رياض المسائل ـ الجزء الأول ::: 1 ـ 15

رياض المسائل
تأليف
الفقيه المدقق
السيد علي الطباطبائي
المتوفي سنة 1231 ه‍ ق
الجزء الاول
تحقيق
موسسة النشر الاسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المقدسة


(2)

(3)
بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله ، وسلام على عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين.
    وبعد ، فقد حفل تاريخ الفقاهة الاسلامية بموسوعات فقهية ضخام ، ومؤلفات جليلة عظام ، زخرت بها الكاتب العلمية في مختلف المعاهد الدينية على متنوع مشاربها وأساليبها في التخريج والاستنباط.
    وكان نصيب الامامية في هذا المضمار هو قصب السبق في جميع جوانبه المترامية ، ولا سيما في جانب قواعده الراسية على محكات الكتاب والسنة القطعية وفي ضوء إرشاد العقل الحكيم.


(4)
    وأول من شمر عن ساعد الجد في هذا الحقل هو شيخ الطائفة ورئيسها على الاطلاق محمد بن الحسن الطوسي ـ قدس سره الشريف ـ المتوفى سنة 460 ه‍ ، فأسس قواعد هذا البنيان الرفيع ، ورصف اصوله ورتبها وأحسن تنظيمها على ترتيب منهجي بديع.
    وجاء الفقهاء من بعده فجروا على منواله الحكيم مستخر جين الفروع من الاصول على نفس النظام ، وتبويب المسائل وفق ما حرره الشيخ في مختلف كتبه.
    نعم جاء المتأخرون ليزيدوا تحقيقا وتدقيقا في أساليب الاستنباط ومناهج الاجتهاد ورد الفروع إلى الاصول ، ولا سيما بعد أن تحرر « علم الاصول » من اسلوبه التقليدي القديم ، إلى اسلوبه التحقيقي الحديث. وإذا بالفقه قد تفتحت له أبواب جديدة كانت مغلقة قبلئذ ، وبدت من ثنايا آيات الكتاب المجيد وكلمات العترة الطاهرة دقائق ورقائق ـ هي حقائق ـ لم تكن معروفة لحد ذاك. كل ذلك بجهود بذلها فقهاء أفذاذ وعلماء جهابذة كرسوا جهودهم ـ ولا يزالون ـ في التحقيق والتدقيق في خبايا آثار آل الرسول صلى الله عليه وآله.
    وقد حصل هذا التحول الاساسي ـ في نوعية الاستنباط ـ منذ عهد نجم الدين ( المحقق الحلي ) ( المتوفى سنة 676 ه‍ ) قدس سره فحقق من مباني الفقه وأحكم قواعده الراسية في كتابه المعتبر وغيره ، ومن ثم لقب بالمحقق جديرا بهذا النعت المعبر عن واقعية لامعة.
    ثم على يد جمال الدين العلامة الحلي ( المتوفى سنة 726 ه‍ ) وولده فخر المحققين ( المتوفى سنة 771 ه‍ ) فقد كرس الوالد جهده في البحث والتنقيب والجمع والمقارنة والتحقيق وسار الولد على منهاج والده في امتداد التدقيق والتخريج.
    وبعدهما جاء الشهيد السعيد محمد بن مكي العاملي ( المتوفى سنة 786 ه‍ ) حيث ركز اسس الفقه ومباني الاستدلال على قواعد رصينة ومدارك متينة.
    ثم جاء دور نور الدين الكركي ( المحقق الثاني ) ( المتوفى سنة 940 ه‍ ) فأبدع وأتى بآراء ونظريات مستجدة لم يسبق لها نظير.


