أ ـ لا دليل على واقعية العلل النحوية، باعتبار أن اللغة العربية قديمة جداً وعلم النحو علم مستحدث ، فما ذكره النحاة في كتبهم من التعليلات على صعيد الاعراب والبناء انما هو تعليل بعد الورود ، والا فالمجتمع العربي البدائي الذي انطلقت منه ظاهرة اللغة العربية ـ بتشكيلتها الإعرابية والبنائية ـ لم يكن في مستوى هذا الفكر الفلسفي الذي طرحه النحاة على نحو العلل والأسباب لظاهرة الاعراب والبناء .
ب ـ إذا كان التشابه المعنوي مع الحرف سبباً مقبولاً لبناء الكلمة بنظر المحقق النائيني (قده) فلابد له من الالتزام بأمرين :
1 ـ بناء الفعل المضارع باعتبار تضمنه لمعنى النسبة، والنسبة معنى حرفي ، وتضمن المعنى الحرفي سبب للبناء، مع أن الفعل المضارع معرب لا مبني بالاتفاق .
2 ـ بناء جميع المشتقات حتى بناءً على مسلك البساطة الذي هو مسلك المحقق النائيني (قده) ، وذلك لإحتواء جميع المشتقات على الهيئة ، والهيئة ذات معنى حرفي في نظر المحقق النائيني (قده)، فلا بد من بناءها مع أنها معربة .
ج ـ إن البرهان الآني المذكور في كلمات المحقق النائيني (قده) غير تام على جميع المباني المطروحة في وضع المشتقات ، بيان ذلك : إن هناك مسلكين في وضع المشتقات :
أ ـ تعدد الوضع والموضوع له ، إما بلحاظ اشتمال المشتق على عنصرين : مادة وهيئة، فالمادة تدل على طبيعي الحدث والهيئة تدل على النسبة الاسنادية للذات ، مع أخذ الذات جزءاً للموضوع له أو قيداً خارجاً عنه والجزئية للتقيد به. وإما بلحاظ دلالة الحرف الزائد كالالف في (قائم) على النسبة الاسنادية، مع دلالة أصل الكلمة على طبيعي الحدث .
ب ـ وحدة الوضع والموضوع له ، بلحاظ وضع المشتق بتمامه مادة وهيئة
( 312 )
للنسبة الاسنادية وضعاً شخصياً كما هو المختار في ظاهرة اللغة . وبعد وضوح المسلكين في وضع المشتق نقول : بأننا إن أخذنا بالمسلك الأول ـ القائل بتعدد الوضع والموضوع له على نحو تعدد الدال والمدلول ـ فلا يصدق حينئذ على المشتق سبب البناء، وهو تضمن المعنى الحرفي ، لأن المشتق بناءً على هذا المسلك من قبيل الكلمتين اللتين إحداهما اسم ـ وهو المادة الدالة على طبيعي الحدث ـ والأخرى حرف ، وهي الهيئة الدالة على النسبة الاسنادية للذات ، وسبب البناء هو تضمن الكلمة الواحدة للمعنى الحرفي ، لا انضمام الاسم للحرف كما هو واضح .
إذن فلا يتم البرهان الآني المذكورعلى البساطة بناءً على المسلك الأول .
وإن أخذنا بالمسلك الثاني ـ القائل بوحدة الوضع والموضوع له كما هو المختار ـ فسبب البناء غير متحقق في المشتق أيضاً، والسر في ذلك أن السبب الموجب للبناء تضمن الاسم للمعنى الحرفي التفصيلي ، كتضمن كلمة (متى) للاستفهام ، حيث إن الاستفهام هو المعنى التفصيلي الصريح لكلمة (متى) ، بينما وجود المعنى الحرفي في مفهوم الاسم على نحو التحليل والاندماج غير كاف في بنائه كما هو حاصل في المشتق ، فإن مدعى القائل بالتركيب هو دلالة المشتق على الذات الواجدة للمبدأ ، ومؤداه أخذ النسبة الاسنادية في مفهوم المشتق لا على نحو التفصيل بل على نحو التحليل والاندماج ، وهذا غير كاف في البناء، فلا يتم البرهان الإني المذكور على هذا المسلك أيضا .
الايراد الرابع : ما ذكره المحقق الشريف الجرجاني في حاشيته على شرح المطالع ، فإن صاحب المطالع عرف الفكر بـ « أنه ترتيب أمور معلومة للتوصل الى مجهول » واعترض عليه الشارح بأن هذا التعريف غير جامع ، لعدم انطباقه على التعريف بالفصل وحده كما لو قلنا : « الانسان هو الناطق » المسمى بالحد الناقص ، فإن عملية التعريف في المثال مع كونها نشاطاً فكرياً
( 313 )
ليست مصداقا للتحديد السابق للفكر، وهو « ترتيب أمور... »، باعتبار تماميتها بامر واحد وهو الفصل وحده بدون حاجة لترتيب أمور، فالتعريف المطروح للفكر غير جامع.
ثم أجاب الشارح عن اعتراضه بأن الفصل كالناطق ـ مثلاً ـ وإن كان بحسب التصور الادراكي أمراً واحداً إلا أنه بحسب التحليل العقلي ينحل لأمرين شيء ونطق ، فترتيب هذين الأمرين ذهناً للتوصل الى المجهول مصداق لقوله الفكر « ترتيب أمور للتوصل الى مجهول ». ولكن المحقق الشريف أشكل على جواب الشارح : بأن مفهوم الناطق إذا كان بسيطاً فلا محذور في ذلك ، وإذا كان مركباً من الشيء والنطق فإما أن يراد بالشيء الذي هو جزءه مفهوم الشيء فيلزم من ذلك دخول العرض العام ـ وهو مفهوم الشيء ـ في الفصل وهو مستحيل ، لأن الفصل جوهر بسيط لا يدخل فيه حتى الجنس فضلاً عن العرض العام ، باعتبار أن نسبة الفصل للجنس نسبة العلة المحصلة للمعلول ، ولا يعقل كون المعلول جزءاً من العلة . لذلك قال المناطقة بأن الجنس جنس للنوع لا للفصل ، فلا يكون دخيلاً فيه فضلاً عن دخول العرض العام فيه ، فإن الفصل من الذاتيات والعرض العام من العرضيات ، فكيف يكون العرضي جزءاً من الذاتي ؟!
واما أن يراد بالشيء مصداقه فيلزم انقلاب القضية الممكنة للقضية الضرورية ، فإن قولنا الانسان كاتب إذا انحل بالتأمل العقلي إلى قولنا الإنسان إنسان له الكتابة دخل في القضايا الضرورية، باعتبار أن ثبوت الشيء لنفسه ضروري وسلبه عنه ممتنع ، والنتيجة هي بساطة المشتق لا تركيبه(1) .
وعندنا عدة ملاحظات على هذا الايراد بكلا شقيه ، أما
____________
(1) حاشية الشريف على المطالع : 11 .

( 314 )
ملاحظاتنا على الشق الأول فهي :
أ ـ إن هذا البحث بتمامه إشكالاً وجواباً مبني على سنخ التفكير الفلسفي التقليدي الذي يرى أن معرفة الحقائق الواقعية يتم من خلال معرفة عنصرين : ما به الاشتراك وهو الجنس وما به الامتياز وهو الفصل ، إلا أن هذا السنخ من التفكير غير مقبول عندنا لوجهين :
1 ـ عدم وجود برهان قاطع على صحته .
2 ـ كونه عقيماً في الايصال لمعرفة واضحة السمات والملامح . وقد اعترف بذلك المناطقة أنفسهم ، فقالوا بعدم امكان الوصول للواقعيات وكنه حقائقها، لذلك فالطريقة المثمرة في الوصول لمعرفة الحقائق هي الطريقة التي طرحتها الفلسفة الحديثة، وهي معرفة الاشياء من خلال آثارها الحسية وعوارضها الفعلية والانفعالية . ولعل ما في الرواية الرضوية إشارة لهذه الطريقة حيث قال عليه السلام : « وخلق خلقا مختلفا بأعراض وحدود » (1) .
