المبحث الحادي عشر
ميزان المسألة الأصولية
بعد تعرفنا على موضوع علم الاصول يتبين لنا الميزان في أصولية المسألة
والفارق الجوهري بينها وبين غيرها، وهو عبارة عن القانون المبحوث في حجيته
لمرحلة الاستنباط ، وبهذا يحصل امتيازها عن المسألة اللغوية والرجالية
والفقهية.
امتيازها عن المسألة اللغوية : إن المسألة اللغوية محققة للموضوع
والمسألة الأصولية هي القانون الاستدلالي بعد تنقيح الموضوع وأما الفاصل بين
البحث عن ظهور صيغة الأمر في الوجوب بحيث يعد بحثاً أصولياً وبين البحث
فى ظهور لفظ الصعيد بحيث يعد بحثاً لغوياً فهو أحد أمرين :
1 - إن البحث في صيغة الأمر وإن كان يبدو كونه بحثاً في صغرى أصالة
الظهور الا أن لب الكلام ومرجعه للبحث عن الحجية ، بمعنى أن أصل دلالة
الصيغة على الالزام مسلمة ولكن هل هي بدرجة الاشعار أم بدرجة تباني
العقلاء على الالزام والالتزام بدلالتها، وهذا هو معنى الحجية، بخلاف
البحث في لفظ الصعيد فإنه بحث عن أصل الظهور والدلالة، سواءاً ترتب
عليه حكم شرعي أم لا، وهذا بحث لغوي . وقد سبق النقاش في ذلك.
2 - إن أخذ عنوان القانونية في تعريف المسألة الأصولية يخرج البحث عن
ظهور لفظ الصعيد مما يعد بحثاً لغوياً عن حريم علم الأصول ، وذلك لأن مثل
( 139 )
ظهور صيغة الأمر لتكرره في الأبواب الفقهية كان البحث عنه في كل مسألة
فقهية غير منسجم مع طبيعة البحث العلمي ، فالمناسب افراد بحث عنه
مستقل عن الفقه ، وذلك ما تم في علم الأصول .
بينما ظهور لفظ الصعيد مثلاً لكونه زاوية خاصة من باب فقهي معين
فهو لا يشكل قانوناً عاماً لعدة أبواب فقهية حتى يعد من المسائل الأصولية،
ولذلك لو قمنا باستقراء الروايات المعصومية وحصلنا على صيغ كثيرة الورود
والتكرر في مجالات الاستنباط كان من المناسب عدها من المسائل الأصولية
أيضاً بحيث تبحث بشكل مستقل عن الفقه ، كما يدعى ذلك في مثل لفظ - لا
ينبغي - ولفظ - لا يصلح - ولفظ - لا بأس - ونحوها، فإن حصر مباحث
الألفاظ والظهورات في الصيغ المعروفة في علم الأصول استقرائي لا عقلي ،
هذا بغض النظر عن الأمر السابق وهو كون البحث فيها راجعاً للبحث في
الحجية ولو لباً .
امتيازها عن المسألة الرجالية : إن القواعد الرجالية نحو مراسيل
الثلاثة ، ونحو قاعدة أصحاب الاجماع ، ونحو هل ترحم الامام يفيد الوثاقة أم
لا، وكذلك البحوث الرجالية الجزئية كالبحث عن وثاقة المعلى بن خنيس مثلاً ،
إنما هي تنقيح لصغرى قانون الاستنباط لا لكبراه ، فإننا نحتاج في مقام
الاستنباط إلى احراز الصغرى وهي وثاقة الخبر بأي قاعدة رجالية كانت ، ثم
نحتاج لتمامية الكبرى وهي حجية خبر الثقة أو حجية الوثوق لنصل إلى نتيجة
الاستنباط ، فالقاعدة الأصولية هي بنفسها القانون الموصل لنتيجة الاستنباط
بينما القاعدة اللغوية والرجالية تساهم في تحقيق موضوع هذا القانون وصغراه
لا أنها هي القانون الاستدلالي .
امتيازها عن المسألة الفقهية . إن المسائل الفقهية على نوعين :
أ - ما لا ربط بينه وبين البحث عن الحجية فيكون خروجه عن حريم
( 140 )
علم الأصول واضحاً ، فمثلاً هناك قاعدة نسميها بقاعدة لا تنقض السنة
الفريضة بحسب اطروحتنا وبحسب اطروحة بقية الفقهاء تسمى قاعدة - لا
تعاد - وهذه القاعدة مفادها الاجزاء وعدمه لا أن مفادها الحجية في عملية
الاستنباط .
بيان ذلك : إن القاعدة المذكورة وردت في حديث أوله : « لا تعاد الصلاة
الا من خمسة » وآخره : « والتشهد سنة والقراءة سنة ولا تنقض السنة الفريضة »
(1)،
وقد أخذ الفقهاء بصدر الرواية فقالوا بان مفادها إثبات قاعدة خاصة بالصلاة ،
وهي عدم اعادة الصلاة عند وقوع الخلل في غير الخمسة واعادتها عند وقوع
الخلل في الخمسة المذكورة .
ونحن أخذنا بذيلها، ومفاده تأسيس قاعدة عامة لكل مركب عبادي
يتألف من فرائض وسنن ، فالفرائض ما فرضه الله في كتابه والسنن هي ما جعله
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولو على نحو الوجوب .
وذكر الصلاة في أول الحديث من باب التطبيق لا الحصر، ومؤدى
القاعدة المذكورة نفي الارتباط المطلق بين الفرائض والسنن ، فلو أخل أحد
بالسنن لعذر فعمله صحيح دون ما لو كان اخلاله بغير عذر. وهذه القاعدة
بنظرنا هي مفتاح باب الاجزاء حين امتثال الأمر الاضطراري أو الظاهري ،
فإن اجزاء الناقص عن الكامل خلاف القاعدة، ولكن لدلالة الصحيحة على
نفي الارتباط بين الفرائض والسنن في صورة العذر يقال بالاجزاء.
وبهذا اللحاظ تخرج القاعدة المذكورة عن ضابط المسألة الأصولية ، إذ
البحث فيها حول حكم معين وهو الاجزاء وعدمه وليس البحث عن حجيتها
في مقام الاستنباط حتى تعد مسألة أصولية . كما أن بحث الاجزاء خارج عن
____________
(1) الوسائل 5 : 470 ـ 471 | 7090.
( 141 )
الأصول داخل في علم الفقه ، لعدم تعلقه بالبحث عن الحجية أصلاً .
