(21)
الجامعة فيها الحلال والحرام ... كيف يصنع عبدالله إذا جاء الناس من كل اُفق ويسألونه؟ » (1).
الخامس عشر : روي في كتاب الاختصاص عن حمزة بن يعلى عن احمد بن النضر عن عمرو بن شمر عن جابر عن الامام الباقر ( عليه السلام ) قال : « يا جابر إنّا لو كنّا نحدّثكم برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسولالله ( صلى الله عليه وآله ) كما يكنز هؤلاء ذهبهم وورقهم » (2).
الخلاصة : ان كثيراً من الروايات المتقدمة مختلفة من ناحية السند في تمام الطبقات ، كما ان بعضها عن الامام الصادق وبعضها عن الامام الباقر وبعضها عن الامام الرضا وبعضها عن الامام الحسين ( عليهم السلام ) ، وبعضها عن رسولالله ( صلى الله عليه وآله ) ; فهي تورث القطع بمضمونها الذي يقول : « ان كل ما يقوله الائمة هو عن رسولالله ( صلى الله عليه وآله ) ; إما قد كُتِبَ عندهم بواسطة الكتب التي ورثوها عن آبائهم ، أو تعلّموه من آبائهم ورووه الى الناس لأجل ان تتضح معالم الشريعة المستفادة من القرآن الكريم وسنّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ». واذا كان حديث كل إمام من الائمة الاثنيعشر ، هو عن آبائه عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) حسب الروايات المتقدمة فيجب التسليم لهذه الاحاديث والأخذ بها ، ولذا قال ( الامام ) أحمد وهو يعلّق على حديث الامام الرضا ( عليه السلام ) عن آبائه حين مرَّ بنيسابور : « لو قرأتُ هذا الاسناد على مجنون لبرىء من جنته ».
    ومن هذا الذي تقدم نفهم ان خطّ أهلالبيت قد تحمل العبء الثقيل في نشر سنّة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وحفظها من الضياع في مقابل الخط الآخر ، الذي كان يرى في حفظ أو نشر السنّة النبوية اختلاط القرآن بغيره ، فصدرت النواهي عن كتابة الحديث النبوي أو نشره بين الاُمة.
     (1) بصائر الدرجات ج3 : ص147 ، باب 14 ، ح19.
     (2) بحار الانوار : ج 26 : ص28.

(22)
لماذا لم يكن لروايات كتاب علي ( الجامعة ) ذكر في كتب أهل السنّة ؟
    وقد يتساءَل المتسائل المنصف عن علّة عدم وجود أثر للروايات التي ترويها الشيعة ( وهي متواترة ) عن كتاب علي ( عليه السلام ) الذي كتبه بيده بإملاء رسولالله ( صلى الله عليه وآله ) والذي فيه كل حلال وحرام الى يوم القيامة ، بل وجد ما يخالف هذه الروايات وينفيها ويثبت كتاباً لعلي ( عليه السلام ) صغيراً موجوداً في ذؤابة سيفه قد املاه عليه رسولالله ( صلى الله عليه وآله ). وقد ذكر هذه الروايات النافية لكتاب علي ( الجامعة ) كل من البخاري ومسلم وذكرت ايضاً في مسند أحمد وفي سنن البيهقي وسنن النسائي. واليك خلاصتها كما في البخاري بحاشية السندي :
1 ـ قال البخاري : حدّثنا محمد بن سلام قال اخبرنا وكيع عن سفيان عن مطرف عن الشعبي عن أبي حجيفة ، قال : « قلت لعلي : هل عندكم كتابٌ؟ قال : لا ، إلاّ كتاب الله ، أو فهمٌ اُعطيَهُ رجل مسلم أو ما في هذه الصحيفة. قال : قلت فما في هذه الصحيفة؟ قال : العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلمٌ بكافر » (1).
2 ـ قال البخاري : حدّثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن الاعمش عن ابراهيم التيمي عن أبيه عن علي ( رضي الله عنه ) قال : « ما كتبنا عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) الاّ القرآن وما في هذه الصحيفة. قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) المدينة حرام ما بين عائر الى كذا ، فمن أحدث حدثاً أو آوى مُحدِثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه عدل ولا صرف. وذمة المسلمين واحدة ، يسعى بها أدناهم ، فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل ، ومن والى قوماً بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل » (2).
    (1) صحيح البخاري : ج1 ، ص31 ـ 32 ، باب كتابة العلم.
     (2) المصدر السابق : ج2 ، ص205 ، باب إثم من عاهد ثم غدر.

