كتاب فقه الحضارة ص 37 ـ ص 54


(7)
أخطار التدخين ونوادر علمائنا الأعلام

أـ أخطار التدخين
التدخين من الظاهر الشائعة في العالم بنسبة 60% من مجموع الكائن البشري على وجه الكرة الأرضية ، وهي نسبة عالية جداً إذا استثنينا الأطفال وأكثر النساء من استقبال الدخان ، وهناك الآف المعامل المتطورة تقنياً وإنتاجياً تعمل ليل نهار لإخراج الآف الأنواع من السجائر المصنعة من أجود أصناف التبوغ المعطّرة والمصفاة الهادئة والحارة والمعتدلة ، وهناك الإعلانات الدعائية في الإعلام للإشارة إلى تلك السيجارة أو هذه ، وهو أمر تدأب على الترويج له كبريات شركات الدخان في العالم.
أما استهلاك كل أنواع السجائر في سكان المعمورة ، فقد يتجاوز حد المعقول والقصور في مليارات العملات المالية والنقدية مما يكفي عادة لإدارة أكبر دولة عظمى .. والناس يتهافتون على التدخين بشكل مسرف عند بعضهم ، وعلى مستوى معتدل عند الآخرين ، ومما يؤسف له حقاً اليوم تهافت الشباب


( 38 )

والناس لا سيما في أوروبا على الإفراط بالتدخين مما يعني استقبال آفات جديدة قد تؤثر على الأجنّة فيما بعد ، ويقسم التدخين عادة إلى مباشر وغير مباشر ، فالمباشر هو تدخين المرء نفسه ، وغير المباشر هو الجالس الذي يشم دخان المدخنين ، لهذا تجد في أوروبا أن القطارات والسيارات والأماكن العامة وصالات الاجتماعات الكبرى تنقسم إلى قسمين يكتب على أحدها Smoken ويكتب على القسم الآخر من القاطرة أو السيارة أو الصالة No Smoken ، وتعني الأولى السماح بالتدخين ، كما تعني الثانية منع التدخين ، وهناك تجد الأماكن المخصصة للمدخنين وغير المدخنين درءاً لأضرار التدخين غير المباشر. ولقد تنبهت منظمة الصحة العالمية للأخطار والأضرار المحدقة من التدخين ، ففرضت أن يكتب على علب السجائر بعض العبارات المحذّرة من التدخين كقولهم : التدخين يسبب مرض القلب ، وتصلب الشرايين ، وسرطان الرئة ، وقرحة المعدة ، ويورث ضغط الدم ، ويؤثر على النسل ، ولكن المدخّن يرى ذلك ولا يقرؤه ، أو يقرؤه ، ولا يعبأ به.
ومهما يكن من أمر فقد عالج سيدنا الأجل دام ظله هذه الظاهرة من جوانبها المتعددة ، فعنده أن الإنسان إنما يحرم عليه التدخين ، إذا كان يلحق به ضرراً بليغاً آنياً أو مستقبلياً ، سواء أكان الضرر البليغ معلوماً ، أو مظنوناً ، أم محتملاً بدرجة يصدق معه الخوف عند العقلاء ، وأما مع الأمن من الضرر البليغ ولو من جهة عدم الإكثار منه ، فلا بأس ، هذا بالنسبة للمبتدي في التدخين ، وأما المعتاد عليه ، فإذا كان استمراره في التدخين يلحق


( 39 )

