أن مخالفتهما تكون
____________
(1) الرساثل للامام الخميني (قده ) : 50وما بعدها .

(185)
مخالفة لله تعالى لا للرسول صلى الله عليه وآله .
وثانيها: الرئاسة العامة بين العباد لكونه ولياً على الأمة من قبل الله تعالى وبهذا الشأن يكون له صلى الله عليه وآله حق الأمر والنهي مستقلا، كتنفيذه جيش أسامة ونحوه . ويكون حكمه في ذلك حكماً سلطانياً تجب طاعته بما انه وال ورئيس كما تجب طاعة احكام الله تعالى ، وقد قال تعالى : ( أطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الأمر منكم مهه ) (1) وجملة من الاحكام الكلية في الشريعة الاسلامية المقدسة تستند الى هذا الشأن .
وثالثها : مقام القضاء بين المتنازعين وذلك بتطبيق الاحكام الكلية في مورد النزاع والحكم على ضوئها، وتجب طاعته في ذلك بما انه قاض لا بما انه وال ورئيس . وحديث (لا ضررولا ضرار) انما يمثل حكما سلطانيا من جهة رئاسته العامة ، فمفاده المنع عن الضر والضرار في حدود حكومته .
وقد استدل على ذلك بعدة أمور:
الأول :
انه قد ورد حكاية هذا الحديث في بعض روايات اهل السنة بلفظ (وقضى صلى الله عليه وآله ان لا ضرر ولا ضرار) كرواية عبادة بن الصامت . ولفظ القضاء - كالحكم - ظاهر في كون المقضي به من احكامه صلى الله عليه وآله ، إما بما هو قاض بين الناس أو بما انه ولي على الأمة لا تبليغا عن الله تعالى ، وبما أن المجعول حكم كلي لا يرتبط بمقام القضاء بين الناس فقط فينحصر ان يكون مصخح اطلاقه هوكون ذلك حكما سلطانيا صدر عنه من جهة ولايته العامة .
الثاني : ان الحديث قد ورد من طرقنا في ذيل قضية (سمرة) وهي لا تنسجم مع كون الحكم المذكور فيها حكما الهيا أو قضائيأ اما الأول فلأنه
____________
(1) النساء 4 : 59 .
(186)
لم يكن الحكم هنا حكما مشتبها في المورد لكي يخبرالنبي صلى الله عليه وآله بان الحكم الضرري منفي في الاسلام أو منهي عنه من قبله تعالى .
وأما الثاني : فلانه لم يكن هناك نزاع بين الرجل الانصاري وبين سمرة في حق أومال . وانما كان مورد الحديث شكاية الأنصاري ظلم سمرة له في الدخول في داره بدون استئذان ووقوعه لذلك في الضيق والمشقة، واستنجاده به صلى الله عليه وآله بما انه ولي على الأمة في رفع هذا الظلم ومنع سمرة من ذلك ، فاستجاب النبي صلى الله عليه وآله لطلب الأنصاري فامر سمرة بالاستئذان أولاً ثم امر بقلع شجرته ثانيا منعا لوقوع الضرر في حوزة حكومته ، وتحكيما للعدل وقمعا للظلم بين الرعية، وهذا انما يناسب الحكم السلطاني .
الثالث : ان الحديث قد وقع تعليلاً للأمر بالقلع في قضية سمرة مع انه لو اريد نفي الحكم الضرري أو النهي الأولي عن الاضرار لم يتجه كونه تعليلا لذلك ، اذ هذان المعنيان لا يبرران الاضرار بالغير بالقلع . لأن القلع في حد نفسه اضرار كما ان الأمر به حكم ضرري ، وانما يبرر ذلك اعمال الولاية قطعا لمادة الفساد ودفعاً للضرر والضرار ، فلا بدّ ان يكون مفاد (لا ضرر) حكما سلطانيا حتى ينسجم التعليل مع الحكم المعلل .
وهذا المعنى هو اكثر ما وقع محلا للتركيز في كلامه (قده ) .
ولكن هذا الوجه غيرتائم ايضا :
لان النهي عن الاضرار إنما يناسب ان يكون حكما كليا الهيا لا حكما سلطانيا، لان الاضرار بالغير ظلم عليه وقبح الظلم من القوانين الفطرية بل هو أوضح موارد التحسين والتقبيح العقليين ، فكيف تكون صفحة التشريع الإلهي خالية عن مثل هذا الحكم الفطري مع ان التشريعات الإلهية تفصيل وتوضيح للقوانين الفطرية فيكون في مستوى حكم سلطاني وضعه النبي
(187)
صلى الله عليه وآله . وكأن منشأ العدول الى هذا الرأي ملاحظة ان حكمه صلى الله عليه واله بالقلع انما كان حكما سلطانيا في مورد قضية سمرة وقد علل بهذه الكبرى فيقتضي كونها كذلك . وهذا غير تام كما سيأتي في نقد الأمر الثالث .
