مقدمة
إذا نظرنا إلى العنوان المطروح من قبل المجمع الموقّر (1) وكذا إلى عناصره ( من
تعريف للعقود المجتمعة وتحرير المقصود من منع صفقتين في صفقة ... الخ ) وأثر
المواعدة على العقود المجتمعة والنماذج للتطبيقات المعاصرة ـ عقود التوريد
والمشاركة المتناقصة « المناقصات » ـ نجد أن المراد من البحث ليس هو عموم العقود
المستجدة ، بل خصوص عقد التوريد الذي يبدو اعتباره من العقود المركبة ، وعقد
المناقصات الذي يبدو اعتباره من العقود المجتمعة ( الجمع بين العقود ) (2).
والمراد بالمناقصات التي تقع في الخارج أو يمكن أن تقع :
1 ـ إمّا مقاولات ، وهي أعمال التنفيذ في المشروعات الكبيرة ، وتسمّى مناقصات
عقد الإجارة.
2 ـ أو مناقصات البيع والشراء إذا كانت على سلعة خارجية تباع أوتشترى.
(1) المقصود به مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
(2) لم نجد فرقاً بين العقود المركبة والعقود المجتمعة ، إلاّ أن يكون التركيب
عبارة عن عدة عقود من نوع واحد متدرجة في الزمان أو لا ، أمّا العقود المجتمعة فهي
عدة عقود متنوعة اجتمعت لغاية واحدة. وإلاّ فكلاهما عقود مجتمعة.
(84)
3 ـ أو مناقصات الاستصناع إذا كانت المواد والعمل يحوَّلان بعد الأجل إلى
المشتري.
4 ـ أو مناقصات السلم إذا كانت السلعة تحوّل بعد الأجل إلى المشتري.
5 ـ أو مناقصات الاستثمار ، كما إذا كانت المناقصة لإيجاد عقد مضاربة أو مزارعة
أو مساقاة مثلا.
ولهذا سوف نتعرض لبعض العقود المجتمعة بصورة اجمالية حسب عموم الموضوع ، ونركّز
على عقد التوريد وعقد المناقصات حسب ما جاء في عناصر البحث.
ولكن قبل بدء البحث لابدّ من بيان أن العقود المعاملية التي أشار إليها القرآن
بقوله : ( أوفوا بالعقود ) هل تختص بالعقود التي كانت موجودة في زمن الشارع المقدّس ،
وحينئذ يكون كل عقد ـ غيرها ـ محكوماً بالبطلان ، أو أن المراد من قوله تعالى
: ( أوفوا بالعقود ) كل عقد كان موجوداً في زمن النص أو سيوجد فيما بعد مما ينطبق عليه
عنوان العقد فهو محكوم بالصحة ويجب الوفاء به ؟
وبعبارة اُخرى : أنّ الآية القرآنية : ( أوفوا بالعقود ) هل المراد منها العقود
الخارجية أو المراد منها العقود الحقيقية ، وقد اُخذ العقد على نحو القضية الحقيقية
؟
والمعروف في الجواب على هذا التساؤل هو : أنّ خطابات الشارع لو خلّي وطبعها تكون
قد اُخذت على نحو القضايا الحقيقية ، بمعنى أن الشارع اوجد حكمه على موضوع معين ،
فمتى وجد هذا الموضوع وجد حكم الشارع ، فتكون خطابات الشارع ومنها ( أوفوا بالعقود قد )
اُخذت على نحو القضية الحقيقية.
وعلى هذا فسوف يكون كل عقد عرفي ـ ولو كان جديداً لم يكن متعارفاً عند نزول
النصّ ـ يجب الوفاء به إذا كان مشتملا على الشروط التي اشترطها الشارع في الثمنين
أو المتعاقدين أو العقد ، ككون الثمنين معلومين ، وبلوغ وعقل المتعاقدين وأمثالهما.
(85)
وقد نجد في ثنايا الفقه الإمامي وغيره نتيجة هذه الاجابة ، فقد ذكر السيد اليزدي
في العروة الوثقى فقال : « يمكن أن يقال بإمكان تحقيق الضمان منجزاً مع كون الوفاء
معلقاً على عدم وفاء المضمون له ، لأنه يصدق أنه ضمن الدين على نحو الضمان في
الأعيان المضمونة » (1).