عليه ضرراً بليغاً على نحو ما مرّ ، لزمه الإقلاع عنه ، إلاّ إذا كان يتضرر بتركه ضرراً مماثلاً لضرر الاستمرار عليه ، أو أشد من ذلك الضرر ، أو كان يجد حرجاً كبيراً في الإقلاع عنه بحد لا يُتَحمّل عادة.
هذا في التدخين المباشر ، وأما التدخين غير المباشر ، فعند السيد دام ظله أنه يجري عليه نظير التفصيل المتقدم لدى المدخن المبتدىء(1).
هكذا عالج سيدنا دام علاه هذه الظاهرة من جوانبها كافة ، وأعطى رأي الشرع الحنيف فيها.
ب ـ نوادر علمائنا الأعلام والتدخين
المراجع العظام في النجف الأشرف لهم نوادر هادفة تدور حول التدخين تمثل الاتجاه المعاكس حيناً ، والاتجاه المطّرد حيناً آخر ، فهي حلقة مفرغة بين الإيجابية المطلقة ، وبين السلبية المحددة ، إلا أنها تمثل روح المعاصرة في النية الصادقة والطرفة البريئة ، وقد أدركت هذا المناخ ميدانياً خلال نصف قرن من الزمان. وأنا أرويه لك بأمانة ودقة متناهيتين ، فقد أحطتُ به خبراً عن قرب ، ليعبر لك عن مدى الاستجابة والرفض في ظروف متماثلة أو متباينة ، وهذه الطبقة المثلى هي التي نتلقّى منها أحكامنا الشرعية ، وهي بعد أطهر من ماء السماء.
1ـ الإمام السيد محسن الحكيم قدس سره الشريف أصيب
____________
(1) فتوى خطية مصورة في حوزة المؤلف عليها ختمه الشريف.
( 40 )

بعارض للقلب عام 1953 م ، فترجح سكناه في داره بكربلاء قرب التل الزينبي تخفيفاً عن أعباء المرجعية ، فسكن هناك فترة يعتدّ بها ، وزرته بخدمة سيدي الوالد الشيخ علي الصغير رحمه الله ( ت 1395 هـ ـ 1975 ) واستدعي له الدكتور محمود الجليلي اختصاصي أمراض القلب فنهاه عن التدخين والكلام ، فأخرج السيد علبة الدخان ، وطرحها جانباً على الفور ، فكان هذا آخر عهده بالتدخين حتى وفاته في ربيع الثاني 1390 هـ = 1|6|1970 م ، والطريف أن استفسر الطبيب عن بعض حالاته منه ، فما أجابه ، لأنه منعه عن الكلام ، فقال الدكتور الجليلي : أطال الله عمر السيد ، هو ممنوع عن الكلام مع الناس ، وليتحدث مع الأطباء لنشخص الحالة.
وقد توفي السيد الحكيم في مستشفى ابن سينا ببغداد ، ونقل جثمانه إلى النجف ومعه عشرات الآلاف من السيارات ، ودفن بمقبرته التي أعدّها لنفسه وأبنائه بجوار مسجد الهندي في الطابق الأرضي من مكتبته العامة ، وقد أرخت عام وفاته لترقم على ضريحه بالقاشاني ، ولكنها عند المباشرة في العمل فقدت من قبل أحد أبنائه ، وأنا خارج العراق ، فاستبدلت بغيرها ، والأبيات مع التاريخ هي :

قضى « الحكيمُ » « مُحسناً » فاستقبلت*مِنـهُ الجنــان العَلَــمَ المُـجَـدّدا(1)

____________
(1) كان الإمام الحكيم من مجددي الإسلام في القرن الرابع عشر الهجري.
( 41 )

قد تَوّج الأجيالَ فــي « مستمسك »*بـ « العروة الوثقى » غَدَا مُقيّــدا(1)
واستَعبَر الإسلامُ أرخ « مُعـــولاً*تَهَدّمت والله أركــانُ الهُــدى »(2)
1390هـ
2ـ الإمام السيد أبو القاسم الخوئي قدس سره كان مدخناً مكثراً ، فمنعه الأطباء عدة مراة عن التدخين خلال ربع قرن ، فكان لا يمتنع لأنه يرى في نفسه حرجاً كبيراً من ذلك ، ويلمس عسراً شديداً لا يطاق ، حتى إذا أصيب بنكسة قلبية في أوائل 1993م أدخل أثرها مستشفى ابن النفيس ببغداد ، وكان عمره الشريف قد بلغ ستة وتسعين عاماً ، فأجريت له عملية وضع جهاز تحت القلب يساعد القلب على مقاومة العجز الذي أصيب به ، فترجح عند فريق الأطباء المعالج منعه من التدخين ، وما مضت إلا ساعات قلائل على هذا المنع ، حتى قال لولده العلامة السيد محمد تقي الخوئي رحمه الله ، قل للأطباء فليسمحوا لي بالتدخين فإنني أجد حرجاً بالغاً في تركه ، واستجاب له الأطباء فعاد إلى التدخين حتى وفاته في العام نفسه 1993م = صفر 1413هـ ، وقد أرختُ عام وفاته بأبيات رقمت بالقشاني على واجهة ضريحه الشريف داخل مسجد الخضراء بجوار أمير المؤمنين ، وهي باقية
____________
(1) مستمسك العروة الوثقى : موسوعته الفقهية الاستدلالية.
(2) روي معتبراً أنه : حينما استشهد أمير المؤمنين في رمضان سنة أربعين من الهجرة نادى منادٍ بين السماء والأرض قائلاً : « تهدمت والله أركان الهدى ، وانفصمت العروة الوثقى .. ».