(23)
3 ـ وروى البخاري : قال : حدّثنا صدقة بن الفضل أخبرنا ابن عيينة حدّثنا مطرف قال سمعت الشعبي قال سمعت أبا جحيفة قال : « سألت عليّاً ( رضي الله عنه ) : هل عندكم شيء ما ليس في القرآن؟ ( وقال مرة ماليس عند الناس؟ ). قال : والذي فلق الحبّ وبرأ النسمة ما عندنا إلاّ ما في القرآن الا فهماً يُعطى رجل في كتابه وما في الصحيفة. قلت : وما في الصحيفة؟ قال : العقل وفكاك الأسير وان لا يقتل مسلم بكافر » (1).
4 ـ وروى البخاري : قال : حدّثنا عمر بن حفص بن غياث حدّثنا أبي حدّثنا الأعمش حدثني ابراهيم التيمي حدّثني أبي قال : « خطبنا علي ( رضي الله عنه ) على منبر من آجر وعليه سيف فيه صحيفة معلّقة ، فقال : والله ما عندنا من كتاب يُقرأ إلاّ كتاب الله وما في هذه الصحيفة فنشرها ، فاذا فيها اسنان الابل ، واذا فيها : المدينة حرم من عير الى كذا فمن أحدث فيها حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً. واذا فيها : ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً. واذا فيها : مَنْ والى قوماً بغير اذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً » (2).
5 ـ وفي مسند أحمد : ـ الذي بهامشه منتخب كنز العمال ـ يقول : حدّثنا عبدالله حدّثني ابي حدّثنا هاشم بن القاسم حدّثنا شريك عن مخارق عن طارق بن شهاب قال : شهدت عليّاً يقول : « ... والله ما عندنا من كتاب يقرأ إلاّ كتاب الله وما في هذه الصحيفة ... » (3). وفي حدود تتبعي في كتاب البخاري ومسند أحمد وسنن النسائي وسنن ابن ماجة وسنن البيهقي ، فقد رأيت كل الروايات ترجع الى ثلاثة أسناد :
     (1) المصدر السابق : ج4 ، ص192 و 194 ، باب العاقلة.
     (2) المصدر السابق : ص260.
     (3) مسند أحمد : ج1 : ص100.

(24)
    السند الأول : الذي يكون عن مطرف عن الشعبي عن ابيجحيفة.
    السند الثاني : الأعمش عن ابراهيم التيمي عن أبيه.
    السند الثالث : عن شريك عن مخارق عن طارق بن شهاب.
    ولكن السند الاول والثاني فيهما سفيان فهما رواية واحدة لها اسناد متعددة فلا تخرج عن الخبر الواحد. ورواية الامام احمد هي رواية ثانية لأنَّ سندها يختلف عمّا سبقها ، وفي هاتين الروايتين من لم يوثَّق أو مجهول فلا تصلح لأن تكون حجّة; فأبو جحيفة وهو وهب بن عبدالله السوالي لم يوثّق في الكتب التي رجعت اليها وكذا الشعبي الذي هو عامر بن شرحبيل رغم عدِّه من الفقهاء ، واما ابراهيم التيمي فهو لم يذكر في كتب الرجال التي رجعت اليها ، وكذا لم يوثق كل من شريك وطارق بن شهاب ، ولم أجد لمخارق ذكراً في الكتب التي رجعت اليها ايضاً. ومع هذا فقد يدور في الذهن عدم صحة الروايات المتقدمة في وجود كتاب لعلّي فيه كل حلال وحرام الى يوم القيامة حتى ارش الخدش.
    والجواب :
    1 ـ بعد الاغماض عن سند الروايتين المتقدمتين اللتين فيهما من لم يوثَّق والمجهول ، فان لسانهما وأمثالهما من الروايات التي فيها يمين مغلظة على النفي يدلّ على انّ هناك حديثاً حول كتاب خُصّ به علي ( فيه أحكام الدين وقواعده ) دون بقية المسلمين وكان مشهوراً ، الأمر الذي دعا بعض المسلمين الى السؤال عن هذا الكتاب ( الجامعة ) فنفى هذه الروايات باليمين المغلّظة.
    انظر الى اليمين : « والله ما عندنا من كتاب يُقرأ إلاّ كتاب الله وما في هذه الصحيفة ... » « والذي فلق الحبّ وبرأ النسمة ما عندنا إلاّ ما في القرآن ... وما في الصحيفة ... » وفي رواية : « من زعم ان عندنا شيء نقرؤه إلاّ كتاب الله وهذه الصحيفة فقد كذب » ،


