aalulbayt
المشتق
بحث الأصوليون في أن لفظ المشتق ظاهر وضعاً في خصوص المتلبس بالمبدأ أم ظاهر في الأعم ، وذهب للقول بالأعم المعتزلة والمتقدمون من علمائنا وذهب للقول بالخصوص الاشاعرة والمتاخرون منا(1) ، وكلامنا في هذا البحث في مقامين :
الأول : في تحرير محل النزاع .
الثاني : في دوافع القول بالأعم ومناقشتها .
المقام الأول : تحرير محل النزاع يعتمد على عدة مقدمات :
الأولى : في بيان معنى المشتق ، فهل المراد بالمشتق المبحوث عنه المشتق بالاصطلاح النحوي أم المشتق بالاصطلاح الأصولي ؟
وبيان ذلك : أن المشتق له اصطلاحان :
1 - الاصطلاح النحوي ، ويراد به اللفظ الماخوذ من لفظ آخر مع توافقهما في الحروف وترتيبها كالضارب والضرب ، ويعتقد البصريون ان المصدر أصل المشتقات كاسم الفاعل واسم المفعول واسم الزمان والمكان والمصادر المزيدة ونحوها(2) بينما يعتقد الكوفيون أن الأصل في الاشتقاق هو الفعل (3) ، وكلاهما غير تام بنظر الأصوليين المتأخرين بل الأصل عندهم هو المادة السارية في جميع المشتقات .
____________
(1) كفاية الاصول : 45 .
(2) الانصاف للأنباري : 235 .
(3) الانصاف للأنباري : 235 .

( 211 )
ولكننا نسجل ملاحظة على جميع هذه الأقوال بأن نقول : لا يخلو أصل المشتقات من أن يكون هو المادة أو المصدر أو اسم المصدر، فأما المادة فهي وإن كانت موجودة بحروفها وترتيبها ومعناها في جميع المشتقات الا أنها ليست أصلاً للاشتقاق ، وذلك لأن كونها أصلاً للمشتقات معناه : أن الواضع وضعها أولاً مجردة عن أي هيئة كانت وضعاً نوعياً تتعاقب عليه الهيئات المختلفة .
والوضع النوعي المجرد المدعى في المواد والهيئات بعيد عن ذهنية الواضع البدائي الأول الذي يقوم بوضع الكلمات إما بدافع الحاجة للتفهيم والتفاهم وإما بداعي التغني كما يراه الفيلسوف جون لوك وإما بداعي الخوف والفزع من حادث كوني معين كما يراه بعض آخر، فالمتصور في الواضع البدائي الساذج هو الوضع الشخصي للكلمة مادة وهيئة باحد الدوافع المذكورة لا الوضع النوعي ، فإنه حالة متطورة من الابداع الفكري البعيد عن الواضع الأول .
وأما المصدر وهو الدال على الحدث المنتسب لفاعل ما فلا يصح جعله أصلاً للمشتقات ، باعتبار أن الأصالة إن أريد بها كونه أول لفظ موضوع فذلك يحتاج لدليل تاريخي .
وان أريد بها سريان المعنى والصياغة البنائية في جميع المشتقات فالمصدر لا يطرد معناه في جميع المشتقات كاسم المصدر مثلاً ، فإن معناه يغاير المعنى المستفاد من المصدر فكيف يكون متفرعاً عنه ، كما أنه لا يمكن سريان الهيئة البنائية لجميع المشتقات لاستحالة كون المادة متشكلة بهيئتين متغايرتين .
وبنفس هذا الايراد نورد على القائلين بان أصل الاشتقاق هو الفعل وأما اسم المصدر وهو الدال على الحدث بما هو، فإن أريد به الدلالة على أصل
( 212 )
الحدث مع كونه لا بشرط بالنسبة لحيثية الانتساب لفاعل ما فهذا هو الجامع الانتزاعي بين جميع معاني المشتقات ، وهو فكرة متطورة يتوصل لها الذهن البشري . بعد مروره على ألفاظ المشتقات ، فالمناسب كونه متأخراً عن المشتقات في الوضع لا أصلاً لها.
وإن أريد به الدلالة على الحدث مع كونه بشرط لا عن معنى الانتساب فهو مغاير حينئذٍ لمفاهيم بقية المشتقات فلا يصلح كونه أصلاً لها .
2 - المشتق الأصولي : وهو العنوان المنتزع من الذات بلحاظ انضمام أمر خارج عنها لها، وهذا العنوان له عنصران :
أ - منشأ الانتزاع وهو الذات نفسها .
2 - مصحح الانتزاع وهو المبدأ المنضم للذات ، والفرق بين منشأ الانتزاع ومصححه : أن المنشأ هو الذي يحمل عليه العنوان الانتزاعي حملاً هوهوياً ، بينما المصحح هو المادة التي يصاغ منها العنوان الانتزاعي من دون صحة حمله عليه .