(5)
    وهكذا جاء زين الدين العاملي ( الشهيد الثاني ) ( المتوفى سنة 965 ه‍ ) في وسط علمي أخذت الفقاهة التحقيقية مدارجها إلى الصعود.
    واقتفى أثره الفاضلان الشيخ حسن صاحب « المعالم » والسيد محمد صاحب « المدارك ».
    ثم جاء فقيه أهل البيت المحدث البحراني ( المتوفى سنة 1186 ه‍ ) وقد وسع في كتابة الفقه المستدل بشكل مبسط جامع في أحسن تبويب وأجمل ترتيب.
    وهكذا نبغ في أواخر القرن الثاني عشر الاستاذ الاكبر الوحيد البهبهاني ( المتوفى سنة 1206 ه‍ ) ، فجدد النظر في اصول معرفة رجال الاسناد وأخرجها عن اسلوبها التقليدي إلى اسلوب تحقيقي.
    ثم جاء الشيخ الكبير الشيخ جعفر كاشف الغطاء ( المتوفى سنة 1228 ه‍ ) ، وكان رافعا راية التحقيق في دور جديد بلغ غايته في البحث والتمحيص.
    وهكذا إلى أن حظي مستهل القرن الثالث عشر بعلماء جهابذة ازدهرت بهم معاهد التحقيق في الحوزات العلمية ، خصوصا في فني الاصول والفقه.
    ومولانا الجليل السيد مير علي الطباطبائي ( المتوفى سنة 1231 ه‍ ) ، أحد هؤلاء الافذاد والذي ألف كتابه الشريف ( رياض المسائل في بيان أحكام الشرع بالدلائل ) حيث أجمع فيه جميع أبواب الفقه من الطهارة إلى الديات بصورة موسعة ومستدلة (1).
    وكان ـ رحمه الله ـ ذا قدرة جبارة في رد الفروع إلى الاصول ، حيث كان في كرسي تدريسه يجول ويصول صولة الاسد الضرغام. فجزى الله جميع العلماء العاملين ـ المذكورين منهم وغيرهم ـ عن الاسلام خير الجزاء.
    وقد قامت المؤسسة ـ والحمد لله ـ بتحقيق هذا السفر الجليل واستخراج منابعه
1 ـ لا يخفى أن هذا الكتاب هو شرح مبسط على كتاب ( المختصر النافع ) الذي ألفه في نجم الدين الشيخ أبو القاسم الحلي المعروف ب‍ « المحقق الاول » ويسمى ب‍ « الشرح الكبير »

(6)
بعد مقابلته مع عدة نسخ مخطوطة ثم طبعه ونشره بهذه الصورة الانيقة.
    ولا يسعها أخيرا ، لا وأن تتقدم بجزيل شكرها وعظيم امتنانها لسماحة العلامة الشيخ الآصفي على ما تفضل به من بحث شامل حول تاريخ فقه أهل البيت عليهم السلام. كما وتشكر أيضا سماحة البحاثة الشيخ اليوسفي على ما كتبه عن حياة المؤلف ـ قدس الله روحه ـ. كما لا تنسى الاخوة الذين من أهل الفضل والتحقيق سيما الشيخ رحمة الله الرحمتي والشيخ ضياء الدين الواعظي والسيد يحيى الحسيني ورعد البهبهاني والحاج كمال الكاتب وغيرهم لما بذلوه من جهد وافر وسعي حثيث. جزى الله الجميع خيرا ، ونسأله سبحانه أن يوفقنا لنشر التراث الاسلامي إنه خير موفق ومعين.
مؤسسة النشر الاسلامي
التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة


