«حواريّة الموت»

لا أكتمكم أني ساعة بدأ أبي حواره عن الموت كنت متوتّراً، مستفّز الاعصاب، مستنفراً، قلقاً، مشدوداً شداً عنيفاً الى وجه أبي ونبرات صوته وانحناءاتها وهو يتحدث عن الموت ببطء حذر، ينمُّ عن توجس محسوب‏‏‏.‏‏‏‏‏‏‏‏‏‎‏‏
‏‏‏‏‏ لا أكتمكم كذلك أني كلما تفوَّه أبي بكلمة «الموت» ـ تلك الكلمة المخيفة المرعبة المجهولة ـ أحسست بتسارع غير طبيعي لنبض بات لفرط خوفي مما أصغي اِليه يصبغ وجهي وأذنيّ على غير قصد مني بلون قاتم وينثر فوق جبهتي وأنفي حبات مكتنزة من عرق محموم‏‏‏ .
واِذ اكتسبت نبرة صوت أبي الخفيضة وشاحاً رماديّاً من توجس حذر وهو يسرد التفاصيل عن «الموت والميّت» راحت وتائر خوفي وقلقي تتصاعد شيئاً فشيئاً حتي فضحتني‏‏ .
ثمّ زادت، فضيقت عليّ بعد افتضاح أمري فرجة بوابة الاعتراف‏‏ .
وحين لاحظ أبي امارات الخوف على تضاريس وجهي وحدقات عينيَّ طاغية مستحكمة سألني.‏‏ .
ـ أأنت خائف..؟‏
‏ ‏‏ وكيف لا أخاف!‏ .
ـ أخاف أنت من الموت أم من الميت؟‏
‏ ‏‏ واِذ كنتُ أخاف من الميت أكثر ممّا أخاف من الموت قلت:‏‏ .
من الميت‏‏.
لقد كان خوفاً مرعباً ذاك الذي اعترفت به اليوم. فلم أكن قد شاهدت طيلة عمري شخصاً يحتضر أو يموت، بل لم أكن قد سمعت قبل يومي هذا سرداً عمّا ينبغي عليّ أن أفعله وأمامي من يحتضر أو يموت‏‏ .
كنت قبل هذا اليوم حين اشاهد جنازة محمولة تنتابني حالة اكتئاب مضجر، وضيق موجّع، حتي لاُحولُ بصري عنها لاَقطع خيط الذّاكرة من أن يسترسل‏‏ .
‏ ‏‏ نعم أخاف من الميّت‏‏ .
قتلها مرة أخرى لاُعيد تثبيت قناعتي‏‏ .
ـ أتخاف من الميت أكثر مما تخاف من الموت وما بعد الموت؟‏
قال أبي وأضاف: أتخاف من كان قبل لحظة موته حياً مثلك يأكل ويشرب، ويبكي ويضحك، ويتنزه ويحلم، وينام‏‏ .
ثمّ..ثمّ هجم عليه ما لو هجم على كل حيّ لصرعه‏‏ .
لماذا لا تكون واقعياً أكثر، فتخاف من الموت أكثر مما تخاف من الميت؟‏
أسألت نفسك أين ذهبت كل تلك الامم السالفة وأجيالها المتعاقبة يوم «اصبحت مساكنهم أجداثاً، وأموالهم ميراثاً، لا يعرفون من آثارهم، ولا يحفلون من بكاهم، ولا يجيبون من دعاهم»‏‏ .
فكم.. و (كم تركوا من جنات وعيون * وزورع ومقام كريم * ونعمة كانوا فيها فاكهين * كذلك وأورثناها قوماً آخرين)‏‏ .
ثمّ أين ذهب من تعرف ممن ذهب؟‏
أين آباؤك السابقون، واجدادك الماضون.. أين فلان.. أين فلان.. أين فلان..؟! لقد «استبدلوا بظهر الاَرض بطناً، وبالسعة ضيقاً، وبالاَهل غربة، وبالنّور ظلمة»‏‏ .