ب ـ ذكر المناطقة بان الفصول المطروحة في العلوم لتحديد الواقعيات ماخوذة على نحو المعرفتة للفصول الحقيقية لا على نحو الموضوعية، فمثلاً الناطق فصل مشهوري معرف بالفصل الحقيقي ، وهو مبدؤه أي النفس الناطقة ، والا فلا يعقل كون الناطق ذاتيا للإنسان ، فإن المراد بالنطق إن كان هو النطق الجارحي فهو من مقولة الكيف المسموع ، وإن كان هو النطق الجانحي الادراكي فهو من مقولة الكيف النفساني أو مقولة الفعل أو الاضافة على اختلاف المباني في بحث العلم في الفلسفة، وعلى كلا التفسيرين فالناطق من العرضيات لا من الذاتيات ، فلا يكون فصلاً مقوماً لحقيقة الانسان .
وبناءً على هذه المقالة فأي مانع من دخول مفهوم الشيء في مدلول
____________
(1) التوحيد للصدوق : 430 ، باب 65، ضمن حديث 1.

( 315 )
الناطق ، ما دام هذا المدلول بذاته أمراً عرضياً لا ذاتياً ، لعدم كونه فصلاً حقيقياً كما ذكرنا .
ج ـ إن هذا الايراد قد يعد خلطاً بين مقام الاثبات ومقام الثبوت ، باعتبار أن النزاع المنطقي في كون الفصل امراً بسيطاً أم مركباً نزاع ثبوتي دائر حول واقع الفصل وحقيقته ، وأنها مركبة في الواقع من الجنس والصفة أم من العرض العام والصفة أم غير مركبة ، بينما الخلاف الأصولي المعقود حول بساطة المشتق وتركيبه خلاف إثباتي دائر حول لفظ المشتق ومدلوله اللغوي العرفي ، وأن العرف المتامل هل يفهم النسبة الاسنادية من المشتق أم لا .
فلا وجه لخلط المبحثين والاستمداد من أحدهما للآخر، فإن الأول ناظر لخصوص الفصل بلحاظ حقيقته الواقعية ، والثاني ناظر للمشتق بلحاظ مدلوله اللغوي العرفي ، لذلك نرى الشريف الجرجاني في حاشيته على الكشاف وحاشيته على المطول وحاشيته على الأصول للحاجبي يصرح بتركيب المشتق ، لكنه في علم المنطق يرى بساطة الفصل المشتق ، مما يدل على عدم التنافي بين المقامين واختلافهما موضوعاً وحكماً .
هذه ملاحظاتنا على الشق الأول من الايراد، وهو استلزام أخذ مفهوم الشيء في مدلول المشتق لدخول العرض العام في الفصل .
وأما ملاحظتنا على الشق الثاني من الايراد ـ وهو استلزام أخذ مصداق الشيء في مدلول المشتق لانقلاب القضية الممكنة للضرورية ـ فبيانها يتوقف على ذكر أمور:
أ ـ إن القضية تحتوي على أربعة عناصر:
1ـ موضوع .
2 ـ محمول .
3ـ نسبة.

( 316 )
4 ـ كيفية ثبوت النسبة .
وهذه الكيفية بلحاظ عالم الثبوت تسمى مادة، وبلحاظ عالم الاثبات تسمى جهة .
ب ـ إن الجهات أربع :
1 ـ الضرورة .
2 ـ الامكان .
3 ـ الدوام .
4 ـ الاطلاق المعبر عنه بالفعل .
ج ـ إن الجهات قد تتداخل ، ومن ألوان التداخل انقلاب الممكنة للضرورية . وهناك ثلاثة موارد يحتمل فيها الانقلاب من الامكان للضرورة :
1 ـ أخذ المحمول في الموضوع نحو الانسان الكاتب كاتب ، وهو المعبر عنه بالضرورة بشرط المحمول ، وإن الكتابة لان كانت ثابتة للإنسان بالامكان الا أنها ثابتة للكاتب بالضرورة . فهذا المورد من موارد انقلاب الممكنة للضرورية .
2 ـ دخول الجهة في المحمول نحو الانسان كاتب بالإمكان ، على نحو يكون قيد (بالامكان ) مرتبطاً بالمحمول ـ وهو كاتب ـ لا بنسبة المحمول للموضوع ، وهذا المورد من موارد انقلاب القضية الممكنة للضرورية ، باعتبار أن ثبوت الكتابة بما هي للإنسان أمر ممكن ، الا أن ثبوت الكتابة المقيدة بالامكان له أمر ضروري ، وهذا التصور ليس خاصاً بجهة الامكان بل هو عام لسائر الجهات أيضاً .
وقد ذهب شيخ الاشراق السهروردي الى رجوع جميع القضايا الممكنة للضرورية ، باعتبار أخذ الجهة قيداً في المحمول ، لا مرآةً معبرة عن نسبة المحمول للموضوع ، وبرهانه على ذلك برهان إثباتي ، وهو: أن الظاهر الأولي
( 317 )
لكل ظرف كونه ظرفاً لغواً لا مستقراً، فلو كان قيد (بالامكان) هنا راجعاً للمحمول فهو ظرف لغو، ولو كان راجعاً للنسبة فهو ظرف مستقر، والظهور العرفي منعقد على رجوع القيود للمحمول دون النسبة ، ومقتضاه تحول القضية الممكنة للقضية الضرورية.
ولكننا نلاحظ على هذا الاستدلال : أن البحث في عناصر القضايا بحث ثبوتي واقعي لا إثباتي ، فلا وجه للتشبث فيه بالظهور، فإن القضية واقعاً وثبوتاً تنحل عند التامل لأربعة عناصر متقابلة، ومن المستحيل دخول المقابل في مقابله ، فلا يمكن دخول الجهة في المحمول وتقيده بها ، فالجهة مما به ينظر لأنها مرآة معبرة عن كيفية النسبة واقعاً، والمحمول مما فيه ينظر لأنه طرف الاسناد، فكيف يكون أحدهما قيداً للآخر؟ !
3ـ أخذ الموضوع في المحمول بعكس المورد الأول (وهو أخذ المحمول في الموضوع ). ومثاله : محل كلامنا، فإنا إذا قلنا الانسان كاتب فبناءاً على التركيب تنحل القضية لقولنا الانسان إنسان له الكتابة، فهل هذا المورد من موارد انقلاب الممكنة للضرورية أم لا؟ !
وهنا تقريبان لتصوير الانقلاب : أحدهما ما طرحه صاحب الكفاية، والآخر ما ذكره صاحب الفصول .
أ ـ تقريب الكفاية(1): وخلاصته : أن قولنا الانسان إنسان له الكتابة مشتمل على عقد الوضع ـ وهو عبارة عن معرفية عنوان الإنسان للموضوع الواقعي ـ وعلى عقد الحمل ـ وهو قضية إنسان له الكتابة ـ المتضمن لثلاثة أجزاء : مقيد وهو الانسان ، وقيد وهو الكتابة، وتقييد بها، وهذا التقيد معنى حرفي ، والمعنى الحرفي حقيقته المرآتية لأطراف القضية، فإما أن يكون مرآة
____________
(1) الكفاية : 52 ـ 53.

( 318 )
لملاحظة ذات المقيد في نفسه ، وهذا ما يعبر عنه بدخالة التقيد مع خروج القيد ، وإما أن يكون مرآة لملاحظة القيد نفسه ، وهو ما يعبر عنه بدخالة التقيد والقيد معاً ، وعلى كلا الشقين فانقلاب الامكان للضرورة امر معقول.
أما على الشق الأول ـ وهو كون التقيد مرآة لذات المقيد وهو الانسان في المثال ـ فالتحول حينئذ من الامكان الى الضرورة واضح ، لأن مرجع القضية حينئذ الى قولنا الانسان إنسان ، حيث لا دور للتقيد بالكتابة الا المرآتية لذات المحمول ، من دون دخالة له في الحمل أصلاً ، ومن المعلوم أن ثبوت الشيء لنفسه ضروري وسلبه عنه ممتنع .
وأما على الشق الثاني ـ وهو كون التقيد مرآة للقيد بحيث يكون القيد داخلاً في ضمن الحمل أيضاً ـ فتنحل القضية الى قضيتين بلحاظ عقد الحمل : إحداهما ضرورية والأخرى ممكنة، لأن مرجع قولنا الانسان كاتب ـ بناءً على التركيب ـ الى مقالتين :
1 ـ الإنسان إنسان .
2 ـ الإنسان له الكتابة .