( 42 )

حتى اليوم ومذيلة باسم ناظمها كاتب هذه السطور ، وهي :

لمّا اصطفينا للهُدى مَضجَعا*وأصبحَ « الخوئيُّ » فيهِ دَفين
ومن « عليًّ » قد دنا مَوقِعا*وهكـذا عاقبـةُ المؤمنيــن
نُوديَ : فاهتزّ لهـا مَسمَعـا*« إنّا فتحنا لك فتحـاً مبين »
وأنشدَ التأريــخُ لمّا دَعَـا*« أزلفتِ الجَنةُ لِلمُتّقيــن »
1413 هـ

3ـ أية الله العظمى الشيخ حسين الحلي قدس سره ، كان يدخن « النارجيلة » ويقوم بنفسه على مقدماتها دون الاستعانة بأحد ، حتى إذا تكامل صنعها نقلها من الايوان إلى الديوان ، وهو ديوان السيد علي بحر العلوم الذي قضى فيه أكثر حياته ، وأخذ بسحب أنفاسها متأملاً ، وهو يجد لذلك لذة عظيمة.
وفي إحدى الليالي توجه له سماحة الحجة السيد عز الدين بحر العلوم بقوله : عمي إلى متى أنت تدخن ، فلو أقلعت عن النارجيلة ، فقال له مستنكراً : النارجيلة لذتي الوحيدة في الدنيا ، وانت تنهاني عنها ، دع عنك هذا ، أي راحة أجد في الدنيا.
4ـ سيدنا المرجع الأعلى للمسلمين السيد علي الحسيني السيستاني مدّ ظله ، مدخّن مُقلّ ، ولكنه لا يدخن أمام أحد قط ، حتى لو اجتمعنا منفردين فأنا أدخّن وهو لا يدخّن ، وإنما يدخّن


( 43 )

إذا خلا بنفسه وحده ، وقد لا يعلم أحد في الحوزة العلمية في النجف الأشرف التي هو زعيمها اليوم : أن السيد من المدخنين.
5ـ أستاذنا المعظّم آية الله السيد محمد علي الحكيم أصيب عام 1989م بعارض في القلب ، فاقترح طبيب القلب الدكتور مجيد عبد الأمير حرسه الله أن يمتنع من التدخين باستثناء اربع أو خمس سجائر يومياً ، فالتزم بهذا العدد طيلة عشر سنوات حتى اليوم ، فما أزاد سيجارة واحدة قط.
6ـ آية الله التقي الورع السيد محمد رضا الموسوي الخرسان مد ظله ترك « النارجيلة » منذ سنين ، وأعقبها بترك التدخين ، وكنّا هذا العام في عمّان سوية للعلاج والاستشفاء ، فسافرنا إلى مدينة جرش ، وهي تبعد عن عمّان خمسين كيلو متراً ، وذلك صباح الأحد 15|8|1999م مع رفقة أبرار لغرض النزهة والسياحة وشم النسيم كما يقولون. وتناولنا الغذاء في مطعم ريفي قائم بين السهول والجبال ، وبعد الغداء أخذ سماحة السيد بالنظر الناطق وهو يبتسم ، قلت له ماذا ؟ قال : أريد « نرجيلة » أجدد بها العهود السابقة ، فأحضرت له نرجيلة بكل مواصفاتها الراقية ، فتمتع بها برهة من الزمن رأينا فيها البشر والفرح يغمرانه بسعادة شاملة.
7ـ آية الله السيد حسين نجل التقي آل بحر العلوم دام ظله ، ينفرد بالقول بحرمة التدخين ابتداء ، وقد يشاركه غيره في هذا الرأي ، ولكنني لم أطلع عليه ، ومعنى هذا أن المدخّن المعتاد لا أثم عليه مع عدم احتمال الضرر البليغ أو القطع به ، ولكن الشاب غير المدخن ، يحرم عليه الإقدام على التدخين ابتداءً.