ومن القواعد الفقهية قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده التي
مفادها : أن صاحب المال لو أقدم على هتك ماله وتسليمه ليد المشتري بالعقد
الفاسد فهل تعد يد المشتري يداً ضمانية بمقتضى قوله : « على اليد ما اخذت
حق تؤدي »
(1) أم لا، وليس البحث فيها مرتبطاً بالحجية . ومثلها قاعدة لا ضرر
التي يكون مفادها - كما ذهب لذلك الشيخ الانصاري (قده ) - تحديد الاحكام
الاسلامية بغير الحكم المتولد من جعله ضرر، ولا ربط لذلك بالحديث عن
الحجية . فهذه القواعد فقهية لا أصولية، باعتبار أن نتيجة البحث في هذا
النوع من القواعد هي تشخيص الوظيفة الشرعية لا تشخيص حجية قانون
استدلالي .
ب - النوع الثاني من المسائل الفقهية ما كان متعلقاً بالبحث عن
الحجية، فيقع الالتباس بينه وبين المسألة الأصولية، كأصالة الصحة في عمل
الإنسان نفسه المعبر عنها بقاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز، وأصالة الصحة في
عمل الغير، وإمارية اليد على الملكية، وحجية البينة في الموضوعات ، فإن
البحث في هذه القواعد يدور حول حجيتها في مقام الاستنباط وعدمه فتتداخل
مع المسائل الأصولية.
إلا أن الأعلام أخرجوها عن حريم علم الأصول بقيد الاستنباط ،
فقالوا : بان القاعدة الأصولية هي ما كانت حجة في مقام الاستنباط ، والمقصود
بالاستنباط التوسيط الاثباتي لإثبات حكم كلي كخبر الثقة ، فإنه قاعدة تساهم
في استنباط حكم كلي ، بينما مفاد هذه القواعد أحكام كلية، ووظيفة الفقيه
تجاهها هو التطبيق على مواردها الجزئية لا استنباط حكم كلي منها ، فلا تقع هذه
____________
(1) عوالي اللآلي ا : 244| 106، سنن البيهقي 6 : 95.
( 142 )
القواعد حججاً في طريق الاستنباط وإنما هي حجة في مقام التطبيق على المورد
الجزئي ، وهذه هي الصفة الغالبة على القواعد الفقهية حتى النوع الأول منها
وهو الذي لا يرتبط البحث عنه بالبحث عن الحجية .
لكن يبقى الإشكال المثار عند الأعلام بالنسبة لقاعدة الطهارة، وهي
المعبر عنها في النصوص : « كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر »
(1)، وهي تنطبق
تارة على الموارد الجزئية كطهارة الثوب والمكان ، وتارة على الموارد الكلية كاثبات
طهارة الكتابي بها عند الشك في طهارته مع عدم قيام دليل اجتهادي على
النجاسة ، فخروجها عن ميزان المسألة الأصولية في الموارد الجزئية واضح ، لعدم
كونها حينئذٍ حجة في مقام الاستنباط ، ولكن خروجها عن المسائل الأصولية في
الموارد الكلية مشكل.
وحاول إخراجها صاحب الكفاية بقيد الكلية والاشتراك ، فافاد بان
القاعدة الأصولية قانون مشترك بين عدة أبواب فقهية
(2) وهذه القاعدة خاصة
بباب الطهارة وببعض الموارد الكلية فيها فتخرج عن ضابط المسألة الأصولية ،
وسبق كلامنا في ذلك .
ولكن قد يقال في وجه إخراجها: أننا ذكرنا في بحث الفرق بين
الاعتبار القانوني والاعتبار الأدبي
(3) أن قاعدة الطهارة لها تفسيران :
1 - كون مفادها حكماً ظاهرياً بالطهارة في مورد الشك . وهذا هو الاعتبار
القانوني المؤدي لحكومة قاعدة الطهارة على الأدلة الأولية المتعرضة لاشتراط
الطهارة فيما تشترط فيه ، حكومة ظاهربة متقيدة بحالة عدم العلم بالخلاف ،
بحيث يكون الاجزاء بعد انكشاف الخلاف على خلاف القاعدة. وبناءاً على
____________
(1) الوسائل 3 : 467 | 4195.
(2) الكفاية : 8 ـ 9.
(3) صفحة : 66.
( 143 )
هذا التفسير فقاعدة الطهارة كسائر الأصول العملية ، التي تعني أنها وظيفة
عملية للشاك في الحكم الواقعي . فلا مبرر حينئذٍ لاخراجها من علم الاصول .
لكونها مشمولة لتعريف المسألة الأصولية (وهو كونها حجة في مقام العمل ) .
2 - كون مفادها تنزيل المشكوك منزلة الطاهر الواقعي في جميع الآثار
التكوينية والتعبدية تنزيلاً أدبياً مجازياً كتنزيل الشجاع منزلة الأسد .
وهذا هو الاعتبار الأدبي ، الذي يعني عدم وجود أى جعل شرعي في
قاعدة الطهارة ، لا واقعاً ولا ظاهراً ولذلك لم يقيد مفادها بحالة الشك ، بل قيد
بحالة عدم العلم الشاملة للجهل المركب والغفلة والنسيان فهي دليل حاكم
على الأدلة الأولية المتعرضة لاشتراط الطهارة حكومة واقعية .
والحكومة كما شرحناها في أول الكتاب
(1)، قرينة نوعية كالتخصيص
كاشفة عن المراد الجدي ، وإنما الفرق بينها وبين التخصيص فرق إثباتي . فهو
تصرف في الحكم . وهي تصرف فى الموضوع . فمؤدى قاعدة الطهارة بناءاً على
هذا التفسير. توسعة دائرة الشرطية في الأدلة الأولية ، لما يشمل الطهارة الواقعية
والتنزيلية . نعم بالنسبة لبعض الآثار كعدم جواز التطهير بالنجس تكون
حكومتها حكومة ظاهرية كما سبق بيانه .
وحينئذٍ فلا تعد قاعدة الطهارة مسألة أصولية . لعدم كونها طريقاً كاشفاً
عن الحكم الشرعي ، ولا حكما ظاهرياً مجعولاً للشاك في مرحلة الحيرة العملية .
____________
(1) صفحة : 23.
( 144 )
حقيقة الوضع
والبحث هنا في مقامين :
الأول : في بيان علاقة اللفظ بالمعنى .
الثاني : في بيان حقيقة الوضع .
المقام الأول : لا شك في وجود علاقة الاختصاص والاقتران بين اللفظ
والمعنى، ولكن هل هذا الاقتران على نحو السببية أم على نحو الهوهوية،
وتوضيح ذلك في ثلاث نقاط :
1 - بيان حقيقة العلاقة المذكورة .