باعتبار أن التقيد بالكتابة مرآة لدخول القيد في الحمل أيضاً، فأولى القضيتين ضرورية والأخرى ممكنة . هذا هو تقريب ما في الكفاية من دعوى الانقلاب (1) .
ولكننا نناقش في هذا التقريب بكلا شقيه ، فنقول : أما الشق الأول فيرد عليه عدة وجوه :
أ ـ إن مسلكنا في المعنى الحرفي يختلف عن مسلك صاحب الكفاية (قده) ، وذلك لأن مسلكنا هو كون الفارق بين المعنى الحرفي والاسمي بالخفاء
____________
(1) الكفاية : 52 ـ 53.

( 319 )
والوضوح ، لا بالآلية والاستقلالية ، كما هو مسلك الكفاية(1) ، فمع المناقشة في أصل المبنى لا يتم ما بني عليه.
ب ـ إن التقييد ليس معنى حرفياً مرآتياً، بل هو عمل إبداعي تقوم به النفس بهدف الربط بين ماهيتين ، وحينئذٍ فلا يعقل أن لا يكون له أي موضوعية في الحمل ، وأن يكون مجرد مرآة حاكية عن المقيد أو القيد، فإن المرآتية لا تسمى تقييداً، بل التقييد دخيل في الحمل أيضا، ولذلك قال الحكماء بان التقيد جزء لا محالة، وإنما خلافهم في جزئية القيد وعدم جزئيته .
ج ـ إن التقييد بناءاً على مرآتيته : إما أن يكون مرآتاً لذات المقيد بما هي ذات ، وإما أن يكون مرآة لذات المقيد بما هي مقيدة ، فإن كان مرآة لذات المقيد بما هي ذات فلازم ذلك اللغوية، لأن الذات بعد معرفتها بعنوانها التفصيلي المذكور في الموضوع ـ وهو الانسان ـ لا حاجة لمعرفتها مرة أخرى من خلال مرآتية التقييد أصلاً.
وإن كان مرآة لذات المقيد بما هي مقيدة فلا يلزم من ذلك الانقلاب من الإمكان الى الضرورة ، لأن حمل الحصة على الكلي ليس حملاً ضرروياً ، فثبوت الانسانية المقيدة بالكتابة للإنسان ليس ثبوتاً ضرورياً كما هو واضح .
هذه مناقشتنا للشق الأول من تقريب كلام الكفاية لدعوى الانقلاب .
وأما الشق الثاني من كلامه فيرد عليه وجهان :
أولا: إن التحليل العقلي لعقد الحمل في قولنا : (الانسان كاتب ) بناءً على التركيب يقتضي الالتزام بأحد أمرين على سبيل منع الخلو: إما عدم الانقلاب وإما الانقلاب الصحيح ، وذلك لأن إنحلال كلمة كاتب الى قضيتين ـ إحداهما : الانسان انسان ، والأخرى الانسان له الكتابة ـ لا يعني أن
____________
(1) الكفاية : 12 ـ 42 .

( 320 )
كلتا القضيتين مقصودتان بالحمل ، بل المقصود بالحمل هو القضية الثانية دون الأولى ، لعدم الفائدة في حمل القضية الأولى كما هو واضح ، وإذا كان المقصود بالحمل هو القضية الثانية فالأولى مذكورة على سبيل الضمنية والاندماج في مدلول المحمول ، تمهيداً للقضية الثانية لا أنها هي مركز الحمل .
وهذا التمهيد لا يسمى انقلاباً كما هو ظاهر، فإن كون القضية الممهدة ضرورية لا يستلزم انقلاب الحمل من الامكان للضرورة ، ما دام مركز الحمل هو القضية الامكانية .
نعم لو قلنا بأن مركز الحمل والمقصود الأساسي منه هو القضية الأولى فالانقلاب حينئذٍ صحيح ، بينما مدعى الشريف الجرجاني ـ الذي كان صاحب الكفاية بصدد تفسيره وتقريبه ـ هو الانقلاب الفاسد ، فإن الشريف قد قال : (بان الماخوذ في مدلول المشتق إن كان هو مصداق الشيء فلازم ذلك انقلاب الممكنة للضرورية ، وهو فاسد)(1) فالكلام المفسر وهو كلام الجرجاني ناظر للانقلاب الفاسد، فكيف يكون الكلام المفسر وهو كلام الكفاية ناظراً للانقلاب الصحيح ، فالخلاصة : أن مركز الحمل إن كان هو القضية الثانية ـ وهي له الكتابة ـ فلا يوجد انقلاب ، وإن كان هو القضية الاولى ـ وهي إنسان ـ فالانقلاب صحيح .
وثانياً : إن دعوى انحلال عقد الحمل ـ وهو قولنا إنسان له الكتابة ـ إلى قضيتين معناه أخذ المحمول ـ وهو لفظ كاتب ـ على نحو العموم الاستغراقي ، بلحاظ أجزائه التي ينحل إليها بناءً على التركيب ، مع أن القول بالتركيب يقتضي النظر إلى المحمول على نحو العموم المجموعي ، وهو كون المحمول عبارة عن وحدة تركيبية اعتبارية تنتفي بانتفاء أحد أجزائها، فلا توجد حينئذٍ
____________
(1) الفصول : 61 .

( 321 )
قضيتان مختلفتان جهة ومحمولاً كما هو المدعى .
ب : تقريب صاحب الفصول لدعوى الانقلاب :
نقل صاحب الكفاية عن الفصول قوله : « لأن الذات الماخوذة مقيدة بالوصف ـ قوة أو فعلاً ـ إن كانت مقيدة به واقعا صدق الإيجاب بالضرورة ، والاّ صدق السلب بالضرورة »(1)، ثم أردف ذلك بالمثال ، وحكي هذا المثال بعبارتين :
الأولى : ما في النسخة المصححة عند المشكيني شارح الكفاية، وهي : « مثلا لا يصدق زيد كاتب بالضرورة لكن يصدق زيد الكاتب ـ بالقوة أو بالفعل ـ كاتب بالضرورة» (2) .
الثانية : ما في النسخة المصححة عند المحقق الاصفهاني (قده) ، وهي : « مثلا لا يصدق زيد كاتب بالضرورة لكن يصدق زيد زيد الكاتب ـ بالقوة أو الفعل ـ بالضرورة » (3)، واختلاف العبارتين أوجب اختلاف التفسير لكلام الفصول بصورتين .
الصورة الأولى : وهي مختار صاحب الكفاية في تفسير كلام صاحب الفصول ، وبيانها : إن ما طرحه صاحب الفصول راجع للمورد الأول من موارد انقلاب الامكان الى الضرورة، وهو أخذ المحمول في الموضوع المعبر عنه بالضرورة بشرط المحمول ، ومعناه ما ذكره الحكيمان السبزواري في المنظومة(4) وصدر المتألهين في الأسفار(5): من الوجوب اللاحق أو الامتناع اللاحق ، فإن
____________
(1) الكفاية : 53 .
(2) شرح المشكيني على الكفاية ا : 80 .
(3) نهاية الدراية 1 : 89 .
(4) شرح المنظومة 2 : 255 ـ 276 .
(5) الاسفار 1 : 224 .

( 322 )
الموجود محفوف بضرورتين : ضرورة سابقة وضرورة لاحقة ، فالضرورة السابقة عبارة عن تمامية علته وانتظارها لوجوده ، وهذا ما يعبر عنه بـ : إن الشيء ما لم يجب لم يوجد.
والضرورة اللاحقة عبارة عن وجود الشيء ، فإن الشيء إذا وجد فوجوده طارد بالذات لعدم نفسه ، بحيث يكون العدم ممتنع العروض على هذا الوجود، وهذا هو معنى الضرورة بشرط المحمول ، فإن الموصوف بوصف معين كالكتابة مثلاً ـ في قولنا الانسان كاتب ـ إما أن يكون واجداً لهذه الكتابة خارجاً وإما أن يكون فاقداً لها، فإن كان واجداً للكتابة خارجاً فثبوتها له ضروري ، لأن وجودها طارد بالذات لعدمها ، وإن كان فاقداً لها فثبوتها ممتنع ، لأن المعدوم محفوف بامتناعين : امتناع سابق ، وهو عدم وجود المعلول عند عدم تمامية العلة ، وامتناع لاحق ، وهوعدمه الطارد بالذات لوجوده . فيصح لنا أن نقول : الانسان الكاتب خارجاً كاتب بالضرورة . هذا هو تفسير صاحب الكفاية لكلام صاحب الفصول .