واما الشواهد المذكورة فلا يتم شيء منها.
اما الأول : ففيه -مضافا الى عدم حجية شيء من روايات العامة التي عبرت بالقضاء بما فيها رواية عبادة ، ومضافا الى ورود القضاء بمعان متعددة- إن المنساق من التعبير بالقضاء على ما اعترف به هو الحكومة بين المتخاصمين ، ولذلك يفرق بينه وبين الفتوى بأن الفتوى هي عبارة عن بيان الحكم بنحو كلي واما القضاء فهو الحكم في القضايا الشخصية التي هي مورد تشاجر ونزاع . وهذا المعنى قابل لأن يراد هنا على ان يكون المقصود هو انه صلى الله عليه وآله حكم في مورد جزئي بين المتخاصمين بانه لا ضرر ولا ضرار، فلا ينافي ذلك كون الحكم الكلي تشريعا الهيا عاما، وقد سبق ان نقلنا كلام بعض الفقهاء في اقتضاء هذا التعبيرللحكم به في مورد خاص .
يضاف الى ذلك : استبعاد الالتزام بالمعنى المذكور في جملة من موارد استخدام هذا التعبير من قبيل (قضى في الركاز الخمس ) مع أن الخمس ثابت في الغنيمة بالمعنى الأعم بقوله تعالى : ( واعلموا انما غنمتم من شيء . . . ) (1) الشامل للركاز.
واما الثاني : ففيه منع عدم وجود النزاع في . أي حكم في مورد قضية سمرة، فان الذي تمثله هذه القضتة تحقق أمرين :
____________
(1) الانفال 8 : 41 .

(188)
الأول : وجود النزاع في شبهة حكمية حيث ان الأنصاري كان لا يرى لسمرة حق الدخول في داره بلا استئذان ، ولكن سمرة كان يرى نفسه انه يجوز له ذلك ، لأنه له حق الاستطراق الى نخلته وليس يريد الدخول في مكان لا حق له في استطراقه حتى يحتاج الى الاذن من مالك الأرض ، وقد احتج بذلك في كلامه مع الأنصاري ومع النبي صلى الله عليه وآله كما تضمنت ذلك معتبرة ابن بكير وخبر ابن مسكان ، ففي معتبرة ابن بكيربعد ذكر طلب الأنصاري من سمرة ان يستاذن اذا دخل (فقال : لا أفعل هومالي أدخل عليه ولا استاذن ، فاتى الأنصاري رسول الله صلى الله عليه واله فشكى اليه واخبره فبعث الى سمرة فجاء فقال له استاذن فابى، فقال مثل ما قال للانصاري ) . وفي خبر ابن مسكان بعد ذلك (فقال : لا استاذن في طريقي وهو طريقي الى عذقي ، قال : فشكاه الانصاري الى رسول الله فارسل اليه رسول الله فاتاه فقال له : ان فلانا قد شكاك وزعم انك تمر عليه وعلى أهله بغير اذنه فاستاذن عليه اذا أردت أن تدخل ، فقال : يا رسول الله أستاذن في طريقي الى عذقي إ) .
الثاني : طلب الأنصاري من النبي صلى الله عليه وآله ان يحميه ويدفع عنه اذى سمرة، وذلك لانه كان يرى موقفه في النزاع الواقع في استحقاق الدخول دون اذن وعدمه ، هو الحق ، وكان قد ضاق به الأمر من تكرر صدور ذلك من سمرة واصراره على الدخول دون اذن .
وعلى ضوء هذا : فيمكن القول بان النبي صلى الله عليه وآله في مورد الأمر الأؤل - من النزاع الذي نشب بينهما - حكم على وفق القانون الإلهي العائم وأمر سمرة بالاستئذان ، وهذا القانون هوحرمة الاضرار بالغير، بناء على مسلك النهي ، اذ كان دخوله بلا استئذان اضرارا بالأنصاري ، أو محدودية حق الاستطراق بعدم لزوم الضرر بالغير - بناء على مسلك النفي - أو بكلا
(189)
الأمرين بناء على المعنى المختار للحديث الجامع للنفي والنهي بلحاظ كلا الجملتين وهما لاضرر و لاضرار .