ثمّ أنشد أبي:‏
‏‏
كلنا في غفلة والموت يغـدو ويـروح‏
نح على نفسك يا مسكيـن ان كنت تنوح‏
لست بالباقي ولو عمّرت ما عمـرّ نـوح‏

وران صمت كثيف على وجهه كانت الدّقائق تمر فيه ثقيلة بطيئة متأنّية كمن يعيد ترتيب صورة ما في ذهنه، أو يعيد تجميع شيء متناثر هنا وهناك في ذاكرته حتّى قطع صوته حبل ذلك الصمت قائلاً:‏‏
رحمك الله يا أبا الحسن يومَ قلت قبل ساعة موتك: «أنا بالاَمس صاحبكم، وأنا اليوم عبرة لكم، وغداً مفارقكم، ليعظكم هدوِّي، وخفوت اِطراقي، وسكون أطرافي، فانّه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ والقول المسموع »
ويوم قلت يا سيدي:‏‏ .
«واعلموا أنّه ليس لهذا الجلد الرّقيق صبر على النار، فارحموا نفوسكم فانّكم قد جربتموها في مصائب الدنيا‏‏ .
أفرأيتم جزع أحدكم من الشوكة تصيبه، والعثرة تدميه، والرمضاء تحرقه؟ فكيف اِذا كان بين طابقين من نار ضجيع حجر وقرين شيطان؟‏
أعلمتم أن مالكاً اِذا غضب على النار حطّم بعضها بعضاً لغضبه، واذا زجرها توثّبت بين أبوابها جزعاً من زجرته»؟!‏ .
وأردف أبي:‏‏
آن لك وقد تكلفت أن تخاف الموت لهول ما بعد الموت (يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى النّاس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد). (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد)‏‏.
وليكن الميّت أو المحتضر مذكراً لك بما سيؤول اِليه مصيرك.. لا مخيفاً مرعباً لك‏.
قالها أبي وصمت ومنذ قالها بدأت أعيد النظر بترتيب مخاوفي من جديد بتأمل واعٍ الى أن قطع أبي عليَّ تأمُّلاتي مؤكِّداً:‏.
اِذا صادف أن حضرت محتضراً مسلماً فدع مخاوفك جانباً [ووجِّهه الى القبلة]‏.
‏ ‏‏ وكيف اوجِّهه؟
ـ ضعه على قفاه واجعل باطن رجليه الى القبلة‏.
‏ ‏‏ معنى هذا أن أمدِّد رجليه باتجاه القبلة‏.
ـ بالضبط سواء أكان المحتضر رجلاً أم امرأة، كبيراً أم صغيراً‏.
ويستحب أن تلقّنه الشهادتين. والاقرار بالنبي صلّى الله عليه وآله والاَئمة عليهم السلام وتقرأ عنده سورة «الصافات» ليسهّل عليه النزع ويكره أن يحضر المحتضر مجنب أو حائض. وأن يمس حال النزع‏.
‏ ‏‏ واذا مات؟
ـ اِذا مات يستحب أن تغمض عينيه، وتغلق فمه، وتمد يديه الى جانبيه، وساقيه، وتغطيه بثوب، وتقرأ عنده القرآن وتضيء البيت الذي كان يسكنه وتخبر المؤمنين بموته ليحضروا جنازته، ويستحب الاسراع في تجهيزه اِلاّ أن تشتبه بموته وتشك فيه‏.
‏ ‏‏ واذا اشتبهت بموته؟
ـ عندئذ يجب تأخيره حتى تتأكّد من موته، فاذا تأكّدت وجب تغسيله رجلاً كان أو امرأة، صغيراً كان أو كبيراً‏.
‏ ‏‏ والسقط..؟
ـ حتى السقط اِذا أتمِّ أربعة أشهر [بل وان لم يتمّها اِذا كان مستوي الخلقة] ولكن لا تجب الصلاة عليه ولا تستحب‏.