(7)
تارخ فقه أهل البيت
عليهم السلام
العلامة الشيخ محمد مهدي الآصفي
بسم الله الرحمن الرحيم
     مما يؤسف له أن ( الفقه الشيعي ) لم يؤرخ من قبل الباحثين إلى حد اليوم بصورة منهجية كاملة ، ومن تحدث عن تاريخ تكامل هذا الفقه وتطور الكتابة الفقهية لم يتجاوز ترجمة الفقهاء وتصنيف طبقات المحدثين. ولم يظهر لحد الآن تصنيف لعصور هذا الفقه ومراكزه العلمية ومدارسه الفقهية على امتداد خط التاريخ الاسلامي ، وبيان ملامح هذه المدارس وما تمتاز به كل مدرسة على سابقتها ، مما تجعلها مدارس متعاقبة ومتوالية في التكامل والنمو.
    ولم يبحث أحد من الدارسين كيف تطور هذا الفقه من مستوى المجموعات الحديثية ، والاصول الاربعمائة إلى مستوى « الحدائق الناضرة » و « جواهر الكلام ».
    وهذه مسألة مهمة تحتاج إلى كثير من العناية والدراسة ، ولا أدعي أنني سوف أتوفر على تقديمها في هذه العجالة ، ولا انني استطيع بهذه الدراسة أن أفتح الطريقة لغيري ، غير أنني أرجو أن ينهض بهذا العبء علماء وباحثون يولون هذا الامر ما يستحق من العناية وإلاهتمام ويثرون المكتبة الفقهية بمثل هذه الدراسة الضرورية.
    ولتطور المدرسة الفقهية عند الشيعة تاريخ طويل ، كما يكون ذلك لاية ظاهرة اجتماعية اخرى ، وكما يكون ذلك لاي كائن حي.


(8)
    ولدراسة تاريخ تطور الدراسة الفقهية لدى الشيعة يجب أن تضم حلقات هذا التطور بعضها إلى بعض ، وتربط الظاهرة الفقهية بالظواهر المحيطية الاخرى التي تتصل بها ، والتي تتفاعل معها على امتداد التاريخ.
    فلا يمكن من وجهة منهجية فصل الدراسة الفقهية عن العوامل المحيطية والزمنية على صيد البحث التاريخي.
    فلا تنمو الدراسة الفقهية كظاهرة مفصولة عن الحياة الاجتماعية والمحيط والعوامل المحيطية ، ولا يمكن عزل الفقه عن المؤثرات التي تتدخل في تكوين التاريخ البشري. وإنما يجب ربط هذه الظاهرة بغيرها من الظواهر والعوامل المحيطية والزمنية ، ليتاح لنا أن نتعرف على عوامل النمو والرشد فيها ، وتأثرها بها.
    والعوامل التي يجب أن تلحظ في تطوير المدرسة الفقهية والتي تتدخل في تكوين الدراسة الفقهية والبحث الفقهي ثلاثة :
    1 ـ الزمان :
    ولا نعني بالزمان ما يعنى به عادة من مرور الدقائق والساعات ، فذاك شيء لا يهمنا ، وإنما نعني به العمل الناجز إلى حد زمني خاص ، فلا شك ـ أن مستوى الدراسة الفقهية الناجزة في عصر الشهيد يختلف عنه في عصر شيخ الطائفة الطوسي ، وذلك يعني أن شيخ الطائفة بدأ العمل من مستوى دون المستوى الذي بدأه الشهيد ، وأن الشهيد ابتدأ العمل الفقهي من المستوى الذي انتهى إليه الشيخ الطوسي والمحققون من بعده ، وهذا العامل له أهميته في دراسة تطور البحثا لفقهي.
    2 ـ المحيط :
    لا شك في تأثر البحث الفقهي بالمراكز الثقافية التي كان ينتقل إليها ، فكل واحد من المراكز الفقهية التي ينقل فيها ويحول إليها الفقه الشيعي له طابعه