وبعد ترجيح موقف الأنصاري في مورد النزاع واباء سمرة عن الالتزام بموجب الحكم القضائي وصلت النوبة الى معالجة الأمر الثاني بتنفيذ الحكم القضائي دفعا للضرر عن الأنصاري ، وقد استند صلى الله عليه وآله في ذلك الى مادة قضائه المذكور -وهي (لا ضرر ولا ضرار) - فامر بقلع نخلته .
واما الثالث : فيرد عليه :
اولا : ان مفاد (لا ضرار) لا يبرر الأمر بالقلع في حد ذاته سواء كان حكما أوليا او سلطانيا، إذ لا فرق بين نوع النهي في عدم دلالته على تشريع مثل هذا الاضرار كما هو واضح . وعليه فليس في الالتزام بالوجه المذكور علاج لهذه النقطة . وكأنه قد وقع الاشتباه فيما ذكر بين مرحلة اتخاذ الحاكم وسيلة لدفع الاضرار كقلع النخلة، وبين الحكم بلزوم دفعه الذي يتكفله القانون العام .
وثانيا : ان (لا ضرار) اذا كان بدلالته على النهي لا يبرر الأمر بالقلع فانه يمكن تبريره بدلالته على تشريع اتخاذ الوسائل الاجرائية لمكافحة الاضرار- على ما تقدم ايضاحه في ذكر المسلك المختار- فلا يقتضي ذلك رفع اليد عن كون الحكم قانونيا الهيا، وسيأتي زيادة ايضاح للموضوع في التنبيه الأول من تنبيهات القاعدة .
المسلك الثالث : ما ذهب اليه المحقق صاحب الكفاية من ان المراد بالحديث هو نفي الحكم بلسان نفي موضوعه ادعاءً(1) وملخص ما ذكره في
____________
(1) كفاية الاصول 0 38 - 2 38 .

(190)
توضيح معنى الحديث يرجع الى نقاط ثلاث :
الأولى : في معنى الضرر والضرار. وقد ذكر ان الضرر هو ما يقابل النفع من النقص في النفس أو الطرف أو العرض أو المال ،وقال (ان الاظهر ان يكون الضرار جيء به تاكيدا كما يشهد به اطلاق المضار على سمرة وحكي عن النهاية . . . ولم يثبت له معنى آخرغير الضرر).
الثانية : في المراد التفهيمي بالجملتين . وقد ذكر ان تركيب (لا) النافية انما هو لنفي الطبيعة اما حقيقة أو ادعاءً، كناية عن نفي الاثار كما هو الظاهر من مثل (لا صلاة لجار المسجد الا في المسجد) و(يا أشباه الرجال ولا رجال ). والمقام من قبيل الثاني فالمقصود هو نفي حكم الضرر، لكن الحكم الذي أريد نفيه بنفي الضرر - كما صرح به - هو الحكم الثابت للأفعال بعناوينها أو المتوهم ثبوته لها كذلك في حال الضرر لا الحكم الثابت للضرر بعنوانه لوضوح ان الضرر علة لنفي الحكم -حسب مفاد الحديث - فلا معنى لأن ينفي حكم نفسه ، بل يلزم من ذلك التناقض في مرحلة الجعل ووعاء التشريع .
الثالثة : في وجه ترجيح هذا المعنى على غيره مما فسربه الحديث . والذي يظهرمن مجموج كلامه في وجه ذلك :
أولاً : إن اقرب المجازات بعد عدم امكان ارادة نفي الحقيقة حقيقة هو نفيها ادعاءً تحفظاً على نوع المعنى المفاد استعمالاً - لكن على نحو التنزيل والادعاء - فان في المسالك الاخرى عدولا عن ذلك .
وثانياً : ان النفي الادعائي كثيراً ما يستعمل فيه هذا التركيب حتى كان هو الغالب فيه بخلاف غيره من المعاني .
وفي النقاط الثلاث نظر.
اما النقطة الأولى : فيرد عليها انه لا يصح القول بوحدة معنى الكلمتين
(191)
تماما على ما اتضح من الابحاث السابقة، فانهما يتفقان في المعنى من جهة المادة لكن يختلفات من جهة الهيئة لان (الضرر)، اسم مصدر من الثلاثي المجرد و(الضرار) مصدر من باب المفاعلة من الثلاثي المزيد فيه وقد تقدم تحقيق معناهما .