وقد ذكر الإمام الخوئي ( رحمه الله ) في شرح مراد السيد اليزدي فقال : « ولعلّ
مراده من كلامه هذا يرجع إلى ارادة معنى آخر غير المعنى المصطلح من الضمان ، اعني
نقل ما في ذمة إلى اُخرى (2). وقد يكون هذا المعنى هو التعهد بالمال وكون مسؤوليته
عليه من دون انتقاله ـ بالفعل ـ إلى ذمته ، كما هو الحال في موارد ضمان العارية مع
الشرط ، أو كون العين المستأجرة ذهباً أو فضة فإن ضمانها ليس بالمعنى المصطلح جزماً
، إذ لا ينتقل شيء بالعارية إلى ذمة المستعير ، فإن العين لا تقبل الانتقال إلى
الذمة وهو غير مشغول الذمة ببدلها قبل تلفها ، فليس ضمانها إلاّ بمعنى كون
مسؤوليتها في عهدته بحيث يكون هو المتعهد بردّها ولو مِثْلا أو قيمةً عند تلفها ... وكيف كان فإذا صحّ مثل هذا الضمان في الأعيان الخارجية كموارد اليد والعارية
فليكن ثابتاً في الاُمور الثابتة في الذمة أيضاً ، فإنه لا يبعد دعوى كونه متعارفاً
كثيراً في الخارج ، فإنَّ أصحاب الجاه والشأن يضمنون المجاهيل من الناس من دون أن
يقصد بذلك انتقال المال بالفعل إلى ذممهم ، وإنّما يراد به تعهدهم به عند تخلّف
المضمون عنه عن أداءه ».
ثم قال الإمام الخوئي : « والحاصل : أنّ الضمان في المقام غير مستعمل في معناه
المصطلح ... وإنّما هو مستعمل في التعهد والمسؤولية عن المال ، وهو أمر
متعارف عند العقلاء ، فتشمله العمومات والاطلاقات ، فإنَّه عقد يجب
(1) العروة الوثقى : ج2 من كتاب الضمان ، ص588 طبعة 1410هـ ـ 1990م.
(2) إنّ المشهور في فقه الإمامية أن عقد الضمان هو نقل الدين من ذمة إلى اُخرى ،
لا ضم ذمة إلى ذمة.
(86)
الوفاء به » (1).
وقد ذكر الشهيد الصدر ـ رضوان الله تعالى عليه ـ النتيجة نفسها التي انتهينا
إليها سابقاً فقال : إنّ هناك معنىً للضمان غير المعنى المصطلح عند الإمامية وعند
السُنَّة ، وهو معنى ثالث عبارة عن : « تعهد بالأداء لا تعهد بالمبلغ في عرض
مسؤولية المدين ، وأنّ هذا التعهد ينتج ضمان قيمة المتعهد به إذا تلف بامتناع
المدين عن الأداء ، ولكن حيث إنّ الأداء ليس له قيمة مالية إلاّ بلحاظ مالية مبلغ
الدين فاستيفاء الدائن لقيمة الأداء من الضامن بنفسه استيفاء لقيمة الدين ، فيسقط
الدين بذلك.
وهذا المعنى للضمان صحيح شرعاً بحكم الارتكاز العقلائي أولا ، وللتمسك بعموم
( أوفوا بالعقود ) ثانياً ، إلاّ أنّ التمسك بعموم ( أوفوا بالعقود ) يتوقف على أن نثبت قبل
ذلك بالارتكاز العقلائي ـ مثلا ـ عقدية هذا النحو من التعهد والضمان ، أي كون
ايجاده المعاملي متقوماً بالتزامين من الطرفين ، ليحصل بذلك معنى العقد بناء على
تقوّم العقد بالربط بين التزامين بحيث يكون أحدهما معقوداً بالآخر » (2).
وعلى هذا فسوف تكون عندنا قاعدة أنَّ كل عقد عرفي قد ثبتت عقديته عرفاً
بالارتكاز العقلائي إذا كان مشتملا على شروط صحة العقد الشرعية وخالياً عن موانع
العقد يجب الوفاء به استناداً إلى قوله تعالى : ( أوفوا بالعقود )
تعريف العقود المجتمعة
لم أطّلع على تعريف ذكر للعقود المجتمعة ، ولكن يمكن أن يقال : « إنّها عبارة عن
منظومة عقود لها صلة ببعضها تؤدي إلى هدف ـ عقد ـ واحد هو الأصل ».
