بحوث في الفقه المعاصر ـ الجزء الثاني ::: 141 ـ 150
(141)
وتوجد صورة ثالثة ، وهي : بأن يبيع صاحب السلعة سلعته نسيئةً بالسعر السوقي ، ثم
يشتريها منه بأقل من السعر السوقي نقداً (1).
وقد قال بحرمة بيع العينة كل من مالك وأحمد ، لأنّها حيلة لربا النسيئة ، وقد
احُتجَّ لهؤلاء بحديث عائشة « حينما أخبرتها اُمّ محبّة بأنّها كانت لها جارية ،
فباعتها لزيد بن أرقم بثمانمائة درهم الى عطائه ، وأنّه أراد بيعها ، فابتاعتها منه
بستمائة ، فقالت عائشة : بئسما شريت وبئسما اشتريت ، فأبلغي زيد أنّه قد بطل جهاده
مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إلاّ أن يتوب. فقالت لها : أرأيت إن لم آخذ منه
إلاّ رأسمالي ؟ فقالت : فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف » (2).
ومن هنا يتّضح أن المانع من صحة البيع عند العامّة هو الربا المستور تحت البيع ،
بتقريب أن المشتري قد حصل على مائة دينار ـ مثلا ـ نقداً بمائة وعشرين
ديناراً مؤجلة الى سنة ، وهذا إنّما يكون في صورة اشتراط البيع الثاني
في البيع الأول صراحةً أو ضمناً ، كأن يكون البيع الثاني مبنيّاً على البيع
الأول.
أمّا عند الإمامية فقد وردت النصوص ببطلان هذه المعاملة ، منها صحيحة علي بن
جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر ( عليه السلام ) ( الإمام الكاظم ) قال : « سألته
عن رجل باع ثوباً بعشرة دراهم الى أجل ، ثم اشتراه بخمسة دراهم بنقد أيحلّ ؟ قال :
إذا لم يشترطاً ورضيا فلا بأس » (3). ومعنى ذلك أنّه إذا اشترط ذلك فالبيع الأول
غير صحيح ، كما هو الظاهر من كلمة « البأس » في المعاملات.
وذهب قسم من علماء الإمامية إلى أنّ البطلان هنا للنصّ الخاصّ ، ولكن
(1) راجع كتاب نظرية الربا المحرم ، ابراهيم زكي الدين بدوي : ص203.
(2) نظرية الربا المحرم في الشريعة الإسلامية : ص203 ، عن القرطبي : ج3 ، ص359
وما بعدها.
(3) وسائل الشيعة : ج2 ، ب5 من أحكام العقد ، ح6.
(142)
ليس من البعيد ـ إن قبلنا الفكرة القائلة : إنّ وراء الالفاظ لُبّاً قد قصده
المتعاقدان ، والاعتبار باللب ـ أن يكون البيعان روحهما هو القرض الربوي ، وقد
توصّلا إليه بهذا الثوب من المعاملة ، إذ القرض هو تمليك مع الضمان ، وهو حاصل
من المعاملتين فلا يجوز فيه الزيادة ، لأنّ أدلّة حرمة ربا القرض تشمله.
هذا كلّه راجع الى بيع العينة بالمعنى المتقدّم الذي حرّمته الروايات من الطرفين
، ولكن أي ارتباط بينه وبين ما نحن فيه ؟
نقول : لا يوجد أي ارتباط ، وذلك لأنّ بيع العينة ـ كما تقدّم ـ هو إرجاع سلعة
الرجل الى نفسه ، وحصوله على نقد على أن يُرجع أكثر منه ، حيث ذكروا في تسمية عقد
العينة ما حاصله (1) :
1 ـ إنّ المشتري يأخذ بدل سلعته عيناً ( أي عقداً حاضراً ).
2 ـ إنّ البائع يعود إليه عين ماله بعد أن باعه.
أمّا ما نحن فيه فليس كذلك ، لأنّ البنك يشتري السلعة من جهة معينة ثم يبيعها
الى جهة ثالثة ، فليس عندنا عقدين بين اثنين ، وإنّما عندنا عقدان بين ثلاثة أطراف
، وهذا ليس له ارتباط بالقرض ولا بالربا.
