السادس : أقسام الاعتبار القانوني : قسم الأصوليون الاعتبار القانوني
لثلاثة أقسام :
1ـ حكم تكليفي .
2 ـ حكم وضعي .
3 ـ الماهية المخترعة، فالحكم التكليفي متقوم بعنصرين :
1 ـ استبطانه للحكم الجزائي فإن الوجوب والحرمة مستبطنان للوعيد
على الترك أو الفعل والاستحباب والكراهة مستبطنان للوعد على الفعل أو
الترك ، فحيثية التضمن للحكم الجزائي مقومة للحكم التكليفي .
2ـ ارتباطه المباشر بعمل الفرد فهو متوجه ومتعلق بالفعل الخارجي ،
لذلك ورد تعريفه في كلماتهم بانه الانشاء بداعي جعل الداعي أو جعل الزاجر
في نفس المكلف نحو الفعل .
والحكم الوضعي متعلق بالعمل الخارجي لا على نحو المباشرة كالحكم
التكليفي ولا على نحو الاستبطان للحكم الجزائي سواءاً كان وعيداً أم وعداً .
والماهية المخترعة قد تكون عبادة كالصلاة والحج وقد تكون موضوعاً كالميتة
والمذكى وقد تكون معاملة كالبيع والصلح وسيأتي بحث ذلك في الصحيح
والأعم .
السابع : العلاقة بين الحكم التكليفي والوضعي وبين أقسام الحكم
التكليفي : أما العلاقة بين الحكم التكليفي والوضعي فهو بحث طرح في باب
الاستصحاب ، فاختار الشيخ الأنصاري ( قده ) تفرع الأحكام الوضعية على
الأحكام التكليفية وأنها مجعولة بتبع جعلها لا بجعل مستقل ، وذهب بعضهم
الى عكس ذلك وهو انتزاع الحكم التكليفي من الحكم الوضعي كالسيد
الشاهرودي ( قده ) ، وذهب آخرون للعينية واستبطان الحكم الوضعي للحكم
( 52 )
التكليفي ، وذهب بعض الأعاظم
(1) للتفصيل في الأحكام الوضعية فبعضها
منتزع من الحكم التكليفي كالجزئية المنتزعة من الأمر بالمركب وبعضها مجعول
بالاستقلال كالملكية والزوجية وشبه ذلك ، وسيأتي اشباع البحث في محله . وأما
العلاقة بين الأحكام التكليفية نفسها فهي إما علاقة التنافر وإما علاقة
التلازم ، فعلاقة التنافر والتضاد هي التي سنشير إليها في بحث عوارض
الأحكام ، وأما علاقة التلازم فهي المبحوث عنها في مقدمة الواجب ومسألة
الضد حيث يذكرهناك أنه هل يوجد تلازم بين وجوب ذي المقدمة ووجوب
المقدمة شرعاً أم لا، وهل يوجد تلازم بين وجوب الشيء وحرمة ضده أو حرمة
شيء ووجوب ضده أم لا .
الثامن : أقسام القانون التكليفي والوضعي : ينقسم القانون التكليفي
للأحكام الخمسة وهي التي وقع البحث في كونها أموراً اختراعية أم أموراً نسبية
واقعية، فعلى مسلك المحقق الطهراني من كون الحكم عبارة عن نسبة بين
الموك وبين فعل المكلف وهي إما نسبة القبول أو الرفض يتم الرأي الثاني ، وعلى
المسلك المشهور من كون الحكم عبارة عن الاعتبار المولوي المستبطن للوعد أو
الوعيد يتم الرأي الأول وبناءاً عليه فهل الفارق بين الوجوب والندب وبين
الحرمة والكراهة فرق تشكيكي بالشدة والضعف كما يراه المحقق العراقي أم
تغاير ذاتي يجعلهما وجودين مختلفين ، وسيأتي البحث عن ذلك في محله .
وينقسم الوجوب منها للوجوب التخييري والتعييني ، والعيني والكفائي ،
والتعبدي والتوصلي ، وسيأتي شرح ذلك كله . وينقسم المباح للمباح الاقتضائي
والمباح اللااقتضائي . وينقسم الالزام بصفة عامة للإلزام النفسي والغيري ،
والطريقي والإرشادي ، وسيأتي البحث حول الفرق الجذري بين هذه الأقسام ،
____________
(1) تهذيب الاصول للإمام الخميني 2 : 73 .
( 53 )
كما ينقسم الالزام - أيضاً - للمولوي والإرشادي ، ويبحث في الأصول حول
المائز بين المولوي والإرشادي ، فهل هما مختلفان بالذات حيث ذهب بعض
الأصوليين الى كون المولوي من سنخ الانشاء والارشادي من سنخ الاخبار، أم
هما مختلفان بلحاظ الملاك حيث أن المولوي نابع من ملاك في نفسه والارشادي
نابع عن ملاك فيما يرشد إليه ، أم هما مختلفان من حيث الحكم الجزائي بلحاظ
أن المولوي لإطاعته ثواب ولعصيانه عقاب وليس كذلك الأمر الارشادي
فالثواب على فعل ما يرشد اليه والعقاب على ترك ما يرشد إليه ، كما وقع البحث
أيضا في أن الأصل في الأمر هل هو المولوية أم الارشادية حيث ذهبنا لكون الأصل
هو المولوية بمقتضى القرينة المقامية وهي صدور الأمر من المولى ، وأن ضابط
الأمر الارشادي هو إدراك العقل النظري أن وراء الأمر غرضاً وهدفاً معيناً لا
يمكن الوصول له إلا بفعل متعلق الأمر فإذا أدرك العقل ذلك الهدف بعينه
فالأمر إرشادي لا مولوي تعبدي وإلا فهو مولوي .