‏ ‏‏ ومن يغسل الميت؟
ـ يغسِّل الذكرَ الذكرُ وتغسِّل الاُنثى الاُنثى، اِلاّ في الزوج والزوجة فيجوز لكل منهما تغسيل الاَخر وكذا الصبي المميّز سواء الذكر والانثى فانّه يجوز تغسيله للذكر والانثى وهكذا المحرم فانه يجوز له ان يغسل محرمه غير المماثل له [فيما اِذا لم يوجد المماثل]‏.
‏ ‏‏ وكيف يغسّل الميت؟
ـ يغسّل ثلاثة أغسال‏.
الاَوّل: بماء السدر‏.
والثاني: بماء الكافور‏.
والثالث: بالماء الخالص‏.
[علي أن يكون الغسل ترتيبياً] بأن تغسل الرأس والرقبة أوّلاً، ثمّ الجانب الاَيمن، ثمّ الجانب الاَيسر وأن يكون الماء المستعمل في الغسل طاهراً غير نجس، ومباحاً غير مغصوب، ومطلقاً غير مضاف، وأن يكون السدر، والكافور مباحين أيضاً‏.
‏ ‏‏ وهل تخلع ملابس الميت أثناء الغسل؟
ـ يجوز تغسيله بملابسه ولعله أفضل مما لو كان مجرّداً منها‏.
‏ ‏‏ وكيف يكون الماء مطلقاً وتجب اِضافة السدر أو الكافور اِليه؟
ـ يضاف اِليه من السدر والكافور بمقدار لا يحوله الى ماء مضاف‏.
‏ ‏‏ واذا تنجّس جسد الميّت بنجاسة خارجية أو بنجاسة من الميّت أثناء الغسل؟
ـ وجب تطهير ما تنجّس منه. ولا تجب اِعادة الغسل‏.
‏ ‏‏ وبعد الانتهاء من تغسيل الميت؟
ـ يجب تحنيطه وتكفينه‏.
‏ ‏‏ وما التحنيط؟
ـ امساس مواضع السجود السبعة بالكافور المسحوق المحتفظ برائحته، والمباح غير المغصوب، والطاهر غير النجس [وان لم يوجب تنجس بدن الميت] ويفضل ان يتم التحنيط بالمسح بالكف ابتداءً من الجبهة‏.
‏ ‏‏ وبقية مواضع السجود الاخرى؟
ـ لا ترتيب بينها‏.
‏ ‏‏ وكيف يكفن الميت.
ـ يجب تكفين الميت بقطع ثلاث:
‏ 1 ـ المئزر [ويجب ان يستر ما بين السرة والركبة]‏.
‏ 2 ـ القميص [ويجب أن يستر المسافة ما بين الكتفين الى نصف الساق].
‏ 3 ـ الازار: ويجب ان يغطي جميع الجسد [على أن يكون طولاً بحيث يمكن أن يشدّ طرفاه العلوي والسفلي].
‏‏ وعرضاً؟
ـ وعرضاً [بحيث يقع أحد جانبيه على الاَخر].
‏ ‏‏ وهل هناك شروط أخري لهذه القطع؟
ـ نعم يشترط أن يكون بمجموعها ساترة لبدن الميت، وان لا تكون مغصوبة، ولا من الحرير الخالص، [ولا من المذهّب، ولا من اجزاء الحيوان الذي لا يؤكل لحمه] ولا نجساً اِلاّ في حالة الاضطرار فيجوز التكفين بغير المغصوب من المذكورات حينئذٍ‏.
‏ ‏‏ واذا تعذرت القطع الثلاث؟
ـ يكفن الميت بما يتيسر منها‏.
‏ ‏‏ وماذا بعد تغسيل الميت وتحنيطه وتكفينه؟
ـ تجب الصلاة عليه وان كان طفلاً قد عقل الصلاة كأن يكون ابن ست سنوات‏.