وينقسم المشتق الأصولي بلحاظ المبدأ الذي يصاغ منه إلى خمسة أقسام :
1 - ما كان المبدأ من الاعراض المتأصلة خارجاً وهي المقولات التسع كالقائم والقاعد ، فإن مبدأهما من القيام والقعود وهما عرضان خارجيان .
2 - ما كان المبدأ من الأمور الاعتبارية كالواجب والحرام ، باعتبار انضمام الوجوب والحرمة لشيء ما.
3 - ما كان المبدأ من الأمور الانتزاعية الواقعية لواقعية منشأ انتزاعها كالابن والأخ الماخوذين من الأبوة والبنوة والأخوة ، وهذه مفاهيم انتزاعية محمولة على الذات من باب الخارج المحمول لا من باب المحمول بالضميمة كالقسمين السابقين .

( 213 )
4 - ما كان المبدأ من الجواهر كاللابن والتامر، بناءاً على كون مبدئه هو التمر واللبن ثم أطلق المشتق على المتلبس ببيعها، وسيأتي مناقشة ذلك .
5 - ما كان المبدأ من سنخ الوجود والعدم لا من سنخ الماهيات بشتى أنواعها من المتأصلة والاعتبارية والانتزاعية والجوهرية، ومثاله لفظ موجود ومعدوم .
وبين المشتق النحوي والأصولي عموم من وجه ، لشمول الأول للمصدر المزيد الذي لا يندرج تحت الثاني لعدم حمله على الذات حملاً هوهوياً بل يحمل عليها بالعناية، وشمول الثاني للجوامد المحمولة على الذات كالزوج والرق والأم .
والان نطرح السؤال : هل المراد بالمشتق المبحوث عنه هو المشتق النحوي أم المشتق الأصولي ، وقد أجيب عن ذلك بجوابين :
أ - إن المراد به المشتق النحوي ، لأنه هو معنى المشتق لغة فإن المشتق لغة هو المأخوذ من الشيء الآخر فيتلائم المفهوم النحوي مع المفهوم اللغوي ، وإنما نلتزم بالخروج الحكمي لبعض المشتقات والدخول الحكمي لبعض الجوامد ، فمثلاً المصادر المزيدة وأسماء المصادر وإن كانت من المشتق موضوعاً لكنها خارجة عن حريم البحت حكماً ، لعدم تصور النزاع فيها بعد عدم حملها حملاً هوهوياً على الذات ، كما أن بعض الجوامد كالأخ والرق داخلة في البحث حكماً وإن خرجت عن المشتق موضوعاً ، باعتبار صحة جريان النزاع فيها .
2 - إن المراد به المشتق الأصولي ، وذلك أولاً : لملائمته المعنى اللغوي باعتبار اشتقاقه وانتزاعه من الذات بلحاظ انضمام أمر لها ، فإن الاشتقاق العقلي كاف في صحة تسميته بالمشتق وإن لم يكن هناك اشتقاق لفظي .

( 214 )
وثانياً : إن قانون انتخاب الأسهل هو الذي يعطينا القناعة بأن المراد بالمشتق المشتق الأصولي ، باعتبار أنه ما دام الاصطلاح الأصولي موجوداً ووافياً بتحديد موضوع البحث بدون استثناءات أو استدراكات فلا حاجة لتبني الاصطلاح النحوي ثم تعقيبه بالاستثناء .
المقدمة الثانية : في بيان مفهوم التلبس بالمبدأ وفقدانه بالنظر الفلسفي والعرفي :
إن النزاع في كون لفظ المشتق ظاهراً فى خصوص المتلبس أم في الأعم إنما يتصور بعد كون المشتق ذا حالتين ، حالة تلبس الذات بمبدئه وحالة فقدانها، بحيث يعد الوجدان والفقدان من الحالات الطارئة على الذات مع عدم تغير حقيقتها .
وأما لو كان التباين بين الحالتين ذاتياً ، بحيث تكون الذات حقيقتين متغايرتين عند التلبس وعدمه فليس ذلك داخلاً في البحث بلا ريب ، إذ لا يصح إطلاق حد حقيقة على حقيقة اخرى الا تجوزاً .
وكلامنا الان في معيار التمايز بين حالة التلبس وحالة الفقدان واعتبارهما حالتين او حقيقتين ، فهل المعيار فلسفي أم عرفي ؟
وبعبارة أوضح : لا ريب أن شيئية الشيء - التي بها يمتاز عن غيره ويكون حقيقة منفصلة عن الحقائق الاخرى - بصورته لا بمادته ، ولكن ما هو المعيار في الصورة الفاصلة للحقيقة هل هو النظر العرفي أم النظر الفلسفي ؟
المعيار الفلسفي : ويرى الفلاسفة أن الصورة المقومة للحقيقة هي الصورة النوعية المعبر عنها بالفصل ، فالانسان مثلاً بناطقيته لا بجسمه ، فلو تحول الجسم إلى تراب فالإنسان باق باعتبار عدم تغير صورته الانسانية وهي روحه الناطقة .