ولكن يرد عليه عدة وجوه:
أ ـ إن هذا التفسير خارج عن محل البحث ، فإن محل البحث هو: هل أن أخذ مصداق الشيء في مدلول المشتق مستلزم لانقلاب الامكان الى الضرورة أم لا، بينما التفسير المذكور ناظر لأخذ المحمول وهو الكاتب في الموضوع ، إذن فهما متقابلان ، لأن الأول يعني أخذ الموضوع في المحمول والثاني يعني أخذ المحمول في الموضوع ، فكيف يكون أحدهما تفسيرا للآخر؟!
ويؤيد ما قلنا : أن محذور انقلاب الامكان للضرورة الناتج عن أخذ المحمول في الموضوع مشترك بين القول بالتركيب والقول بالبساطة، فإننا حتى لو اخترنا القول ببساطة المشتق فلا محالة يكون ثبوت هذا المبدأ الذي هو الكتابة ـ مثلاً ـ لمن كان واجداً للكتابة ـ خارجاً ـ ضرورياً وسلبه ممتنعاً . فلا يختص
( 323 )
محذور الانقلاب من الامكان للضرورة المسبب عن أخذ المحمول في الموضوع بمقالة التركيب ، بينما مدعى الشريف الجرجاني ـ الذي كان صاحب الفصول بصدد تقريبه وتفسيره ـ هو استلزام القول بالتركيب بخصوصه لمحذور الانقلاب ، دون القول بالبساطة، وهذا المدعى لا يتم الا بناءً على المورد الثالث من موارد الانقلاب ، وهو دخول مصداق الشيء في مفهوم المشتق ، أي أخذ الموضوع في المحمول لا أخذ المحمول في الموضوع كما أفاد في الكفاية .
ب ـ إن الأساس الذي يترتب عليه محذور الانقلاب ـ وهو أخذ الموضوع بشرط المحمول ـ غير تام في الموجهات :
أولاً : إن هذا الاشتراط ـ وهو أخذ المحمول في الموضوع ـ مستلزم لعدم الفائدة في الاخبار، إذا لا فائدة في الإخبار عن زيد الكاتب بانه كاتب .
وثانياً : عدم تناسب الجهة مع الاشتراط المذكور، لأن جهة القضية تعني المرآتية لكيفية ثبوت المحمول للموضوع واقعاً، وكيفية ثبوت المحمول للموضوع تستدعي أخذ الموضوع لا بشرط من ناحية المحمول ، حتى يتصور الامكان أو الفعلية أو الدوام أو الضرورة في هذا الثبوت ، ومع اشتراط الموضوع بالمحمول فلا يتصور حينئذٍ إلا الثبوت الضروري ، بلا حاجة للنظر الى عالم الواقع لمعرفة كيفية الثبوت ، فالحاصل : أن جهة القضية واشتراط الموضوع بالمحمول أمران لا يجتمعان ، لأن معنى جهة القضية هو ملاحظة عالم الثبوت والواقع لمعرفة كيفية النسبة ولونها، ومعنى اشتراط الموضوع بالمحمول هو تعين الضرورة بدون ملاحظة عالم الثبوت ، إذن فهما أمران متقابلان ، لذلك قد يقال بانه لا توجد ضرورية بشرط المحمول في الموجهات .
ج ـ لا ربط بين الضروره بشرط المحمول وبين الوجوب اللاحق ، كما
( 324 )
يتوهم من عبارة الحكيمين السبزواري (1) وصاحب الأسفار(2)، فإن الضرورة بشرط المحمول تعني التقييد الاثباتي بغض النظرعن عالم الخارج ، بينما الوجوب اللاحق يعني نفس الوجود الخارجي الطارد للعدم بغض النظر عن عالم الاثبات ، فبينهما فرق واضح .
الصورة الثانية : وهي المطابقة للنسخة المصححة عند المحقق الاصفهاني (قده) الراجعة للمورد الثاني من موارد الانقلاب ، وهو كون الجهة جزءاً من المحمول . وبيان ذلك يتم بذكر أمور:
1 ـ لا فرق بين النسبة التامة ـ وهي التي يصح السكوت عليها ـ كقولنا الانسان كاتب ، والنسبة الناقصة كالنسبة التقييدية في قولنا الانسان الكاتب ، إلا بالتعدد اللحاظي الراجع لنظرية التكثر الادراكي ، فإن الذهن تارة يلاحظ الوصف والموصوف على نحو الانفصالية وتعدد الوجود فهذا هو ميزان النسبة التامة، وتارة يلاحظهما على نحو الاندماجية ووحدة الوجود فهذا هو معيار النسبة الناقصة ، فالنسبتان حقيقة واحدة متعددة اللحاظ .
وهذا هو السر في تحقق الضرورة بشرط المحمول ، لأننا عندما نقول : ( زيد الكاتب ) على نحو النسبة الناقصة ثم نقول : ( كاتب ) على نحو النسبة التامة فقد كررنا معنى واحداً بلحاظ متعدد، وأسندنا الشيء ـ وهو: كاتب ـ الى نفسه ـ وهو: الإنسان الكاتب ـ وإسناد الشيء الى نفسه ضروري وسلبه عنه ممتنع ، فتتحقق بذلك القضية الضرورية بشرط المحمول .إذن مناط الضرورة بشرط المحمول هو: قيام الذهن بتصور النسبة الوصفية على لونين : لون الاندماج ولون التفصيل ، ثم نسبة أحدهما للآخر وربطه به . وليس المناط
____________
(1) شرح المنظومة 2 :275.
(2) الاسفار 1 : 224 .

( 325 )
في الضرورة بشرط المحمول ما يتوهم من عبارة السبزواري وصاحب الأسفار: من رجوع ذلك الى الوجوب اللاحق ، بل الضرورة بشرط المحمول عملية ذهنية إثباتية لاحقيقة ثبوتية .
2 ـ بما أنه لا فرق بين النسبة التامة والنسبة الناقصة في الحقيقة فكذلك لا فرق بينهما في الأحكام ، فكما أن النسبة التامة تحتاج للجهة المعبرة عن كيفيتها الواقعية فكذلك النسبة الناقصة تحتاج للجهة أيضا .
3 ـ بناءً على القول بالتركيب : فقولنا الانسان كاتب بالامكان راجع إلى قولنا الانسان إنسان كاتب بالامكان ، وبما أنه لا فرق بين النسبة التامة والناقصة في الحقيقة والأحكام فكلمة بالامكان التي كانت قيداً للنسبة التامة وجهة لها تحولت إلى كونها جهة للنسبة الناقصة المستفادة من تركيب كلمة كاتب ، فلا تنسلخ عن جهتيتها ومراتيتها للنسبة الواقعية غاية الأمر أنها جهة للنسبة الناقصة لا جهة للنسبة التامة المؤلفة من الموصوف والوصف والجهة، وهي قولنا : (الانسان الكاتب بالامكان ) فتحتاج النسبة التامة المذكورة لجهة اخرى غير هذه الجهة الراجعة للنسبة الناقصة ، لأنه من المستحيل رجوع جهة واحدة لنسبتين طوليتين ، بحيث تكون هذه الجهة نفسها جزءاً من المحمول في إحداهما ، فإن لازم ذلك كون هذه الجهة جهة لنفسها ، وهذا مستحيل .
فلا بد من جهة أخرى للنسبة التامة، وهذه الجهة الأخرى هي الضرورة، لما ذكرناه سابقاً من أن أي جهة إذا تحولت جزءاً للمحمول كانت جهة القضية المشتملة على تلك الجهة المتحولة هي الضرورة، فلابد لنا في الصياغة الثانية من إضافة قيد الضرورة ، فنقول : الانسان هو الانسان الكاتب بالإمكان بالضرورة .