(1) مباني العروة الوثقى : كتاب المساقاة ص114 ـ 116.
(2) البنك اللاربوي في الإسلام للشهيد الصدر : ص231 ـ 232.
(87)
ويمكن أن نمثّل للعقود المجتمعة بعقود المناقصات التي قد تكون لتوريد سلعة أو
لإنشاء مشروع أو مناقصة بيع أو شراء أو استصناع أو سلم أو استثمار ، فإنَّ في جميع
هذه العقود يوجد عقد واحد هو المقصود الأصلي من المناقصات ، ولكن تسبقه عدّة
إجراءات وعقود مرتبطة ببعضها ، كبيع دفتر الشروط وتقديم الضمان الابتدائي
والانتهائي وغيرهما ـ كما سيأتي ذلك فيما بعد ـ ممّا يكون دخيلا في العملية الأصلية
، ويعتبر العقد في النهاية عقداً واحداً وهو العقد الأصلي.
وسنتحدث عن العقود المجتمعة ضمن هذه الأمثلة :
1 ـ بيع العينة.
2 ـ الإجارة بشرط التمليك.
3 ـ بطاقة الائتمان.
4 ـ المشاركة المتناقصة.
5 ـ عقد التوريد.
6 ـ المناقصات
ولا بأس بالتعرض لها اجمالا لمعرفة حكمها.
1 ـ بيع العينة
وقد يُدعى بعقد المخاطرة ، وقد ورد في الفقه الإسلامي التعرض له.
وخلاصته : أن يبيع رجل من آخر سلعته التي قيمتها مئة دينار بمئة وعشرين ديناراً
مؤجلة الى سنة ، ثم يبيع المشتري ـ الذي أصبح مالكاً للسلعة ـ السلعة نفسها على
البائع نقداً بمئة دينار ، فيكون المشتري في النهاية قد حصل على مئة دينار نقداً
بمئة وعشرين ديناراً مؤجلة إلى سنة. وهذا هو الربا المستور تحت البيع.
(88)
وقد يكون الأمر بالعكس بأن يبيع صاحب السلعة سلعته نقداً ثم يشتريها من المشتري
نسيئةً بمقدار أكبر من قيمتها ـ وهذا هو الذي تنظر إليه روايات الإمامية ـ فيكون
البائع في البيع الأول هو المشتري في البيع الثاني ، وبالعكس.
وقد تصوّر بصورة ثالثة : بأن يبيع صاحب السلعة سلعته نسيئة بالسعر السوقي ثم
يشتريها منه بأقل من السعر السوقي نقداً.
وقد ذكرت معان اُخر للعينة إلاّ أنّها ليست معروفة نُعرض عنها (1).
أقول : إنّ ما تقدم من صور العينة قد يكون على أنحاء ثلاثة :
1 ـ أن يشترط البيع الثاني في البيع الأول صريحاً.
2 ـ أن يبنى البيع الثاني على البيع الأول بالاتفاق عليه قبل العقد ولكن من دون
ذكر صريح له في العقد.
3 ـ أن يقع البيع الثاني بعد البيع الأول صدفةً ومن دون سبق اتفاق بين الطرفين.
أمّا الصورة الاُولى والثانية ـ والذي لا فرق بينهما إلاّ أن الأولى كان الشرط
فيها صريحاً دون الثانية التي كان الشرط فيها ضمنيّاً وارتكازياً ـ فقد ذهب علماء
أهل السُنَّة إلى البطلان فيهما ; لعدم قصد البيع واقعاً وقصد الربا حقيقة بهذه
المعاملة.
أمّا عند علماء الإماميّة فقد نقل الشيخ الأنصاري ( قدس سره ) : إنّ المشهور بينهم
عدم الجواز ، ولكن اختلفوا في تعليله على وجوه :
منها : عدم قصد البيع كما ذكر عند أهل السُنَّة.
ومنها : وجود النصوص الصحيحة في المقام الدالة على البطلان ، منها : صحيحة علي
بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر ( الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ) قال :
(1) راجع الرابا فقهياً واقتصادياً للمؤلف : ص245 وما بعدها.