2 - بيان منشئها.
3 - بيان الشواهد الدالة عليها .
أولاً : النقطة الأولى : بيان حقيقة العلاقة المذكورة .
هنا تصويران لعلاقة اللفظ بالمعنى الموضوع له :
1 - علاقة السببية التي تعنى ان تصور اللفظ سبب لتصور المعنى في
الذهن ، فهناك وجودان أحدهما صورة اللفظ والآخر صورة المعنى غير ان الأول
سبب للثاني ، فكما يتحقق في الخارج وجودان وجود اللفظ بما هو كيف مسموع
ووجود لزيد مثلاً بما هو جوهر انساني فكذلك في الذهن وجودان إلا ان احدهما
سبب لتصور الآخر، وهذا هو المعروف بين الأصوليين .
2 - علاقة الهوهوية وتعني اندماج صورة المعنى في صورة اللفظ
فلا اثنينية بينهما، وبيان ذلك يحتاج لطرح ثلاث مقدمات :
أ - تقسيم الدلالة . قد ذكر الأصوليون أن الدلالة على ثلاثة أقسام :
( 145 )
الدلالة الانسية : المعبر عنها بالدلالة التصورية ، وتعني خطور المعنى في
الذهن عند الاحساس باللفظ ، سواءاً كان عن طريق السمع أم عن طريق
الرؤية أم عن طريق اللمس كما هو عند بعض المكفوفين . ولا تتقوم هذه الدلالة
بالقصد والالتفات بل حتى لو صدرت الالفاظ من غير الملتفت فإنها توجب
خطور المعنى في الذهن .
الدلالة التفهيمية : وهي التي تتقوم بقصد المتكلم اخطار المعنى في ذهن
السامع ، فالمنسبق للذهن عند صدور الكلام من الملتفت القاصد يسمى
مدلولاً تفهيمياً .
الدلالة التصديقية : وهي عبارة عن ميثاق عقلائي بان المتكلم الملتفت
ملزماً بظاهر كلامه ، فالمراد التفهيمي لكلامه هو مراده الجدي الواقعي ما لم
ينص على خلافه .
ب - لا ريب ان الدلالة التصديقية ليست دلالة لفظية وضعية بل هي
دلالة سياقية وميثاق عقلائي راجع لبناء العقلاء على كون المتكلم في مقام البيان
ملزما بظاهر كلامه ، وأما الدلالتان الأوليان وهما الانسية والتفهيمية فهما
مركز الدلالة اللفظية الوضعية عند الأصوليين ، وان اختلفوا في كون الدلالة
الناتجة عن الوضع اولاً هل هي الدلالة الانسية ام الدلالة التفهيمية .
وكلامنا هنا بناءاً على المسلك المعروف من كون الدلالة الوضعية هي
الدلالة الانسية ينصب على الدلالة الانسية ، فنقول : إن لهذه الدلالة أربع
مراحل :
المرحلة الأولى : الانتخاب ، سواء كان انتخابا فرديا كما ينتخب الأب
اسماً لولده أو انتخاباً جماعياً كظاهرة اللغات التي تتكامل مفرداتها بمساهمات
اجتماعية عامة، وانتخاب لفظ للمعنى تتدخل فيه العوامل الدينية والعرقية
والبيئية والثقافية، لذلك تكون الاسماء التي يسمي الاباء أبناءهم بها دليلاً على
( 146 )
دوافعهم النفسية ومستوياتهم الثقافية .
المرحلة الثانية : مرحلة الاشارة للمعنى، حيث ان مجرد انتخاب لفظ
معين وجعله بازاء المعنى لا يؤدي لانسباق المعنى في الذهن ، ما لم تضم لاطلاق اللفظ
عوامل كمية ككثرة الاستعمال وعوامل كيفية كاحتفاف الكلام بالقرائن المشيرة
للمعنى.
المرحلة الثالثة : مرحلة التلازم والسببية ، ومعناها أنه إذا تأكدت علاقة
اللفظ بالمعنى وترسخت استغنى اللفظ في مرحلة اخطاره للمعنى عن القرائن
المشيرة وصار اللفظ سبباً لخطور المعنى أي أن تصور اللفظ مستلزم لتصور
المعنى ، وقد اعتبر كثير من الاصوليين هذه المرحلة هي العلاقة الوضعية بين
اللفظ والمعنى ، مع أن الصحيح عندنا أنها المرحلة الرابعة .
المرحلة الرابعة : مرحلة الاندماج والهوهوية، التي تعني اندكاك صورة
المعنى في صورة اللفظ ذهناً وفناء احداهما في الأخرى، فلا يرى الوجدان
الذهني صورتين صورة للفظ وصورة للمعنى وكون الأولى سبباً للثانية كما هو في
المرحلة السابقة .
ج - تصوير مرحلة الهوهوية، ولتوضيح هذه المرحلة نتعرض لملامحها
المميزة لها، وهي ثلاثة :
الأولى : ما طرحه الفلاسفة من تعدد الماهية للوجود الواحد، فقد قالوا
بان الوجود الواحد لا تكون له ماهيتان في عرض واحد، باعتبار ان الماهية
منتزعة من الوجود فهي حد الوجود الحاكي لمرتبته الواقعية ولو كان له ماهيتان
لكان الشيء الواحد في ذاته شيئين وهو مستحيل ، لكن لا مانع من أن يكون
للوجود الواحد ماهيتان طوليتان أي أن احداهما متفرعة على الأخرى وفي طولها ،
فلا يلزم المحذور السابق من كون الشيء الواحد شيئين ، لأن الماهية الأولى حد
للوجود بما هو في ذاته والماهية الأخرى حد للوجود بما هو مقترن بالماهية السابقة
( 147 )
فلم يكن للوجود الواحد ماهيتان في عرض واحد بل يكون له ماهيتان طوليتان .
فمثلاً الدينار وجود واحد له ماهيتان ، ماهية تكوينية وهي ماهيته
القرطاسية الورقية وماهية اعتبارية وهي كونه الوسيط في تبادل السلع وميزاناً
لتقييم الاشياء ، كذلك لفظة حاتم تشير الى حصول ماهيتين لأمر واحد ، ماهية
انسانية وهي شخص عربي من بني طي وماهية اعتبارية وهي كونه القدوة في
الكرم والجود .