واما النقطة الثانية : فلأن تصوير نفي الحكم بنفي موضوعه في الحديث يتوقف على امرين :
الأول : ان يكون المقصود بالضرر والضرار العمل المضر، اذ لو اريد به نفس معناه لم يتم هذا الوجه لانه ان كان معنى اسم مصدري -كما هو الصحيح في كلمة (الضرر) - فانه لا معنى لنفي حكمه ، لأنه لاحكم له والحرمة والضمان انما هما من آثار المعنى المصدري على ما هو واضح ، وان كان معنى مصدريا كما هو الصحيح في كلمة الضرار، فانه وان كان له حكم كالحرمة والضمان الا ان نفيهما ليس بمقصود ولا معقول كما تنبه له هو (قد5).
والثاني : ان يكون نفي الحكم بلسان نفي موضوعه صحيحا وان كان الموضوع متعلقا للحكم لا موضوعأ له بالمعنى المصطلح وهوما فرض وجوده ورتب عليه الحكم كـ (المستطيع ) في قوله (يجب الحج على المستطيع ) .
لكن لايتم شيء من هذين الأمرين .
اما الأول : فلأن قصد العمل المضر من الضرر إما بنحو المرآتية أو بنحو آخر .
فان كان بنحو المرآتية، ففيه :
أولا : ان جعل العنوان مرآة للمعنون هو خلاف الظاهر، لان ظاهر الكلام هو ان ما اخذ مرتبطا بالحكم في القضية اللفظية بنفسه مرتبط معه في القضية اللبية . وبهذا يفقد هذا التفسيرما جعله ميزة له في النقطة الثالثة من
(192)
ان فيه تحفظا على الظاهر اللفظي من نفي الطبيعة لكن ادعاءً بخلاف تفسيره بنفي الحكم الضرري مثلأ، فانه يقتضي ارادة نفي سبب وجود الطبيعة - وهو الحكم الضرري - لانفسها .
وثانيا : انه لا يمكن جعل الضررمرآة للعمل المضر، لان مرآتية شيء لشيء ليست جزافية بل أقل ما يعتبر فيها نحو اتحاد بين المفهومين وجودا - كما في العنوان والمعنون - وليست نسبة الضرر الى العمل المضر كالوضوء من هذا القبيل ، بل هي من قبيل نسبة المعلول الى العلة .
وان كان على غير المرآتية كالسببية والمسببية فهو أبعد منها استظهارا لأن المرآتية فيما يقال أخف مراحل المجاز.
وأما الثاني ، ففيه : أولاً : ان الحكم ليس من قبيل لواحق وجود متعلقه خارجا حتى ينفى بلسان نفيه بل وجود المتعلق خارجا مسقط للحكم لا مثبت له فهومتأخرعنه رتبة لا متقدم عليه ، وهذا بخلافه بالنسبة الى موضوعه فانه من قبيل آثاروجوده الخارجي عرفا لأن علاقة الموضوع بالحكم علاقة العلة بالمعلول فهومتقدم على الحكمة رتبة ، ولذا يصح نفيه بلسان نفيه كـ (لا طلاق الا لمن اراد الطلاق ) كما يصح نفي الأثر التكويني بلسان نفي مؤثره كـ (يا اشباه الرجال ولا رجال ) .
وثانيا : انه لو تم ذلك فانه يقتضي نفي حكم المتعلق ولوكان فعلا تحريميا فيما اذا كان في ارتكابه مضرة على المكلف ، ومن المعلوم انه لا يمكن الالتزام بذلك ، الا ان يتوسل في دفع ذلك بجهة اخرى ككون الحديث في مقام الامتنان ، ودفع الحرمة عند الضرر خلاف الامتنان.
وأما النقطة الثالثة : فيرد عليها ما تقدم من أن هذا التفسيرلا يستدعي جعل نفي الطبيعة تنزيلا فحسب على ما ذكر، بل يقتضي التصرف في
(193)
(الضرر) أيضا بجعله معبرا عن العمل المضر كما مضى في نقد النقطة الثانية ، وبذلك يظهر أن كثرة النفي الادعائي في امثلة هذا التركيب لا تجدي في ترجيح هذا الوجه بعد اختلاف هذه الأمثلة مع المقام في مدى حاجته الى التكلف والتأمل .
المسلك الرابع : - في تفسير الحديث - ما نقله الشيخ الأنصاري عن الفاضل التوني من ان مفاد الحديث نفي الضرر غير المتدارك فيرجع الى اثبات الحكم بالتدارك شرعا(1) .