‏ ‏‏ وكيف يُصلّى عليه؟
ـ الصلاة على الميت تختلف عن الصلاة اليومية فهي خمس تكبيرات لا قراءة سورة فيها ولا ركوع، ولا سجود، ولا تشهد، ولا تسليم بل يدعو المصليّ للميّت عقيب احدى التكبيرات الاَربع الاُول وامّا في البقيّة فيتخيّر بين الصلاة علىالنبي صلّىالله عليه وآله والدّعاءَ للمؤمنين وتمجيد الله تعالى.
‏ ‏‏ اذكر لي صورة موجزة لها‏.
ـ يُكبِّر التكبيرة الاولىويتشهَّد الشهادتين، ثم يُكبِّر التكبيرة الثانية ويُصلّي على النبي محمّد صلّى الله عليه وسلّم وآله عليهم السلام، ثم يكبِّر التكبيرة الثالثة ويدعو للمؤمنين والمؤمنات ثم يكبِّر التكبيرة الرابعة ويدعو للميّت ثمّ يكبِّر التكبيرة الخامسة وينصرف‏.
‏ ‏‏ وهل هناك أشياء معتبرة في الصلاة على الميت؟
ـ نعم، يعتبر فيها أمور:‏.
‏ 1 ـ النيّة، مع تعيين الميّت بنحو يرفع الابهام‏.
‏ 2 ـ القيام، مع القدرة عَليه‏.
‏ 3 ـ أن تكون بعد غسل الميّت وتحنيطه وتكفينه‏.
‏ 4 ـ أن يستقبل المصلّي القبلة في حال الاختيار‏.
‏ 5 ـ أن يكون الميّت أمام المصلِّي‏.
‏ 6 ـ أن يكون رأس الميّت على يمين المصلي ورجلاه الى يساره‏.
‏ 7 ـ أن يوضع الميّت على ظهره عند الصلاة عليه‏.
‏ 8 ـ أن لا يكون حائل بين الميّت والمصلي كالستر والجدار ولا يضرّ الستر بمثل النعش أو الميت الاَخر‏.
‏ 9 ـ أن لا يفصل بين الميت والمُصلي بُعدٌ مفرط، وأن لا يعلو أحدهما على الاَخر علوّاً مفرطاً، ولا يضرّ الفصل مع اتصال الصفوف في الصلاة جماعة أو مع تعدّد الجنائز اذا صلّىعليها دفعة واحدة‏.
‏ 10 ـ ان يأذن ولي الميت كأبيه أو ابنه مثلاً المصلي باداء الصلاة‏.
‏11 ـ أن يوالي المصلّي بين التكبيرات والادعية والاذكار‏.
‏‏ لماذا لم تذكر شرط طهارة المصليّ كأن يكون على وضوء أو غسل أو تيمّم؟
ـ لاَنها غير واجبة في هذه الصلاة‏.
‏ ‏‏ واذا انتهت الصلاة؟
ـ يجب دفن الميّت ويكفي فيه مواراته في الارض مع تحقّق امرين:‏.
الاول: حفظه من الحيوانات المفترسة مع احتمال وجودها في المكان‏.
والثاني: اخفاء رائحته من النّاس مع احتمال وجود من يتأذي بها في المكان.‏
ويوضع على جانبه الاَيمن في قبره مع توجيه وجهه الى القبلة‏.
‏ ‏‏ وهل من شروطٍ لمكان الدفن؟
ـ نعم.‏.
‏ 1 ـ أن يكون المكان مباحاً غير مغصوب، وغير موقوف لجهة خاصّة كالمدارس والحسينيّات وامثالها مع الاضرار بالعين الموقوفة أو المزاحمة لجهة الوقف [بل وان لم يكن مضراً أو مزاحماً].