فكذلك في محل كلامنا نتيجة كثرة استعمال اللفظ في المعنى يحصل للفظ
ماهيتان طوليتان ، ماهيته الذاتية وهو كونه من مقولة الكيف المسموع وماهيته
العرضية وهي صورة المعنى المندمجة في صورة اللفظ ، فيكون وجود اللفظ وجوداً
لماهيته التكوينية الكيفية وحضوراً لماهيته المعنوية وهي صورة المعنى، وهذا ما
يعبرعنه الفلاسفة بالوجود اللفظي للمعنى، حيث يقولون إن للمعنى أربعة
وجودات .
1 - الوجود الخارجي المحمولي للمعنى .
2 - الوجود الذهني له وهي صورته المنطبعة في الذهن .
3 - الوجود اللفظي له .
4 - الوجود الكتبي .
فاعتبار وجود اللفظ عندهم وجوداً للمعنى دليل على حصول علاقة
الهوهوية والاندماج بين صورة اللفظ وصورة المعنى ، بحيث أن حضور اللفظ
خارجاً حضور للمعنى بلا حاجة لتصور اللفظ أولاً ثم الانتقال منه لتصور
المعنى كما هو مبنى السببية والتلازم .
الثانية: ما ورد في ألسنة الاصوليين من حصول الفناء بين اللفظ
والمعنى ، فاللفظ قد فني في المعنى الى درجة أن اللفظ صارما به ينظر والمعنى
ما فيه ينظر، فإذا ذكر اللفظ ينتقل الذهن للمعنى عبر اللفظ مع عدم التفاته
( 148 )
اطلاقاً الى اللفظ وخصوصياته الصوتية والبنائية والاعرابية .
وهذه الحالة المعبر عنها بالفناء هي علاقة الهوهوية والاندماج ، فلولا
اندكاك صورة المعنى في صورة اللفظ بحيث ترى صورة واحدة لما كان اللفظ
مغفولاً عنه حين الانتقال للمعنى، اذ السبب لا يغفل عنه حين الانتقال
للمسبب ، فرؤية النار التي تنقل الذهن لتصور الاحتراق أو الدخان لا
تستوجب الغفلة عن النار وخصوصياتها مع أنها سبب والاحتراق مسبب ، اذن
فلو كانت علاقة اللفظ بالمعنى علاقة السببية لم تستلزم هذه العلاقة حصول
الفناء والغفلة عن اللفظ بينما الفناء والغفلة حاصلة، فهذا دليل على كون
العلاقة هي الهوهوية والعينية لا السببية والتلازم .
الثالثة : ما طرحه الاصوليون ايضاً من تحقق المرآتية بين اللفظ والمعنى ،
وبيان ذلك أن تصور الشيء على قسمين :
1 - تصوره بنفسه كما اذا تصور زيد بنفسه .
2 - تصوره بوجهه كما اذا تصور الكلي المطابق له ، فتصور الكلي المطابق
- بالكسر- تصور لمطابقه - بالفتح - لا بنفسه بل بوجهه ، وقد ذكر هذا التعليل
بالنسبة للفظ فإنه تارة يتصور المعنى بنفسه كتصور المولود قبل وضع اسم له
وتارة يتصور المعنى بوجهه وذلك بتصور اللفظ ولما كان تصور اللفظ تصوراً
للمعنى بوجه كان اللفظ مرآةً للمعنى. ومعنى المرآتية وجود صورة واحدة
طبيعتها المرآتية للمعنى الواقعي لا وجود صورتين متلازمتين كما هو معنى القول
بالسببية.
فهذه ملامح علاقة الهوهوية بين صورة اللفظ وصورة المعنى .
وأن المقصود ليس هو الهوهوية المفهومية إذ من الواضح الفرق المفهومي بين
اللفظ والمعنى ، ولكن المقصود الهوهوية المصداقية أي أن الموجود في الذهن
صورة اللفظ ذات الطبيعة المرآتية الحاكية عن المعنى إما على نحو دخول التقيد
( 149 )
والقيد فهي صورة مركبة حاوية لماهية اللفظ والمعنى وإما على نحو دخول التقيد
بإراءة المعنى وخروج القيد .
النقطة الثانية : في منشأ علاقة التلازم والسببية ومنشأ علاقة الهوهوية
والاتحاد، أما منشأ علاقة السببية فهو القانون المطروح في المدرسة التحليلية
لعلم النفس ، وهو قانون تداعي المعاني أي تلازمها واقرانها في الخطور الذفي .
والقانون المذكور له ثلاثة عوامل :
1 - العامل الأول : كثرة التقارن في الاحساس ، فإن الشيئين اذا اقترنا
في الاحساس ، سواءاً كانا لفظين كلفظ (قال محمد) ولفظ (هو ابن مالك ) فإنهما
يتلازمان في الخطور ذهناً ، أم كانا معنيين كطلوع الشمس وصحوة الناس من
النوم ، فانهما يقترنان ذهناً لتقارنهما خارجاً وحساً .
2 - العامل الثاني . التشابه ، فإن شبه شيء بشيء إذا كان شبهاً كبيراً
يكون عاملاً في تصور الشبيه عند خطور شبيهه في الذهن ، كالتشابه بين
الصورة الفوتغرافية وبين الانسان المصور فإن تصور الصورة عامل في تصور
نفس الانسان المصور بها .
3 - العامل الثالث : التضاد، فإن التضاد الحقيقي بين الشيئين اللذين
لا ثالث لهما كالظلمة والنور يكون عاملاً في تقارنهما ذهناً ، كما قيل ان الاشياء
تعرف بأضدادها .
والمرتبط بمحل كلامنا هو العامل الأول فقد ذكروا في مقام تقريره أنه
اقيمت تجربة عملية مع الكلب ، حيث قام شخص بالقرن الحسي فترة طويلة
بين إحضار الطعام وطرق الجرس فكانت النتيجة أنه كلما طرق الجرس سال
لعاب الكلب استعداداً للطعام ، وهذا التلازم الذهني سببه كثرة التقارن
الحسي . فكذلك في محل كلامنا ينطبق القانون نفسه بنفس العامل المذكور،
فإنه اذا قام الأب بالقرن الاحساسي بين اسم مولوده وبين المولود نفسه
( 150 )
واستخدم في ذلك القرائن والمثيرات الموجبة لتصور المعنى تتحقق العلاقة الوثيقة
بين اللفظ والمعنى ، وهي علاقة السببية والتلازم لعامل الاقتران الحسي المؤكد،
وهو ما يعبر عنه بالاقتران الشرطي عند علماء النفس .