وينقسم القانون الوضعي عدة تقسيمات ، منها انقسامه للحق والحكم
فما هو الفارق بين الحق والحكم فهل هما متغايران كما هو الصحيح أم متحدان
كما ذهب إليه الاستاذ السيد الخوئي (قده )، فهذا البحث ليس من البحوث
الفقهية بل هو من المبادئ التصورية لعلم الفقه ، ونحن نطرحه في أبحاث
علم الأصول لأنه من أقسام الاعتبار القانوني .
مضافاً إلى أن الفرق بين البحث الأصولي والبحث الفقهي أن البحث
الأصولي بحث عن النظرية والبحث الفقهي بحث في عملية التطبيق ، فكما
صح البحث في الأصول عن حقيقة الوجوب العيني الكفائي يصح البحث فيه
عن حقيقة الحق والفارق بينه وبين الحكم .
التاسع : عوارض الحكم القانوني : يقع البحث في علم الأصول عن
صفات الحكم القانوني وعوارضه ، فمن عوارضه أربع صفات :
( 54 )
أ - الاطلاق والتقييد في مرحلة الثبوت بالنظر للموضوع أو المتعلق :
وتقابل الاطلاق والتقييد هل هو تقابل التضاد أم الملكة والعدم ام السلب
والإيجاب ، فكل هذا بحث عن عوارض القانون وسياتي تفصيله .
ب - التضاد بين الأحكام الخمسة : وهل هو تضاد حقيقي ام تضاد
اعتباري أم تضاد عرضي باعتبار مرحلة المبدأ أو مرحلة المنتهى ، ومما يتفرع على
البحث حول تضاد الأحكام البحث حول امكان اجتماع الأمر والنهي مع أنهما
ضدان أو امتناعه والبحث حول كيفية الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي
مع تضادهما .
ج - البساطة والتركيب : يبحث في علم الأصول حول حقيقة بعض
الاعتبارات القانونية فهل هي بسيطة أم مركبة ، فالوجوب - مثلاً - هل هو طلب
الفعل مع المنع من الترك كما يقول القدماء فهو أمر مركب ، أم هو الالزام بالفعل
كما يراه بعض المتاخرين ، أم هو اعتبار الفعل على ذمة المكلف كما تراه مدرسة
المحقق النائيني (قده ) ، أم هو بمعناه اللغوي وهو الثبوت كما في كلمات المحقق
العراقي فهو أمر بسيط ، أم هو الاعتبار المستبطن للحكم الجزائي ، أي أن
الوجوب هو البعث المستبطن للوعيد على الترك والحرمة هي الزجر المستبطن
للوعيد على الفعل والاستحباب هو البعث المستبطن للوعد على الفعل والكراهة
هي الزجر المستبطن للوعد على الترك كما هومسلكنا.
د - الحركة الاشتدادية : بحث بعض الأصوليين في امكان الحركة في
الاعتبارات ، بمعنى ان الحركة الاشتدادية في مراتب الوجود الخارجي ممكنة
وواقعة فهل تتصور هذه الحركة في الاعتبارات أم لا، فيكون الوجوب ضعيفاً
ثم يصبح مؤكداً أم ان ذلك تابع لمقدار الاعتبار فإذا أعتبره المولى مؤكداً فهو
كذلك وإلا فلا تعقل فيه الحركة الاشتدادية .
العاشر : وسائل إبراز الحكم القانوني : وهي ما يسمى في الأصول
( 55 )
بصغريات أصالة الظهور كالبحث حول ظهور المشتق في الأعم أو خصوص
المتلبس بالمبدأ، والبحث حول ظهور صيغة الأمر ومادته في الوجوب النفسي
العيني التعييني ، والبحث حول ظهور صيغة النهي ومادته وصيغة الفعل المضارع
والماضي والجملة الاسمية ، والفارق الحقيقي بين الجملة الخبرية والإنشائية وبين
الاطلاق الحقيقي والمجازي ، ومباحث العام والخاص والمطلق والمقيد والمنطوق
والمفهوم وأمثال ذلك من الوسائل الكلامية والخطابية التي يتخذها المقنن
والجاعل لإبراز الحكم القانوني من خلالها .
الحادي عشر : وسائل استكشاف القانون : وسائل استشكاف القانون
وتحديد نوعه ودرجته ومقدار شموليته هي وسائل ابرازه السابقة لا غيرها .
الثاني عشر : توثيق الوسائل : إنه لا يمكن للانسان أن يستند لقانون في
مقام العمل حتى يثق بظهوره وصدوره ، فهناك عنصران لابد من التأكد من
حصولهما وهما : عنصر الظهور للخطاب في القانون الكذائي وعنصر السند
والثبوت والا فلا يكون العمل بذلك حجة عند العقلاء لإنه عمل بغيرعلم .
فاما عنصر الظهور فبعد احرازه بالوجدان تجري قاعدة حجية الظهور التي
بحث الأصوليون في أصل ثبوتها وحدودها ، وأنها هل تشمل المقصودين بالافهام
وغيرهم أم تختص بالمقصودين فقط ، وهل تشمل حالة الظن بخلافها أم لا ، وهل هي
مشروطة بالظن بالوفاق أم لا . وأما عنصر الثبوت والصدور فقد بحث عنه
الأصوليون ، وقسموا الحجة لحجة ذاتية وعرضية فالأولى هي العلم والثانية
الظن المعتبر بدليل شرعي إمضافي أو تأسيسي كخبر الثقة أو الخبر الموثوق به ،
والشهرة والاجماع المنقول والظن الانسدادي بناءاً على الكشف ، وأصالة
الظهور ونحو ذلك .