( 44 )

ولقد تناوب عليّ أكثر من عشرة أطباء ينهوني عن التدخين ، ولكنني أرى في ذلك عسراً شديداً وحرجاً قائلاً ، حتى أنني أجيب كل طبيب بقولي :

كل شيء نفّذتُهُ لطبيب القلـ...*ـب إلا قضيــة التدخيــن
فهو السلوةُ الوحيدةُ في العمــ*ـر.. فدعني وسلوتي وشؤوني

وفي أيلول هذا العام 1999 غادرت مستشفى الأردن في عمّان ، واحتفل بي جماعة من الأصدقاء أو احتفلت بهم ، وفيهم الأطباء والأساتذة والأدباء ، بوليمة أقيمت في منتجع قصر الصنوبر القائم في طريق المطار للداخل إلى عمّان وكان حديث الأطباء بخاصة أن أترك التدخين لإصابتي بالربو وتضيّق القصبات ، فقلت لهم : أنا لا أترك التدخين من أجل صدري ، بل أريد صدراً أدخن فيه ، فعليكم أن تعالجوا الصدر كما تشاؤون ، وعليّ أن أدخن كما أشاء.


( 45 )

(8)
وباء المخدّرات وأضرار الخمور

من أبرز مظاهر الكوارث البشرية المحدقة بالعالم ، وباء الإدمان على المخدرات الشائعة الاستعمال في بقاع عديدة من العالم تشمل شرق الأرض وغربها ، وتستقطب شمال الكون وجنوبه ، وهو أمر يفوق حدّ التصور في ردّة فعله ، ووبال أمره ، ونجم عن استعماله انحراف الشباب والمراهقين انحرافاً خطيراً ، وتدهورت الأخلاق إلى أدنى مستوى سحيق ، وأميتت الضمائر وانتزعت منها المشاعر النابضة فعادت جماداً لا ينبض بالحركة ، وبذرت الأموال تبذيراً طائشاً حتى التصق بالصعيد من كانت له مسكة غنى ، فالميوعة والتخنث واللا إدراك ، والبذاءة والانحلال كل أولئك مما يتصف به المدمن على المخدّرات ، حتى أصبح دون مبالغة جزءاً مشلولاً متعطلاً في كيان الكائن البشري.
وهذه المخدّرات متعددة الصفات كتعدد أسمائها ، ومختلفة التأثير كاختلاف مراتبها ، ويمكننا من خلال اطلاعنا المتواضع أن نصنفها على الشكل الآتي ، مبتدئين بالمعقّد منها ثم البسيط ، أو ما هو أشد تأثيراً ، وأكثر تركيزاً.


( 46 )

1ـ الهيروين
2ـ المورفين.
3ـ البتدين.
4ـ الكوكائين
5ـ الأفيون.
6ـ الحشيشة.
إلا أن أخطر أنواع المخدرات هو الميروانا ، وهو نوع من المخدرات التي تؤخذ على شكل سجائر أو كيفيات أخرى ، وقد أختلف علماء المخدرات بـ « القات » فمن قائل إنه منشط لا علاقة له بالتخدير ، ومن قائل بأنه من المخدرات.
ولقد دأبت الحكومات في العالم على مكافحة المخدرات ، فحرّمت زراعتها وعملها واستحلابها وتنقيتها وبيعها وشراءها ، وصادرت مئات الصفقات التجارية التي يقدر ثمنها بملايين الدولارات ، وأقامت حجراً مفروضاً على المتعاملين معها ، وبعض الدول تحكم بالإعدام على من يتّجر فيها. ومع هذا كله ، وفوق هذا كله ، فإنك تجد الانتشار واسعاً ، والإتّجار بالمخدّرات قائماً ، والتداول بين الشباب وحتى الصبية بنين وبناتٍ شائعاً ، وذلك مما يهدد بكارثة حقيقية تعصف بكوكبة الفتيان والفتيات ، علماً بأن المنظمات الدولية تشن حرباً شعواء على المخدرات ، ومنظمة الصحة العالمية تحرمها وتدعو إلى صدّ هجومها على معسكرات الشباب ، ودور الرعاية الصحية قد نظّمت حملاتها الموفقة ضدها ، مضافاً إلى القوانين المحرمة لها والمعاقبة عليها ، إلا أنها