وبعد وضوح الأمور المذكورة نقول : بأن لازم القول بالتركيب هو محذور انقلاب القضية الممكنة للقضية الضرورية، والسبب في هذا الانقلاب ما
( 326 )
ذكرناه من الأمور، وهي :
أولاً: رجوع قولنا الانسان كاتب بالامكان الى قولنا الانسان إنسان كاتب بالامكان ، بناءاً على القول بالتركيب ، سواءً كان المأخوذ في مدلول المشتق هو مفهوم الشيء والانسان ، أم كان الماخوذ هو مصداق الشيء والانسان ، فإن هذا المحذور مشترك الورود بين الشقين المطروحين ، ولذلك قال صاحب الفصول بعموم الاشكال لكلا الشقين المذكورين .
وثانياً : رجوع جهة الامكان للنسبة الناقصة المستفادة من مدلول المشتق ، إذ لا فرق بين النسبة الناقصة المذكورة والنسبة التامة في القضية الأصلية ـ وهي : الانسان كاتب بالامكان ـ في الحقيقة والأحكام .
وثالثاً : ارتباط جهة الامكان بالنسبة الناقصة ، يعني تحول هذه الجهة الى كونها جزءً من المحمول ، فيتولد من قولنا : (الانسان كاتب بالامكان ) حمل جديد يحتاج لجهة أخرى ، وهو قولنا : الانسان هو الانسان الكاتب بالامكان .
ورابعاً : إن هذا الحمل الجديد يعرض على الواقع لتعرف جهته الواقعية ، فإن كان صادقاً فالجهة هي الضرورة، وإن كان كاذباً فالجهة هي الامتناع ، ولما كان (الانسان الكاتب بالامكان ) أمراً صادقاً في الواقع كان ثبوت هذا المحمول بتمامه ـ من موصوف ووصف وجهة ـ للموضوع بالضرورة، فتكون الجهة هي الضرورة ، فيرجع قولنا : (الانسان كاتب بالامكان) بناءً على التركيب لقولنا : الانسان هو الانسان الكاتب بالامكان بالضرورة . أو كما في النسخة المصححة عند المحقق الاصفهاني (قده) : زيد زيد الكاتب بالامكان بالضرورة .
وهذا معنى قولهم : بأن الجهة إذا أصبحت جزءاً من المحمول كانت الجهة الواقعية لهذا المحمول بتمامه هو الضرورة ، وحيث أن الامكان هنا أصبح جزءاً من المحمول فالجهة العامة لهذا المحمول ـ المقيد بالامكان ـ هو
( 327 )
الضرورة .
فالخلاصة : أن القول بتركيب المشتق يستدعي القول باشتماله على نسبة تقييدية، والنسبة التقييدية كالنسبة التامة مفتقرة الى الجهة، فيكون لفظ (بالامكان ) قيداً لها كاشفاً عن كيفيتها الواقعية، وإنه وإن أصبح جزءاً من المحمول إلا أنه لم ينسلخ عن مرآتيته وجهتيته للنسبه التقييدية .
وبناءً على ذلك فلا بد من وجود جهة أخرى للمحمول المؤلف من الموصوف والوصف والجهة، وليست تلك الجهة إلا الضرورة، فتحقق الانقلاب من الامكان للضرورة .
وأما لو قلنا ببساطة المشتق فلا توجد حينئذ نسبة تقييدية تحتاج لجهة الامكان ، بل ليس في الجملة إلا النسبة التامة مع جهة الامكان ، فلا ينقلب الامكان من كونه جهة لتمام القضية الى كونه جزءاً من المحمول ، ولا يتحقق الانقلاب من الامكان للضرورة . وبذلك يتبين لنا أن دعوى شيخ الاشراق السهروردي ـ وهي انحصار جهات القضايا في جهة الضرورة ـ تامة وصحيحة بناءاً على القول بتركيب المشتق ، لارتباط سائر الجهات المذكورة حينئذٍ بالنسبة التقييدية المستفادة من المشتق وتحولها الى كونها جزءاً من المحمول ، فتحتاج القضية باسرها لجهة أخرى غير الجهات المذكورة فيها، وليس إلا جهة الضرورة . أما لو قلنا بالبساطة في المشتق فلا تتم هذه الدعوى كما هو واضح مما سبق بيانه ، هذا تمام الكلام حول تقريب كلام الفصول في شرحه لدعوى الانقلاب المطروحة في كلمات المحقق الشريف الجرجاني .
وتعليقنا على هذه التقريبات كلها يتم بعرض أمور:
أ ـ إن التوصيف على نوعين :
1 ـ تقييدي.
2 ـ إخباري .

( 328 )
فإن الموصوف إما أن يكون كلياً أو جزئياً ، فإن كان الموصوف كلياً وكان الوصف أخص منه مطلقاً أو من وجه فمرجع التوصيف حينئذ للتقييد، وتضييق دائرة الموصوف بحيث يعد المؤلف من المقيد والقيد مفهوماً واحداً ، وماهية خاصة مغايرة لماهية المقيد وحده وماهية القيد وحده .
نعم لو كان الوصف مساوياً للموصوف الكلي فلا يتصور التقييد والتضييق حينئذ، بل يكون هذا الوصف إخباراً توضيحياً لا قيداً احترازياً .
وإن كان الموصوف جزئياً فلا يتصور فيه التقييد والتضييق لعدم سعته وتعدد حصصه ، بل يرجع وصفه للاخبار بأنه واجد للوصف الكذائي .
فإن قلت : يصح تقييد الجزئي بلحاظ حاله لا بلحاظ ذاته ، فإن حاله مطلق ذو حصص متعددة فيصح تقييده بلحاظه .
قلت : هذا خارج عن محل الكلام ، فإن مورد كلامنا في تقييد الجزئي وعدم تقييده ، وأما حال الجزئي فهو كلي طبيعي يتصور فيه التقييد والتضييق ، إلا أن تقييده لا يعد تقييدا للجزئي .
وما ذكرناه من الفرق بين عنوان التوصيف التقييدي والتوصيف الاخباري هو المطابق للارتكاز العرفي المعول عليه عند الفقهاء ، ولذلك ذكر الفقهاء بأن البائع لو قال : (بعتك الحنطة العراقية) ثم دفع للمشتري حنطة أخرى فالبيع صحيح ، وعلى البائع دفع المصداق الحقيقي للمبيع ، فإن المبيع ـ بعد التوصيف التقييدي ـ له حصة خاصة لا تنطبق على ما دفع للمشتري ، فعلى البائع تسليم مصداقها الواقعي .
وأما لو قال البائع : (بعتك هذه الحنطة العراقية) فمرجع الوصف حينئذ للاخبار والالتزام الضمني بانها عراقية، لا للتقييد لعدم كون الموصوف كلياً قابلاً للتقييد، فالوصف في الحقيقة التزام آخر في ضمن الالتزام باصل البيع ، ومع تخلف الوصف لا يكون البيع باطلاً لبقاء الالتزام الأول باصل البيع ،
( 329 )
ولكن يكون للمشتري خيار تخلف الوصف الراجع لتخلف الشرط الضمني ، وهو الالتزام بواجدية المبيع للوصف الكذائي ، فهذا التفصيل هو المطابق للارتكاز العرفي .
ب ـ بناءاً على ما ذكر في الأمر السابق نقول : بأن المشتق إذا كان بسيطاً فلا يوجد حينئذ أي توصيف حتى نبحث عن كونه توصيفاً تقييدياً أوتوصيفاً إخبارياً، وإذا كان المشتق مركباً فتارة يدعى أنه مركب من مفهوم الشيء والحدث ، وتارة يدعى كونه مركباً من مصداق الشيء مع الحدث ، فعلى الشق الأول ـ وهو تركيبه من عنصري مفهوم الشيء والحدث ـ يكون المشتق مشتملاً على توصيف تقييدي ، باعتبار أن الموصوف كلي لا جزئي ، والتوصيف التقييدي لا يحتاج لجهة حتى يتصور محذور الانقلاب فيه .
والسر في ذلك يتوقف على بيان مقدمتين :
1 ـ إن التقييد عبارة عن عمل إبداعي نفسي ، وهو خلق نوع من الالتحام والاندماج بين ماهيتين ، بحيث تتولد ماهية خاصة ثالثة مغايرة لماهية الطرفين ، فالحادث بعد التقييد مفهوم واحد وصورة فاردة .لا قضية إسنادية، اي كما أن صورة الانسان مفهوم واحد ذهناً يعبر عنها تارة بعنوان افرادي فيقال : (الانسان ) وتارة بعنوان توصيفي فيقال : (الحيوان الناطق ) فكذلك مدلول المشتق ـ بناءاً على التركيب ـ أيضاً مفهوم واحد يعبر عنه تارة بعنوان المشتق ـ وهو عنوان أفرادي ـ وتارة بعنوان ما ينحل له المشتق وهو توصيف تقييدي .