(9)
الثقافي الخاص ، وله تأثيره في تكوين الدراسة الفقهية وتطويرها.
    فحينما انتقلت الدراسة الفقهية الشيعية من المدينة إلى الكوفة وأصبحت الكوفة مركز الاشعاع في البحث الفقهي الشيعي تأثر البحث الفقهي كثيرا بهذا المحيط الجديد المزدحم بفقهاء الشيعة.
    كما تأثر الفقه الشيعي بدون ريب حينما انتقل من قم إلى بغداد وكون هذا الاطار الحضاري والفكري الجديد الذي كانت تزدحم جوانبه بمختلف المدارس الثقافية والعلماء والفقهاء ، من مختلف المذاهب الاسلامية.
    3 ـ شخصية الفقهاء :
    وهذا عامل ثالث في تطوير الفقه لا نستطيع أن نغضي عنه ، فلمؤهلات الفقيه الفكرية وبعد نظره وعمق تفكيره وإصابة آرائه وطموحه الفكري للتجديد أثر كبير في تطوير الفقه.
    فما جدده شيخ الطائفة مثلا في البحث الفقهي لا يرتبط كليا بتأثير المحيط والعصر ، وإنما كان يرتبط أيضا بمؤهلات الشيخ الطوسي الشخصية وقابلياته ونبوغه الذاتي.
    وعلى ضوء هذه العوامل الثلاثة سنحاول أن نقوم بدراسة سريعة لتاريخ الفقه الشيعي ، وتطور البحث الفقهي عند الشيعة ، وتعاقب المدارس الفقهية ، مع الاشارة إلى الملامح الكلية لكل من هذه المدارس.
    وسوف نسير في هذه الدراسة التاريخية على ضوء ما قدمناه ـ بغض الطرف عن التقسيمات التي يأخذ بها مؤرخو الفقه والحديث الشيعي ، على غير هذا المنهج ـ ونصنف عصور الفقه الشيعي حسب العوامل الثلاثة ضمن المدارس التالية على امتداد العصور المتعاقبة.
    وحينما نضيف المدرسة الفقهية إلى قطر خاص كا لكوفة أو بغداد أو المديتة لا نعني أن الفقاهة تمركزت كليا في هذه الاقطار وإنما نعني أن المدرسة بلغت


(10)
نضجها الخاص وكمالها المرحلي في هذا القطر بالخصوص.
    وأهم مدارس الفقه الشيعي حسب توالي عصور الفقه الشيعي هي :
    1 ـ مدرسة المدينة المنورة : واستمرت إلى أواسط القرن الثاني ( حياة الامام الصادق عليه السلام ).
    2 ـ مدرسة الكوفة : ظهرت من أواسط القرن الثاني ( حياة الامام الصادق عليه السلام ) واستمرت إلى الربع الاول من القرن الرابع ( الغيبة الكبرى ).
    3 ـ مدرسة قم وري الاولى : ظهرت في الربع الاول من القرن الرابع واستمرت إلى النصف الاول من القرن الخامس ( أيام المرتضى والطوسي ).
    4 ـ مدرسة بغداد : ظهرت من النصف الاول للقرن الخامس إلى احتلال بغداد.
    5 ـ مدرسة الحلة : ظهرت من احتلال بغداد واستمرت إلى حياة الشهيد الثاني.
    6 ـ مدرسة جبل عامل.
    7 ـ مدرسة اصفهان.
    8 ـ مدرسة البحرين.
    9 ـ مدرسة كربلاء المقدسة.
    10 ـ مدرسة النجف الاشرف.


(11)
     والعصر الاول هو عصر الصحابة والتابعين لهم بإحسان ظهرت من ظهور المجتمع الاسلامي في ( المدينة المنورة ) ، واستمرت إلى حياة ( الامام الصادق عليه السلام ).
    والمدينة المنورة كانت هي المنطلق الاول للرسالة الاسلامية ، فلاغرو إذا كانت المدرسة الاولى للفقه الاسلامي.
    وكانت المدينة المنورة الوطن الاول لفقهاء الشيعة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، فكان من فقهاء الصحابة بعد الامام أمير المؤمنين والزهراء والحسنين عليهم السلام : ابن عباس حبر الامة وفقيهها ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذر الغفاري ، وأبو رافع إبراهيم مولى رسول الله صلى الله عليه وآله.
    قال النجاشي : أسلم أبو رافع قديما بمكة وهاجر إلى المدينة ، وشهد مع النبي صلى الله عليه وآله مشاهده ، ولزم أمير المؤمنين عليه السلام من بعده ، وكان من خيار الشيعة ... ولابي رافع كتاب السنن والاحكام والقضايا (1).
    ومن التابعين تولى جمع كثير من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام حفظ السنة النبوية وتداولوها فيما بينهم ، ونقلوها إلى الاجيال التي تليهم بأمانة ، حتى قال
1 ـ رجال النجاشي : ص 5 تحت رقم 1 ، طبع مؤسسة النشر الاسلامي ـ قم.