‏ 2 ـ ألاّ يستلزم هتك حرمة الميّت المسلم بالدفن فيه كالمواضع القذرة والمزابل‏.
‏ 3 ـ أن لا يدفن في مقابر الكفار‏.
‏‏ وبعد الدفن؟
ـ روي عن النبي صلّى الله عليه وآله أنّه قال: «لا يأتي على الميّت أشدّ من أول ليلة، فارحموا موتاكم بالصدقة، فاِن لم تجدوا فليصل أحدكم ركعتين له، يقرأ في الاولى بعد الحمد آية الكرسي، وفي الثانية بعد الحمد سورة القدر عشر مرات، يقول بعد السلام «اللهمّ صلِّ على محمّدٍ وآل محمّد وابعث ثوابها الى قبر فلان» ويسمّي الميّت‏.
‏ ‏‏ ذكرت لي في حوارية سابقة غسلاً أسميته غسل مسِّ الميت‏.
ـ نعم، يجب الغُسل على من مسَّ بدن الميت بعد أن يبرد وقبل اِتمام تغسيله مسلماً كان الميّت أو كافراً‏.
‏ ‏‏ مع وجود البلل؟
ـ معه وبدونه، سواء أكان مسَّ الميّت اضطراريّاً أم اختيارياً‏.
‏ ‏‏ وماذا يترتّب على من مسَّ الميّت؟
ـ يترتب عليه:‏
‏ 1 ـ وجوب الغُسل لما يشترط في صحّته الطهارة كالصلاة، فاذا أراد أن يصلّي يجب عليه أن يغتسل أوّلاً‏.
‏ 2 ـ حرمة مسِّ كتابة القرآن الكريم، وكلّ ما حرم على المحدث مسُّه‏.
ـ سكت أبي هنيئة ثمّ قال:‏
ـ اذا توفّي الزّوج وجب على زوجته العدة مهما كان عمر الزّوجة، بما في ذلك غير المدخول بها وتعتدّ الزّوجة غير الحامل أربعة أشهر وعشر أيّام ويلزمها ان كانت بالغة عاقلة ان تترك في مدة العدّة الزّينة في الجسد والملابس حيث يحرم عليها لبس الملابس التي تعتبر ملابس زينة كالملابس الحمراء مثلاً وغيرها، كما يحرم عليها لبس الحلي والاكتحال واستعمال الطيب والخضاب والحمرة بينما يحق للمعتدة تنظيف الجسد والملابس وتقليم الاظافر والاستحمام والخروج من البيت وخاصّه لاَداء حق أو قضاء حاجة أو فعل طاعة أو ضرورة‏.
‏ ‏‏ والزوجة الحامل؟
ـ أما الزوجة الحامل اذا توفّي عنها زوجها فحكمها أن تبقى معتدّة حتى تضع حملها وتلد، ثم تنظر فاِن كان قد مضى على وفاة زوجها عندما ولدت ‏ أربعة أشهر وعشرة أيّام فقد انتهت عدّتها واِن لم تكن قد مضت هذه المدّة تستمّر في عدّتها حتى تبلغ هذه المدّة‏.


* * * * *

«حواريّة الوضوء»

عن الوضوء سأحدّثك اليوم ـ قال أبي ـ ، وسأحدثك بعده عن الغسل والتيمّم‏. فقلت في نفسي: نحن اِذن على باب أول مطهِّر لجسد سلب منه «حدثٌ ما» طهارته‏.
ورحت استذكر على عجل نماذج مما «يحدث» فيسلب طهارة جسدٍ كان متنعماً قبل ذلك بنقائه مكسوّاً ببياض طهارته‏.
وحين تم لي ذلك التذكر، وطاوع ذاك الاسترجاع، عدت فسألت نفسي. تُرى لماذا أتطهّر بالوضوء؟ ثمّ عنّ لي أن أنقل هذا التساؤل الى أبي مادام هو أمامي الاَن‏.