2 ـ إن الجهة من القيود الراجعة للقضايا وهي الجمل المشتملة على النسب التامة التي يصح السكوت عليها، أو ما يرجع للقضايا كالشرط في القضايا الشرطية ـ مثلاً ـ حين تحليله وارجاعه لجملة خبرية تامة، وأما التوصيف التقييدي الذي ينحل له المشتق فقد ذكرنا : أنه مفهوم واحد وليس قضية بالاصطلاح المنطقي حتى يكون له جهة من الجهات المنطقية . فكما أن
( 330 )
عنوان الإنسان ـ وإن انحل بالتأمل الى توصيف تقييدي ـ لا يعد قضية بالاصطلاح المنطقي حتى يحتاج لجهة من الجهات ، فكذلك عنوان المشتق لا يعد قضية بالاصطلاح المنطقي وإن انحل بالتأمل العقلي لتوصيف تقييدي بناءاً على القول بالتركيب ، فلا يكون مقيداً بجهة من الجهات المنطقية .
فإذا قلنا زيد كاتب بالامكان لا يكون قيد (بالامكان) راجعاً لمدلول المشتق ، باعتبار اشتماله على توصيف تقييدي ، ما دام لا يعد قضية بالاصطلاح المنطقي ، فلا تتحول الجهة الامكانية الى كونها جزءاً من المحمول بحيث يحتاج مجموع الموصوف والوصف والجهة إلى جهة أخرى وهي جهة الضرورة، وتنقلب القضية الممكنة الى القضية الضرورية . إذن محذور الانقلاب لا يرد على القول بالتركيب إذا قلنا بالتركيب التقييدي ، وهو التركيب من مفهوم الشيء والحدث لما ذكرناه .
فإن قلت : بان الشيخ والفارابي قد اختلفا في الجهة الراجعة لعقد الوضع وأنها جهة الإمكان أم جهة الفعلية، مع أن عقد الوضع عنوان مفرد لا قضية ، فمثلا إذا قلنا : (كل إنسان كاتب بلإمكان) (1) فهنا مع أن عنوان الإنسان عنوان مفرد الا أن المناطقة أرجعوه لقضية تامة، وهي : كل ما صدق عليه إنسان بالامكان او بالفعل ـ على الخلاف المذكورـ فهو كاتب بالامكان ، فلولا حاجة كل نسبة للجهة ـ سواءاً كانت تامة أم ناقصة ـ لم يختلف الحكماء في تعيين جهة عقد الوضع .
قلت : إن المناطقة لا يقولون بأن كل توصيف ـ ولو كان تقييدياً ـ يحتاج لجهة من الجهات ، والا لقالوا بذلك في عقد الحمل ، مع أنهم لا يرون عقد الحمل قضية موجهة بجهة معينة، وإنما قالوا بذلك في عقد الوضع لانهم
____________
(1) الكفاية : 53 .

( 331 )
أرجعوا جميع القضايا إلى قضية شرطية مقدمها وجود الموضوع وتاليها ثبوت المحمول له ، فلما كان عنوان الموضوع ـ بحسب اصطلاحهم ـ قائما مقام جملة الشرط صار عقد الوضع عبارة عن توصيف إخباري محتاج لجهة من الجهات ، إذن فلا دلالة في اختلافهم في جهة عقد الوضع على حاجة كل نسبة للجهة ، ولو كانت نسبة ناقصة وتوصيفاً تقييدياً .
هذا تمام تعليقنا على الشق الأول من التركيب ، وهو تركيب المشتق من مفهوم الشيء والحدث .
وأما تعليقنا على الشق الثاني ـ وهو تركيب المشتق من مصداق الشيء والحدث ـ فهو: أن محذور الانقلاب مستحكم فيه ، بلحاظ أن الموصوف بالحدث جزئي الشيء ، والجزئي ـ كما ذكرنا في الأمر السابق ـ غير قابل للتقييد، فتوصيفه لا محالة توصيف إخباري لا توصيف تقييدي ، والتوصيف الإخباري يستلزم وجود نسبة متقومة بطرفين مستقلين ، فلابد له من جهة من الجهات ، ولا يتطابق معها الا الجهة المذكورة في القضية، كجهة الامكان ـ مثلاً ـ في قولنا : (الانسان كاتب بالامكان) ، وحينئذ تتحول الجهة الامكانية الى كونها جزءاً من المحمول ، والمحمول بتمامه ـ من موصوف ووصف وتوصيف ـ يحتاج لجهة اخرى، وليست الا الضرورة، ونتيجة ذلك هو انقلاب القضية الممكنة للقضية الضرورية، فما ذكره صاحب الفصول من دعوى الانقلاب ـ بناءاً على القول بالتركيب ـ صحيح وتام بالنسبة للشق الثاني ، وغير تام بالنسبة للشق الأول منهما .
ج ـ إن الجزئي الماخوذ في مدلول المشتق إما أن يراد به الجزئي الحقيقي وإما أن يراد به الجزئي الاضافي ، فإن كان المراد هو الجزئي الحقيقي فمحذور انقلاب الممكنة للضرورية وارد عليه ، الا أنه احتمال باطل في نفسه ، وذلك إما لاستلزامه المحال العادي وإما لمنافاته للوجدان العرفي .
( 332 )
بيان ذلك : إن دعوى دخول مصداق الشيء ـ وهو الجزئي الحقيقي ـ في مدلول المشتق لا تتم الا عن أحد طريقين :
1 ـ المشترك اللفظي ، بان يوضع لفظ الكاتب ـ مثلاً ـ لجميع الأفراد الانسانية المتلبسة بالكتابة قوة أو فعلاً، منذ أن اخترعت الكتابة وحتى يوم القيامة ، وذلك مستلزم التصور الواضع جميع هؤلاء الأفراد واحداً واحداً ووضع المشتق بإزائه على نحو تعدد الوضع والموضوع له ، وهذا مستحيل عادة بالنسبة للإنسان الواضع لهذه الألفاظ.
2 ـ الوضع العام والموضوع له الخاص ، بمعنى أن ما تصوره الواضع حين الوضع هو عنوان مصداق الشيء وجزئيه الحقيقي ، ولكن ما قصد وضع اللفظ له نفس المصاديق الخارجية والأفراد المتلبسة بالمبدأ، ولازم ذلك التغاير المعنوي بين المشتقات ، بحيث يكون المتبادر من لفظ كاتب حين اطلاقها على زيد مغايراً للمتبادر منها حين اطلاقها على بكر، وهكذا ، وهذا مخالف للوجدان العرفي قطعاً ، حيت يرى العرف جريان الاطلاقات في المشتق على نسق واحد .
إذن دعوى دخول مصداق الشيء في مفهوم المشتق مستلزم لورود محذور الانقلاب كما سبق بيانه ، الا أنها دعوى بينة الفساد في نفسها .
وأما إذا كان المأخوذ في مدلول المشتق هو الجزئي الاضافي للشيء فهو كلي في الحقيقة لا جزئي ، وتوصيف الكلي لا محالة توصيف تقييدى لا إخباري ، وبما أن التوصيف التقييدي لا جهة له فلا يتصور حينئذ محذور الانقلاب أصلاً .
فالخلاصة : أن القول بتركيب المشتق محتمل لصور:
1 ـ كون الماخوذ في مدلوله هو مفهوم الشيء ، وهو كلي ، وتوصيفه توصيف تقييدي لا جهة له ، فلا يتصور فيه محذور الانقلاب .
2 ـ كون المأخوذ في مدلوله هو مصداق الشيء وجزئيه الحقيقي ، ولازم ذلك ورود محذور الانقلاب ، الا أنه احتمال ضعيف في نفسه .
( 333 )
3 ـ كون المأخوذ في مدلوله هو الجزئي الاضافي ، أي : عنوان ما يمكن تلبسه بالمبدأ عادة، وهو كلي لا يرد عليه محذور الانقلاب كما شرحنا .