(12)
الذهبي في ميزان الاعتدال : فهذا ـ أي التشيع ـ كثر في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق ، فلو رد حديث هؤلاء ـ أي الشيعة ـ لذهبت جملة الآثار النبوية (1).
    ولعوامل لا نعرفها منع عمر بن الخطاب تدوين السنة النبوية فبقيت السنة النبوية في صدور الصحابة والتابعين يتناقلونها حتى خلافة عمر بن عبد العزيز ، حيث أمر بتدوينها محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، فلم يتفق لمحدثي غير الشيعة من الصحابة والتابعين تدوين السنة النبوية قبل هذا الوقت. ولكن فقهاء الشيعة ـ فيما يحدثنا التاريخ ـ دونوا عدة مدونات حديثية مهمة. وكان أمير المؤمنين عليه السلام أول من صنف في الفقه ، ودون الحديث النبوي ، ولم يوافق عمر بن الخطاب على رأيه.
    قال السيوطي : كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلاف كثير في كتابة العلم ، فكرهها كثير منهم ، وأباحتها طائفة وفعلوها : منهم : علي وابنه الحسن (2).
    فكتب « الجامعة » وهي من إملاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخط علي عليه السلام ، وكان يبلغ سبعين ذراعا ، وقد تواتر نقله في أحاديث الائمة من أهل البيت عليهم السلام (3).
    وكان لسلمان مدونة في الحديث كما يقول ابن شهر آشوب.
    وعلي بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان من فقهاء الشيعة وخواص أمير المؤمنين عليه السلام.
    قال النجاشي : وهو تابعي من خيار الشيعة ، كانت له صحبة من
1 ـ ميزان الاعتدال : ج 1 ص 5.
2 ـ أعيان الشيعة : ج 1 ص 274.
3 ـ راجع تفصيل ذلك في أعيان الشيعة : ج 1 ص 290.


(13)
أمير المؤمنين ، وكان كاتبا له ، وحفظ كثيرا ، وجمع كتابا في فنون الفقه كالوضوء والصلاة وسائر الابواب ، وكانوا يعظمون هذا الكتاب (1).
    ومنهم : سعيد بن المسيب ، وهو أحد الفقهاء الستة ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر.
    قال أبو أيوب : ما رأيت أفضل منه.
    وفي كتاب الكافي عن يحيى بن جرير قال : قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام : كان سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد بن أبي بكر وأبو خالد الكابلي من ثقات علي بن الحسين عليه السلام (2).
    ومهما يكن من أمر فقد كان فقهاء الشيعة وعلى رأسهم أئمة المسلمين من أهل البيت صلوات الله عليهم يقودون الحركة الفكرية في العالم الاسلامي ، وتنطلق هذه الحركة من المدينة المنورة بشكل خاص.
    وبلغ هذا الازدهار الفكري غايته في عهد الامام الصادق عليه السلام ، فقد ازدهرت المدينة المنورة في عصر الامام ، وزخرت بطلاب العلوم ووفود الاقطار الاسلامية ، وانتظمت فيها حلقات الدرس ، وكان بيته جامعة إسلامية يزدحم فيه رجال العالم وحملة الحديث من مختلف الطبقات ينتهلون موارد علمه.
    قال ابن حجر عن الامام الصادق عليه السلام : نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان ، وانتشر صيته في جميع البلدان ، وروى عنه الائمة الاكابر كيحيى بن سعيد وابن جريح ومالك والسفيانيين وأبي حنيفة وشعبة وأيوب السختياني (3).
    إذن كانت المدينة المنورة في عهد الامامين الباقر والصادق عليهما السلام
1 ـ رجال النجاشي : ص 5.
2 ـ تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام : ص 299.
3 ـ الصواعق المحرقة : ص 199 والصحيح « السجستاني ».