( 47 )

في انتشار مستطير ، وكان سماحة السيد مدّ ظله الزاهر قد أفتى بما يلي :
* يحرم استعمال المخدرات مع ما يترتب عليه من الضرر البليغ ، سواء من جهة إدمانه ، أو من جهة أخرى ، بل الأحوط لزوماً الاجتناب عنها مطلقاً ، إلاّ في حالات الضرورة الطبية ونحوها ، فتُستعمل بمقدار ما تدعو إليه الضرورة ، والله العالم(1).
وأما أمراض الخمور وأضرارها فحدث عن ذلك ولا حرج فأمراض القلب ، وتصلب الشرايين ، وقرحة المعدة ، وانتكاسة الجهاز الهضمي ، وجملة الأعراض العقلية والنفسية والسلوكية ، وتعرض الجينات الوراثية للأخطار ، والتأثير على الأجنة والمواليد .. كل أولئك بعض أضرارها ، عدا التضحية بالعقل والمال والوقار ، وهكذا.
ولقد وقف الإسلام موقفاً حازماً من الخمر وشربه وبيعه وغرسه وعصره وحمله ، قال تعالى :
( يا أيها الذين آمنوا إنَّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاءَ في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون )(2). وقال الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله ) « من شرب الخمر بعد ما حرّمها الله على
____________
(1) فتوى خطية مصوّرة في حوزة المؤلف.
(2) سورة المائدة | 90 ـ 91.

( 48 )

لساني فليس بأهل أن يزوج إذ خطب ، ولا يُشفّع إذا شفع ، ولا يصدّق إذا حدّث ، ولا يؤتمن على أمانة »(1).
وقال أيضاً في رواية معتبرة « لعن الله الخمر وغارسها وعاصرها ، وشاريها ، وساقيها ، وبايعها ، وشاربها ، وآكل ثمنها ، وحاملها ، والمحمولة إليه »(2).
وقد عدّها الفقهاء الثامن من الإعيان النجسة. قال سيدنا السيستاني مد ظله « الثامن : الخمر ، ويلحق بها كل مسكر مائع بالأصالة على الأحوط الأولى ، وأما الجامد كالحشيشة ـ وإن غلى وصار مائعاً بالعرض ـ فهو طاهر لكن الجميع حرام بلا أشكال »(3).
وعنده أيضاً « يحرم بيع العنب أو التمر ليعمل خمراً .. وكذا تحرم ولا تصح إجارة المساكن لتباع فيها الخمرة أو تحرز فيها ، أو يعمل فيها شيء من المحرمات ، وكذا تحرم ولا تصح إجارة السفن أو الدواب أو غيرها لحمل الخمر ، والأجرة في ذلك محرّمة(4). ويرى سيدنا : حرمة الأكل من مائدة يشرب عليها الخمر أو المسكر ، ويحرم الجلوس عليها على الأحوط وجوباً(5).
____________
(1) الكليني | فروع الكافي 6|396.
(2) الشيخ الصدوق | من لا يحضره الفقيه 4|4.
(3) منهاج الصالحين 1|138.
(4) السيد السيستاني |منهاج الصالحين 2|9.
(5) فقه المغتربين |145.

( 49 )