وبيانه يحتاج لاستعراض عدة نقاط :
الأولى : قد ذكرنا سابقاً أن التركيب على أنواع :
1 ـ التركيب اللحاظي ، وهو منفي في المشتق ، لبساطته ووحدة صورته ذهنا .
2 ـ التركيب الماهوي ، وهو رجوع ماهية الشيء ـ عند التأمل ـ لعنصرين :
الأوّل : ما به الاشتراك المعبر عنه بالجنس .
الثاني : ما به الامتياز المعبر عنه بالفصل .
وذلك كرجوع ماهية الانسان للحيوان الناطق .
3 ـ التركيب الاسنادي التحليلي ، وهو اشتمال مفهوم المشتق على نسبة تقيدية ناقصة ، بحيث يكون مفاد المشتق (ذات واجدة للمبدأ) وهذا النوع الثالث من أنواع التركيب هو المبحوث عنه في بحث المشتق ، وهو المختار عندنا.
واما القول بالبساطة الذي اختاره المحقق النائيني (قده) ، وهو كون المبدأ والمشتق متحدين بالحقيقة مختلفين باللحاظ ، بمعنى أن الحدث إذا لوحظ بنحو اللابشرط فهو المشتق لاذا لوحظ بنحو البشرط لا فهو المبدأ ، فهذا القول موضع للملاحظة من ناحيتين :
أ ـ إن الفارق الذي طرحه المحقق النائيني (قده) بين المبدأ والمشتق فارق لحاظي مرتبط بمرحلة الحمل ، وليس فارقاً بين المبدأ والمشتق بما هما، مع أننا نرى بالوجدان أن الفارق بينهما أعمق وأوسع من مرحلة الحمل على الذات .
فالمبدأ يصح حمله على الحدث الخارجي فيقال : (هذا الحدث ضرب ،
( 334 )
وضربك ضرب شديد) ولا يصح حمل المشتق وهو: (ضارب )عليه ، وبالعكس ايضاً، فإن المشتق يصح حمله على الذات ولا يصح حمل المبدأ عليها . كما أن المشتق يتعدد بتعدد الذات وإن اتحد الحدث والمبدأ يتعدد بتعدد الحدث وإن اتحدت الذات ، والمشتق قابل للتأنيث والتذكير دون المبدأ .
بينما الفارق الذي طرحه المحقق النائيني (قده) بين المشتق والذات فارق لحاظي مرتبط بالحمل على الذات ، وليس فارقاً بينهما في جميع الحالات . مضافاً الى أن لحاظ اللابشرط والبشرط لا من مقومات الحمل وعدمه ، لا من الفواصل بين المحمولات وغيرها ، أي أنه من مقدمات الحمل لا من مقومات المحمول ، ولذلك نرى المحمولي الواحد يختلف حمله باختلاف اللحاظ المذكور.
فمثلاً المشتق نفسه ـ بناءاً على القول بالتركيب ـ يكون مفهومه هو: ( الواجد للمبدأ ) وهذا المفهوم لو لوحظ بما له من الحدود والملامح التي تميزه عن مفهوم الذات لم يصح حمله عليها، وهذا معنى لحاظه بنحو البشرط لا، بينما هذا المفهوم لو لوحظ بما هو مرآة حاكية عن الذات المتلبسة بالمبدأ صح حمله عليها، وهذا معنى لحاظه بنحو اللابشرط . إذن فلحاظ اللابشرط من مصححات الحمل ومقدماته ، سواءاً كان المحمول بسيطاً أم مركباً، لا من مميزات المحمول ومقوماته كما صوره المحقق النائيني (قده) .
ب ـ إن القول بالبساطة يقتضي الالتزام بالحمل الشائع المجازي ، وهو خلاف الارتكاز العرفي ، فإننا إذا قلنا : (الجسم أبيض ) وكان المقصود بالأبيض هو البياض فلا يوجد اتحاد وجودي بين الموضوع والمحمول حينئذٍ ، فالحمل لا محالة حمل مجازي . وكذلك إذا قلنا كربلاء مقتل الحسين عليه السلام ، فإن المقتل في الحقيقة هو القتل لا مكانه وإنما حمل على كربلاء حملاً مجازياً ، ونحوه ما إذا قلنا الخمر حرام ، فإن الحرام في الحقيقة هو الحرمة لا الخمر وإنما يتصف بها الخمر مجازاً ، وكل ذلك خلاف الارتكاز العرفي جزماً ، مع أنه هو المرجع في
( 335 )
تشخيص المفاهيم والمداليل مما يكشف عن ضعف القول بالبساطة .
الثانية : إن مختارنا هو كون المشتق عنواناً انتزاعياً ، والعناوين الانتزاعية بسيطة في عالم التصور مركبة في عالم التحليل .
بيان ذلك : إن الانسان إذا رأى شخصاً يصدر منه حدث الضرب فإن ذهنه ينتزع مفهوم الضارب ، وهو صورة بسيطة لحاظاً ، وإن كانت متضمنة على نحو الاندماج والاندكاك عنصرين ، وهما :
1 ـ منشأ الانتزاع ، وهو الذات التي يحمل عليها المشتق ويتعدد بتعددها .
2 ـ مصحح الانتزاع ، وهو الحدث والمبدأ الذي بلحاظه تتم عملية الانتزاع وتتعدد العناوين الانتزاعية بتعدده . وهذه الصورة البسيطة في عالم اللحاظ يقوم الذهن بتحليلها وإرجاعها للعنصرين اللذين انتزعت منهما .
والفرق بين التركيب الماهوي المتحقق في مفهوم الإنسان والتركيب التحليلي المتحقق في مفهوم المشتق أمران :
أ ـ إن العناصر التي ينحل لها المفهوم الماهوي للإنسان ذات دور واحد ، وهو دور تقويم الماهية ، فإن الحيوانية والناطقية كلاهما عنصران مقومان لمفهوم الإنسان ، بينما العناصر التي ينحل لها مفهوم المشتق ذات دور مختلف ، فإن مفهوم المشتق ينحل لمنشأ الانتزاع ـ وهو الذات ـ ومصحح الانتزاع وهو المبدأ ، ودور كل منهما يختلف عن الأخر، فإن دور منشأ الانتزاع دور وجودي ، بمعنى أنه دخيل في وجود العنوان الانتزاعي ، ولذلك يتعدد المشتق بتعدده وان اتحد المبدأ ، بينما دور مصحح الانتزاع ـ وهو المبدأ ـ دور ماهوي ، بمعنى انه دخيل في ماهية المنتزع ، ولذلك تتعدد العناوين الانتزاعية وتختلف باختلاف إلمبادئ .
ب ـ إن التركيب الماهوي لمفهوم الانسان طارئ عليه ، بينما التركيب التحليلي لمفهوم المشتق سابق عليه ولاحق به ، لأن الذهن عندما يتصور ماهية
( 336 )
كالانسان يتصورها بصورة لحاظية واحدة، ثم يقوم بتحليلها والتامل فيها، فيقسمها لما به الاشتراك ـ وهو الجنس ـ وما به الامتياز وهو الفصل .
فهنا التركيب طارئ على المفهوم ، بينما المفهوم الانتزاعي كالمشتق مسبوق بالتركيب وملحوق به ، لأن الذهن يدرك اولاً عنصرين ، وهما : الذات والحدث ، فيتصور صورتين ثم يقوم بانتزاع عنوان بسيط منهما، وهو مفهوم المشتق ، ثم يقوم بتحليله وإرجاعه للعناصر التي انتزع منها. إذن فالتركيب التحليلي في المشتق سابق عليه ولاحق به .
النقطة الثالثة : إن دليلنا على مختارنا ـ وهو البساطة اللحاظية مع التركيب التحليلي ـ هو الوجدان ، فإن الوجدان شاهد بأن المتبادر العرفي من لفظ المشتق حين اطلاقه هو صورة واحدة لا متعددة ، ولكن مع التأمل العقلي يتبين التركيب التحليلي فيه .