(14)
مدرسة للفقه الشيعي ، ومركزا كبيرا من مراكز الاشعاع العقلي في العا لمالا سلامي.
    ويطول بنا الحديث لو أردنا أن نحصي عدد الفقهاء من الشيعة في هذه الفترة وما تركوا من آثار ، ويكفي الباحث أن يرجع إلى كتب أعيان الشيعة ، ورجال النجاشي ، والكشي ، وتأسيس الشيعة لعلوم الاسلام ليعرف مدى الاثر الذي تركه فقهاء الشيعة في هذه الفترة التي تكاد تبلغ قرنا ونصف قرن من تاريخ الاسلام في الدراسة الفقهية ، والمحافظة على السنة النبوية.
    والشئ الذي نحب أن نشير إليه هو أن ملامح المدرسة الفقهية في هذه الفترة في المدينة المنورة كانت أولية إلى حد ما ، ولم تتبلور مسائل الخلاف والمقارنة في الفقه في هذه الفترة كما تبلورت بعد في الكوفة على يد تلامذة الامام الصادق عليه السلام واستمرت إلى أيام أبي الحسن الرضا عليه السلام ، فالاختلاف في القياس والاستحسان والرأي والاجتهاد ، لم تظهر واضحة في هذه الفترة ، وفي هذه المدرسة بالذات ، وإن كانت المدينة هي المنطلق والمركز الاول للبحث الفقهي عند الشيعة ، وعنها انتقلت المدرسة إلى الكوفة ، وتبلورت المفاهيم ، واتضحت نقاط الالتقاء والاختلاف. بين المذاهب الفقهية الاسلامية.
    ومدونات الحديث كانت مقتصرة على عدد معدود من المدونات المعروفة التي تم تدوينها في المدينة المنورة والتي ضاع أكثرها.
    ولم تكن هذه المدونات فيما عدا مدونة أمير المؤمنين عليه السلام دورات كاملة للحديث النبوي ، وإنما كانت تجمع لقطات من السنة النبوية والاحكام الفقهية.
    ولم تكن هناك كتب فقهية تعنى بالفتاوى خارج نطاق المدونات الحديثية.
    كما لم تتبلور بعد لدى فقهاء الشيعة صياغة المقاييس الخاصة للاجتهاد والفتيا بصورة كاملة ، والمقاييس الخاصة لمعالجة الاخبار المتعارضة ، فلم يكثر


(15)
الحديث بعد عن أهل البيت عليهم السلام ، ولم يدخل في حديثهم بعد الشيء الكثير من الحديث المدسوس ، ولم يشق على الفقهاء الرجوع إلى الائمة عليهم السلام للسؤال فيما يعرضهم من حاجة ، أو ما يعرض الناس فلم تظهر حاجة ملحة إلى اتخاذ مقاييس للرأي والاجتهاد ، ومقاييس لمعالجة الاحاديث المتعارضة ، ومعرفة السقيم منها عن الصحيح ، ولم يراجعوا الائمة في شيء من ذلك ، ولذلك كان البحث الفقهي في هذا الدور يقطع مراحل حياته الاولى.
    وبما تقدم يمكننا أن نحدد ملامح هذا العصر في الخطوط الثلاثة التالية :
    1 ـ قلة المدونات الحديثية واضطرابها في الجمع والتبويب فيما عدا مدونة أمير المؤمنين عليه السلام.
    2 ـ عدم تبلور مسائل الخلاف المقارنة بين المذاهب الاسلامية بصورة واضحة.
    3 ـ عدم اتخاذ مقاييس للاجتهاد والفتيا فيما لا نص في مورده وعدم الابتلاء بالاحاديث الفقهية المتعارضة.
رياض المسائل ـ الجزء الأول ::: فهرس