‏ ‏‏ ولماذا نتوضّأ؟
ـ حتى نصلّي.. مثلاً‏.
حتى نطوف حول بيت الله الحرام في الحج أو العمرة، مثلاً‏.
حتى يجوز لنا مسّ كتابة القرآن الكريم [واسمائه تعالى وصفاته الخاصّة به «كالرّحمن والخالق»]، مثلاً‏.
‏ ‏‏ أتوضّأ بالماء طبعاً.. ولكن هل من شروط في الماء الذي أتوضّأ به؟
ـ نعم‏.
‏ 1 ـ أن يكون الماء طاهراً، وأعضاء وضوئك كلّها طاهرة. ويكفي أن يكون غَسلُها للوضوء تطهيراً لها فيما لو كان الماء معتصماً‏.
‏ 2 ـ أن يكون مباحاً غير مغصوب، وكذلك المكان الذي تتوضّأ فيه‏.
وينبغي أن تعرف أن المقصود من اشتراط اباحة المكان انّه اذا انحصر الوضوء بالمكان المغصوب سقط عنك وجوب الوضوء، وعليك أن تتيمّم لكنّك لو خالفت وتوضأت في المكان المغصوب صحّ وضوؤك وان كنت آثماً‏.
‏ 3 ـ أن يكون مطلقاً غير مضاف، كماء الاسالة، وماء الكأس الذي تشربه، لا ماء الرمّان ـ مثلاً ـ.
‏‏ وكيف أتوَضّأ..؟
ـ بعد أن تنوي الوضوء تقرّباً الى الله تعالى تبدأ: ـ
أوّلاً: تغسل وجهك من منبت الشّعر أعلى الجبهة الى الذّقن طولاً، وما دارت عليه الابهام والاِصبع الوسطى عرضاً. فاذا فتحت كفّك على سعتها ووضعتها على وجهك فكل ما استوعبته كفّك ما بين طرف الابهام وطرف اصبعك الوسطى فهو ما تغسله من عرض وجهك‏.
مع ملاحظة [أن تغسل وجهك مبتدئاً من أعلاه الى أسفله] من دون حاجة الى تخليل الشعر الكثيف‏.
ثانياً: تغسل يديك من المرفق الى أطراف الاصابع مبتدئاً باليد اليمنى ثمّ اليسرى غاسلاً من أعلى المرفق ونازلاً الى أطراف أصابعك منتهياً بأصابعك دائماً‏.
‏ ‏‏ وما المرفق؟
ـ مجمع عظمي العضد والذراع‏.
ثالثاً: تمسح مقدّم رأسك ويرجّح أن يكون بباطن كفّك اليمنى وأن تبدأ المسح من الاَعلى الى الاَسفل ويجزيك أن تمسح على الشعر المختص بالمقدّم ولا يجب المسح على البشرة‏.
رابعاً: تمسح رجليك ما بين أطراف الاَصابع ومفصل الساق ويرجّح ان تمسح رجلك اليمنى بنداوة كفّك اليمنى ورجلك اليُسرى بنداوة كفّك اليسرى ولا يجوز المسح بماء جديد [كما لا يجوز تقديم الرجل اليسرى على اليمنى في المسح].
ولاحظ في وضوئك ما يلي:‏
أ ـ الترتيب، تغسل وجهك قبل يدك اليمنى، ويدك اليمنى قبل يدك اليُسرى، وتمسح رأسك قبل مسح رجليك‏.
ب ـ الموالاة: ويُقصد بها التتابع العرفي بين أفعال الوضوء، ويكفي في الحالات الطارئة، كنفاد الماء أو النسيان ان يكون الشروع في غَسل العضو اللاحق أو مسحه قبل أن تجف الاعضاء السابقة عليه فان جفّت جميعها بطل الوضوء، وتجدر الاشارة الى أنّه لا يضرّ الجفاف لو كان مسببه الرّياح أو الحرّ أو التجفيف اذا كان التتابع العرفي متحقّقاً‏.