وأما منشأ علاقة الهوهوية بين اللفظ والمعنى فهو وإن لم يتعرض له
الفلاسفة لكن تحديده بنظرنا راجع لكثرة الحمل ، وبيان ذلك يتم في أمرين :
أ - إن الفلاسفة قسموا الحمل لقسمين ، مواطاة واشتقاق ، فالأول حمل
هو هو والثاني حمل ذو هو، والتقسيم المذكور انما هو بحسب ظاهر النسبة
الاسنادية في القضية، حيث ان المسند إن صح اسناده للموضوع بلا واسطة
فالحمل مواطاة وان احتاج اسناده لتوسيط مفهوم ذو وصاحب فهو حمل
اشتقاق ، لكن كلا القسمين عند التأمل والتحليل هو حمل مواطاة، اذ المفهوم
الحقيقي للحمل هو خلق الاتحاد والالتحام بين الموضوع والمحمول بحيث
يكون المحمول وجهاً للموضوع إلا أن يكون مقصودهم بحمل الاشتقاق أنه
مصداق مجازي للحمل لا مصداق حقيق لأن حقيقة الحمل معناها الهوهوية كما
ذكرنا وسيأتي بيانه .
ب - إن الفارق الجوهري بين كثرة التقارن الحسي بين امرين وبين كثرة
الحمل : ان الأول لا يذيب الاثنينية بين الطرفين ولا يزيل الفواصل الغيرية
عنهما وإن أوجب تلازمهما وسببية أحدهما لحضور الآخر، أما كثرة الحمل فإنها
تمحو الفواصل والاثنينية بين الموضوع والمحمول وتلبس احدهما لباس الآخر
بحيث تتحقق علاقة الهوهوية والاتحاد بينهما.
إذن فعامل الحمل - أي حمل اللفظ على المعنى - سواء في جانبه الكمي
وهو الكثرة أم في جانبه الكيفي وهو انضمام المثيرات والاساليب الدعائية
والاعلامية المختلفة يوجب رسوخ العلاقة بين اللفظ والمعنى ، بحيث يصبح
اللفظ وجهاً للمعنى وتندمج صورته في صوره المعنى ذهناً ، نظير حمل الكرم
( 151 )
بالفاظه وقصصه وايجابياته على حاتم فإنه يؤدي بالنتيجة لاكتساب اللفظ ماهية
اعتبارية وهي ماهية الكرم مضافاً لماهيته التكوينية .
فالخلاصة: أن كثرة حمل اللفظ على المعنى مع مساهمة بعض العوامل
الأخرى أدت لحصول الهوهوية والاندماج بين صورتي اللفظ والمعنى ، فصار
اللفظ وجهاً للمعنى فانياً فيه والمعنى تتجلى صورته من نفس صورة اللفظ .
وهذا الاندماج الحاصل نتيجة تاكد الحمل له عدة ثمرات علمية في
الفكر الاصولي والفقهي ، فمثلاً في مبحث الاحكام الوضعية قد ذهب الشيخ
الانصاري الى كونها منتزعة من الاحكام التكليفية بل نقل عن بعضهم العينية
وأن الاحكام الوضعية هي عين الاحكام التكليفية
(1)، ونحن نرى رجوع القولين
لمسلك واحد وهو مسلك الاندماجية بين الحكمين ، وذلك لأن حمل احكام على
محور واحد بصورة متكررة يؤدي لحصول الاندماج بينهما واستبطان احدهما
للآخر .
فاستبطان الملكية مثلاً لجواز التصرف الحسي والاعتباري وترتب جميع
شؤون السلطنة حصل نتيجة كثرة حمل هذه الأحكام على محور واحد وهو العقد
المفيد للملكية، فكثرة حمل الأحكام القانونية على العقد أدى لاندماج هذه
الأحكام التكليفية في ماهية الملكية واقترانهما كماهية واحدة، بحيث اصبح أنه
لا معنى للملكية الا جواز التصرفات ولا معنى لها الا بالملكية .
وكذلك في مبحث مقدمة الواجب حيث اخترنا هناك أن وجوب المقدمة
وجوب شرعي لا عقلي كما ذهب له الاستاذ السيد الخوئي ( قده )، لكن على نحو
الوجوب الاندماجي المستبطن في نفس وجوب ذي المقدمة، فكان كثرة حمل
وجوب المقدمة وتعليقه على مورد وجوب ذيها وربطه به أنتج اندكاك الوجوب
الغيري في النفسي على نحو الوجوب الواحد اثباتاً .
____________
(1) فرائد الاصول 2 : 601.
( 152 )
وكذلك في بحث خيار الغبن الذي ارجعه الاستاذ السيد الخوئي (قده )
إلى خيار تخلف الشرط لوجود شرط ضمني ارتكازي عند العقلاء وهو عدم
نقصان ما قبض عما دفع في المالية، ونحن ارجعناه إلى الشرط الاندماجي
بمعنى أن المعاوضة بين المبيع والثمن مستبطنة لمساواتهما في المالية، وهذا
الاستبطان نتج عن كثرة حمل هذا الشرط على كل من اوجد المعاملة . وغير ذلك
من البحوث التي يمكن تصوير نظرية الاندماجية والهوهوية فيها .
النقطة الثالثة : في عرض الشواهد الدالة على كون العلاقة الوضعية هي
علاقة الهوهوية والاتحاد بين اللفظ والمعنى ، وهي خمسة شواهد :
الأول : الفارق بين قانون تداعي المعاني وظاهرة اللغة عند الانسان ،
فإن قانون التداعي قانون غريزي موجود عند جميع الحيوانات فلا يحتاج تطبيقه
الى تأمل وتخطيط ، فالحيوان بطبيعته وغريزته يصدر اصواتاً تعبر عن الألم
واصواتاً تعبر عن الجوع واصواتاً تعبر عن الفرح ويفهمها افراد نوعه بقانون
تداعي المعاني ، فمثلاً الدجاجة كما يذكر في عالم الحيوان اذا ارادت ان تغذي
صغارها فإنها تضرب بمنقارها الأرض ثم تصدر اصواتاً معينة تفهمها صغارها
وتستجيب للحضور.
فالقانون الذي دفع الدجاجة الأم لهذا العمل ودفع الصغار للحضور
هو قانون تداعي المعاني وهو مركوز في غريزة الحيوان لا يحتاج اجراؤه لعمل
عقلي أو فكري ، بينما اللغة ظاهرة حضارية حية كما يعبر عنها علماء الاجتماع
وتعتبر الدليل على ثقافة المجتمع وحضارته ومستواه الفكري والمادي ، باعتبار
انها لابد أن تمر بالمراحل الأربع التي ذكرناها، وهي مرحلة الانتخاب ومرحلة
الاشارة ومرحلة التلازم ومرحلة الهوهوية .