الثالث عشر : التعارض الاثباتي والثبوتي بين الأحكام القانونية : أما
التعارض الاثباتي فالمقصود به التعارض الغير المستقر المتحقق في مرحلة الاثبات
( 56 )
بدون سرايته لمرحلة الثبوت ، كالتعارض بين العام والخاص والمطلق والمقيد
والعامين من وجه مع أقوائية أحدهما ظهوراً على الأخر والناسخ والمنسوخ
والحاكم والمحكوم والمنطوق والمفهوم . والمقصود بالتعارض الثبوتي استقرار
التعارض بين الدليلين بحيث يعد تنافياً بين المدلولين بالذات وبين الدالين
بالعرض ، فيبحث في علم الأصول عن المرجحات لأحد المتعارضين
من حيث السند أو المضمون أو الجهة، وعلى فرض تكافؤهما فهل النتيجة هي
التساقط والرجوع للأصل العملي أم التخيير بينهما وسيأتي بحث ذلك .
الرابع عشر : التنافي بين القوانين في مقام العمل والتطبيق : إن التنافي
بين القوانين إما في مرحلة الجعل وقد سبق بحثه في أقسام التعارض ، وإما في
مرحلة التطبيق والعمل وهو المسمى ببحث التزاحم الذي يبحث فيه عن
ترجيح الأهم من المتنافيين على المهم وعلى فرض التساوي فالوظيفة هي
التخيير، وقد صغنا هذا البحث بصياغة أخرى وهي البحث حول دخالة
القدرة، فهل هي دخيلة في مرحلة الجعل أم في مرحلة الفعلية أم في مرحلة
التنجز أم أنها غير دخيلة أصلاً وإنما العجز مانع من التنجز كما يراه بعض
الأعاظم (قده)
(1).
وعلى بعض هذه الفروض يدخل تنافي القوانين في التعارض وعلى
بعضها يدخل في بحث التزاحم كما شرحناه في محله .
الخامس عشر : تعيين القانون عند قصور الوسيلة : إذا لم تتحقق
الوسيلة الاعلامية الكاشفة عن القانون إما لفقدها أو إجمالها أو تعارضها مع
وسيلة أخرى فما هو القانون المطبق حينئذٍ ، فتارة لا يكون هناك علم إجمالي وتارة
يكون ، فإذا لم يكن هناك علم إجمالي فهل احتمال التكليف منجز أم يختص
____________
(1) تهذيب الاصول ا : 308 .
( 57 )
ذلك بقوة الاحتمال أو اهمية المحتمل كما في الدماء والأعراض وإن كان
الاحتمال ضعيفاً ، وهذا هو بحث البراءة والاحتياط ، وإذا كان هناك علم إجمالي
فإما أن يقوم على أصل التكليف مع دورانه بين المحذورين وهما الوجوب
والحرمة ، وهذا مورد أصالة التخيير، أو مع دورانه بين الأقل والأكثر وهو مورد
أصالة البراءة وإما أن يقوم على تكليف معين مع الشك في الفراغ منه حين
العمل فهذا مورد أصالة الاشتغال . وتنقسم الأصول للأصل العملي الصرف
والأصل التنزيلي والأصل المحرز وسيأتي البحث عنها ، كما يقع البحث في كون
الاستصحاب من الأمارات أم الأصول ، وفي عدم حجية مثبتات الأصول
العملية ، وفي تعيين الوظيفة عند تعارض الأصول بعضها مع البعض الآخر.
هذا تمام الكلام موجزاً حول منهج أبحاث علم الأصول وطريقة تبويبه
وترتيبه ، وهو كما تراه لا تختص فائدته بمجال استنباط الحكم الشرعي من أدلته
المقررة بحيث لا يكون نافعاً إلا للفقهاء، بل هو مفيد حتى في المجالات
القانونية أيضاً كالقضاء والمحاماة وسائر البحوث الحقوقية فلا يستغني عنه
باحث قانوني .
( 58 )
المبحث الرابع
الارتباط بين الفكر الأصولي والفلسفي
والكلام في هذا البحث في ثلاثة جوانب :
الأول : في تأثر الفكر الأصولي بالفلسفة .
الثاني : في عوامل التأثر.
الثالث : في آثار هذا التأثر.
الجانب الأول : لا إشكال في تاثر الفكر الأصولي بالمفاهيم الفلسفية
واختلاط مصطلحاته بالمصطلحات الفلسفية عند الشيعة والسنة كما يلاحظ في
الكتب الأصولية بصفة عامة، وقد تنبه لذلك السيد المرتضى (ره ) فقال في
الذريعة : « قد وجدت بعض من أفرد في الأصول كتاباً قد تشرد عن أصول
الفقه وأسلوبها وتخطاها كثيراً، فتكلم على حد العلم والنظر وكيف يولد النظر
العلم ووجوب المسبب عن السبب الى غير ذلك من الكلام الذي هو محض
خالص لأصول الدين دون اصول الفقه
(1).
الجانب الثاني . عوامل التأثر المذكور وهي متعددة :
1 - وجود مجموعة كبيرة من علماء الفلسفة وعلم الكلام في عداد علماء
الأصول كالسيد المرتضى والشيخ الطوسي والعلامة الحلي وأمثالهم ، فهؤلاء مع
كونهم من رواد علم الأصول فهم في نفس الوقت من المتكلمين الماهرين في
____________
(1) الذريعة 1 : 3.
( 59 )
علم الكلام ، وهذا عامل فعال في اختلاط المفاهيم والمصطلحات .
