|
|||
(31)
أكبر أثر تركه الشيخ الكليني من بعده هو موسوعته الحديثية الكبرى « الكافي » في الاصول والفروع ، وكان تأليف الكافي أول محاولة من نوعها لجمع الحديث وتبويبه ، وتنظيم أبواب الفقه والاصول.
يقول هو رحمه الله في مطلع كتابه : كتاب كاف يجمع من جميع فنون علم الدين ما يكتفي به المتعلم ، ويرجع إليه المسترشد ، ويأخذ منه من يريد علم الدين ، والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السلام (1). لقد كان كتاب « الكافي » محاولة رائدة اولى لجمع وتنظيم أبواب الفقه والاصول ، وقد جمع رحمه الله في موسوعته هذه ما صح لديه من أحاديث الائمة الهداة عليهم السلام. ولذلك كله كان هذا الكتاب فتحا كبيرا في عالمتدوين الحديث وموضع عناية فائقة من قبل الفقهاء من بعده. يقول عنه الشيخ المفيد : من أجل كتب الشيعة،وأكثرها فائدة (2). ويقول عنه الشهيد كما في إجازته لابن الخازن : كتاب الكافي في الحديث الذي لم يعمل مثله (3). 3 ـ ابن قولويه : أبو القاسم جعفر بن محمد بن جعفر بن موسى بن قولويه ( 285 ـ 368 ه ) ، كان من تلامذة الكليني والراوين عنه (4) واستاذ أبي عبد الله المفيد (5). قال عنه النجاشي : كان من ثقات اصحابنا وأجلائهم في الحديث 1 ـ اصول الكافي : ج 1 ص 1 ـ 8. 2 ـ تصحيح الاعتقاد : ص 27. 3 ـ بحار الانوار : ج 25 ص 67. 4 ـ راجع مقدمة الدكتور حسين علي محفوظ على الكافي : ص 24. 5 ـ الكنى والالقاب : ج 1 ص 379. (32)
والفقه ... وكل ما يوصف (1) به الناس من جميل وثقة وفقه فهو فوقه ، له كتب حسان (2) عد منها جملة كبيرة.
4 ـ آل ابن بابويه : من بيوتات الفقه والحديث في قم ، وموضع عناية خاصة من الحجة القائم عجل الله تعالى فرجه ونوابه ، ومن فقهاء الشيعة ومحدثيهم ، وقد كان والد الشيخ الصدوق علي بن بابويه القمي من رؤساء المذهب وفقهائهم الكبار. يقول عنه العلامة في الخلاصة : شيخ القميين في عصره وفقيههم وثقتهم (3). وذكر ابن النديم في الفهرست أن الصدوق ذكر مائتي كتاب لوالده علي بن الحسين (4). وهذا رقم كبير يشير إلى وجود حركة فكرية قوية ، ونشاط ملموس في هذه الفترة في التأليف والتدوين في مدرسة قم وري. كان ولداه أبو جعفر محمد ( المشتهر بالصدوق ) وأبو عبد الله حسين ( أخو الصدوق ) من كبار فقهاء الشيعة ومحدثيهم. قال عنهما الشيخ في الغيبة : فقيهان ماهران يحفظان ما لا يحفظ غيرهما من أهل قم. وقد وجد هذان الاخوان من عناية آل بويه وبصورة خاصة ركن الدين والوزير الصاحب بن عباد ما كان يبعثهما على التأليف والكتابة والبحث الفقهي ، فقد كتب أبو عبد الله الحسين للصاحب بن عباد كثيرأ من مؤلفاته ، ودون الصدوق له مجموعته الحديثية الكبيرة « عيون أخبار الرضا ». 1 ـ المرادان كل ما يوصف به الناس المبرزون من علم وفضل وتقى وشجاعة فهو فوقهم جميعا في هذه الخصال. 2 ـ رجال النجاشي : ص 123 تحت رقم 318. 3 ـ نامه دانشوران 1 : ص 2. 4 ـ فهرست ابن النديم : ص 291. (33)
وكان للصدوق كما يذكر العلامة نحو من ثلاثمائة مؤلف (1) ذكر اسم كثير منها في كتابه الكبير.