وهذه المراحل لا يحتاج لها قانون تداعي المعاني الذي يعني الانتقال من
الملزوم الى اللازم كالانتقال من النار للاحتراق ، لأنه قانون غريزي فلا يتوقف
( 153 )
على هذه المراحل المخططة عقلاً بخلاف العلاقة الوضية اللغوية بين اللفظ
والمعنى فإنها مرحلة راقية للتطور الابداعي عند الانسان . ولعل الآية الكريمة :
( خلق الانسان * علمه البيان )
(1) تشير لهذه النقطة ، حيث اعتبرت البيان نعمة
خاصة بالانسان مع ان الأصوات الخاصة بالحيوانات والحركات التي يقوم بها
للتعبير عن حالاته النفسية والجسمية نوع من البيان ، فلماذا خص الله نعمة
البيان بالانسان ؟
فلعل في ذلك اشارة الى ان بيانية اللغة البشرية أعمق وأرسخ من بيانية
بقية الأصوات الحيوانية في الدلالة على المقاصد، وعمق البيانية يتقوم برسوخ
العلاقة بين اللفظ والمعنى بحيث تعد مرحلة أرقى من مرحلة التلازم والسببية
الموجودة حتى في لغة الحيوانات وبقية الملازمات ، وهي مرحلة الهوهوية
والاتحاد .
وإذا تاملنا في الفرق بين اشارات الأخرس ولغة الفصيح - مع أن كليهما
مندرج تحت عنوان الدلالة - وجدنا أن بيانية اللفظ لمعناه أرسخ واقوى من بيانية
الاشارة الصادرة من الأخرس لنفس المعنى مع وجود قانون السببية فيها بناءاً
على نظرية تداعي المعاني ، مما يكشف عن كون العلاقة الوضعية أرقى من
علاقة السببية، وهي علاقة الهوهوية .
الشاهد الثاني : ويتضمن أمرين :
أ-إن حركة الذهن على لونين :
1 - حركة الاستنتاج .
2 - حركة الاستمتاع والاستذكار.
فاما حركة الاستنتاج فهى حركة تصديقية تستتبع جزماً واعتقاداً ، لأنها
انتقال من المقدمات للنتائج كحل المسائل الرياضية او القانونية وشبهها ، وهذه
____________
(1) الرحمن 55 : 3 و 4.
( 154 )
الحركة كما ذكر الفلاسفة تتضمن ثلاثة انتقالات :
1 - انتقالاً نحو المعلوم .
2 - انتقالاً بين المعلومات .
3 - انتقالاً من المعلوم للمجهول .
وقد ذكر ابن سينا والمحقق الطوسي في شرح الاشارات ان هذه
الانتقالات الذهنية تكون بالفاظ ذهنية
(1) ، والسر في ذلك أن هذه الحركة لما كانت
تصديقية تستتبع اذعاناً أو رفضاً أو تشكيكاً من النفس فلابد من صياغتها على
شكل قضايا تعرض على النفس لتحدد موقفها تجاهها، إذ العلم التصديقي لا
يتعلق بالتصورات الافرادية وإنما يتعلق بالتصورات الاسنادية ، إذن فحركة
الاستنتاج والاستدلال والانتقال من المعلوم للمجهول تتقوم بقيام الذهن
بصياغة المعاني المعلومة على شكل القضايا المرتبة المؤطرة باطار احد الاشكال
الأربعة للقياس المنطقي . وهذا هو معنى كون الانتقالات الذهنية تتم بالفاظ
ذهنية كما ذكر المحقق الطوسي
(2) .
وأما حركة الاستذكار فهي كمن يقوم باستعراض ذكريات طفولته في ذهنه
من أجل التالم أو التمتع وكمن يقوم بمشاهدة لوحة فنية زاهية لأجل الاستمتاع فإن
هذه الحركة لا تحتاج لاستخدام ألفاظ ذهنية معها، لأنها حركة تصورية لا
تستتبع اذعاناً من النفس فلا حاجة لصياغتها من قبل النفس في شكل القضايا
الاسنادية .
ب - ان الحركة الذهنية الاستدلالية المتقومة بالالفاظ الذهنية لا يمكن
ان يكون دور اللفظ فيها دور السبب المستلزم لمسببه بل دور الهوهوية والاتحاد ،
وذلك لأنه لو كانت هذه الألفاظ الذهنية سبباً في اخطار المعاني المعلومة المعدة
____________
(1) الاشارات ا : 22 .
(2) الاشارات ا : 22.
( 155 )
للاستنتاج لاستغنى عنها بعد حضور المعاني وتمت الانتقالات بعد ذلك بين
المعاني نفسها بدون الألفاظ ، اذ الهدف من خطور اللفظ سببيته لخطور المعنى
فلا حاجة له بعد حضور المعنى ، مع أن هذه الانتقالات لا يمكن تحققها بدون
الألفاظ .
فلا محالة يكون علاقة اللفظ هنا بالمعنى المعلوم علاقة الهوهوية والاتحاد ،
والا فإن علاقة السببية بين اللفظ والمعنى لو كانت موجودة في هذه الصورة أيضاً
مع خطور المعاني وحضورها في الذهن وعدم حاجتها للألفاظ فهي من باب
تحصيل الحاصل وهو محال ، إذ الغاية من تصورها هو تصور المعاني والمفروض
أن المعاني متصورة حاضرة، فلابد أن تكون علاقة اللفظ بهذه المعاني المعلومة
علاقة الهوهوية والاتحاد التي لا تتاثر بحضور المعاني وخطورها .
الشاهد الثالث : لقد ذكر علماء النفس أن طريقة التفكير ترتبط ارتباطاً
وثيقاً باللغة المستخدمة عند التفكير، فإن اللغات العالمية لا تختلف اختلافاً
لفظياً فقط بل ان كل لغة تتضمن بين ثناياها طريقة معينة للتفكير والتحليل ،
فمثلاً كثيرمن اللغات تختلف عن اللغة العربية في تقديم المسند على المسند اليه
بعكس اللغة العربية وهذا له تأثير كبير في طريقة التفكير والتحليل الذهني .
كما أن اللغة الفارسية واليونانية تستلزم تصور القضايا الحملية على أنها من
باب ثبوت شيء لشيء ، لذلك يذكر فيها الرابط بين الموضوع والمحمول وهو (است
أو استين)، بينما اللغة العربية تصور للذهن أن القضية الحملية من باب
الهوهوية بين الموضوع والمحمول نحو زيد قائم ، ولذلك عندما يعبرون عن نسبة
الربط فيها يذكرون ضمير الشأن وهو - لفظ هو-.