2 - الحاجة للمصطلحات الفلسفية وبيان ذلك في مقدمتين :
أ - إن اللغة العربية لم تكن لغة قانونية فهي رغم كثرة مفرداتها وتعدد
أساليب التعبير والتجوز فيها الا أنها لا تضم بين طياتها مفردات قانونية دقيقة ،
وذلك بسبب عدم معاصرتها لكيان حضاري مهم في عهد الجاهلية، ومن هنا
حينما أراد الشرع المقدس إيصال الأفكار القانونية كالوجوب والحرمة
والاستحباب والكراهة والطهارة والنجاسة والحقوق كحق الرهانة والغرامة
والجناية لأذهان المسلمين استخدم اللغة المولوية ، وهي لغة الأمر والنهي والوعد
والوعيد، إذ لا يمكن طرح هذه المفاهيم بحدودها الدقيقة لعدم وجود مفردات
قانونية في اللغة العربية تعبر عنها تعبيراً واضحاً، وقد تعرضنا لهذا البحث في
مبحث علل اختلاف الحديث ودور اللغة في ذلك الاختلاف ، وذكرنا أن القرآن
والحديث قد يعبر عن القانون التكليفي والقانون الوضعي بصيغة واحدة مثلاً
يقول القرآن : (
وعاشروهن بالمعروف)
(1) وهو حكم مولوي ، ويقول :
(
وطلقوهن لعدتهن)
(2) وهو حكم وضعي ، أي شرطية العدة في الطلاق ،
فهذا الاشتراك في الصيغة سبب من أسباب اختلاف الحديث ومنشأه فقر اللغة
العربية من المصطلحات القانونية .
ب - إن الأصوليين عندما بحثوا حول قواعد الاستنباط وأرادوا وضع
المصطلحات فيها وجدوا أن اللغة العربية فقيرة من المفردات الصريحة
الوافية بتحديد المعنى الأصولي القانوني تحديداً دقيقاً ، فاستخدموا
المصطلحات الفلسفية المترجمة الى اللغة العربية للتعبيرعن ذلك ، فمثلاً
____________
(1) النساء 4 : 19.
(2) الطلاق 65 : 1.
( 60 )
يعبرون عن الارتباط بين الحكم التكليفي وموضوعه بالشرط فيقولون الزوال
شرط لوجوب الصلاة، ويعبرون عن الارتباط بين الحكم الوضعي وموضوعه
بالسبب فيقولون الغسل سبب للطهارة، مع أنه لا توجد سببيبة وعلية واقعية
بين الحكم وموضوعه بل الموجود هو الارتباط الجعلي لا الواقعي ، وهذا عامل
يؤثر في فهم الفكر الأصولي واستيعابه لبقاء رواسب الفكر الفلسفي في نفس
هذه المصطلحات مما يؤدي لاختلاط الافكار كما سيأتي البرهنة عليه .
العامل الثالث : ترجمة الفلسفة : حينما دخل علم الفلسفة أوساط
المجتمع العربي احتاج علماء العرب لترجمة الأفكار الفلسفية وانتخاب الفاظ
عربية للتعبير عنها، سواءاً على مستوى المركبات أم على مستوى المفردات ،
فمثلاً بالنسبة للمركبات نرى أن الجملة الاسنادية نحو زيد قائم يختلف
تصورها في الارتكاز العربي عن تصورها في الارتكاز الفارسي أو اليوناني ،
فالجملة في العرف العربي تعبر عن هوهوية واتحاد بين وجودين ، وجود زيد
ووجود القيام من دون أن تشم رائحة الغيرية والاثنينية بينهما، بينما مفهوم هذه
الجملة في العرف الفارسي واليوناني يعني ثبوت شيء لشيء آخر فهو يحافظ على
الغيرية والاثنينية بين الطرفين ، ولذلك يحتاج لوجود الرابط بينهما كلفظ - است -
في الفارسية و - أستين - في اليونانية ، وحيث إن الفكر المنطقي بدأ على يد
اليونانيين لذلك أصبح التصور المنطقي للقضية وهي الجملة الخبرية موافقاً
للعرف اليوناني ، وحينما ترجم علم المنطق إلى العربية ترجم هذا التصور أيضاً
لكن لما لم يوجد في اللغة العربية ثلاثة أطراف - موضوع ومحمول ورابط - لأن
العرف العربي لا يرى القضية بمعنى ثبوت شيء لشيء بل بمعنى اتحاد
الوجودين فلا تحتاج لوجود رابط بحسب ارتكازه ، استعار العلماء لفظ - هو-
للتعبير عن الرابط محافظة على التصور المنطقي المتأثر بالعرف اليوناني ، فقالوا :
القضية ثلاثية الأطراف نحو زيد هو قائم .
( 61 )
وأما مثال المفردات فهو لفظ العلم والظن والشك ، فلفظ العلم في اللغة
العربية يعني البصيرة والوضوح لكن في مقام ترجمة الفلسفة تحول مدلوله
للاعتقاد الجازم ، واصبح الأصوليون والفقهاء يحملون النصوص المتضمنة للفظ
العلم على هذا المعنى مع أنه اصطلاح حادث .
كذلك لفظ الظن فهو في اللغة العربية والقرآن الكريم بمعنى الاعتقاد
الذي لا يستند لدليل لكنه تحول لمعنى الاعتقاد الراجح عند ترجمة الفلسفة
اليونانية، ولفظ الشك يعني مقابل اليقين لكن معناه الشائع الآن هو تساوي
الاحتمالين .
والحاصل أن بعض المفردات والمركبات اللغوية اكتسبت مدلولاً جديداً
عند دخول الفلسفة إلى اللغة العربية ، واعتمد الأصوليون عند استعمال هذه
المفردات على مدلولاتها الفلسفية لا على مدلولاتها اللغوية، وهذا مما يؤدي إلى
اختلاط المعاني عند استنطاق النصوص والروايات .
الجانب الثالث : نتائج التأثر الفلسفي :
من أهم نتائج تأثر الأصول بالفلسفة وقوع الخلط بين القوانين التكوينية
والاعتبارية وأمثلتنا على ذلك كثيرة، منها :
أ - القول بامتناع الشرط المتأخر لاستحالة تقدم المعلول على علته زماناً
مع أن الشرط المتأخر من الاعتباريات لا من التكوينيات .