ولو ضم هذا العدد الضخم إلى مؤلفات والده في الفقه والحديث لدل على وجود نشاط فكري وفقهي كبير في هذه المدرسة ، وفي هذا البيت بالخصوص بيت ( ابن بابويه ). وكتاب « من لا يحضره الفقيه » هي الموسوعة الحديثية الجامعة الثانية التي الفت في الفقه في هذه الفترة بمدرسة قم وري. وقد حاول الصدوق في موسوعته هذه أن يجمع أبعاد الفقه وينظمه في كتاب ، ويجمع ما صح لديه من أحاديث فيه ، ويجعله في متناول الفقيه أو في متناول من لا يحضره الفقيه من العامة حينما تعرضه مسألة من المسائل من نحو كتاب « من لا يحضره الطبيب » لمحمد بن زكريا (2). وأحصيت أحاديث الكتاب فكانت خمسة آلاف وتسعمائة وثلاث وستون حديثا. ومهما يكن من أمر فقد كان الكتاب فتحا ثانيا في تدوين الحديث وجمعه بعد تأليف الكافي ، ولا نريد أن نستقصي أسماء فقهاء ومحدثي هذه المدرسة ، فإن ذلك يؤدي بنا إلى أن نخرج عن حدود الدراسة التي نحن بصددها. ويكفي القارئ أن يراجع كتاب « مجالس المؤمنين » للقاضي نور الله التستري ليلمس سعة هذه المدرسة وضخامتها ، وما أنشأت هذه المدرسة من كبار الفقهاء والمحدثين ، وما خلفته من موسوعات فقهية وحديثية وتراث فكري ضخم. 1 ـ الكنى والالقاب : ج 1 ص 221. 2 ـ راجع من لا يحضره الفقيه : ج 1 ص 3. (34)
ملامح المدرسة :
وبعد أن لمس القارئ في حدود ما تقدم من حديث ، حدود هذه المدرسة وضخامتها وسعتها ، وبعض فقهائها البارزين ، وبعض التراث الفقهي والحديثي الذي خلفته لنا هذه الفترة ننتقل به إلى استخلاص ملامح هذه المدرسة ، ودراسة الميزات التي تميزت بها هذه المدرسة عن المدارس السابقة عليها ، وما قدمته هذه المدرسة من أثر في تطوير البحث الفقهي. وأولى هذه الملامح وأهمها التوسعة في تدوين الحديث وتجميعه وتنظيمه. فقد كان تدوين الحديث قبل هذه الفترة كما أشرنا إليه في الحديث عن العصر الثاني لا يتجاوز عن التدوين الشخصي لما سمعه الراوي من الامام مباشرة أو بصورة غير مباشرة ، مبعثرة حينا ومنتظمة في بعض الاحيان. ولم يتفق لاحد من المحدثين والفقهاء في العصر الثاني أن يجمع ما صح في الاحكام من الاحاديث عن أهل البيت عليهم السلام وينظم ذلك ، كما لوحظ في المجموعتين الحديثيتين اللتين خلفتهما هذه المدرسة وهما : « الكافي ، ومن لا يحضره الفقيه ». وهذه الخطوة ـ خطوة جمع الاحاديث وتنظيمها ـ تعد من حسنات هذه المدرسة ، فقد كثرت حاجة الفقهاء إلى مراجعة الروايات والاحاديث حين الحاجة ، وكانت الاحاديث منتشرة بصورة غير منظمة من حيث التبويب والجمع في آلاف الكتب والاصول والرسائل التي خلفها أصحاب الائمة ومحدثو الشيعة ، ولم يكن من اليسير بالطبع الالمام بما ورد من أحاديث المسألة الفقهية لكل أحد ، فكانت محاولة الجمع والتبويب في هذه الفترة لسد هذه الحاجة. وظهر في هذه الفترة لون جديد من الكتابة الفقهية ، وهي الرسائل الجوابية فقد كان أتباع مدرسة أهل البيت يسألون الفقهاء من أطراف العالم الاسلامي ما تمس إليه الحاجة من المسائل بشكل استفسار ، فكان الفقهاء يجيبون على (35)
هذه الاسئلة. وقد يطول الجواب ، ويستعرض المجيب الاحاديث الواردة في الباب ،
فيكون الجواب رسالة فقهية جوابية صغيرة في المسألة الفقهية.
