|
بحوث في الفقه المعاصر ـ الجزء الثاني ::: 1 ـ 10 |
|
بُحُوث
في الفِقهِ المعاصِر
الجزء الثاني
تأليف حَسَن الجَواهِري
(5)
(6)
(7)
إنّ البحث الذي نريد الكتابة عنه هو بحثٌ تاريخيٌّ جغرافيّ يكون موضوعاً لأحكام
شرعيّة كثيرة ، ألا وهو تحديد عرفات ، مزدلفة ، منى. وقد ذكر الفقهاء الأحكام الكثيرة
الواردة على هذه الموضوعات الثلاثة ، ولئن كان الموضوع قد حدّده الشارع المقدّس في
الروايات الواردة عن المعصوم ( عليه السلام ) إلاّ أنّ المصداق لهذا المفهوم لا بدّ
من أخذه من أهل الخبرة في تعيين ما حدّده الشارع ، وعلى هذا فنحن بحاجة :
أوّلاً : إلى ما حدّده الشارع المقدّس كمفهوم لهذه الألفاظ الثلاثة.
وثانياً : إلى تعيين هذه المواضع إمّا من شياع أهل الخبرة إذا اختلفوا في
تعيين المصداق ، أو لم يختلفوا حيث إنّه يفيد علماً أو اطمئناناً.
ولا يخفى أنّ القاعدة عند الشكّ في تعيين المصداق تقتضي الاقتصار على القدر
المتيقّن ; لقاعدة الاشتغال اليقيني الذي يستدعي الفراغ اليقيني ، بمعنى أنّ مشكوك
الموقفيّة أو الموضعيّة يوجب الشك في الامتثال الذي حدّد في هذه الأمكنة ، فتجري
القاعدة.
ولا بأس بالتنبيه إلى بعض الاشكالات والأبحاث الفقهيّة التي تتعلّق بهذه الدراسة. فنقول وبالله التوفيق :
أولاً : حدود عرفات
إنّ عرفات منطقة تقع شرقيّ مكّة بحوالي 22 كم وهي سهل واسع منبسط
(8)
مُحاط بقوس من الجبال يكون وتره وادي عَرَفَة ، فمن الشمال الشرقي يُشرف عليها
جبل أسمر شامخ وهو ( جبل سعد ) ومن مطلع الشمس يشرف عليها جبل أشهل أقلّ ارتفاعاً
من سابقه ويتّصل به من الجنوب ، وهذا يُسمّى ( مِلْحه ) ، ومن الجنوب تشرف عليه
سلسلة لاطية سوداء تسمّى ( اُمّ الرضوم ) ، أمّا من الشمال إلى الجنوب فيمرّ وادي
عَرَفَة (1).
وقد ذكرت الروايات حدود عرفات ممّا يلي الحرم ، لأنّها هي التي تحتاج إلى تحديد
، أمّا الجهات الثلاث الأُخرى فكأنّها لا تحتاج إلى تحديد ; لوجود سلسلة الجبال
التي تقطع بين عرفات وغيرها. فقالت الروايات وتبعها الفقهاء : بأنّ الحاج لو وقف «
بنَمِرَة أو عَرَفَة ، أو ثوية ، أو ذي المجاز ، أو بجنب الأراك ، أو غير ذلك ممّا
هو خارج عن عرفة لم يجزه » ، فمن الروايات :
1 ـ صحيحة معاوية بن عمّار عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « فإذا انتهيت
إلى عَرَفات فاضرب خباك بنَمِرَة ، ونمرة هي بطن عُرَنَة دون الموقف ودون عرفة ... وحدّ عَرَفَة من بطن عُرَنَة وثوية ونَمِرَة إلى ذي المجاز ، وخلف الجبل موقف » (2).
2 ـ خبر سماعة عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « واتّقِ الأراك ونَمِرَة وهي
بطن عُرنَة ، وثوية وذي المجاز فإنّه ليس من عَرَفَة ولا تقف فيه » (3).
3 ـ خبر إسحاق بن عمّار عن الإمام الكاظم ( عليه السلام ). قال : « قال رسول
الله ( صلى الله عليه وآله ) : ارتفعوا عن وادي عُرَنَة بعرفات » (4).
(1) معالم مكة التأريخيّة والأثريّة : 182 ، البلادي ( عاتق بن غيث ) ، طبع دار
مكّة ، 1980م.
(2) الوسائل : ج10 ، الباب 9 من أبواب إحرام الحاجّ ، ح1 ، وذيل ح1 من باب 10 من
أبواب إحرام الحاجّ ، ح1.
(3) المصدر السابق ، الباب 10 ، ح6.
(4) المصدر السابق ، الباب 10 ، ح4.
(9)
أقول : إنّ هذه الأماكن الخمسة هي حدود عَرَفَة من ناحية الغرب ( الحرم ) وهي
راجعة إلى أربعة كما هو المعروف من الحدود ، لأنّ نَمِرَة هي بطن عَرَفَة ، كما روي
في حديث معاوية المتقدّم عن الإمام الصادق ( عليه السلام ).