والعبرة في هذا أن يرى العرف وحدة المائدة. ولما كان الأصل في حرمة الخمر هو الإسكار ، فكل الفصائل المسكرة محرمة كالبيرة والبارندي والويسكي وأمثالها ، لأن القاعدة : حرمت الخمر لإسكارها ، وبقياس منصوص العلة تحرم تلك الأصناف عامة لأنها مسكرة. قال سماحة السيد مد ظله ، الفقاع ـ وهو البيرة ـ شراب مخصوص متخذ من الشعير غالباً ، وليس منه ماء الشعير الذي يصفه الأطباء ـ يحرم شربه بلا إشكال. والأحوط أن يعامل معاملة النجس(1).
ويرى سيدنا أنه : لا يجوز للمسلم تقديم الخمر لأي كان ، وإن كان مستحلاً له ، ولا يجوز له غسل أوانيه ، ولا تقديمها لغيره ، إذا كان ذلك الغسل وهذا التقديم مقدمة لشرب الخمر فيها. كما لا يجوز إجارة نفسه لبيع الخمر ، أو تقديمه ، أو تنظيف أوانيه مقدمة لشربه ، كما لا يجوز له أخذ الأجرة على عمل كهذا لأنه حرام(2).
بل هناك ما هو أكثر من هذا عند سماحة السيد دام ظله الوريف فلا يجوز للخطاط المسلم أن يخط قطعة لشرب الخمر ، أو لإحياء حفلة رقص ، أو لمطعم فيه لحم خنزير ، لما في ذلك من إشاعة الفاحشة وترويج الفساد(3).
____________
(1) السيد السيستاني | منهاج الصالحين 1|139.
(2) المرجع نفسه |152.
(3) المرجع نفسه |185.

( 50 )

(9)
فتاوى فقهية ذات أبعاد طبية

في حياة الطب المثيرة كثير من الإيحاءات الغامضة كموت الدماغ وتوقف القلب ، فلو حدث أن مات أحدهما ، والثاني يعمل ، فمتى يحكم بموت الإنسان ، فإن تحركت بعض أعظائه بفعل الأجهزة الطبية المتطورة مع كونه ميتاً أو بحكم الميت ، فهل يحق للطبيب سحب هذه الأجهزة ، وهل يحق للطبيب كشف مواضع جسم المرأة الأجنبية أو أجهزتها التناسلية ، وهل يجوز تحسين الجينات الوراثية ، وغير هذا. إن الفتاوى التي سبرها سماحة السيد دام ظله تجيب عن هذه الطروحات الفريدة.
1ـ يذهب البعض إلى أن موت الدماغ يعني موت الإنسان ، حتى لو لم يتوقف النبض في الحال إنما سيتوقف بعد ذلك حتماً ، كما يقول الأطباء ، فهل يعتبر ميتاً من مات دماغه ولو بقي نبضه يتحرك ؟
* العبرة في صدق عنوان ( الميت ) الموضوع لعدد من الأحكام الشرعية ، إنما هو بالنظر العرفي ، بأن يراه أهل العرف


( 51 )

ميتاً ، وهو غير متحقق في مفروض السؤال.
2ـ لا يحقُّ للطبيب سحب أجهزة طبية وضعت لمريضه المسلم ، فبعثت الحركة في قلبه وإن مات المخ ، فأصبحت حياة المريض كحياة النبات لا تدوم إلا بعمل تلك الأجهزة ، وذلك لأهمية النفس المحترمة في الإسلام.
وعلى الطبيب أن لا يعتني بطلب المريض أو طلب أقربائه بالامتناع عن إسعافه ، أما إذا سحب الطبيب تلك الأجهزة فمات المريض المسلم لذلك ، عُدّ الطبيب قاتلاً.
3ـ تقتضي مهنة الطب أن يفحص الطبيب مريضاته بعناية ، ولما كان خلع الملابس الخارجية أثناء الفحص متعارفاً في بعض البلدان الأوروبية ، فهل تجوز ممارسة مهنة الطب هنا على هذه الصورة ؟
* يجوز مع تجنب النظر واللمس المحرّمين ، إلا بمقدار ما يتوقف عليه تشخيص المرض.
4ـ يرى الطبيب المعالج أحياناً أن يكشف بعض مواضع جسم المرأة الأجنبية ، بما فيها المواضع الحساسة ، عدا العورة ، فهل يجوز لها كشف جسمها :
أـ في حالة وجود طبيبة يمكن مراجعتها ، ولكن بكلفة مادية غالية بعض الشيء ؟
ب ـ في حالة كون المرض غير خطير ، ولكنه مرض على كل حال ؟


( 52 )