وفي فهارس كتب الشيعة كالذريعة ورجال النجاشي ، وغيرهما يجد الباحث آلاف الرسائل الفقهية من هذا القبيل. وكان لشيوع هذا اللون من الكتب الفقهية دور كبير في تطوير البحث الفقهي في هذه الفترة ، فكان الفقيه يبحث المسألة ، وقد يلقيها على طلابه في مجلس الدرس ، ويستعرض ما ورد فيها من أحاديث ، فكانت نقطة بداية للرأي والنظر والتعميق والتدقيق في المسألة الفقهية. ومع ذلك فقد كان البحث الفقهي في هذه الفترة يقضي مراحل نموه الاولية ، ولم يقدر له بعد أن يبلغ حد المراهقة ، فكانت الرسائل الفقهية في هذه المدرسة لا تتجاوز عرض الاحاديث من غير تعرض للمناقشة والاحتجاج ونقد الآراء وبحثها ، وتفريع فروع جديدة عليها. ولم يتجاوز البحث الفقهي في الغالب حدود الفروع الفقهية المذكورة في حديث أهل البيت عليهم السلام ، ولم ينهض الفقهاء بصورة كاملة لتفريع فروع جديدة للمناقشة والرأي. وكانت الفتاوى في الغالب نصوص الاحاديث مع إسقاط الاسناد وبعض الالفاظ في بعض الحالات. ومن لاحظ ما كتبه علي بن بابويه القمي ( والد الصدوق ) في رسالته التي كتبها إلى ولده يذكر فيها فتاواه ، وما كتبه الصدوق كالمقنع والهداية ، وما كتبه جعفر بن محمد بن قولويه ، وغيرهم من هذه الطبقة يطمئن إلى أن النهج العام في البحث الفقهي في هذه الفترة لم يتجاوز حدود عرض ما صح من الروايات والاحاديث ، رغم توسع المدرسة في هذه الفترة ، وتلك هي أهم ملامح مدرسة قم وري في هذه الفترة. (36)
في القرن الخامس الهجري انتقلت المدرسة من قم وري إلى بغداد ـ حاضرة العالم الاسلامي عامة ـ وكان لهذا الانتقال أسباب عديدة :
الاول : ضعف جهاز الحكم العباسي ، حيث ضعفت سيطرتهم في هذه الفترة ، ودب الانحلال في كيان الجهاز ، فلم يجد الجهاز القوة الكافية لملاحقة الشيعة والضغط عليهم ، كما كان يفعل من قبل المنصور والرشيد والمتوكل والمعتصم وأضرابهم من الخلفاء العباسيين. فوجد فقهاء الشيعة مجالا للظهور ونشر فقه أهل البيت وممارسة البحث الفقهي بصورة علنية. الثاني : ظهور شخصيات فقهية من بيوتات كبيرة ، كالشيخ المفيد والسيد المرتضى ، فقد كان هؤلاء يستغلون مكانة بيوتهم الاجتماعية ، ومكاناتهم السياسية في نشر فقه أهل البيت وتطوير دراسة الفقه. الثالث : توسع المدرسة وازدهارها مما أدى بها إلى الانتقال إلى بغداد ـ حاضرة العالم الاسلامي في ذلك الوقت ـ وقد كانت هذه البيئة الجديدة صالحة لتقبل هذه المدرسة ، وتطويرها وخدمتها. فهي مركز ثقافي كبير من مراكز الحركة العقلية في العالم الاسلامي ، يقطنها الآلاف من الفقهاء والمحدثين ، وفيها الآلاف من المدارس والمكاتب والمساجد التي كان يحتشد فيها جماهير الطلاب والمدرسين والعلماء كل يوم للدرس (37)
والمطالعة والبحث والمناقشة ، فكان لانتقال المدرسة إلى هذا الجو الفكري على يد
علماء كبار أمثال المفيد والمرتضى والطوسي أثر كبير في الحركة الفكرية القائمة في حينه ، فقد تكاملت مدرسة الفقه الشيعي في قم وري وتأصلت ، وظهرت ملامح الاستقلال عليها وتبلورت أصولها وقواعدها في بغداد.