ب - استحالة القول بالكشف الانقلابي في الإجازة المتأخرة عن البيع
الفضولي ، حيث ذهب بعض العلماء للقول بالنقل وذهب بعضهم للقول
بالكشف الحقيقي وبعضهم للقول بالكشف الحكمي وذهب البعض الآخر
وهو مسلكنا أيضاً - للقول بالكشف الانقلابي ، بمعنى الالتزام بملكية المالك
للمبيع واقعاً إلى حين الاجازة وبحصولها ينكشف حصول الملك للمشتري منذ
البيع ، وبذلك يحصل انقلاب في الملكية ما بين زمان البيع وزمان الاجازة ولهذا
( 62 )
عبر عنه بالكشف الانقلابي ، فالقائلون باستحالته يستندون لقاعدة استحالة
انقلاب الشيء عما وقع عليه مع أنها قاعدة تكوينية فكيف تجري في
الاعتبارات .
ج - القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي وامتناع اجتماع الحكم الواقعي
والظاهري لاستحالة اجتماع الضدين والمثلين ، مع أنه لا تضاد في الاعتباريات
بما هي .
د - قول المحقق النائيني (قده) بمتمم الجعل المفيد فائدة الإطلاق أو
التقييد ، وذلك في مورد كون القيد للحكم من التقسيمات اللاحقة له لا السابقة
كقصد الامتثال بالنسبة للأمر، فهنا لا يصح كون الجعل مقيداً بقصد الامتثال
لتأخره عنه رتبة ولا كونه مطلقاً بالنسبة له لأنه إذا استحال التقييد استحال
الاطلاق لتقابلهما تقابل الملكة والعدم ، وحيث أن الإهمال في الواقعيات
مستحيل فلابد من كون الجعل مقيداً أو مطلقاً ، ولكن حيث لا يمكن الاطلاق
والتقييد في الجعل الأول في مقام الاثبات نحتاج لمتمم الجعل المفيد فائدة
الاطلاق أو التقييد ، وهذا القول كما ترى مبني على قانون استحالة الاهمال في
الواقعيات مع أنه قانون تكويني لا يجري في الاعتبارات .
هـ - انكار المحقق النراقي بيع الكلي في الذمة كبيع صاع من الحنطة في
الذمة مستنداً لاستحالة تحقق العرض بدون المعروض ، وحيث ان الملكية في
المقام عرض موجود فكيف تتقوم بامر معدوم وهو الكلي في الذمة ، وهذا من باب
اسراء التكوينيات للاعتبارات .
و - الاعتراض على مسلكنا القائل بمتمم الجعل التطبيقي الذي طرحناه
في بحث الحقيقة الشرعية وبحث الصحيح والأعم ، ومفاده أن الشرع الشريف
كما قام باختراع بعض الماهيات الاعتبارية كالصلاة مثلاً قام بالتدخل
الاعتباري في مقام التطبيق أيضاً ، فالصلاة التي هي عبارة عن اللين الخضوعي
( 63 )
أمام الخالق لا تنطبق قهراً على صلاة الحضر والسفر وصلاة الغريق وإنما الشارع
قام بتطبيقها على هذه الافراد، وقد اعترض على هذا المسلك بان انطباق الكلي
على فرده انطباق قهري لا وجه لتدخل الجعل فيه ، مع أن لابدية انطباق الكلي
على فرد قهراً أوعلى الجزء التحليلي للفرد كما هو الصحيح قانون تكويني لا يجري
في الاعتباريات ، فاي مانع من تدخل المقنن في تطبيق الماهية الاعتبارية كالميتة
والمذكى والدينار على أفرادها ، وهذا ما يسمى بمتمم الجعل التطبيقي فيكون
الاعتبار متدخلاً في أصل جعل الماهية وفي تطبيقها أيضاً .
ز - الاعتراض على عدم حجية الأصل المثبت بان ذلك مستلزم للتفكيك
بين اللوازم والملزوم والانفكاك بين الشيء ولوازمه مستحيل ، مع أن هذا قانون
تكويني لا وجه لتسريته للاعتباريات ، والحاصل أن دخول الفلسفة في علم
الأصول أدى لمثل هذه الاشتباهات ، مع أن قوانين الفلسفة قوانين تكوينية لا
تمتد للاعتباريات التى هي فرضيات مخترعة للتأثيرعلى سلوك الأخرين ، فهي
أمور لا تختلف فيها الأنظار وإنما تختلف باختلاف الأنظار وتتطور بتطور
المجتمعات كما نرى في عصرنا هذا من توسع المعاملات البنكية والتجارية
وكثرتها ، بحيث يكون من الخطأ عند الفقيه أن يقوم بمحاولة ارجاع المعاملات
الجديدة للمعاملات الشائعة في زمان النصوص ، فإنه لا موجب لذلك بل
هي معاملات جديدة تندرج تحت عمومات الصحة ما لم تتعارض مع كتاب الله
والسنة ، بلا حاجة لإرجاعها لعناوين المعاملات القديمة كالبيع والاجارة
والصلح والشركة ونحوها ، بل نقول بانها معاملات اعتبارية جديدة فإن التطور
الاقتصادي للبشرية يدفعها لتاسيس معاملات جديدة بقدر حاجتها إليها،
والقانون العام في باب المعاملات هو عمومات الحل والصحة ما لم تعارض
الكتاب والسنة .
( 64 )
المبحث الخامس
في علاقة علم الأصول بالعلوم الأدبية
والكلام هنا في مطلبين :
الأول : في شواهد الارتباط بين الأدب وعلم الأصول .
الثاني : في الفارق بين الاعتبارات الأدبية والقانونية .