ومما لا شك فيه أن تصور القضية على النحو الأول يختلف عن تصورها
على النحو الثاني ، فلو كان ارتباط اللفظ بالمعنى ارتباط السبب بالمسبب لم نجد
تلازماً بين طبيعة اللغة وطريقة التفكير، إذ شأن اللفظ حينئذٍ اخطار المعنى فقط
( 156 )
كاخطاره باي لفظ من لغة اخرى فلا يتغير نوع تصور المعنى لتغير طريقة
اللفظ ، بينما تأثر اسلوب التفكير باللغة المستخدمة كاشف عن علاقة الاندماج
والهوهوية بين اللفظ والمعنى وانعكاس المعنى في اللفظ نفسه .
الشاهد الرابع : الاستعمال غير التفهيمي : ان الانسان حينما يستعمل
اللفظ فتارة يكون مقصوده تفهيم الاخرين أو تفهيم نفسه وتارة يستخدمه
لأهداف اخرى كهدف الدعاء أو التلقين أو الترويح النفسي ، فبالنسبة لهدف
الدعاء مثلاً لو تلفظ الانسان بالفاظ المناجاة مع الله تبارك وتعالى فهنا لا يقصد
الداعي تفهيم المخاطب لعلمه بعلم الله بجميع ما يخلد في ذهنه قبل النطق ،
وأيضاً لا يقصد من طرح هذه الألفاظ اخطار معانيها في ذهنه لحضور هذه
المعاني مسبقاً قبل تلفظه بالفاظها، ولو قصد اخطارها بتلك الألفاظ لكان من
قبيل تحصيل الحاصل وهو محال .
وإنما مقصوده بذلك اظهار العبودية والذلة أمام الحق تبارك وتعالى ، فلولا
شعور الداعي بحضور المعاني الروحية في نفس حضور الألفاظ لما استخدمها
في مقام الدعاء ، إذ لو كان دور اللفظ بالنسبة لمعناه دور السبب بالنسبة
للمسبب لم تكن هناك حاجة للتلفظ لحضور المعاني في ذهنه ، لكن اندفاعه
للتلفظ بهذه المعاني كاشف عن شعوره اليقيني باندماج صورة المعنى في صورة
اللفظ ، بحيث أنه اذا احضر اللفظ فقد احضر المعنى خارجا بحضور اللفظ .
ومعلوم أن العبودية أنما هي في المعنى لا في اللفظ ، ومقصوده الاساسي
هو تحقيق تلك المعاني الروحية خارج ذهنه ، فلولا ادراكه علاقة الاندماج بين
صورة اللفظ وصورة المعنى وحضور المعنى بحضور اللفظ لما قام بالتلفظ في
مقام الدعاء والمناجاة .
وكذلك عند الكلام مع النفس بهدف التلقين النفسي الذي ذكرت
المدرسة السلوكية في علم النفس أنه من طرق العلاج للأمراض النفسية
( 157 )
الكثيرة، فإذا اصيب الانسان في حياته بظروف قاسية سببت تأخر مسيرته
العلمية أو العملية فقد يصاب بمرض القلق والتوتر النفسي ، ومن طرق العلاج
لمثل هذا المرض هو عملية التلقين النفسي بأن يتحدث مع نفسه بألفاظ
التشجيع والتحضيض والدفع لمواصلة مسيرته .
فعملية التلقين لم يكن المقصود بها اخطار المعاني في الذهن لخطور هذه
المعاني مسبقا قبل الألفاظ فتحصيلها باللفظ من باب تحصيل الحاصل وهو
محال ، ولم يكن المقصود بها تفهيم الآخرين لأن الخطاب مع النفس لا مع الغير،
بل المقصود في تلقين النفس كفاءتها وقدرتها، وحينئذٍ لو كانت علاقة اللفظ
بالمعاني التشجيعية علاقة السببية لم يكن هناك حاجة للتلفظ ، لكن ادراك
المتكلم اندماج صورة المعنى في صورة اللفظ بحيث أنه اذا احضر اللفظ فقد
احضر المعنى التشجيعي للنفس هو الذي دفعه للتلفظ ، حيث أن علاج مرضه
في المعنى لا في اللفظ فلولا حضور المعنى بحضور اللفظ لما تمت عملية
التلقين .
وكذلك أساليب الترويح عن النفس أوتاليمها او توبيخها أو تفريحها من
خلال التلفظ بالفاظ الألم والفرح كاشف عن شعور وجدان المتكلم بهوهوية
صور الألفاظ وصور المعاني ، وحضور المعاني بحضور اللفظ على نحو الاندماج
والاتحاد، وكون المعنى ماهية اخرى قد اكتسبها اللفظ مع ماهيته التكوينية كما
سبق بيانه.
الشاهد الخامس : سراية الحسن والقبح من المعنى إلى اللفظ .
مما لا ريب فيه وجداناً الشعور بكراهة بعض الألفاظ كلفظ هتلر ويزيد
لقبح معانيها واستحسان بعض الألفاظ الأخرى كالحسن وعلي ومحمد لحسن
معانيها، فلولا علاقة الاندماج بين اللفظ والمعنى واتحاد صورتيهما لما سرى
الحسن والقبح من المعنى الى اللفظ .
( 158 )
لكن ربما يقال : بان كراهة اللفظ واستحسانه لا يكشف عن كون علاقة
اللفظ بمعناه علاقة الهوهوية بل لأن ذكر اللفظ سبب لأخطار المعنى القبيح ،
فهذه السببية لخطور القبيح أوجبت النفور من اللفظ لا لكون العلاقة بينهما هي
علاقة الاتحاد والاندماج .
ولكن الذي يظهر بالتامل الوجداني هو دلالة سراية الحسن والقبح من
المعنى الى اللفظ على وحدة العلاقة واندماجيتها، وذلك لأن القبح والحسن
بمعنى النقص والكمال وعاءه هو المعنى بوجوده الخارجي وانما يسري للصورة
الذهنية أولا ثم منها اعد اللفظ ، وسريانه للصورة الذهنية والألفاظ لا بمعنى
الكمال والنقص الواقعيين بل بمعنى القبول والرفض النفسيين ، ولولا اتحاد الصورة
الذهنية مع ما في الخارج في ماهية واحدة وذات فاردة لما سرى الحسن والقبح
من المعنى الخارجي للمعنى الذهني ، فكذلك لولا وحدة الصورة الذهنية
للمعنى مع صورة اللفظ بحيث يعد حضور اللفظ حضورأ للمعنى لما سرى
الحسن والقبح من المعنى الى اللفظ .