ورغم كثرة مدارس البحث الفقهي في بغداد في ذلك الحين فقد كانت مدرسة أهل البيت عليهم السلام أوسعها وأعمقها جذورا واصولا ، واكثرها تأصلا واستعدادا ، وأقومها في الاستدلال والاحتجاج. وكل ذلك كان يبعث طلاب الفقه على الالتفات حول هذه المدرسة أكثر من غيرها. فقد كان يحضر درس الشيخ الطوسي حوالي ثلاثمائة مجتهد من الشيعة. ومن العامة ما لا يحصى (1). ومن المستحسن بنا ـ ونحن بصدد دراسة الفقه الشيعي في هذا العصر أن نمر سريعا على تراجم ألمع فقهاء هذه الدورة : 1 ـ الشيخ المفيد : أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان المفيد البغدادي ، ولد في « عكبرا » وانتقل منها في أيام صباه إلى بغداد بصحبة والده ، ونشأ في بغداد ، وتفرغ منذ نعومة أظفاره لطلب العلم ، فعرف وهو بعد صغير يرتاد حلقات الدراسة بالفضل والنبوغ. ومما يذكر في نبوغه أنه حضر في مفتتح حياته الدراسية في بغداد عند الشيخ أبي ياسر بباب خراسان من مشايخ السنة ، فأفحم الشيخ في الدرس ، فأرجعه الشيخ أبو ياسر إلى الشيخ الرماني وكان من كبار علماء السنة في بغداد ، وجلس التلميذ الصغير في زاوية من المجلس يستمع إلى درس الشيخ ، وحين ختم الشيخ 1 ـ راجع مقدمة الشيخ آغا بزرك الطهراني على التبيان : ص ( د ). (38)
الرماني درسه سأل رجل من البصرة عن حديثي الغدير والغار ، فقال الرماني له :
حديث الغدير رواية ، وحديث النار دراية ، ولا تقدم الرواية على الدراية ... فسكت السائل ولم يحر جوابا. فتقدم التلميذ الناشئ وهو في آخر المجلس إلى الشيخ واخترق إليه الصفوف وقال له : ماذا تقول في الذي يخرج على إمام زمانه ؟ فقال له الشيخ : كافر ، ثم استدرك فقال : فاسق. فقال المفيد : فإذا تقول في إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ؟ قال له الشيخ : لا شك في إمامته. فقال : فماذا تقول في خروج طلحة والزبير عليه ؟ فقال له الرماني ـ وهو مأخوذ بنباهة هذا الطالب الناشئ الذي يلتقيه لاول مرة في مجلس الدرس ـ : إنهما تابا بعد ذلك. فقال المفيد ـ وقد تمكن من استاذه ـ : إن توبتهما رواية ، وحربهما للامام دراية ، ولا ترفع اليد بالرواية عن الدراية. فتضايق الشيخ الرماني أمام تلاميذه وافحم ، ولم يحر جوابا أمام التلميذ الناشئ ، فاستبقاه في المجلس وسأله عن شيوخه ودرسه ، وكتب رقعة إلى استاذه أبي ياسر يعرفه بقيمة تلميذه الناشئ ولقبه ب « المفيد » وعرف من ذلك الوقت بالمفيد (1). ومهما يكن من أمر فقد ظهر الشيخ المفيد في مدة قليلة على أقرانه ، وحفه شيوخه وأساتذته ـ كالشيخ الصدوق وغيره ـ بعنايتهم لما لمسوا فيه من مؤهلات وقابليات يندر وجودها في غيره. واستقل الشيخ المفيد بالتدريس في بغداد وهو بعد لم يتجاوز سني 1 ـ راجع مجالس المؤمنين : ج 1 ص 464. (39)
الشباب ، وتفرغ للفقه والكلام ، وكان يحضر مجلس درسه آلاف الطلاب ، من الشيعة
والسنة ، وبرز من تلاميذه رجال كبار ، أمثال : السيد المرتضى والشيخ الطوسي ، تابعوا أستاذهم المفيد في توسعة المدرسة وتطويرها ، وإدخال تغييرات جديدة عليها.