المطلب الأول : إن الشواهد على ارتباط علم الأصول بعلم الأدب نوعان :
أ - جمع العلماء بين القواعد الأصولية والأدبية في مؤلف واحد كالشهيد
الثاني في كتابه تمهيد القواعد، فانه ذكر مائة قاعدة أصولية مع فروعها الفقهية ،
ومائة قاعدة من العلوم العربية مع فروعها الفقهية، قال في مقدمة كتابه : « من
أعظم مقدمات الفقه علم أصوله وعلم العربية إذ الأول قاعدته ودليله والثاني
مسلكه وسبيله ، فلا جرم رتبنا هذا الكتاب الذي استخرنا الله تعالى على جمعه
وترتيبه على قسمين ، أحدهما : في تحقيق القواعد الأصولية وتفريع ما يلزم من
الأحكام الفرعية، والثاني : في تنقيح المطالب العربية وترتيب ما يناسبها من
الفروع الشرعية ، واخترنا من كل قسم منها مائة قاعدة متفرقة من أبوابه ليكون
ذلك عوناً لطالب الفقه »
(1).
وكما أن قيام العلامة الحلي في كتابه (منتهى الوصول لعلمي الكلام
____________
(1) تمهيد القواعد : 1.
( 65 )
والأصول ) بالجمع بين العلمين المذكورين دليل على علاقة علم الكلام بعلم
الأصول كما ذكر في تاسيس الشيعة
(1)، وكما أن جمع الشيخ البهائي في كتابه
الزبدة بين القواعد المنطقية والأصولية دليل على ارتباطهما ، فكذلك جمع الشهيد
بين القواعد الأصولية والعربية دليل ارتباطهما .
ب - اعتماد علم الأصول في منهجه المعاصر على كثيرمن المباحث اللغوية
وهي على ثلاثة أصناف .
1 - مباحث الاستعمال ، كالكلام حول حقيقة الوضع والاستعمال
وانقسام الاستعمال للحقيقي والمجازي ، وعلامات الحقيقة والمجاز وبحث
تعارض الأحوال .
2 - بحوث المفاهيم الافرادية ، سواء أكانت استقلالية كالبحث عن مادة
الأمر ومادة النهي والوجوب والحرمة والمبهمات من الموصول واسم الاشارة، أم
كانت حرفية كالبحث حول المعنى الحرفي والهيئات الافرادية كهيئة المشتق
وصيغة الأمر والنهي .
3 - بحوث المفاهيم التركيبية، كالبحث عن الجملة الخبرية والانشائية
ومباحث المفاهيم ، فهذه كلها بحوث لغوية طرحت في القسم الأول من علم
الأصول وهو مباحث الألفاظ مما يدل على علاقة العلمين ، كما أن القسم الثاني
من الأصول وهو بحوث الأصول العملية وبحوث الحجج والامارات لها ارتباط
وثيق بالاعتبارات الأدبية والقانونية التي سنتحدث عنها فيما يأتي .
المطلب الثاني : قد تحدثنا في أول الكتاب عن الفارق بين الاعتبار الأدبي
والاعتبار القانوني ، وقلنا بأن الاعتبار الأدبي ظاهرة فردية وعمل شخصي يقوم
به الإنسان بهدف التأثير في مشاعر الأخرين ، وحقيقته اعطاء حد شيء لشيء
____________
(1) تأسيس الشيعة : 398 .
( 66 )
اخر كاعطاء حد الأسد للرجل الشجاع ، بينما الاعتبار القانوني ظاهرة
اجتماعية ، وهذا معنى كونه متأصلاً أي أن الجعل الشخصي لا أثر له ما لم يكن
هناك امضاء وموافقة من المجتمع أو الجهاز العام ، بخلاف الاعتبار الأدبي فهو
إبداع فردي غير متأصل . لأنه لا يتوقف على اقرار المجتمع وإمضائه .
كما أن الاعتبار القانوني تتطابق فيه الارادة الاستعمالية مع الارادة الجدية
بخلاف الاعتبار الأدبي فهو متقوم بعدم تطابق الارادتين ، كما أن الغاية من
الاعتبار القانوني قيادة ارادة الفرد والمجتمع نحو الخير بينما غاية الاعتبار الادبي
التأثير في مشاعر الأخرين ، إذن فهما مختلفان في الحقيقة والهدف ، ومختلفان
أيضاً في الآثار فإن استصحاب الاعتبار القانوني صحيح بينما استصحاب
الاعتبار الأدبي غير صحيح ، إذ الاستصحاب من قواعد السلوك ولا ربط بين
الاعتبار الأدبي ومقام السلوك ، ومع وضوح الفرق بينهما موضوعاً وحكماً فقد وقع
الخلط بينهما في علم الأصول وعلم الفقه من بعض الأعلام ونضرب أمثلة على
ذلك :
المثال الأول : قاعدة الطهارة المعبر عنها في النصوص بقوله عليه السلام :
« كل شيء لك نظيف حتى تعلم أنه قذر فإذا علمت فقد قذر»
(1) والسؤال
المطروح هنا هل أن مفاد هذا الحديث هو الاعتبار القانوني أم الاعتبار الأدبي ،
فإذا قلنا بان مفاده الاعتبار القانوني فالمقصود حينئذٍ جعل حكم ظاهري خاص
بحالة عدم العلم بالقذارة، وهو المسمى بالطهارة الظاهرية التي لا تمتد لما بعد
العلم بالخلاف ، فإنه إذا انكشف الخلاف فالاجزاء حينئذٍ خلاف القاعدة
يحتاج لدليل خاص ، إذ النجس لا يجزي عن الطاهر.
وإذا
(2) قلنا بأن مفاده الاعتبارالأدبي فالمقصود حينئذٍ تنزيل المشكوك منزلة
____________
(1) الوسائل 3 : 467 / 4195.
(2) تعرضنا لهذا البحث في صفحة : 142.