الشاهد السادس : ان المناطقة قسموا الدلالة للمطابقية والالتزامية ،
فإن دلالة اللفظ على تمام معناه مطابقة ودلالة اللفظ على جزء معناه أو ما هو
خارج عنه لازم له التزام ، لرجوع الدلالة التضمنية في الواقع للدلالة
الالتزامية ، حيث ان الكل والجزء متلازمان خارجاً وذهناً بمعنى كون حضور
الكل حضوراً للجزء ولا عكس ، فمثلاً لفظ الشمس موضوع للجرم الناري
ودلالته مطابقية ولكن لتلازم هذا الجرم مع الشعاع صارت دلالة لفظ الشمس
على الشعاع دلالة التزامية ، لكون اللزوم من اللزوم البين بالمعنى الأخص .
وحينئذٍ نقول : لو كانت علاقة اللفظ بالمعنى علاقة الملزوم باللازم لم
يكن هناك فرق بين الدلالة المطابقية والدلالة الالتزامية في الخطور الذهني
أصلاً ، حيث أن دلالة اللفظ على معناه المطابقي بالملازمة لتلازمهما ذهناً في
( 159 )
الخطور، وكذلك دلالة اللفظ على الشعاع مثلاً بالملازمة لتلازمهما ذهناً نتيجة
تلازم المعنى المطابقي والالتزامي في الاحساس .
نعم بينهما فرق في مرحلة الانتخاب باعتبار أن اللفظ قد انتخب للدلالة
على المعنى المطابقي لا للدلالة على المعنى الالتزامي ، لكن هذا الفرق لم
ينعكس على مرحلة الاشارة ولا مرحلة التلازم والسببية، فإن اللفظ ملزوم
لكليهما دال عليهما من باب السببية والملازمة مع أن الفرق بينهما واضح عند
الوجدان وأن انتقال الذهن للمعنى المطابقي أرسخ وأقوى من انتقاله للمعنى
الالتزامي .
ولو كانت درجة الانتقال للمعنى الالتزامي مساوية لدرجة الانتقال
للمعنى المطابقي لكان المعنى الالتزامى مطابقياً بلا اشكال ، فالفرق الوجداني
بين الدلالتين من حيث القوة والضعف كاشف عن كون علاقة اللفظ بالمعنى علاقة
الاندماج والهوهوية وهي حاصلة في المعنى المطابقي لأنه المعنى الوضعي دون
الالتزامي ، فعلاقة اللفظ به علاقة السببية والملازمة .
وربما يقال : بان الفارق بين الدلالة المطابقية والالتزامية بان سببية اللفظ
لخطور المعنى المطابقي بلا واسطة بينما سببية اللفظ لخطور المعنى الالتزامي
بواسطة خطور المطابقي أولاً ، فهذا هو الفارق بين الدلالتين والا فكلاهما
مندرج تحت علاقة السببية بين اللفظ والمعنى.
ولكن الصحيح أننا لا نرى وجداناً حضور ثلاث صور ذهنية في الدلالة
الالتزامية، صورة اللفظ وصورة المعنى المطابقي وصورة المعنى الالتزامي بل لا
نرى غير صورتي المعنى المطابقي والالتزامي ، مضافاً إلى أن الفلاسفة فرقوا بين
اللزوم البين بالمعنى الأخص والبين بالمعنى الأعم وغير البين بأن الأول ما كان
تصور الملزوم كافياً في تصوره دون الثاني وبنوا الدلالة الالتزامية على البين
بالمعنى الأخص ، فلا يحتاج حينئذٍ بناءاً على هذا التحديد في الانتقال للمدلول
( 160 )
الالتزامي الى تصور اللفظ أبداً بل تصور الملزوم وهو المعنى كاف في تصور
اللازم .
فلو كانت علاقة اللفظ بالمعنى المطابقي علاقة السببية لكان تصور
المعنى المطابقي بعد ذلك كافياً في تصور اللازم بلا حاجة لتصور اللفظ مرة
اخرى ليدل على المعنى الالتزامي بالواسطة وتتحول الدلالة الالتزامية حينئذٍ
من كونها لفظية إلى كونها عقلية، وهي التلازم بين المعاني ، وهذا ما التزم به
بعض الأعاظم
(1) (قده ) ، مع أن المناطقة يعدونها من الدلالات اللفظية .
بينما لو قلنا بأن علاقة اللفظ بالمعنى علاقة الهوهوية فتصور اللفظ هو
تصور للمعنى وتصور المعنى المطابقي ملازم لتصور المعنى الالتزامي ، فيصح
حينئذٍ أن ينسب خطور المعنى الالتزامي إلى اللفظ وتبقى الدلالة الالتزامية
دلالة لفظية لا عقلية، بخلاف ما لوكانت علاقة تصور اللفظ بتصور المعنى
علاقة السببية فإن اللفظ ينتهي دوره بمجرد تصور المعنى المطابقي ، والانتقال
حينئذٍ للمعنى الالتزامي يكون بواسطة المعنى المطابقي نفسه بلا نظر لصورة
اللفظ ، فلا تكون الدلالة لفظية بل عقلية وللبحث مقام اخر.
والحاصل بعدعرض هذه الشواهد هو كون علاقة المعنى باللفظ الموضوع
علاقة الهوهوية والاندماج ، واما علاقة الاشارة والسببية فهي من مبادئ العلاقة
الوضعية لا هي نفسها.
وعدم حصول علاقة الهوهوية في بعض الأذهان بالنسبة لبعض
الألفاظ ، كمن يتذكر اللفظ وهو ناسٍ للمعنى أو بالعكس ، أو لا يكون انتقاله
للمعنى عبر اللفظ ومن خلاله كالمتعلم للغة معينة الذي ينتقل ذهنه للمعنى
بنحو السببية لا الهوهوية، فهذا لم تتحقق العلاقة الوضعية بالنسبة له ، فإن
____________
(1) السيد الخميني في كتاب البيع 1 : 70.
( 161 )
العلاقة الوضعية أمر ذهني يختلف باختلاف الأذهان والظروف ففي بعض
الأذهان لبعض العوامل ربما لم تتحقق بعد ولكنها تحققت في غيره .
إذن فما نريد قوله هو: أن الملحوظ وجداناً عندنا أنه بعد الاحساس
باللفظ تكون هناك صورة واحدة في الذهن وهي صورة اللفظ وهذه الصورة
نفسها مشيرة للمعنى على نحو يكون المفهوم اللفظي مغفولاً عنه والتوجه
الأساسي للمعنى ، وليس هناك صورتان احداهما مستلزمة لحضور الأخرى،
والشواهد التي عرضناها محاولات لتقريب هذه الفكرة عندنا والا فالدليل
الوحيد في القضايا النفسية والذهنية هو الوجدان .