(25)
وانظر الى السؤال عن أبيجحيفة « هل عندكم كتابٌ؟ قال : لا » فهو يدلّ على وجود حديث حول كتاب قد خُصّ به علي ( عليه السلام ). وحينئذ يتوجه السؤال لمن روَوْا هذه الروايات فقط فيقال لهم : ما هي تلك الروايات التي اشتهرت أو دار الحديث حولها؟ لماذا لم تذكروا تلك الروايات التياشتهرت أو دار الحديث حولها؟ لماذا لم تذكروا تلك الروايات التي يُدّعى انّعليّاً ( عليه السلام ) قد كذبها في هذه الروايات كما يدّعي شرّاح الروايات من أبناء السُّنة
    2 ـ ثم لو تنزلنا عمّا تقدم ، يكون أمامَنا طائفتان من الروايات :
    الأولى : تزعم انّ هناك كتاباً خُصّ به علي والائمة من ولده دون بقية الناس ( وهي متواترة كما تقدم ).
    الثانية : تزعم نفي ذلك. فما علينا إلاّ أن نقول : إن الروايات المتواترة توجب علماً بالصدور عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) بخلاف الروايات غير المتواترة فانها لا توجب علماً بالصدور وحينئذ يتعيّن الأخذ بالعلم وترك غير العلم عند التعارض.
    اما عدم ذكر الروايات المتواترة في كتب بعض المسلمين ( أهلالسنّة ) فهو لا يدل على عدم صدورها ولا يقلل من العلم الحاصل من التواتر.
    3 ـ واما سرّ ترك كتب السنّة للروايات المتواترة ( التي تصرّح بوجود كتاب خصّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) به عليّاً دون بقية الناس فيه كل حلال وحرام الى يوم القيامة ) فهو الجوّ الحاكم في ذلك الوقت الذي كان ضدّ أهلالبيت وضدّ عليّ بحيث جعل سبّ عليّ سُنّة تعبّد بها الناس والتزم بها الخطباء وأهل المنابر أكثر من أربعين سنة ، فكُتمت فضائل أهلالبيت وعليّ ووضعت فضائل لغيرهم ممن تسلّم الحكم من قبل مَنْ يهوى الاُمويين والعباسيين. وهذا الجوّ الذي ساد في ذلك الزمان أوجب ان توضع روايات لتغيير ما كان مسموعاً ومألوفاً في حق أهلالبيت ( عليهم السلام ) وتبعدهم عن الساحة السياسية ، كما حدث في زمان معاوية ، خصوصاً اذا علمنا ان مرحلة تدوين الحديث حصلت في تلك الاجواء المعادية لعليّ ( عليه السلام ) وأهل بيته.


(26)
وبهذا يتضح سرّ عدم ذكر الروايات ( القائلة بأنَّ كتاباً أملاه رسولالله ( صلى الله عليه وآله ) وخطّه علي بيمينه بتفاصيلها المتقدمة ) في كتب أهل السّنة ووجدت متواترة في كتب الشيعة الامامية. والظاهر ان هذه الروايات كرواية عكرمة ومقاتل ( في شأن نزول آية التطهير ) حيث كان عكرمة ينادي في السوق (1) و يقول : « من شاء باهلته انّها نزلت في نساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) خاصة » أو يقول : « ليس بالذي تذهبون اليه ، إنّما هو نِساء النبي ( صلى الله عليه وآله ) » (2).
    على ان هذه الروايات التي تذكر كتاب علي ( الجامعة ) لو لم تتم فرضاً فيكفينا الروايات الاُخرى الكثيرة والمتواترة ايضاً القائلة بأنَّ الائمة ( عليهم السلام ) يروون سنّة رسولالله ( صلى الله عليه وآله ) عن آبائهم عن رسولالله ( صلى الله عليه وآله ).

2 ـ الأئمة ( عليهم السلام ) وتشريع الأحكام
    وبعد ان اتّضح خط أهلالبيت في حفظ السنّة النبوية ونشرها يبقى علينا ان نبحث الروايات الواردة في كون الائمة مشرّعين لنرى مدى انسجامها مع الروايات المتقدمة أو عدم انسجامها ، ولكن قبل ذلك لابدّ من بيان :
    1 ـ معنى تشريع الحكم.
    2 ـ تفويض الامر الى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ).
    3 ـ روايات التفويض الى الأئمة ( عليهم السلام ).

     (1) الواحدي ، اسباب النزول : ص268.
     (2) الدرّ المنثور : ج5 ، ص198. وعكرمة : خارجي معاد لعليّ ، ومقاتل : خارجي معاد لعليّ. راجع ترجمتهما في ميزان الذهبي ، وكان مقاتل يقول لأبيجعفر المنصور : « انظر ما يمكن ان اُحدثه فيك حتى احدثه ... ».