( 67 )
الطاهر تنزيلاً أدبياً مجازياً كتنزيل الشجاع منزلة الأسد بلحاظ جميع الآثار
التكوينية والتشريعية من دون جعل أي حكم شرعي لا واقعاً ولا ظاهراً ولذلك
لم يقيد مفادها بحالة الشك بل قيد الحالة عدم العلم الشاملة للجهل المركب
والغفلة والنسيان فلا يتصور حينئذٍ انكشاف الخلاف بل إذا حصل العلم بالقذارة
فهو ـ من باب تغير الموضوع لا من باب انكشاف الخلاف كما يساعد عليه
التعبير الموجود في النص « فإذا علمت فقد قذر» .
وأما الإجزاء حينئذٍ فيتوقف على نوع الأثر الذي يراد ترتيبه فإن النجس
له أثران :
1 - ما كان أثراً للنجس بما هو نجس كعدم جواز التطهير به ونجاسة
ملاقيه ، وبلحاظ هذا الأثر لا فرق بين الاعتبارين القانوني والأدبي في القول
بعدم الإجزاء بعد تبين النجاسة .
2 - ما كان أثراً للنجس بواسطة الجعل الشرعي كمانعيته للصلاة في
لباس المصلي ومانعيته من السجود، وبلحاظ هذا الأثر الثاني يختلف القول
بالإجزاء وعدمه لاختلاف مفاد الحديث ، فإذا كان مفاده الاعتبار القانوني فهو
حاكم على أدلة اشتراط الطهارة في اللباس والمسجد حكومة ظاهرية ترتفع
بانكشاف الخلاف ، ولا مجال للاجزاء حينئذٍ.
وإذا كان مفاده الاعتبار الأدبي فهو حاكم على أدلة اشتراط الطهارة
حكومة واقعية، فيكون الشرط حينئذٍ شاملاً للطهارة الواقعية والطهارة
التنزيلية ، ومقتضى ذلك الحكم بتحقق شرط الطهارة حين الشك ، فبعد العلم
بالقذارة يكون الإجزاء موافقاً للقاعدة باعتبار تحقق الشرط المذكور، وإنما قلنا
بالإجزاء في خصوص الأثر الثاني ، لأن ثبوته بالجعل والاعتبار فلا يمتنع تبديله
باعتبار آخر بخلاف الأثر الأول الثابت بنفس ثبوت النجاسة ، لأنه مستبطن
فيهاومنتزع منها.
( 68 )
ونفس هذا التحليل الذي ذكرناه في قاعدة الطهارة يأتي في قاعدة الحل
أيضاً المعبر عنها بقوله عليه السلام : «كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه
حرام ،
(1)، كما أنه متصور في مدلول أصالة البراءة الشرعية المعبر عنها في
النصوص « رفع ما لا يعلمون»
(2) ،فإن مفاد النص هل هو الترخيص الظاهري
على نحو الاعتبار القانوني ، أم مفاده تنزيل الحكم الواقعي عند عدم العلم به
منزلة المعدوم على نحو الاعتبار الأدبي ؟
وبيان ذلك .أن الإنسان بطبعه لا يندفع نحو عمل ما الا لأهمية
المحتمل أو قوة الاحتمال عند المقايسة بينهما، فإذا قال له الشارع المقدس «رفع
ما لا يعلمون » فمفاد هذا القول هو بيان عدم أهمية المحتمل وتنزيله منزلة
عدمه ، وفي مقابله قوله «احتط لدينك »
(3) فإنه اعتبار أدبي أيضاً مفاده تقوية
الاحتمال أو بيان أهمية المحتمل ، باعتبار أن الإنسان قد يحتمل شيئاً مهماً احتمالاً
ضئيلاً لا يحركه نحو عمله فيقوم الشرع بتقوية ذاك الاحتمال حتى يكون محركاً
نحو العمل ، أو أن المكلف قد لا يدرك مدى أهمية المحتمل فيامره الشارع
بالاحتياط كناية عن أهمية المحتمل .
إذن ففي هذه الأمثلة قد وقع الخلط من بعض الأعلام بسبب عدم الدقة
في التمييز بين الاعتبار الأدبي والاعتبار القانوني .
المثال الثاني : جعل العلمية والطريقية في مثل قوله عليه السلام « فما أدى
فعني يؤدي »
(4)، حيث ذهب المحقق النائيني (قده ) إلى أن معنى حجية الامارة
هو اعتبارها علماً تعبداً
(5)، وقد قلنا في موضعه أن جعل العلمية هل هو اعتبار
____________
(1) الوسائل 17 : 88 | 22050.
(2) الوسائل 15 : 369 | 20769.
(3) الوسائل 27 : 167 | 33509.
(4) الوسائل 27 : 138 | 33419.
(5) اجود التقريرات 2 : 102.
( 69 )
قانوني بحيث يستتبع حكماً ظاهرياً لا بقاء له بعد انكشاف الواقع ، أم أن
الجعل المذكور تنزيل واعتبار ادبي لا يستتبع حكماً ظاهرياً في مورده أصلاً .
المثال الثالث : جعل بعض الأحكام الوضعية كالجزئية والشرطية والمانعية
جعلاً مستقلاً، فقد وقع البحث في ذلك مفصلاً، وذهب الاستاذ السيد
الخوئي (قده) الى عدم امكان ذلك بل لابد للمولى في مقام جعل الجزئية من
الأمر بالمركب من عدة عناصر لينتزع من هذا الأمر بالمركب جعل الجزئية
لعناصره ، وكذلك لو أراد المولى جعل الشرطية أو المانعية فلابد له من الأمر
بشيء مقيد بقيد وجودي أو عدمي لينتزع من الأمر بالمقيد معنى الشرطية
والمانعية
(1) .