(89)
« سألته عن رجل باع ثوباً بعشرة دراهم إلى أجل ثم اشتراه بخمسة دراهم بنقد ،
أيحل ؟ قال ( عليه السلام ) : إذا لم يشترط ورضيا فلا بأس » (1).
ومعناها : إذا شرط ذلك فالبيع الأول غير صحيح ، كما هو الظاهر من كلمة « البأس »
في المعاملات حيث إن السؤال عن حلّيّة البيع وشرائه.
وأمّا إذالم يشترط ذلك بأن كان البائع بالخيار إن شاء اشترى وان شاء لم يشترِ
فلا بأس بهذه المعاملة ، وهذا هو حكم الصورة الثالثة ، بالاضافة إلى أنها لا تحتاج
إلى نص ، إذ هي كما إذا بعتُ سلعتي بمئة دينار نقداً ، ثم اشتريت مثلها من شخص ثالث
بمئة وعشرين مؤجلة إلى شهر ، أو مثل ما إذا اشتريت سلعة مؤجلة إلى شهر بمئة وعشرين
ثم بعتها على غير البائع بمئة نقداً فهذه المعاملة صحيحة بلا إشكال بلا احتياج إلى
نص ، لعدم وجود شرط في البين فهي كالصورة الثالثة.
ملاحظة : يمكننا القول في الصورة الاُولى والثانية : بأنَّ العرف يرى انطباق
المعاملة القرضية عليها ، لأنّ القرض هو : تبديل المال الخارجي بمثله في الذمة.
والنتيجة من المعاملتين المشروط فيها المعاملة الثانية في الاُولى هو حصول أحدهما
على مائة دينار خارجية على أن تكون مضمونة عليه في ذمته ، فلا قصد إلى معاملتين
أصلا ، بل القصد إلى معاملة واحدة هي القرض ، وحينئذ لا يجوز الزيادة في القرض ،
فإذا حصلت الزيادة بالشرط فهو ربا.
2 ـ الإجارة بشرط التمليك
إنّ الإجارة بشرط التمليك هي إحدى وسائل التمويل عن طريق تمليك المنفعة أولا ،
ثم تمليك العين نفسها في آخر مدّة الاجارة. وقد وصفه فقهاء القانون
(1) وسائل الشيعة : ج12 ، ب5 من أحكام العقود ، ح6 وغيره.
(90)
بالبيع الايجاري وذلك في سنة 1846م ، أو الايجار الساتر للبيع ، أو الايجار
المملِّك. وله صور أهمّها :
أ ـ عقد واحد :
بأنْ يصاغ عقد الإجارة الذي ينتهي بتملك الشيء المؤجَر مقابل ثمن يتمثّل في
المبالغ التي دفعت كأقساط إيجار لهذا الشيء المؤجَر خلال المدّة المحدودة ، فيصبح
المستأجِر مالكاً للشيء المؤجَر تلقائياً بمجرد سدّ القسط الاخير دون حاجة إلى عقد
تمليك جديد.
ب ـ عقدان مع وعد بينهما :
بأن يصاغ عقد الايجار لمدة محدودة على أن يكون للمستأجِر الحقّ في تملك العين
المؤجَرة في نهاية المدّة مقابل دفع مبلغ سواء كان الثمن :
1 ـ رمزياً ، روعي فيه الاقساط الايجارية المرتفعة ارتفاعاً كبيراً عن ثمن المثل
للاجرة المتعارفة لهذا الشيء التي تعادل مجموعها ثمن السلعة الحقيقي مع ما اُضيف
إليه من ثمن رمزي.
2 ـ أو حقيقياً ، بحيث لا يكون للاقساط الايجارية أي تأثير في ثمن السلعة
الحقيقي (1).
أقول : الصورة الأولى ليست من العقود المجتمعة ، بل هي عقد واحد فيه شرط نتيجة.
(1) والهدف من هاتين الصورتين للاجارة المنتهية بالتمليك هو ضمان حقوق المؤجر
التي يريدها من وراء البيع لهذه السلعة لمصلحة المستأجر بحيث لا يتلكأ المشتري من
عدم السداد بعد عقد صفقة البيع ، أو يحجر على السلعة إذا لم يحصل المؤجر على كل
ماله من الثمن ، فإذا حصل المؤجر على الثمن كاملا وتحقّق قصده فهو لا يمانع أن تكون
السلعة ( البيت ) للمستأجر بثمن أو بلا ثمن.