(27)
1 ـ معنى تشريع الحكم :
    ان الاحكام الشرعية يمكن تقسيمها الى قسمين :
    أ ـ الاحكام الواقعية.
    ب ـ الاحكام الحكومتية.
    اما الاحكام الواقعية : فهي الاحكام التي شرّعها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أو على لسان نبيّه العظيم وجاء فيها الأثر القائل : « حلال محمد حلال الى يوم القيامة وحرام محمّد حرام الى يوم القيامة ».
    وهذه الاحكام الواقعية تنقسم الى قسمين :
    أولاً : الاحكام الواقعية الأولية.
    ثانياً : الاحكام الواقعية الثانوية.
    اما الاحكام الواقعية الأولية : فيراد بها الاحكام المجعولة للشيء أولاً وبالذات ، أي بلا لحاظ ما يطرأ عليها من عوارض اُخر مثل وجوب الصلاة والصوم وإباحة شرب الماء وإباحة النوم في النهار وحلّية بيع الطعام وحرمة شرب الخمر بالعناوين الأولية ، وما الى ذلك من أحكام واقعية تكليفية أو وضعية.
    واما الاحكام الواقعية الثانوية : فيراد بها ما يجعل للشيء من الاحكام بلحاظ ما يطرأ عليه من عناوين خاصة تقتضي تغيير الحكم الأولي; فالصوم اذا كان مضرّاً بالمكلف ينقلب حكمه الى الحرمة أو عدم الوجوب ، وشرب الماء اذا كان لإنقاذ الحياة يكون واجباً ، والنوم في النهار اذا كان فيه خيانة للجيش الاسلامي يكون محرّماً ، وشرب الخمر اذا كان لإنقاذ النفس من الموت يكون واجباً ، وهكذا أكثر الاحكام الأولية اذا طرأت عليها عناوين ثانوية تبدّل واقعها وحكمها الأولي الى حكم ثانوي. وهذه الاحكام هي أحكام شرعية واردة على موضوعاتها الأولية والثانوية ، لا تتغيّر ولا تتبدّل الى يوم القيامة. فاذا ثبت ان هناك تشريعاً من النبي ( صلى الله عليه وآله ) ( كما هو ثابت ) فهو في هذه الاحكام ، وكذا ما يقال عن


(28)
تشريع الامام المعصوم.
    أما الاحكام الحكومتية : فهي الاحكام التي ترك الاسلام مهمة ملئها الى ولي الأمر الذي يكون على رأس السلطة في الدولة الاسلامية ، سواء كان ولي الأمر هو النبي ( صلى الله عليه وآله ) أو الامام المعصوم أو الفقيه الذي تصدّى لإقامة دولة اسلامية ونجح في ذلك ، وحينئذ يقوم ولي الأمر بتنظيم أحكام تسمى بالأحكام الحكومتية ( تمييزاً لها عن الاحكام الشرعية الواقعية ) حسب المصلحة التي تتطلبها الدولة أو المجتمع الاسلامي في كل زمان. وهذه الاحكام :
    1 ـ ليست لها صفة الثبوت الى الأبد ، بل هي أحكام متحرّكة مؤقتة يمكن تبديلها أو إلغاؤها حسب المصلحة التي يراها ولي الأمر ، لأنها ليست أحكاماً صدرت من ولي الأمر بما انّه مبلِّغ للاحكام العامة الثابتة ، بل صدرت من ولي الأمر بما انّه حاكم وولي على المسلمين.
    2 ـ كما ان هذه الاحكام لا توجد إلاّ على أساس وجود جهاز حاكم يتولى شؤون الدولة الاسلامية ، فيمنح هذه الصلاحية في ايجاد أحكام حكومتية بما تفرضه المصالح والأهداف الاسلامية حسب الظروف التي تعيشها الدولة الاسلامية.
    3 ـ وهذه الاحكام تغطي حاجة تطور علاقات الانسان بالطبيعة أو الثروة عبر الزمن والتي قد تكون مهدِّدة للعدالة الاجتماعية ان لم تكن هناك احكام متحركة يفرضها ولي الأمر; فمثلاً هناك الحكم القائل : « بأنّ من سبق الى معدن فهو أحق به » قد صدر في زمان كان النصّ فيه حكماً عادلاً ، لأن من الظلم ان يساوي بين السابق الى المعدن وغير السابق ، إلاّ أنّ قدرات الانسان السابقة في الاستفادة من المعدن كانت محدودة ، اما في زمان تكون فيه القدرات كبيرة بحيث يمكن لقلّة حرمان الآخرين من الاستفادة من المعادن الكثيرة باستخدام الآلات التقنية المتطورة للسيطرة على المعادن فقد يؤدي الأمرُ الى تزعزع العدالة الاجتماعية في