وتقريب ذلك على اساس جهتين :
الجهة الأولى : ان الضرر المنفي يمكن أن يراد به في نفسه احد معان ثلاثة :
الأول : كل نقص واقعي سواء كان متداركا خارجا أومحكوما بالتدارك أم لا.
الثاني : النقص غير المتدارك خارجا وذلك بلحاظ ان النقص اذا كان متداركا لا يكون مصداقا للضرر لتداركه بحكم القانون العقلائي والشرعي ، كبذل المثل أو القيمة في تلف الأموال أو الديات في تلف الأنفس والاطراف ، فانه يكون منتفيا بالنظر العرفي المسامحي - وان لم يكن كذلك بالنظر الدقي - ولذا يعبر عن اداء العوض بالتدارك فيكون مثال الضرر المتدارك مثال معاوضة شيء بما يساويه قيمة ومالية، فكما لا يصدق الضرر في هذه فكذلك في تضرر صاحب المال في شيء . وكذا من أصيبت سيارته وأخذ عوض ما خسره من شركة التأمين لا يقال انه أصابه ضرر عرفا .
الثالث : النقص غير المحكوم بلزوم تداركه قانونا وشرعا ، فان النقص
____________
(1) فرائد الاصول 2 | 532.

(194)
المحكوم بلزوم تداركه اذا كان للقانون قوة إجرائية تضمن تحقق التدارك الخارجي - عادة - يمكن ان ينفى كونه ضرراً تنزيلاً وادعاءً وإن لم يتدارك خارجاً.
فهذه معان ثلاثة وحيث انه لا يمكن ان يكون الضرر المنفي بالحديث هو المعنى الأول للزوم مخالفة الواقع بعد وجود الضررخارجا ، مع انه خلاف المفهوم العرفي للضرر ايضا كما يتضح مما ذكر في المعنى الثاني ، وكذلك لا يمكن ان يكون هو المعنى الثاني لعدم تدارك كل ضررخارجا فيتنافى مع عموم النفي ، فلا بد ان يراد المعنى الثالث فيرجع الى اثبات حكم شرعي قاض بالتدارك في مورد كل ضرر.
الجهة الثانية : إنه بناءً على هذا التفسيريكون مفاد (لا ضرار) الحكم بضمان من أضر بأحد في شيء وأما (لا ضرر) فهو باعتبار كون الضرر اسم مصدر لا يتضمن النسبة الصدورية، يكون مفاده نفي لضرر مطلقاً سواء كان من قبل شخص معين أوكان لحادثة طبيعية أو غير ذلك ، فكل ضرر أصاب شخصا في نفسه أو ماله ، فإنه لا يذهب هدرا بل له ضامن لا محالة فإن كان بسبب شخص معيق فيكون الضمان عليه ، وإلا فيكون الضمان على الإمام والدولة .
وبذلك يستفاد من الحديث ثبوت تأمين عام في الدولة الإسلامية بالنسبة إلى أفراد المجتمع الإسلامي ، وقد حدث التامين في المجتمع البشري أولا بداع إنساني تعاوني فكان مرجعه إلى تحمل الجماعة المشتركين في أداء حق التامين للخسارة الواقعة على الشخص حتى لا تكون الخسارة ثقلا عليه . وإلى ذلك يرجع ما يتعارف في بعض المجتمعات من التعاون بين أفراد القبيلة عند إرادة بعض أفرادها تأسيس عائلة جديدة حيث يهدي كل منهم ما يسد بعض حاجتها ، إلا أنه أصبح فعلاً وسيلة لاستثمار
(195)
الآخرين .
ويمكن تأييد هذه الفكرة بجملة من الروايات الواردة في جملة من مصاديق الموضوع .
ففي الحديث عن أبي عبدالله عليه السلام ان النبي صلى الله عليه وآله قال : أنا أولى بكل مؤمن من نفسه وعلي أولى به من بعدي.
فقيل له : ما معنى ذلك ؟ فقال قول النبي صلى الله عليه وآله من ترك ديناً أو ضياعاً فعليّ ، ومن ترك مالاً فلورثته ، فالرجل ليست له على نفسه ولاية إذا لم يكن له مال وليس له على عياله أمرولا نهي إذا لم يجر عليهم النفقة والنبي وأمير المؤمنين (عليه السلام ) ومن بعدهما الزمهم هذا ، فمن هناك صاروا أولى بهم من أنفسهم ، وما كان سبب اسلام عامة اليهود إلآ من بعد هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وآله (أنهم آمنوا على أنفسهم وعلى عيالاتهم )(1) .
وفي الصحيح عن أبي عبدالله عليه السلام قال : قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل وجد مقتولاً لا يدرى من قتله قال : (إن كان عرف له أولياء يطلبون ديته أعطوا ديته من بيت مال المسلمين ، ولا يبطل دم امرئ مسلم لأن ميراثه للإمام فكذلك تكون ديته على الإمام ، ويصلون عليه ويدفنونه . قال : وقضى في رجل زحمه الناس يوم الجمعة في زحام الناس فمات أن ديته من بيت مال المسلمين (2) ومثله أحاديث أخرى.
إلى غيرذلك مما دل على انه لا يذهب دم امرئ مسلم هدراً ومثله ماله لأن حرمة ماله كحرمة دمه - كما في الحديث (3).

____________
(1) اصول الكافي 1 |335 - 336 ح6.
(2) الوسائل ج 29 ص ه 4 1 - 6 4 1 الحديث 6 3534 .
(3) الرسائل ج 2 1 ص 297 الحديث 6349 1 .

(196)
هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب هذا القول وإن كان ما ذكرناه في مفاد (لا ضرر) مما لا يلتزم به القائل بهذا القول يقينا ، لكنه لازم هذا الرأي بعد كون (الضرر) اسم مصدر شامالاً لكل ضرر يرد على الإنسان .
ويمكن أن يناقش في ذلك بوجوه :
الأول : ان ما ذكر في تعيين هذا المعنى ليس بتام لأن نفي الضرر والضرار كما يمكن أن يكون بملاحظة جعل الحكم بالتدارك الذي يوجب انتفاءهما بقاء بنحو التنزيل ، فكذلك يمكن أن يكون بعناية التسبيب إلى عدم الاضرار - فيكون مفاد الحديث هو النهي - أو بعناية عدم التسبيب الى ضرر المكلفين - فيكون مفاده نفي الحكم الضرري - لأن هاتين الجهتين أيضا مصححتان لنفي المعنى على ما تقدم ، فلا يتعين التفسير المذكور.
الثاني : إنه إذا كان المدعى في (لا ضرر) أن معناه كمعنى (لا ضرار) وهو نفي الضرر الصادر من الغير بالنسبة إلى الإنسان ليختص الحكم بالتدارك بالاضرار الصادر من الغير، فهو معنى معقول في نفسه لكن إنما يناسب مع (لا ضرر) لو كان الضرر مصدرا محتويا على النسبة الصدورية ، حيث يمكن القول باختصاصه حينئذ بالاضرار الصادر عن الغير، واما على ما هو الصحيح من انه اسم مصدرفلا وجه لتخصيصه بذلك بل ينبغي تعميمه لكل ضرر واقع على الشخص - ولومن جهة عوامل طبيعية -.
وإن كان المدعى ان معناه نفي كل ضرر واقع على الشخص من غير تدارك - كما أوضحناه - فهو مما لا يمكن الالتزام به لأنه لم يثبت في الإسلام تدارك كل ضرر واقع على أي شخص مهما كان سببه - من العوامل الطبيعية وغيرها - بحيث يرجع إلى تأمين عام من قبل الدولة كما لم يعرف مثل ذلك في عصرنا هذا عن شيء من القوانين البشرية . (نعم ) يمكن الالتزام بضمان الدولة فيما لو قصرت فيما هو من وظائفها تجاه الناس كما لو لم تجعل
(197)
الحواجز اللازمة لاجتياح السيول مثلا مع توفر الامكانات المادية لديها .
الثالث : ان هذا المعنى ليس بمنساق من الحديث ونحوه أصلا بل الذي ينساق إلى الذهن من نفي الماهية من قبل الشارع ، إما نفي التسبيب الشرعي إليها- إن كان نفيها في معرض توهم تسبيب شرعي على ما أوضحناه في جملة (لا ضرر) فيرجع إلى نفي الحكم الضرري . أو التسبيب إلى انتفائها - كماهو الحال على مسلك النهي - ويشهد على ذلك ملاحظة موارد استعمال النفي في التعبير عن موقف شرعي كالأمثلة المتقدمة فيما سبق .
وأما الحكم بالتدارك فهو وإن كان مصححا لنفي الضرر لكن لا يفي به الكلام من دون قرينة زائدة تدل عليه .
الرابع : ان هذا المعنى لا يناسب موارد تطبيق الحديث من قبيل قضية سمرة، فإنه لم يحكم فيها بتدارك الضرر الواقع على الأنصاري لعدم كونه قابلا للتدارك كما هو واضح .