المعيار العرفي : وهو الذي يرى تمايز الاشياء بالصورة الشكلية والآثار
( 215 )
الملموسة عند العرف.
وبينهما عموم من وجه ، فالجسد البشري - مثلاً - بعد فقدانه للحياة يراه العرف بانه هو الانسان وأنه مات ، والموت والحياة حالات طارئة لا حقائق مختلفة، بينما الفلاسفة لا يعتبرون الجسد الميت إنساناً بل يعتبرونه جماداً والانسان غيره فيختلفان حقيقة بالموت والحياة . كما أن الحليب واللبن المصنوع منه حقيقتان عرفا وذات واحدة فلسفة، لاتحاد الصورة النوعية فيهما .
وبعد البيان المذكور نقول : بان المعتبر في الصورة الفاصلة للحقيقة هو النظر العرفي لا النظر الفلسفي لعدة أسباب :
أولاً : إن الرؤية الفلسفية لا دليل على واقعيتها وصحتها، فربما يكون المعيار الواقعي في الفصل بين الأشياء هو الفصل بالعوارض والآثار كما ورد في بعض الروايات : « وخلق خلقاً مختلفاً بأعراض وحدود» (1) .
ولا دليل على لزوم كون الفاصل بالصور النوعية والفصول ، ولعل الاتجاه الفلسفي في جعل معيار التمييز مبنياً على الصور النوعية والفصول تعبيرعن عرف خاص في المجتمع اليوناني الذي نشأت فيه بذرة الفلسفة ، ومن الواضح أن الأعراف والمجتمعات تختلف في معيار التمييز كما نلاحظ اختلاف المجتمعات في جعل بعض الفواكه أو الحيوانات تحت عنوان واحد أو عناوين متعددة .
فمن المحتمل جداً كون الفلسفة اليونانية في اعتمادها على الصور النوعية كمعيار للتمييز بين الحقائق تعبر عن عرف خاص ورؤية إنسانية معينة لا أن ذلك هو المعيار الواقعي المعتمد .
ثانياً : قد ذكر الفلاسفة أنفسهم أن الاطلاع على الحقائق الواقعية غير
____________
(1) التوحيد : 430 ، باب 65، ضمن ح 1.

( 216 )
متيسر والفصول التي يطرحونها ما هي الا فصول مشهورية لا فصول حقيقية، فالناطق - مثلاً - الذي جعل فصلاً للإنسان إن أريد به النطق فهو كيف مسموع وإن أريد به الفكر فهو كيف نفساني أو فعل ذهني ، ومن المعلوم عندهم عدم تقوم الجوهر بالأعراض من الكيف والفعل ، إذن فالناطق فصل مشهوري لا فصل حقيقى . ونتيجة ذلك : أنه كيف يمكن لنا أن نعتبر المعيار في تمييز الحقائق هو النظر الفلسفي مع قصوره - كما صرح الفلاسفة أنفسهم - في الوصول لفرز الواقعيات وتحديدها .
ثالثاً : إن البحث في ظهور المشتق في خصوص المتلبس أو الأعم بحث لغوي يرجع في تشخيصه الى العرف واللغة لا إلى البحوث الفلسفية .
ولكن هنا سؤالان :
1 - إن بحثنا في المائز الحقيقي بين الشيء وغيره وأنه مائز عرفي أو فلسفي ، وهذا بحث عقلي وليس بحثاً لغوياً حتى يرجع فيه الى اللغة والعرف ؟
والجواب : إن الظهور يعتمد على عناصر مندمجة في نفس الظهور بحيث تكون هناك وحدة وائتلاف بين الظهور وعناصره ولا يمكن البحث في الظهور منفصلاً عنها، فمثلاً إذا بحثنا في أن صيغة افعل ظاهرة في الوجوب أم لا فالبحث في هذا الظهور معتمد على عنصر آخر وهو ما يستظهره العرف من عنوان الوجوب أيضاً ، وكلا الأمرين وحدة مترابطة تقع مورداً للبحث .
كذلك في المقام ، فإن البحث عن ظهور المشتق في المتلبس أو الأعم متفرع على ما يفهمه العرف من التلبس وعدمه مع بقاء الحقيقة مقابل تغيرها، وهذا العنصر مندمج في الظهور نفسه بحيث لا يتحقق ظهور عرفي للمشتق في المتلبس أو الاعم الا مع ظهور مفهوم التلبس وعدمه في أذهان العرف ، فتبين أن البحث في المقام بحث لغوي يرجع فيه للمفهوم العرفي لا إلى التحقيق الفلسفي .