(29)
الدولة الاسلامية. لهذا جعل الاسلام لوليالأمر صلاحية أن يُشرِّع في منطقة الفراغ ـالتي سنحددها ـ أحكاماً حكومتية مؤقتة تمنع في العصر المتطور من تطبيق : « من سبق الى معدن فهو أحق به ». وهكذا نقول في ما شرّعه الاسلام من حرمة احتكار اُمور معينة في صدر الاسلام ( من الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والملح ) ، اما في زماننا هذا فيمكن لجماعة قد اُتيحت لها قدرة مالية معينة ان تحتكر سلعة معينة كالحديد أو الاسمنت بحيث يرتفع سعرها بما يخيّل بموازين العدالة الاجتماعية ، فيتمكن ولي الأمر أن يتدخل هنا ويمنع من احتكار الحديد أو الاسمنت ويعاقب عليه ، حتى تتمكن الدولة من تنظيم اُمور المسلمين. قال تعالى : ( يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واُولي الأمر منكم ... ) (1)

حدود منطقة الفراغ :
    اما حدود هذه المنطقة التي يملؤها الحاكم الشرعي ورئيس الدولة فهو الفعل المباح تشريعياً بطبيعته ، فيحق لولي الأمر اعطاؤه حكماً بالوجوب أو الحرمة ، وهذا الوجوب أو الحرمة لا يتصف بالبقاء الى يوم القيامة ، بل هو تابع للمصلحة التي يراها ولي الأمر للمجتمع ، فقد يُغيَّر بعد مدّة من الوقت أو يُرفَع حسب ما يراه الحاكم من المصلحة.

المشرِّع هو الله سبحانه وتعالى :
    إن المشرِّع الأول هو الله سبحانه وتعالى ، ويكون دور النبي ( صلى الله عليه وآله ) تبليغ ما شرّعه الله ووصل اليه عن طريق الوحي الى الناس. وهذا ممّا اتفق عليه المسلمون ، وقد ذكرت ذلك الآية القرآنية القائلة : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحيٌ يوحى ) (2) ، والنطق في الآية مطلق ورد عليه النفي ، ومقتضاه نفي الهوى عن مطلق
     (1) النساء : 59.
     (2) النجم : 3 ـ 4.

(30)
نطقه ( صلى الله عليه وآله ) ولكن بقرينة خطابه للمشركين وهم يرمونه ـ في تشريعاته والقرآن الذي يقرؤه على العباد على انه من الله ـ بانه كاذب متقوّل مفتر على الله سبحانه ... الخ ، كان المراد بقرينة المقام انه ( صلى الله عليه وآله ) ما ينطق عن الهوى فيما يقول من أمر الشريعة ( القرآن والاحكام ) بل هو وحيٌّ يوحى اليه من الله سبحانه.

2 ـ تفويض الأمر الى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) :
    هناك روايات فوّضت الى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمر الخلق ليسوس الناس والاُمة بالعدل والحق ويحكم فيهم بما أراد الله سبحانه ، قال تعالى : ( أطيعوا الله واطيعوا الرسول واُولي الأمر منكم ... ) ، وفوّض الله سبحانه الى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أمر الدين في ناحية خاصة وفي منطقة فراغ معينة ليململأها بنفسه فملأها ( صلى الله عليه وآله ) وأقرّه الله سبحانه وتعالى على ذلك ، وقال تعالى : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) ; فمثلاً ورد انّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) سأل ربّه في ان يخفف جَعْلَ عدد الصلاة على امته ، فجعلها خمس صلوات ثم فوّض اليه أن يزيد عليها ، فزاد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأقره الله عليها. وكما ورد في حرمة الخمر : ( ... انّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان ... ) (1) وفوّض الى النبي ( صلى الله عليه وآله ) أن يزيد فحرّم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كل مسكر وأقرّه الله تعالى عليه : وهذا التفويض من قبل الله سبحانه وتعالى لرسوله ( صلى الله عليه وآله ) هو في دائرة خاصة فملأها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بنفسه ; فما دلّ عليه الدليل بان الله سبحانه قد فوّض الأمر فيه الى النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأقرّه على تشريعه يثبت فيه حق النبي في تشريع بعض الاحكام التي ترجع فى النهاية الى مشرِّعية الله تعالى بعد اقراره عليه.
    واليك بعض الروايات الدالة على ذلك :
    1 ـ صحيحة الفضيل بن يسار ، فقد روى الكليني عن علي بن ابراهيم عن
     (1) المائدة : 90.