هذا وقد يناقش في هذا المسلك بوجوه أخرى :
منها : ما ذكره السيد الأستاذ (قده ) من أن هذا المسلك يقتضي تقييد الضرر المنفي بغير المحكوم بتداركه والتقييد خلاف الأصل فلا يصار إليه (1). (ويرد عليه ) انه ليس المقصود بهذا التفسير تقييد الضرر بغير التدارك ، بل المنفي هو مطلق الضرر لكن بملاحظة الحكم بتداركه ، فالحكم بالتدارك مصحح لنفيه مدلول عليه بدلالة الاقتضاء بعد تعذر حمل النفي على النفي الخارجي للطبيعة، وليس عدمه قيدا لها وبين الأمرين فرق واضح ففي كل نفي تنزيلي يكون فقدان كمال ما مصححا لنفي المعنى ، وليس عدم ذلك الكمال قيدأ في المنفي فنفي الطبيعي عن حصته تنزيلاً
____________
(1) لاحظ مصباح الاصول 2 | 529 .

(198)
نفي لوجوده في ضمنها مطلقاً، بينما تقييده بعدمها يستبطن الاعتراف بكونها منه . والتنزيل بحاجة إلى عناية دون حذف والتقييد بحاجة إلى حذف دون عناية، ونافي التنزيل هو أصالة الحقيقة أي ظهور الكلام في المعنى الحقيقي ، وأما نافي التقييد فهو أصالة الاطلاق - أي ظهور الكلام في كون الطبيعة تمام الموضوع للنفي -.
ومنها : ما ذكره الشيخ الأنصاري (قده ) ووافقه جمع من أن الضرر الخارجي لا يصح تنزيله منزلة العدم بمجرد حكم الشارع بلزوم تداركه ، وإنما المنزل منزلة العدم الضرر المتدارك فعلا (1) . (ويرد عليه ) انه إذا حكم الشارع بالتدارك وجعل لتنفيذ ذلك قوة إجرائية - كما أن لكل قانون من القوانين الاجتماعية بحسب التشريع قوة إجرائية طبعاً - فإنه يكون التدارك حينئذ من نظر المقنن جاريا مجرى الأمر الواقع فيصح اعتباره واقعا تنزيلا .
المسلك الخامس : ما يظهر من كلام الصدوق في الفقيه من أن المقصود بهذه الجملة أن إسلام الشخص واعتقاده الدين الإسلامي لا يوجب تنقيص شيء من حقوقه ، فكل حق كان ثابتا له لولم يكن ئسلما فإنه يثبت له في حالة إسلامه كحق الإرث عن المورث الكافر، وبهذا الاعتبار استدل بهذا الحديث على ما ذهبت إليه الإمامية وجمع من الصحابة والتابعين وعلماء العامة - خلافا لأكثرهم كأئمة المذاهب الأربعة - من أن المسلم يرث من الكافر.
قال (قده ) (لا يتوارث أهل ملتين والمسلم يرث الكافر والكافر لا يرث المسلم ، وذلك أن أصل الحكم في أموال المشركين انها فيء للمسلمين
____________
(1) لاحظ رسالة (لا ضرر) للشيخ الانصاري ملحقة بمكاسبه ص 372، رسالة (لا ضرر) للعلامة شيخ الشريعة ص 41 - الفصل الثامن - ومصباح إلاصول 529|2 .

(199)
وأن المسلمين أحق بها من المشركين ، وأن الله عز وجل إنما حرم على الكفار الميراث عقوبة لهم بكفرهم كما حرم على القاتل عقوبة لقتله ، فاما المسلم فلأي جرم وعقوبة يحرم الميراث ؟ وكيف صار الإسلام يزيده شراً مع قول النبي صلى الله عليه وآله : الإسلام يزيد ولا ينقص . ومع قوله عليه السلام لا ضرورة ولا إضرار في الإسلام . فالإسلام يزيد المسلم خيرأ ولا يزيده شرا . ومع قوله عليه السلام (الإسلام يعلو ولا يعلى عليه )(1) فهو اعتبر مفاد هذا الحديث كمفاد قوله عليه السلام (الإسلام يزيد ولا ينقص ) .
ولتوضيح ذلك : لابد من بيان أمرين : كيفية تطبيق الحديث على هذا المعنى، وكيفيته انطباق المعنى على هذا الموضوع .