جـ ـ ثم ما هو الحكم في حالة ما إذا كان المطلوب كشفه ، هو العورة ؟
* أـ لا يجوز مع إمكان مراجعة الطبيبة ، إلا إذا كلفت مراجعتها مبالغ مضرة بحالها.
ب ـ يجوز إذا كانت تتضرر بترك علاجه ، أو تقع في حرج شديد لا يتحمل عادة.
جـ ـ الحكم فيه ما مرّ ، ولا بدّ من الاقتصار في الكشف في الحالتين على مقدار الضرورة.
وإن أمكن العلاج من دون النظر المباشر إلى ما يحرم النظر إليه ، كالنظر عبر الشاشة التلفزيونية أو المرآة فهو الأحوط.
5ـ في علم الهندسة الوراثية يدعي بعض العلماء أن باستطاعتهم تحسين الجنس البشري بواسطة التأثير على الجينات وذلك بـ :
أـ رفع القبح في الشكل.
ب ـ وضع مواصفات جميلة بديلة.
جـ ـ كلا الأمرين معاً.
فهل يجوز للعلماء أن يفعلوا ذلك ؟ وهل يحق للمسلم أن يمكن الأطباء من تحسين جيناته الوراثية ؟
* إذا لم يكن له مضاعفات جانبية ، فلا مانع منه في ذاته.


( 53 )

6ـ تجري الشركات في الغرب تجارب على الأدوية قبل طرحها في الأسواق ، فهل يجوز تجربة دواء على مريض ، إذا ظن الطبيب أن هذا الدواء مفيد لمريضه قبل انتهاء التجارب عليه ، من دون علم المريض ؟
* لا بدّ من إعلام المريض بالحال ، وكسب موافقته على تجربة الدواء عليه إلا إذا كان من المؤكد عدم تسبّبه في مضاعفات جانبية ، وإنما يشك في فائدته.
7ـ مادة الأنسولين المستعملة في علاج مرض السكر تستخلص أحياناً من بنكرياس الخنزير ، فهل نستعملها ؟
* لا مانع من تزريقها في العضلة أو الوريد أو تحت الجلد بالإبرة.
8ـ هل يجوز زرع كبد خنزير في بدن الإنسان ؟
* يجوز زرع كبد الخنزير في بدن الإنسان والله العالم.
9ـ هناك بعض الأمراض الوراثية تنتقل من الآباء إلى الأبناء ، وتشكل خطراً على حياتهم مستقبلاً ، وقد توصل العلم الحديث إلى طريقة للتخلص من بعض هذه الأمراض ، وذلك بإجراء تلقيح بويضة المرأة داخل أنبوب اختبار خاص ، يتم به فحص الأجنّة واختيار الصحيح منها ، ثم يزرع داخل رحم الأم ، ويتلف الطبيب العدد الباقي من الأجنّة فهل هذه العملية جائزة شرعاً ؟
* لا مانع من ذلك في حدّ ذاته.


( 54 )

10ـ هل يجوز إجراء عمليات تجميل في الوجه والبدن ؟
* يجوز مع التجنب عن اللمس والنظر المحرمين(1).
11ـ وقد سهّل سماحة السيد دام مجده العظيم ، قضية بيع الدم للمرضى ، على نحو المعاوضة ، كما أفتى بجواز التبرع به للمضطرين إليه ، يقول:
* يجوز التبرع بالدم للمرضى المحتاجين إليه. كما يجوز أخذ العوض عليه(2).
12ـ توصل العلم أخيراً إلى معرفة القاتل عن طريق تحليل الدم دون اللجوء إلى وسائل أخرى ، وبلغ من دقة التحليل أنه يمكن معرفة الوسيلة التي استخدمت في القتل. فهل يمكن الاعتماد عليه في ترتيب الأثر على الجاني من إقامة الحدّ أو غيره ، أم لا ويبقى العمل بالقواعد الشرعية المعروفة ؟
* وقد أجاب سماحة السيد أطال الله بقاه بقوله :
لا يثبت القتل ، ولا تجري أحكامه إلا بما جعل طريقاً إليه شرعاً ، أو صيرورته أمراً بيناً بطريق علمي لا تتخلله الاجتهادات الشخصية ، فإن كان ما ذكر من الطريق بهذه المثابة جاز للحاكم الشرعي الحكم على طبقه ، والله العالم(3).
____________
(1) ظ : فقه المغتربين |237 وما بعدها.
(2) السيد السيستاني | منهاج الصالحين 1|459.
(3) المستحدثات من المسائل الشرعية |15.