( 217 )
2 - لا ريب في اختلاف الأعراف في مفاهيمها وأفكارها، وحينئذٍ إذا كانت الرؤية العرفية الآن تعني أن المشتق ظاهر في المتلبس أو الأعم أو تعني أن الفاصل الحقيقي بين الماهيات هو بالأعراض والآثار فلا يعني ذلك ان الارتكاز العرفي في زمان النص الشرعي كذلك ؟
والجواب : إن كلامنا في ظهور المشتق بصفة عامة وليس خاصاً بالمشتق الموجود في النصوص الشرعية حتى نركز على العرف المعاصر للنص الشرعي ، مضافاً إلى أنه إذا ثبت ما هو المرتكز في عرفنا رأينا كيف نتوصل للعرف في زمان النص من عدة طرق طرحناها في بحث علامات الحقيقة والمجاز.
المقدمة الثالثة : في بيان معنى الحال : عندما يقول الأصوليون هل أن المشتق ظاهر في المتلبس بالمبدأ في الحال أم في الأعم فماذا يقصدون من لفظ الحال ؟
هناك ثلاثة معاني للحال :
1 - حال النطق .
2 - حال النسبة .
3 - حال التلبس .
أما المعنى الأول : فهو غيرمراد قطعاً لوجهين :
1 - لو كان زمان النطق مدلولاً لكانت الأوصاف دالة على الزمان وليست كذلك بدليل اسنادها إلى نفس الزمان بدون عناية أصلاً فيقال الزمان مسرع ، واسنادها إلى المجردات الخارجة عن وعاء الزمان نحو الله عالم وخالق والملائكة قائمون ونحوه ، فإذا صح إطلاقها على المجرد عن الزمان وعلى الزمان نفسه وعلى الزماني بلا عناية تبين خلوها من الدلالة على الزمان ، فانسباق زمان النطق في بعض الاستعمالات نحو زيد قائم لاتحاد زمان النطق مع زمان الجري والانطباق ، فلو لم يتحدا لم يتحقق هذا الظهور نحو « لا تكرم الفاسق » فإن
( 218 )
الظاهر منها فعلية الفسق حين الاكرام لا حين النطق بالجملة .
2 - إن لازم هذا القول كون قلنا زيد قائم أمس وكان زيد قائماً مجازاً ، لعدم التلبس حال النطق مع انه حقيقة بلا ريب عندهم .
وأما المعنى الثاني : وهو أن المراد بالحال حال الجري والنسبة ، أي حال انتساب المحمول للموضوع ، سواءاً تقدم عليه النطق أم تأخر أم قارن ، فظاهره أن البحث في المشتق بحث في مرحلة التطبيق والاسناد لا بحث في المدلول الأفرادي للمشتق ، أي أنه بعد الفراغ عن المفهوم المتبادر من لفظ المشتق بما هو لفظ نبحث في صدقه وتطبيقه على الموضوع ، فنقول : هل يشترط في صدقه على الموضوع تلبسه بالمبدأ حال النسبة والاسناد أم يصح صدقه عليه بمجرد تلبسه به في الزمان السابق وإن لم يكن متلبساً به فعلاً ، إذن فعلى هذا القول لا يكون البحث بحثاً لغوياً حول مدلول لفظ المشتق بل هو بحث متعلق بمقام الاسناد والنسبة .
وأما المعنى الثالث : وهو المختار عندنا ، فمحصله : أن البحث في المقام بحث لغوي حول مدلول لفظ المشتق وأن هذا المدلول في حد ذاته هل هو واسع شامل لحين وجود المبدأ خارجاً وحين انقضائه أو ضيق خاص بحين تحقق المبدأ بغض النظر عن عالم الاسناد، فسواءاً كان هناك جملة وإسناد أم لم يكن فإن البحث متصور في لفظ المشتق بلحاظ مدلوله الافرادي .
وعلى هذا المعنى فلا نحتاج لاضافة قيد الحال للبحث أصلاً ، فنقول : هل أن لفظ المشتق ظاهر في المتلبس أم الأعم منه ، من دون داعي لأضافة قيد الحال مادام المراد منه هو نفس التلبس ، بخلاف المعاني الأخر للفظ الحال فإننا بناءاً عليها نحتاج لإضافة قيد الحال ، لاختلافها معنى عن معنى التلبس ، وبيان هذا البحث بصورة أوضح وأعمق يعتمد على البحث الآتي .

( 219 )
المقدمة الرابعة : حول البحث في المشتق ، هل هو بحث عقلي أم بحث لغوي فهنا نظريتان :
الأولى: إن البحث في المشتق بحث عقلي فلسفي ، وذلك لأن مفهوم المشتق مفروغ عنه وهو الواجد للمبدأ بأي لون من ألوان الواجدية فلا نزاع في مفهومه .