وقد قدر للشيخ المفيد أن يكون رائدا فكريا لهذا العصر من عصور الفقه الاسلامي. وأن يدخل تغييرات وتحسينات كثيرة على الفقه ويطور من مناهجه وقواعده. ومن بعده كان تلاميذه وتلاميذ تلاميذه يعترفون له بهذا الحق. يقول العلامة الحلي في شأنه : من أجك مشايخ الشيعة ورئيسهم واستاذهم ، وكل من تأخر عنه استفاد منه ، وفضله أشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية (1). وقد أحصى له السيد الامين قريبا من مائتي كتاب ورسالة في الفقه والكلام والحديث. ومن استعراض حياة المفيد يستظهر الباحث أن الشيخ المفيد استطاع أن يغير الجو الفكري في بغداد ـ حاضرة العالم الاسلامي يومذاك ـ وأن يدير ندوات الفقه والكلام ، ويجذب طلاب العلم حتى كاد أن يغطي المدارس الفقهية والكلامية الاخرى ، والفقهاء والمتكلمين من أتباع سائر المذاهب. وقد كان الفقهاء والمتكلمون يقصدونه من أقطار بعيدة ، وكان بيته ندوة عامرة بحديث الفقه والكلام ، والنقاش والاخذ والرد. ويبدو أن ذلك كله جعل ظله ثقيلا على المذاهب الكلامية والفقهية الاخرى ، وعلى جهاز الحكم الذي كان يدعو إلى مقاطعة مدرسة أهل البيت بصورة خاصة. ويلمح الباحث هذا الاحساس من عبارة الخطيب الجافية في 1 ـ أعيان الشيعة : ج 6 ص 20. (40)
تعريف الشيخ.
قال الخطيب في تاريخ بغداد : محمد بن محمد بن النعان أبو عبد الله المعروف بابن المعلم شيخ الرافضة والتعلم على مذاهبهم ، صنف كتبا كثيرة فيإضلالهم ، والذب عن اعتقاداتهم ومقالاتهم ، والطعن على السلف الماضين من الصحابة والتابعين ، وعامة الفقهاء والمجتهدين ، وكان أحد أئمة الضلال ، هلك به خلق من الناس إلى أن أراح الله المسلمين منه (1). وقال عنه اليافعي في مرآة الجنان : عالم الشيعة وإمام الرافضة ، صاحب التصانيف الكثيرة ، المعروف بالمفيد وبابن المعلم أيضا ، البارع في الكلام والجدل والفقه ، وكان ينازع كل عقيدة بالجلالة والعظمة ، ومقدما في الدولة البويهية. وكان كثير الصدقات ، عظيم الخشوع ، كثير الصلاة والصوم ، حسن اللباس. وكان عضد الدولة ربما زار الشيخ المفيد ، وكان شيخا ربعة نحيفا أسمر عاش ستا وسبعين سنة ، وله أكثر من مائتي مصنف ، كان يوم وفاته يوما مشهودا ، وشيعه ثمانون ألفا من الرافضة والشيعة ، وأراح الله منه أهل السنة والجماعة (2). ومهما كانت عبارات الاطراء والجرح فقد اتيح للشيخ المفيد أن يكون مجددا في الفقه والكلام. في هذه الدوره ، وأن يطبع مدرسة أهل البيت في الفقه بطابع الجلالة والاحترام ، وأن يفرض وجودها على أجواء بغداد الفكرية ، وهي يومذاك من أهم مراكز الحركة العقلية في العالم الاسلامي ، وأن يكون رائدا للمدرسة ، ومربيا لاساتذتها وعلمائها. 2 ـ السيد المرتضى : تلمذ المرتضى علم الهدى وأخوه الرضي على الشيخ المفيد وعنى بهما الشيخ 1 ـ تاريخ بغداد : ج 3 ص 231. 2 ـ مجالس المؤمنين : ج 1 ص 466. (41)
عناية فائقة ، وتفرغ المرتضى في الفقه بجانب تخصصه في الادب ، حتى كان عز الدين
أحمد بن مقبل يقول : لو حلف إنسان أن السيد المرتضى كان أعلم بالعربية من العرب لم يكن عندي آثما (1).