وذهب بعض الأعاظم (قده ) إلى أنه لا مانع عقلاً من جعل الجزئية
والشرطية ابتداءاً
(2) .ونحن نقول بانه قد وقع الخلط هنا بين الاعتبار الأدبي
والاعتبار القانوني ، فالاعتبار الأدبي إبداع فردي لا تاصل له في المجتمع فقد
يتذوقه المجتمع وقد يرفضه بينما الاعتبار القانوني ظاهرة اجتماعية تنبع من اقرار
المجتمع بهذا الاعتبار، فقيام الانسان باعتبار الملكية لشخص ما لا يكون
اعتباراً قانونياً حتى يمضيه المجتمع وتتعهد السلطة التشريعية والتنفيذية
بحمايته والدفاع عنه فهو اعتبار متأصل كما ذكرنا، وحينئذٍ فإن كان جعل
الشرطية والجزئية مما له ارتكاز اجتماعي واقرار عقلائي فهو اعتبار قانوني يصح
إبداعه مستقلاً وتترتب عليه الأثار المطلوبة ، والا فهو. اعتبار أدبي فقط لا يصل
لمستوى الجعل القانوني المستقل .
هذه بعض النماذج التي وقع الخلط فيها بين الاعتبار الادبي والاعتبار
____________
(1) مصباح الاصول 3 : 82.
(2) تهذيب الاصول للامام الخميني 2 : 371.
( 70 )
القانوني في علم الأصول .
وأما بعض الأمثلة في الفقه فمنها :
أ - التعبير في بعض النصوص عن الزكاة بأنها «اوساخ أيدي الناس »
(1) ،
وقد وقع الإشكال في ذلك من بعض الأدباء والأقلام المعاصرة بان الزكاة حق
للفقراء في أموال الاغنياء فكيف يعتبرالاسلام هذا الحق من الاوساخ ، مع أن
لازم ذلك احتقار الفقراء واهانتهم وحدوث الطبقية بينهم وبين الاغنياء ما دام
الاسلام يعتبر حقوقهم من الفضلات والأوساخ .
ولكن الجواب الصحيح عن ذلك أن يقال : بان هذا التعبير لون من ألوان
الاعتبار الأدبي لا الاعتبار القانوني ، بلحاظ أن الاعتبار الأدبي حقيقته كما ذكرنا
سابقاً إعطاء حد شيء لشيء آخر بهدف التأثير في احاسيس المخاطب
ومشاعره ، وفي المقام عندما أقبل بنو عبد المطلب للرسول صلى الله عليه وآله
وسلم وطلبوا منه أن يجعلهم من عمال الصدقات حتى ينالوا نصيباً منها أراد
الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إبعادهم عن ذلك
(2)، ولعله بسبب أن لا تكون
جميع وظائف الدولة الاسلامية بيد بني هاشم ، لأن ذلك عامل منفر ومؤلب
للقلوب عليهم بأنهم استبدوا بجميع الوظائف والمراكز، فحاول الرسول صلى
الله عليه وآله وسلم استخدام تعبير يبعدهم عن الوظيفة المعينة فقال لهم بان
الصدقات أوساخ ما في أيدي الناس ، وهو تعبير أدبي كما قلنا قصد منه تنفير
نفوسهم واحاسيسهم عن العمل المذكور لا أنه تعبير قانوني بحيث تترتب الآثار
القانونية للأوساخ على الصدقات ، كوجوب إزالتها عن المسجد كسائر النجاسات .
ب - قوله صلى الله عليه وآله وسلم «على اليد ما أخذت حتى تؤدي »
(3) فإن
____________
(1) الوسائل 9 : 268 | 11993.
(2) الوسائل 9 : 268 | 11992 و 11993.
(3) عوالي اللآلي 1 : 224 | 106 ، سنن البيهقي 6 : 95.
( 71 )
أغلب الفقهاء اعتبروا هذه المقالة اعتباراً قانونياً مفاده استقرار مالية المأخوذ على
ذمة الأخذ ،مع أنه في نظرنا مجرد تعبير أدبي للكناية عن الضمان عند التلف فقط .
ج - الفرق بين الحق والملك ، فقد ذهب المحقق النائيني (قده) الى كون
الفرق بينهما تشكيكياً فكلاهما عبارة عن الاختصاص بالشيء ولكن الملك أقوى
مرتبة من الحق في هذا الاختصاص
(1) واعترض عليه المحقق الاصفهاني ( قده )
بان ماهية الاختصاص إما أن تكون مأخوذة من مقولة الجدة وإما أن تكون
ماخوذة من مقولة الإضافة، وكلا المقولتين من الأعراض البسيطة التي لا تقبل
التشكيك والتفاوت بالشدة والضعف .
ولكن الصحيح بنظرنا أن اعتبار ماهية الاختصاص إن كان اعتباراً أدبياً
فحينئذٍ لا يتصور التشكيك والتفاوت فيه ، لأنه تنزيل أمر منزلة شيء تكويني
فيكون الأصل المنزل عليه محفوظاً فيه ، وحيث أن أصله التكويني غير قابل
للتشكيك فهو أيضاً غير قابل لذلك التشكيك أيضاً ، وإن كان اعتباراً قانونياً
كما هو الصحيح فهو وإن كان مبدأه الاعتبار الأدبي المنزل على أصل تكويني ،
ولكن لتحول هذا الاعتبار القانوني لظاهرة اجتماعية وتأصله في مرتكزات
المجتمع العقلائي لا يكون الأصل التكويني محفوظا فيه فيقبل التشكيك
الاعتباري حينئذٍ ، بمعنى أن المقنن تارة يجعل نوعاً من الاختصاص بنحو مؤكد
ويسميه ملكاً وتارة يجعله بنحو غير مؤكد ويسميه حقاً فيحصل التفاوت
بالاعتبار والجعل ، لانه تفاوت بطبعه وحركة اشتدادية تكوينية بنفسها ، فإن
الحركة مستحيلة في الاعتباريات فهذه مجموعة من الأمثلة في الفقه والأصول
على حصول الخلط بين الاعتبارات الأدبية والقانونية .
____________
(1) المكاسب والبيع ( تقريرات النائيني ) بقلم محمد تقي الآملي 1 : 92.