وإنما النزاع في كون الموضوع المحمول عليه المشتق هل هو من مصاديق المشتق وأفراده مطلقاً حتى بعد انقضاء تلبسه بالمبدأ أو أنه من مصاديقه حين التلبس فقط ، فالبحث متعلق بمرحلة الصدق والفردية لا بمرحلة التشخيص اللغوي للمفهوم ، ولذلك يختص البحث بالقضايا والجمل الاسنادية لأنها تعبر عن مرحلة الصدق ولا ربط له بالمفردات ، إذن فالبحث في المقام تصديقي لا بحث تصوري في مفهوم المشتق .
وقد ذهب لهذه النظرية المحقق الطهراني صاحب المحجة والتبريزي في المشتقات والبهبهاني في المقالات والسيد البروجردي (1) وبعض الأعاظم(2) .
الثاني : إن البحث فى المقام حول ظهور لفظ المشتق في خصوص المتلبس بالمبدأ او الأعم ، فهو بحث لغوي حول مدلول كلمة معينة وأن هذا المدلول هل هو واسع يشمل المنقضي ام ضيق فيختص بحين التلبس . وهذا ما يسمى بالشبهة المفهومية الدائرة بين الأقل والأكثر كالنزاع في مفهوم الفاسق الخاص بمرتكب الكبيرة أو الشامل لها ولمرتكب الصغيرة، ومثله النزاع في الصحيح والأعم أيضا .

____________
(1) الحاشية على كفاية الأصول ، تقريرات البروجردي ا : 112 .
(2) تهذيب الاصول 1 : 98 - 100 .

( 220 )
إذن البحث هنا بحث لغوي تصوري سواءاً كان هناك جملة اسنادية أم لا، وقد ذهب لهذا الرأي المحققون الثلاثة النائيني (1) والعراقي (2) والاصفهاني (3) وهو مختارنا أيضا(4) .
ونستعرض الأن النظرية الأولى وتقريبها وما يرد عليها من الملاحظات :
تقريبها: إن ما نتصوره من كلام المحقق الطهراني في المحجة أحد وجهين :
أ - إن الحمل على نوعين ، حمل مواطاة وحمل اشتقاق ، فاما حمل المواطاة فيعني الهوهوية بين الموضوع والمحمول والهوهوية تقتضي الاتحاد الوجودي بينهما، ومع حصول الاتحاد المذكور فالموضوع لابد وأن يكون من المصاديق الفعلية للمحمول ومن أفراده الحالية والا لم يصح حمل المشتق عليه ، إذ لا يصح أن يقال للسائل أنه ماء بعد تحوله بخاراً ، ولايصح أن يقال للمائع أنه خل بعد تحوله خمراً .
فحمل المواطاة متقوم بالهوهوية الوجودية التي تعني كون الموضوع مصداقاً فعلياً للمحمول .
وأما حمل الاشتقاق فمعناه : حمل المبدأ على الذات التي تلبست به فليس معناه الهوهوية بين الطرفين ، إذ لا هوهوية بين المبدأ وبين الذات ولذلك لا يصح حمله عليها فلا يقال زيد جلوس الا مع التاويل ، بل معناه مجرد الانتساب أي انتساب هذا المبدأ إلى الذات .
وحينئذ يقع البحث في أن حمل الاشتقاق الراجع لمعنى الانتساب هل
____________
(1) فوائد الاصول 1 : 82 و 93 و111 .
(2) أجود التقريرات 1 : 57 و 59 .
(3) مقالات الاصوليين : 56 - 57 .
(4) نهاية الدراية 1 : 68 .

( 221 )
يعتبر فيه فعلية التلبس بالمبدأ حتى يصح الحمل أو يكفي مجرد ارتباط المبدأ بالذات في زمن من الأزمنة لصحة الحمل ، فالنزاع عقلي في بحث فلسفي وهو بحث حمل الاشتقاق ، وبما أن حمل المشتق كقولنا زيد عالم من مصاديق حمل الاشتقاق لأن عنوان المشتق عنوان انتزاعي ماخوذ من المبدأ وهو العلم مثلاً ، فحمله في الواقع وعالم الثبوت هوحمل للمبدأ على الذات وإنما لعدم صحة حمل المبدأ على الذات صراحة فيحمل عليها بواسطة ذو فيقال زيد ذو علم أو بواسطة المشتق فيقال زيد عالم فالحمل لباً وثبوتاً للمبدأ .
وبما أن حمل المبدأ حمل اشتقاق فكذلك حمل المشتق المأخوذ منه ، ولأجل وجود الخلاف في بحث الاشتقاق وأنه هل يشترط فيه فعلية التلبس أم لا فيسري هذا الخلاف لصغرياته ومصاديقه ومن جملتها المشتق .