وإلى جانب مؤهلات السيد المرتضى الفكرية وجهده الكبير في طلب العلم وعناية استاذه الشيخ المفيد به يجب أن نذكر مكانة أسرته الاجتماعية والسياسية والعلمية ببغداد. ولم يتوف استاذه الاكبر ـ المفيد ـ حتى خلفه ، وتولى بنفسه مهمة التدريس وزعامة الطائفة ، واحتشد حوله الطلاب ، وكان يجري عليهم حقوقا تختلف حسب مكانة الطالب منه ومؤهلاته. وحاول السيد المرتضى أن يتابع خطوات استاذه المفيد في تطوير مناهج الفقه ودراسة الاصول ، فاوتي حظا وافرا في هذا المجال ، وتابع خطوات المفيد ، وطور كثيرا من مناهج الفقه ، وكتب الاصول ودرسها. وربما يصح اعتباره من أسبق من ارتاد هذا الحقل من حقول الفكر الاسلامي ، وفتح كثيرا من مسائل الاصول ، وبنى الفروع على الاصول. وكتابه « الذريعة » خير شاهد على ما نقول ، فمن يقرأ الذريعة يجد فيه الملامح الاولية لنشوء الاصول. وقد أحصى له السيد الامين ـ قدس سره ـ في الاعيان ما يقرب من تسعين مجلدا من مؤلفاته مما عثر على اسمه. ومما يدل على جلالة مكانة السيد العلمية ما حكاهالقاضي التنوخي صاحب السيد ، فقال : إن مولد السيد سنة 355 ه ، وخلف بعد وفاته ثمانين ألف مجلد من مقروءاته ومصنفاته ومخطوطاته (2). 1 ـ أعيان الشيعة : ج 41 ص 190. 2 ـ المؤرخ الجليل الشيخ آغا بزرك الطهراني في مقدمته عل التبيان : ص ( ج ـ د ). (42)
3 ـ الشيخ الطوسي :
ولد شيخ الطائفة في طوس في شهر رمضان سنة 385 بعد أربع سنين من وفاة الشيخ الصدوق ، وهاجر إلى العراق فهبط بغداد سنة 408 وهو ابن ثلاث وعشرين سنة ، وكانت زعامة المذهب الجعفري يومذاك لشيخ الامة وعلم الشيعة محمد بن محمد بن النعمان الشهير بالشيخ المفيد فلازمه ملازمة الظل. وعكف على الاستفادة منه ، وأدرك الشيخ الحسين بن عبيد الله ابن الغضائري المتوفى سنة 411 ، وشارك النجاشي في جملة من مشايخه. وبقي على اتصاله بشيخه حتى اختار لاستاذه دار بقائه في سنة 413 فانتقلت زعامة الدين ورئاسة المذهب إلى علامة تلاميذه علم الهدى السيد المرتضى ، فانحاز شيخ الطائفة إليه ، ولازم الحضور تحت منبره ، وعنى به المرتضى ، وبالغ في توجيهه وتلقينه ، واهتم له أكثر من سائر تلاميذه ، وعين له كل شهر اثني عشر دينارا ، وبقي ملازما له طيلة ثلاث وعشرين سنة حتى توفي السيد المعظم سنة 436 ، فاستقل شيخ الطائفة بالامامة ، وظهر على منصة الزعامة ، وأصبح علما للشيعة وناشرا للشريعة ، وكانت داره في الكرخ مأوى الامة ومقصد الوفاد ، يأتونها لحل المشاكل وإيضاح المسائل ، وقد تقاطر عليه العلماء والفضلاء للتلمذة عليه والحضور تحت منبره ، وقصدوه من كل بلد ومكان ، وبلغت عدة تلاميذه ثلاثمائة من مجتهدي الشيعة ، ومن العامة مالا يحصى كثرة (1). وقد نشأ الشيخ الطوسي على يد علماء كبار وشيوخ أجلاء في الفقه ، فحضر درس ابن الغضائري ، ولازم الشيخ المفيد خمس سنوات ، ولازم المرتضى ثلاث وعشرين سنة. وكان للمفيد والمرتضى أثر كبير في تكوين ذهنية الشيخ الطوسي وثقافته. 1 ـ المؤرخ الجليل الشيخ آغا بزرك الطهراني في مقدمته على التبيان : ص ( ج ـ د ). (43)
وكان في هذه الفترة يعيش تجربة تطوير البحث الفقهي والاصولي في ظل أستاذيه الكبيرين ، وكانت فترة مخاض تمخضت عنها المدرسة الفقهية الجديدة.
وفترة المخاض عادة تقترن بكثير من الاضطراب والقلق الفكري وعدم الاستقرار. عاش الشيخ مخاض هذه المدرسة في حياة استاذيه الكبيرين وعانى ما تتطلب هذه الفترة من جهد وتعب. واستمر بعد استاذيه في تطوير المدرسة بعد أن بلغتفي حياة المرتضى دور المراهقة ، وتسلم الشيخ المدرسة عن استاذه المرتضى فيهذاالدور. ولا يختلف هذا الدور فيما يصيب القائمين بها من تعب وجهد ، واضطراب فكري دائم ، وعدم استقرار عن دور المخاض. وكذلك كانت حياة الشيخ الطوسي في مرحلتي التلمذه والتدريس سلسلة طويلة من المحاولات التجديدية لتطوير الفقه وصياغته من جديد ، وتجديد اصول الصناعة والصياغة والاستدلال فيه. ولاقى الشيخ الطوسي في سبيل ذلك كثيرا من التعب والجهد وأعانه على ذلك صبره على العمل ، ومواصلته للتأليف والتدريس والتفكير ، ومؤهلاته الفكرية الخاصة ، ونبوغه الذهني ، وعناية أستاذيه به ، وتوفر الكتب لديه. وقد أنعم الله على شيخنا الطوسي بهذه النعم كلها ، فقد كانت في متناول الشيخ مكتبتان كبيرتان يستعين بهما في التأليف والمطالعة والالمام بأمهات الكتب الفقهية : إحداهما ( مكتبة الشيعة ) التي أنشأها أبو نصر سابور بن اردشير وزير بهاء الدولة البويهي ، جمع فيها ما تفرق من كتب فارس والهند واستكتب تآليف أهل الهند والصين والروم ، وأهدى إليها العلماء كتبهم ، فكانت من أغنى مكاتب بغداد ، وقد أمر بإحراقها ( طغرل بيك ) فيما أحرق من مؤسسات الشيعة وبيوتهم ومدارسهم في الكرخ. (44)
ثانيتهما ( مكتبة أستاذه السيد المرتضى ) التي كانت تحتوي على ثمانين ألف كتاب ، والتي لازمها ثماني وعشرين سنة.