كما أن الوجدان شاهد بتناسب مقام الاثبات ومقام الثبوت ، بمعنى أننا نشعر باستفادة التركيب التحليلي للمشتق من نفس اللفظ لا من التامل العقلي في المعنى، كما في التركيب الماهوي للفظ الانسان ، فإن المنعكس في الذهن وجداناً حين إطلاق لفظ الانسان هو الصورة اللحاظية الواحدة ، من دون أن يشم الانسان رائحة التركيب في اللفظ اصلاً ، ولكن تامل العقل في المعنى هو الذي أوصله للتركيب المعنوي الماهوي ، بينما في لفظ المشتق نرى أن الوجدان لان استفاد صورة لحاظية واحلة حين اطلاق لفظ المشتق ، الاّ أنه يشعر بتضمن هذه الصورة لعنصرين على نحو الاندماج والامتزاج ، بحيث لو قام بتحليل هذه الصورة اللحاظية لرجعت الى تصور العنصرين المذكورين تفصيلا .
وبعد وضوح هذه الرؤية الوجدانية فما هو التفسير العلمي لحقيقتها ، وما هو منشأ التناسب الملحوظ وجدانا بين مقام الاثبات ومقام الثبوت ؟
فإن المتبادر من اللفظ إذا كان هو الصورة اللحاظية الواحدة فمن أين
( 337 )
نستفيد التركيب التحليلي المذكور؟
والجواب عن ذلك يتلخص في طرح ثلاث نظريات محتملة :
أ ـ إن التركيب التحليلي للمشتق مع بساطة مفهومه لحاظاً وتصوراً راجع للتركيب اللفظي فيه ، حيث إن المشتق مشتمل على مادة وهيئة ، فالمادة موضوعة وضعاً شخصياً لطبيعي الحدث والصفة، والهيئة موضوعة وضعاً نوعياً للذات المتلبسة بذلك المبدأ والصفة، فمنشأ التركيب التحليلي لمفهوم المشتق هو التركيب اللفظي في المشتق .
ولكننا لا نختار هذه النظرية لوجهين :
1 ـ ما ذكرناه مراراً من أن الوضع النوعي ـ وهو تجريد الهيئة عن المادة ووضعها وضعاً نوعياً لمن قام بالحدث وتلبس بالصفة ـ تفكيرحضاري متطور لا يتصور في المجتمع البدائي الذي انطلقت منه شرارة اللغة .
2 ـ إن مقتضى التركيب اللفظي للمشتق من مادة وهيئة هو تعدد الوضع والموضوع له ، وذلك يستدعي انسباق صورتين للذهن : صورة لمدلول المادة ـ وهو طبيعي الصفة ـ وصورة لمدلول الهيئة وهو طبيعي الواجد لتلك الصفة، مع أننا لا نرى وجداناً الا صورة لحاظية واحدة مستبطنة للتركيب التحليلي .
وبعبارة أدق : إن مقتضى التركيب اللفظي وتعدد الوضع والموضوع له هو انسباق صورة تركيبية في الذهن على نحو التركيب الانضمامي ، بينما المنسبق ـ وجداناً ـ للذهن عند اطلاق المشتق هو صورة لحاظية واحدة على نحو التركيب الاتحادي التحليلي ، وبينهما فرق وجداني واضح .
ب ـ (النظرية الثانية المفترضة لتفسير التناسب بين مقام الاثبات ومقام الثبوت) أن التركيب التحليلي المستفاد من لفظ المشتق لا يبتني على التركيب اللفظي من المادة والهيئة، بل يبتني على قانون تداعي المعاني وقانون الاختراع والاتباع .
( 338 )
بيان ذلك : إن هناك قانونين ذكرناهما في مبحث الوضع :
اولهما: قانون تكويني محصله : إن التشابه بين الشيئين موجب لخطور احدهما عند خطور الاخر، وهو ما يسمى بقانون تداعي المعاني .
ثانيهما : قانون عقلائي محصله : إن الطبيعة الاجتماعية للبشرية بنيت على الاختراع والاتباع .
وبناءاً على ذلك فمن المحتمل أن شخصاً من الأشخاص مثلاً رأى رجلاً يضرب ، فوضع لتلك الحالة الفاعلية التي راها من باب الاتفاق لفظ (ضارب) من دون أن يقصد وضعين : وضعاً للمادة ووضعاً للهيئة، بل وضع تمام اللفظ للمعنى الفاعلي من باب الاتفاق ، وحيث تحقق للآخرين مشاهدتهم لحالة فاعلية أخرى مشابهة لتلك الحالة فرض قانون تداعي المعاني خطور الكلمة الأولى، وهي لفظ (ضارب ) التي وضعها الواضع الأول للحالة الفاعلية، فوضعوا كلمة أخرى مشابهة لها في الهيئة فقالوا : قائم وقاعد مثلاً، وجروا على ذلك فى استعمالاتهم بقانون الاختراع والاتباع كما ذكرنا .
ولما جاء العلماء الماهرون في اللغة والاشتقاق انتزعوا جامعاً نوعياً بين الكلمات المتشابهة وسموه الهيئة، كهيئة فاعل ومفعول ونحوها ، والا فلا يوجد أي وضع نوعي للهيئة، بل الموجود هو الجامع الانتزاعي بعد ورود اللغة .
وهذه النظرية محتملة ثبوتاً إلا أنها تحتاج للشواهد الكثيرة إثباتا .
ج ـ (النظرية الثالثة المفترضة في المقام) أن التركيب التحليلي المستفاد من لفظ المشتق راجع لتعدد الدال والمدلول في جذور اللغة العربية، وبيان ذلك يعتمد على ذكر أمرين :
1 ـ إن اللغة ـ كما ذكر علماء الاجتماع ـ ظاهرة حية كسائر الظواهر الاجتماعية ، خاضة لقانون التغير والتشعب ، فاللغة السامية ـ التي هي أم اللغات ـ قد انشعبت لما يقرب من ثلاثة الآف لغة، واللغة العربية بنفسها
( 339 )
تفرعت الى آلاف اللهجات المختلفة .
2 ـ إن قانون انتخاب الأسهل ـ الذي هو قانون طبعي عند الإنسان في التوصل لمقاصده ـ يقتضي أحياناً النحت والدمج والادغام بين الكلمات ، كما هو مشاهد في اللهجات العامية، حيث يقولون : (شسمك ، شنهو ، وكما هو ملحوظ في الاصطلاحات الحديثة نحو: (الكهرمائية والبترمائية) ، لذلك ذهب بعضهم إلى تبني هذه النظرية في بعض الكلمات نحو: (قطف) ، حيث قال : بان أصله : (قط) و(لف) ثم ادمج أحد اللفظين في الاخر بدافع قانون انتخاب الأسهل وصارت الكلمتان كلمة واحدة .
وتبنى بعضهم هذه النظرية في باب الحروف ، فقال : بان جميع الحروف راجعة للأسماء ، نحو رجوع (على) الجارة الى (علاء) مثلاً، ورجوع (خلا) الجارة الى (خلاء) مثلاً. فالحروف ما هي إلا بقايا الأسماء والأفعال انتخبت كرموز دالة على معانيها .
وبناءاً على ما ذكرمن الأمرين فنحن نحتمل أن أصل المشتق كلمتان : كلمة تدل على الحدث وأخرى تدل على الفاعلية ، وبحكم تغير اللغة وقانون انتخاب الأسهل أدغمت احدى الكلمتين في الأخرى فصارتا كلمة واحدة ، يستشعر منها بالوجدان التركيب التحليلي الذي هو راجع في الحقيقة الى التركيب اللفظي ، على نحو تعدد الدال والمدلول في جذور اللغة .
ولعل هذه النظرية أقرب النظريات المفترضة في المقام .
خلاصة البحث : تعرضنا في بحث المشتق لمقامين :
1 ـ في تحرير محل النزاع .
2 ـ في أسباب القول بالأعم ، وناقشنا جميع الأسباب المذكورة ، فتعين عندنا القول بالأخص بلا حاجة لاقامة الأدلة عليه ، كالتبادر وصحة السلب وأشباهها . وتعرضنا لبحث البساطة والتركيب في ضمن أسباب القول بالأعم ،
( 340 )
واخترنا القول بالبساطة اللحاظية مع التركيب التحليلي بالبيان السابق.
وقد انتهينا من تحرير هذه الحلقة بعد المقارنة بين ما استفدناه من السيد الأُستاذ السيد السيستاني دام ظله في الدورة الثالثة وما طرحه في الدورة الثانية بقلم العلامة السيد هاشم الهاشمي حفظه الله في الساعة الثانية من ليلة الأحد الموافق 26 صفر 1414 هـ بالقطيف المحروسة .