أما الأول : فيمكن تطبيق الحديث على هذا المعنى بأن يحمل لفظ (في ) في الحديث على التعليل والسببية كما قيل في قوله تعالى : ( فذلك الذي لمتنني فيه ) (2)وقوله : ( لكم فيما أفضتم )(3)، وما نسب إليه صلى الله عليه وآله من (أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها)، كما يحمل لفظ الإسلام على التدين بالدين الخاص - لا على نفس الدين - فيكون مفاد الحديث علن هذا أنه لا يدخل ضرر على المرء بإسلامه .
وعلى هذا فيماثل مفاده مفاد الرواية الأخرى التي نقلها من طرقهم واحتج بها جماعة من فقهاء الفريقين على ثبوت الإرث -وهي (الإسلام يزيد ولا ينقص ) - فإن الضرر في هذا الحديث بمعنى النقص أيضا كما مر، بل يمكن الاستمداد بهذا الحديث في تفسير (لا ضرر) بذلك ردا للمتشابه إلى
____________
(1) الفقيه 4| 243 ح778 .

(200)
المحكم لأن كلامهم يفسر بعضه بعضا .
لكن قد يشكل تفسير (لا ضرار) بذلك لأنه يقتضي أن يكون معناه أن اعتقاد الإسلام لا يسبب الإضرار بالغير وهذا معنى بعيد، لأن أحدا لا يتوهم أن اعتقاد الإسلام يوجب الإضرار بالنسبة إلى الغير. لكن يمكن أن يجاب عن ذلك : بأن المقصود بعدم تسبيبه للإضرار ان هذا الاعتقاد لا يخوله الإضرار بالآخرين وسلب حقوقهم ، إذا كانوا ممن يحترم ماله كالمسلم والذمّي والمعاهد .
واما الثاني : وهو انطباق هذا المعنى على المورد ، فقد يشكل من جهة أن عدم الإرث من المورث ليس ضررا وإنما هو من قبيل عدم النفع ، فلا مورد لتطبيق هذه الكبرى . لكن يمكن أن يجاب عن ذلك بأن الإرث وإن كان في حد ذاته انتفاعا فعدمه ليس إلأ عدم انتفاع لا ضررا على الشخص ، إلا انه باعتبار ثبوت حق الوراثة للشخص بالنسبة إلى مال مورثه يمكن اعتبار الحكم بانتفاء هذا الحق من جهة اسلامه ضررا ونقصا، كما يدل على ذلك تطبيق عنوان (الإضرار) و(الضارة) ونحوهما كـ (الجور والحيف ) على وصية الميت إذا كانت تشمل أكثر أمواله - مثلا - كما في قوله تعالى : ( من بعد وصية يوصي بها أو دين غير مضار )(1) ، وفي الحديث (قال علي عليه السلام ما أبالي أضررت بولدي أو سرقتم ذلك المال )(2)و(قال علي عليه السلام من أوصى ولم يحف ولم يضار كان كمن تصدق به في حياته )(3) وفيه أيضا (من عدل في وصية كان كمن تصدق بها في حياته ومن جار في وصيته لقى الله
____________
(1) النساء 4 : 22 .
(2) الوسائل ج 9 1 كتاب الوصايا الباب 5ح 24555 ص 4 26 .
(3) الوسائل ج 9 1 كتاب الوصايا الباب 5 ح556 4 2 ص 4 26 .

(201)
عز وجل يوم القيامة وهو عنه معرض )(1)، وجاء م يضا (الحيف في الوصية من الكبائر (2) و(إن الضرار في الوصية من الكبائر (3) .
هذا ولكن يلاحظ عليه ان هذا التفسير لوتم فيما يتضمن زيادة (في الإسلام ) ، فإنه لا يتم فيما لم يشتمل عليها وقد ثبت الحديث بدون الزيادة في روايات معتبرة على ما تقدم ، بل لم يظهر من الصدوق تفسيره للحديث بدون الزيادة بهذا المعنى لاسيما أنه لم يعلم بثبوت الحديث مع الزيادة لديه لكي يكون معناه معها قرينة على معناه بدونها - إذ ذكره لهذا الحديث إنما كان بغرض الاحتجاج على العامة كما تقدم توضيحه -.
مضافا إلى أن حمل الحديث على المعنى المذكورمخالف للظاهر جدا ، فإن تفسير (في ) و(الإسلام ) بما ذكرناه في تقريره خلاف المنساق منه . كما لايخفى .
____________
(1) الوسائل ج 19 كتاب الوصايا الباب 8 ح 4562 2 ص 4 26 .
(2) الوسائل ج 19 كتاب الوصايا الباب 8 ح 63 5 4 2 مر 267 .
(3) الوسائل ج 19 كتاب الوصايا الباب 8 ح 24564 و24565 ص 268 .