كل هذه العوامل ، وعوامل اخرى أدت إلى نشوء الشيخ الطوسي وتكوين ذهنيته ، وثقافته الواسعة. وقد انتقل الشيخ الطوسي إلى النجف الاشرف سنة 448 ه حينما كبس على داره وأخذ ما وجد من دفاتره وكرسي كان يجلس عليه للكلام كما يقول ابن الجوزي. وظل بالنجف يمارس مهمته في زعامة الشيعة والتدريس والتأليف وتطوير مناهج الدراسة الفقهية اثني عشر سنة حتى أن آثره الله لدار لقائه في محرم سنة 460 ه عن خمس وسبعين سنة. ومهما كان من أمر فقد أتيح للشيخ الطوسي أن يبلغ بالمدرسة التي فتح أبوابها استاذيه المفيد والمرتضى إلى القمة ، ويفرض وجودها على الاجواء الثقافية في بغداد وفي العراق عامة. حتى أن الخليفة القائم بأمر الله بن القادر بالله جعل له كرسي الافادة والبحث ، وكان لهذا الكرسي مقام كبير يومذاك ببغداد. وقدر له لاول مرة أن يفتح باب الاجتهاد المطلق ، والنظر والرأي على مصراعيه واسعا ، وأن ينظم مناهج الاستنباط والاجتهاد ، ويؤصل الاصول ، ويضع مناهج البحث للاصول ، ويفرع المسائل ، ويضع أصول الدراسة في الفقه ، وعشرات من أمثالها مما قدمه الشيخ للطوسي إلى المدرسة الفقهية من الخدمات وقد ذكر العلامة الجليل الشيخ آغا بزرك ( سبعا وأربعين مؤلفا للشيخ مما وصل إليه من أسماء مصنفاته ). ملامح المدرسة : ومما تقدم تبين للباحث أن ( مدرسة بغداد ) كانت فتحا جديدا في عالم (45)
البحث الفقهي بصورة عامة ، فقد كان البحث الفقهي ـ كما استعرضنا ملامحه بإجمال ـ في مدارس ( المدينة والكوفة وقم ) لا يخرج عن حدود استعراض السنة ونقل الحديث ، ولم يبلغ رغم تطور الدرسة في عهودها الثلاثة مرحلة الرأي والاجتهاد.
ولم نلمس في هذه العهود الثلاثة ملامح عن الصناعة الفقهية والاصولية فيما بين أيدينا من آثار عصور الفقه الثلاثة الاولى بشكل ملموس واضح الملامح. ولاول مرة يلمس الباحث آثار الصناعة والصياغة الفنية ، والاجتهاد والرأي والتفريع في كتابات هذا العصر ، ولا سيما كتب المرتضى الاصولية وكتب الشيخ الفقهية والاصولية. ولو حاول الباحث أن يدمج العصور الاولى بعضها في بعض ، ويعتبر هذه الفترة فاتحة عصر جديد ومدرسة جديدة في الفقه لم يبتعد كثيرا عن الصواب. ومهما يكن من أمر فلنحاول أن ندرس ملامح هذه المدرسة مرة اخرى ، ليتاح لنا أن نقيس بدقة أبعاد هذه المدرسة ، ونضع لها حدودا تفصلها عن المدارس السابقة عليها واللاحقة لها. واولى هذه الملامح أن الفقه خرج في هذا الدور عن الاقتصار على استعراض نصوص الكتاب ، وما صح من السنة إلى معالجة النصوص ، واستخدام الاصول والقواعد ، فقد كانت مهمة البحث الفقهي في الادوار السابقة عرض النصوص وفهمها وتذوقها. ولامر ما يطلق على هذا العلم اسم « الفقه »، فالفقه هو الفهم ، ومهمة الفقيه قبل هذه المرحلة ما كانت تتجاوز في الاعم الاغلب فهم النصوص الصحيحة وتذوقها. وفي هذه المرحلة انقلبت عملية الاستنباط إلى صناعة عملية لها اصولها وقواعدها ، وانفصل البحث الاصولي عن البحث الفقهي وأفرد بدراسات ومطالعات خاصة ، وقام البحث الفقهي على نتائج هذه الدراسات والمطالعات |
|||
|