ب - إن الخلاف المذكور ليس كبروياً دائراً حول حمل الاشتقاق نفسه وإنما هو بحث صغروي أي في خصوص المشتق ، بمعنى أن حمل الاشتقاق يفترق عن حمل المواطاة افتراقاً جوهرياً ، فكما يختلفان في أن المحمول في حمل المواطاة عنوان مندمج مع عنوان الموضوع متحد به وجوداً كقولنا هذا حجر والمحمول في حمل الاشتقاق هو المبدأ المنفصل عن الذات مفهوماً ووجوداً ، بناءاً على تعدد الموجود خارجاً للجوهر والعرض ، فكذلك يختلفان في أن المعتبر في حمل المواطاة كون الموضوع من الأفراد الفعلية للمحمول ولا يعتبر ذلك في حمل الاشتقاق ، بل يكفي مجرد انتساب المبدأ للموضوع في زمان سابق .
فهذه الكبريات لا نزاع فيها، وإنما النزاع في الصغرى وهو المشتق نفسه وهل أنه مندرج في باب حمل المواطاة فلابد فيه من فعلية التلبس أم أنه مندرج في باب حمل الاشتقاق فلا يعتبر فيه الفعلية .
بيان ذلك : أن حمل الاشتقاق يعني حمل المبدأ على الذات ، وبما أنه لا يصح حمل المباين على مباينه فلابد من وسيلة لتصحيح الحمل وهو إما لفظ ذو
( 222 )
فيقال زيد ذوعلم وإما لفظ المشتق فيقال زيد عالم ، فإذا قيل زيد عالم فهنا توجد نظرتان :
1 -أن كلمة عالم عنوان حاك عن العلم مرشد إليه ولا موضوعية للفظة عالم أصلا، وحينئذ بما أن حمل المبدأ على الذات حمل اشتقاق وحمل الاشتقاق لا يعتبر فيه فعلية التلبس فلا يعتبر في حمل المشتق فعلية التلبس ، لأن حمل عالم عبارة أخرى عن حمل كلمة علم وهي المبدأ نفسه .
2 - أن نقول بان حمل عالم على الذات يعني تحقق حملين مندمجين أحدهما صريح والآخر ضمني ، فالضمني هو حمل المبدأ نفسه على الذات وهو حمل اشتقاقي لا يعتبر فيه فعلية التلبس ، والصريح هو حمل عنوان عالم وهو عنوان متحد وجوداً مع الذات فحمله عليها حمل مواطاة، وبما أنه يعتبر في حمل المواطاة كون الموضوع فردا فعليا للمحمول فلابد من اعتبار ذلك أيضا في حمل المشتق ، خصوصاً وأنه عنوان انتزاعي ولا وجود للمنتزع الا بوجود مبدأ انتزاعه فإن وجوده بدونه من قبيل بقاء المعلول بلا علة .
إذن فالبحث صغروي حول عنوان المشتق وأنه مندرج تحت باب حمل المواطاة أم تحت باب حمل الاشتقاق .
وهذان هما الوجهان المتصوران في المقام لإثبات أن بحث المشتق بحث فلسفي يدور مدار الصدق والانطباق ، وهناك عدة اعتراضات على هذه النظرية بكلا تصويريها:
الأول : ما عن المحقق الاصفهاني في حاشيته على الكفاية، وملخصه أمران :
1 - إن الحمل الحقيقي هو حمل المواطاة لأن الحمل يعني الهوهوية بين
( 223 )
الموضوع والمحمول ، الا أن الهوهوية إما مفهومية مع المغايرة الاعتبارية وإما مصداقية مع التغاير المفهومي ، وأما حمل الاشتقاق وهو حمل المبدأ على الذات الذي يتوصل له إما بلفظ ذو وإما بالوصف المشتق فهو حمل مجازي كما ذكر المحقق الطوسي في شرح الاشارات (1)، وليس حملاً حقيقياً حق يتصور النزاع فيه كما قرر في الوجه الأول .
2 - إن هذا الترديد والتشقيق ، وهو أن حمل كلمة عالم مثلاً على زيد إما حمل مواطاة فيعتبر فيه فعلية التلبس وإما حمل اشتقاق فلا يعتبر فيه ذلك ، ان كان تشقيقاً لنفس المبدأ أي أن حمل المبدأ على الذات يتصور فيه هذان الاحتمالان فليس هذا محل كلامنا، لأن كلامنا في المشتق لا في المبدأ . وان كان تشقيقاً للمشتق نفسه وأن حمل كلمة عالم - مثلا - يتصور فيها الاحتمالان ففيه : إن حمل المشتق حمل مواطاة بلا ريب ، لوجود الهوهوية والاتحاد الوجودي بين الذات والعناوين الاشتقاقية ولا يتصور في حمل المشتق رجوعه لحمل الاشتقاق أصلاً ، فلا يتم التصور الثاني للنظرية(2) .