شرح الألفاظ :
1 ـ نَمِرَة :
نَمِرَة : بفتح النون وكسر الميم وفتح الراء المهملة ( وهي بطن عُرَنَة ) كما
ذكرت الروايات المتقدّمة.
وقد ذكر ابن تيمية عن نَمِرَة فقال : « ونَمِرَة كانت قرية خارجة عن عرفات من
جهة اليمن ، فيقيمون فيها إلى الزوال كما فعل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثمّ يسيرون
منها إلى بطن الوادي ، وهو موضع النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) الذي صلّى فيه الظهر
والعصر وخطب ، وهو في حدود عَرَفَة لبطن عُرَنَة ، وهناك مسجد يُقال له مسجد
إبراهيم ، وإنّما بُني في أوّل دولة بني العبّاس ».
وقال ابن القيّم : « نَمِرَة قرية غربيّ عرفات ، وهي خراب اليوم ، نزل بها
النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتّى إذا زالت الشمس أمر بناقته القصواء فرحّلت له ، ثمّ
سار حتّى أتى بطن الوادي من أرض عَرَفَة فخطب الناس ، وموضع خطبته لم يكن من الموقف
، فإنّه خطب بعُرَنَة ، وليس من الموقف ، فهو ( صلى الله عليه وآله ) نزل بنَمِرَة
وخطب بعُرَنَة ووقف بعَرَفَة » (1).
والمُراد من المسجد الذي يسمّى مسجد إبراهيم فيما ذكره ابن تيمية هو
المسجد
القديم الذي اختلف فيه أنّه من عرفات أو خارجها ؟ على ثلاثة أقوال :
1 ـ فقد ذكر إمام الحرَمَين الجويني والقاضي حسين والرافعي وجماعة من
(1) هداية الناسكين ، تحقيق الدكتور الفضلي : 175 ، عن هامش كتاب الإرتسامات
اللِطاف ، أرسلان ( الأمير شكيب بن حمود 1366 هـ ) ، تعليق عبد الرزّاق محمّد سعيد
حسن ( الطائف : مكتبة المعارف ) : ص58 ـ 65.
(10)
الخراسانيّين : أنّ مقدّم المسجد القديم في وادي عُرَنَة ومؤخّره في عَرَفات ،
ويتميّز ذلك بصخرات كبار فُرِشت هناك.
2 ـ قال في البحر العميق نقلا عن الطرابلسي وغيره : « إنّ جميع المسجد القديم من
عَرَفَة ، وإنّ جداره الغربيّ لو سقط لسقط على بطن عُرَنَة ».
3 ـ صرّح كثيرٌ من علماء الإسلام بعدم دخول المسجد القديم في عَرَفة تبعاً
للروايات المشتملة على صفة حجّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فقد روى معاوية بن
عمّار حجّ النبي ( صلى الله عليه وآله ) فقال : حتى انتهى إلى نَمِرَة وهي بطن عُرَنَة
بحيال الأراك ، فضرب قبّته وضرب الناس أخبيتهم عندها ، فلمّا زالت الشمس خرج رسول
الله ( صلى الله عليه وآله ) ومعه قريش وقد اغتسل وقطع التلبية حتّى وقف بالمسجد ،
فوعَظَ الناس وأمَرَهم ونهاهم ، ثمّ صلّى الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتَين ، ثمّ
مضى إلى الموقف فوقف به » (1).
وقد قال الشافعي ـ وهو مكّي قَرَشي ـ في الأُْمّ : « وعَرَفَة ما جاوز وادي
عُرَنَة الذي فيه المسجد ، وليس المسجد ولا وادي عُرَنَة من عَرَفَة ».
وقال النووي في الايضاح : « واعلم أنّه ليس من عرفات وادي عُرَنَة ولا
نَمِرَة ولا المسجد المسمّى مسجد إبراهيم ـ ويُقال له أيضاً مسجد عُرَنة ـ بل هذه
المواضع خارجة عن عرفات على طرفها الغربيّ ممّا يلي مُزْدَلِفَة ».
أقول : إنّ القاعدة التي ذكرناها في أوّل البحث في خصوص ما إذا اختلف أهل الخبرة
في كون المسجد من عَرَفات أو خارج عنها فإنّ المدار على الشياع الذي يفيد الاطمئنان
بأنّ المسجد ليس من عَرَفَة ، على أنّ ظاهر الصحيحة المتقدّمة أنّه خارج عن موقف
عرفات ، كما هو الأحوط لهذه العبادة العظيمة.
ومساحة ضلع هذا المسجد القديم من مبتدئه من الناحية الغربيّة إلى منتهاه من
الناحية الشرقيّة ( مئة ذراع وثلاث وستّون ذراعاً ) كما ذكره الأزرقي في
تأريخ
مكّة ، وأنّ مساحة ضلعه من ركنه الشمالي الشرقي إلى الركن الجنوبي الشرقي
(1) الوسائل : 8 ، الباب 2 من أبواب أقسام الحجّ ، ح3.
|
بحوث في الفقه المعاصر ـ الجزء الثاني ::: فهرس |
|