جـ ـ المباشرة، بأن تتوضّأ بنفسك اِن أمكنك ذلك‏.
‏ ‏‏ واذا لم يمكنّي ذلك؟
ـ اذا لم تستطع، يمكن أن يوضئك غيرك، فيرفع يدك ويغسل بها وجهك، ثمّ يغسل بها يديك، ويمسح بكفِّك اليمنى رأسك، ثم بكفيك رجليك بنداوة يديك‏.
د ـ أن لا يكون هناك حائل يمنع وصول ماء الوضوء الى البشرة كالصبغ والصمغ وطلاء الاَظافر للنساء وغيرها، علماً بأن الدسومة لا تضر ولا تحجب‏.
هـ ـ أن لا يكون هناك سبب يمنعك من استعمال الماء كالمرض، واِلاّ وجب عليك التيمّم بدلاً من الوضوء‏.
‏‏ اذا توضأت ثم جاء وقت صلاة اُخرى فهل عليّ أن أجدّد الوضوء؟
ـ لا ما لم ينتقض وضوؤك‏.
‏ ‏‏ وكيف ومتى ينتقض وضوئي؟
ـ نواقض الوضوء ونواسخه سبعة: خروج البول، والغائط، والريح، والنّوم، وكل ما يزيل العقل كالاغماء والسكر والاستحاضة القليلة والمتوسطة «راجع حواريّة الاستحاضة»، والجنابة‏.
ثم لمعت عينا أبي فحدست أن قاعدة ما أو قواعد بدأت تلملم خيوطها في ذهنه فصدَّق الواقع حدسي‏.
هاهو ذا أبي يقول: سأختتم حواريّتي بقواعد عامة عن الوضوء تنفعك.‏.
القاعدة الاولى: كل من توضّأ ثمّ شك بعد ذلك هل انتقض وزال وضوؤه بأحد النواقض السبعة الماضية أو بقي على طهارته، فهو باق على طهارته. على وضوئه‏.
‏ ‏‏ مثلاً.؟
ـ توضّأت صباحاً أنت متأكّد من ذلك الاَن، وحين حلّ وقت صلاة الظهر أردت أن تصلّي، فشككت هل دخلتَ المرافق بعد وضوئك فانتقض وضوؤك أم لم تدخلها فبقيت على طهارتك، حينئذٍ تقول: أنا متوضئ، وتُصلي‏.
القاعدة الثانية: كل من لم يتوضّأ أو توضّأ وانتقض وزال وضوؤه. ثمّ شك بعد ذلك هل توضّأ ثانية أو لم يتوضّأ؟ فهو غير متوضّئَ‏.
‏ ‏‏ مثلاً.؟
ـ استيقظت من نومك صباحاً، وحين حلّ وقت صلاة الظهر أردت أن تصلي، فداهمك الشَّكّ، تُرى هل توضّأت بعد استيقاظي من نومي أو لم أتوضّأ؛ حينئذٍ تقول اِنّي غير متوضئ فتتوضّأ وتصلّي‏.
القاعدة الثالثة: كل من توضّأ وانتهى من وضوئه، ثم شكّ في صحة وضوئه بعد فراغه منه، فوضوؤه صحيح‏.
‏ ‏‏ مثلاً.؟
ـ توضّأت مثلاً وانتهيت من وضوئك، ثمّ شككت بعد ذلك، تُرى هل غسلت وجهي أم لم أغسله؟ أو هل غسلي لوجهي كان صحيحاً أم لا؟ حينئذٍ تقول: وضوئي صحيح‏.
‏ ‏‏ واذا شككت في مسح الرجل اليُسرى؟
ـ تعيد مسحها اِلاّ اذا كنت قد دخلت في عمل آخر بدأت بالصلاة مثلاً أو حدث الشك بعد فوت الموالاة فانك لا تعتني بالشك حينئذٍ‏.

* * * * *