ولكننا لا نوافق على هذا الاعتراض ، وذلك لأن مقصود المحقق الطهراني - كما يظهر لمن راجع كلامه - أن التشقيق والترديد للحمل لا للمحمول ، سواءاً كان مبدأ أم مشتقاً ، ولذلك صياغتان :
أ - إننا اذا قلنا زيد عالم فنتسائل ما هو المحمول هل هو المبدأ ولفظة عالم ما هي الا وسيلة لتصحيح الحمل ومفادها مفاد كلمة ذو، فمعنى الحمل حينئذٍ هو انتساب المبدأ للذات . وهذا ما نعبرعنه بحمل الاشتقاق الذي يكفي فيه - بناءاً على تسليم الكبرى - مجرد ارتباط الذات بالمبدأ في الزمان السابق وإن لم
____________
(1) شرح الاشارات 1 : 30 -31 .
(2) نهاية الدراية 1 : 69 .

( 224 )
يكن هناك تلبس فعلي .
أم أن المحمول هو عنوان العالم فقط والمبدأ ما هو الا مصحح للانتزاع ، فإن العنوان الانتزاعي له منشأ انتزاع وهو ما يصح حمله عليه وهو الذات في المقام ومصحح انتزاع وهو المبدأ هنا ، فالمبدأ ليس دخيلاً في الحمل ولا جزءاً من المحمول وإنما هو مصحح الانتزاع فقط والا فالمحمول هو العنوان .
وبناءاً على ذلك فالحمل حمل مواطاة فيعتبر فيه فعلية التلبس ، مضافاً إلى أن عنوان المشتق عنوان انتزاعي ولا بقاء للعنوان الانتزاعي مع زوال مصحح انتزاعه .
إذن فهذا التسائل معقول ولا يرد عليه الاعراض المطروح من قبل المحقق الاصفهاني . نعم قد يدعى أن الظاهرمن حمل لفظة عالم - مثلاً - على زيد هو حمل عنوان المشتق لا حمل المبدأ المصحح له ، ولكن المفروض في كلام المحقق الطهراني أن البحث عقلي يدور مدار الحمل لا أنه بحث لغوي يدور مدار الظهور.
ب - إننا إذا قلنا زيد عالم فهنا لا يوجد حملان بالأصالة ، أحدهما مواطاة والآخر اشتقاق ، لتباين الحملين فلا يجتمعان في حمل واحد كما هو واضح لاستحالة اجتماع المتباينين ، ولكن يوجد هنا حملان ، أحدهما بالأصالة والأخر بالعرض ، فيوجد حمل لعنوان المشتق على الذات وحمل للمبدأ على الذات .
والسؤال حينئذٍ : أي الحملين بالأصالة؟
فإذا كان الحمل الأصيل هو للمبدأ فالمقصود مجرد الانتساب وهذا هو المعبر عنه بحمل الاشتقاق الذي لا يعتبر فيه فعلية التلبس ، وإن كان الحمل الأصيل للمشتق فالحمل حمل مواطاة وهو الذي يعتبر فيه فعلية التلبس .
إذن فتصور وجود حملين في القضية أمر معقول ، وبناءاً عليه فيصح التساؤل المذكور، وهذا هو مقصود المحقق الطوسي من المجاز في حمل
( 225 )
الاشتقاق ، أي أن المحمول بالحقيقة في حمل المشتقات هوحمل المشتق - مثلاً - وهو حمل مواطاة ، والمبدأ المحمولي حمل الاشتقاق محمول على نحو المجاز، لا أن حمل الاشتقاق بتمام صوره حمل مجازي بل هو حمل حقيقي قصد منه بيان مجرد الانتساب والارتباط وهذا المدلول مدلول واقعي فالتعبير عنه بلفظ ذو تعبير حقيقي لا مجازي . نعم ظاهر بعض كلمات الحكماء أن حمل الاشتقاق بتمام صوره حمل مجازي لأن حقيقة الحمل متقومة بالهوهوية والحاصل أن هنا حملين حملاً بالأصالة والاخر بالعرض وإن كان الظاهر.
في صورة حمل المشتق على الذات كون المحمول بالحقيقة هو عنوان المشتق والمبدأ محمولاً بالعرض والمجاز.
كما أن الظاهر أن الكبرى المذكورة في التصوير الأول للمحقق الطهراني متفق عليها في الفلسفة وهو أن حمل الاشتقاق لا يعتبر فيه فعلية التلبس ، وإنما النزاع في الصغرى وهي حمل المشتق لا في الكبرى فلا يتم التصوير الأول . الا أن التصوير الثاني معقول ولا يرد عليه اعتراض المحقق الاصفهاني (قده ) .
الاعتراض الثاني : ما طرحه المحقق النائيني (قده ) في أجود التقريرات (1) ومحصله أمران :
أ - إن ما ذكره المحقق الطهراني من كون النزاع في المشتق متعلقاً بمرحلة الصدق والتطبيق مبني على مسلك السكاكي في بحث المجاز، حيث اختار رجوع المجاز للإسناد لا للكلمة .
بيان ذلك : أن المشهور ذهبوا لكون المجاز في الكلمة ، فإذا قلت رأيت أسداً يرمي فالتجوز في لفظ الأسد حيث أريد به الرجل الشجاع ، الا أن السكاكي ذهب إلى أن التجوز في إسناد لفظ الأسد للفظ يرمي لا فى لفظ
____________
(1) اجود التقريرات 1 : 59.

( 226 )
الاسد .
فبناءا على مسلك المشهور يكون الحقيقة والمجاز من عوارض الكلمة وصفاتها، وبناءاً على مسلك السكاكي يكونان من عوارض الاسناد .
وحينئذٍ فلابد لنا في بحث المشتق عندما نتكلم عن كون المشتق حقيقة في المتلبس ومجازاً في غيره أو كونه حقيقة في الأعم أن ننظر لمرحلة الاسناد والحمل ، حيث لا حقيقة ولا مجاز الا فيه ونفس الكلمة بما هي لا تكون لا حقيقة ولا مجازاً، فلا يصح البحث عن المدلول الحقيقي والمجازي للفظ المشتق ، بل يجب أن ينصرف البحث للإسناد وكونه حقيقياً أم مجازياً، إذن فما أفاده المحقق الطهراني يتفرع على مسلك السكاكي .
ب - بما أن الأساس لنظرية المحقق الطهراني هي نظرية السكاكي في باب المجاز فإذا بطل الأساس بطل ما تفرع عليه .
أما بطلان مسلك السكاكي فنقول في بيانه :
إن القضايا على قسمين :
1 - حقيقية .
2 - خارجية .
فاما القضايا الحقيقية فلا يتصور فيها التجوز في الصدق والتطبيق ، وذلك لأن القضية الحقيقية لا نظر فيها لعالم الصدق والتطبيق أبداً وإنما الموضوع فيها هو طبيعي العنوان بعد الفراغ عن صدقه وانطباقه على أفراده المفروضة الوجود ، فمثلاً إذا قلنا المستطيع يجب عليه الحج فمحصله : أن طبيعي المستطيع إذا فرض صدقه على فرد فيجب عليه الحج ، فالموضوع للقضية هو طبيعي العنوان وجهة التطبيق على الأفراد أخذت مفروضة الوجود مفروغاً عنها.
ولذلك قيل : بأن القضايا الحقيقية مرجعها لقضية شرطية مقدمها وجود
( 227 )
الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له .
اذن فما دامت جهة التطبيق جهة مفروضة ومفروغا عنها في القضايا الحقيقية فلا يمكن أن يكون المجاز فيها بلحاظ عالم التطبيق والإسناد .
وأما القضايا الخارجية فهي تنقسم بحسب مرحلة الصدق والانطباق إلى ثلاثة أقسام :
1 -ما يكون الصدق فيها حقيقياً بلاخفاء نحو الفرات ماء .
2 -ما يكون الصدق فيها حقيقياً مع نوع من الخفاء نحو« الكبريت ماء ».
3 - ما يكون الصدق فيها متوقفاً على التوسعة نحو زيد أسد، والتوسعة هنا إما في الموضوع وإما في المحمول واما في الاسناد، فاما التوسعة في الموضوع فهو إما بإرادة الحيوان المفترس من لفظ زيد وهذا استعمال لا مصحح له من وضع أو طبع ، وإما باعتبار زيد حيواناً مفترساً ثم يحمل عليه لفظ الأسد وهو تكلف لا حاجة له بعد التجوز في لفظ الأسد، أو في إسناده .
وأما التوسع في المحمول بان يراد بلفظ الأسد الرجل الشجاع فهذا هو مطلوبنا، وهو كون المجاز في الكلمة لا في الاسناد .
وأما التوسع في الاسناد فهو باطل ، إذ بعد المحافظة على مفهوم زيد ومعدلوله بلا تجوز والمحافظة على مدلول الأسد بلا تجوز فحمل أحدهما على الأخر حمل للمباين على مباينه كحمل الحجر على الانسان وهو غلط وليس مجازاً ، فالتجوز في الاسناد لا وجه له بعد كون طرفي الاسناد متباينين .
والخلاصة : ان مسلك السكاكي وهو رجوع المجاز للإسناد لا للكلمة لا صحة له لا في القضايا الحقيقة ولا في القضايا الخارجية ، واذ بطل المسلك المذكور بطل ما تفرع عليه من كون بحث المشتق متعلقاً بالاسناد(1).
____________
(1) اجود التقريرات 1 : 59.