نعم ، يوجد شيء مشترك بين المسألتين وهو : الزام البائع والمشتري بالبيع الثاني
مرابحةً الذي يقع بين البنك والآمر بالشراء ، كما أن في بيع العينة يوجد
الزام ببيع العين ـ التي وقعت في البيع الأول ـ إلى البائع ، لكنّ هذا الشيء
المشترك لم يجعل المسألتين من باب واحد فانتبهوا أيّها المسلمون ، فلو أنّني بعت
سيارتي الى شخص بشرط بيعها الى اخي إذا اراد المشتري بيعها فهنا يكون المشتري
ملزماً ببيعها الى أخي فيما إذا أراد البيع ، إلاّ أنّ هذا الإلزام لم يجعل هذه
المسألة من باب بيع العينة.
(1) نظرية الربا المحرم في الشريعة الإسلامية ، إبراهيم زكي الدين بدوي : ص203.
(143)
ثانياً : إنّ ما نحن فيه يختلف عن بيع ما لا يملك ، ومن يقول : إنّ ما نحن فيه
داخل تحت النهي الوارد عن بيع ما ليس عندك فهو قول خاطئ ، وتوضيح ذلك :
إنّ مفروض المسألة هو أنّ عقد البيع بين البنك والعميل يقع بعد شراء البنك
للسلعة ووضعها بين يدي العميل ، وإنّما الذي تقدم من البنك والعميل هو الوعد
( الالتزام ) بالبيع في وقته بعد حصول البنك على السلعة المطلوبة ، بينما النهي ورد
عمّن باع ولم يملك ، وهنا لم يوجد بيع من دون ملك ، وإنّما وجد التزام بالبيع في
وقته ، كما إذا التزمتُ ببيع داري الى صديقي عند إرادة بيعها ، وهذا لا يسمّى ببيع
الدار إلى الصديق.
ومن العجيب عدم تفرقة البعض بين أن يقول شخص لآخر : « بعتك سلعة كذا بمبلغ كذا »
والسلعة ليست عنده ، وبين أن يقول شخص لآخر : اشترِ سلعة كذا وأنا ملتزم بشرائها
منك بمبلغ كذا (1) ، إذ أنّ في الصورة الاُولى قد وجد حكم وضعي ، وهو النقل
والانتقال ، إلاّ أنّ الشارع لم يوافق على صحة هذا الحكم ، أمّا في الصورة الثانية
فلم يوجد البيع ، وإنّما وجد التزام من قبل المشتري بالشراء بكذا ، وهذا موضوع لحكم
تكليفيٍّ يتوجّه إلى المشتري ، فإن لم يشترِ فهو قد خالف الحكم التكليفي الذي
التزمه على نفسه ، أمّا نفس الحكم الوضعي ـ وهو النقل والانتقال ـ فلم يحصل حتى
يقال : إنّ الشارع قد نهى عنه.
إذن الالتزام بالشراء من البنك هو موضوع حكم تكليفيٍّ بوجوب الشراء ، فإن حصل
البنك على السلعة وعرضها على المشتري فاشتراه فهو بيع لسلعة يملكها البنك ، وإن لم
يشترها المشتري فقد فعل حراماً ، ولكنّه لم يشتر بعد.
ثمّ إنّ حديث « لا تبع ما ليس عندك » قد ذكر الفقهاء : أنّ المراد منه النهي عن
بيع العبد الآبق أو الجمل الشارد وأمثالهما الذي لا يتمكّن المشتري فيه من
(1) المرابحة للآمر بالشراء ، ملازم الصدّيق محمد الأمين الضرير : ص2.
(144)
تسلّم المبيع ولا البائع من تسليمه ، فيحدث الغرر في البيع; لأنّ البيع إنّما
حصل على أن يكون التسليم حالا ، بينما البائع غير قادر على التسليم حالا ، ولا يعلم
متى يتمكّن من التسليم ، لأنّ العبد غير معروف زمن رجوعه إن كانت عنده نيّة إلى
الرجوع ، كما لم يعلم أيرجع الجمل الشارد الى صاحبه أم لا ؟ فيحصل الغرر من هذه
المعاملة ، وليس المراد منه النهي عن « بيع الصفة في الذمّة » ، ولذا قد اُجيز بيع
السلم إلى الأجل ، وهو بيع ما ليس عند البائع في الحال ، ولكن جوّزه الفقهاء
بالاتفاق ، كما أنّه ليس المراد من « لا تبع ما ليس عندك » هو النهي عن « بيع غير
الموجود التابع للموجود » مثل بيع الثمار بعد بدوِّ صلاحها ، إذ أن هذا جائز
بالاتفاق أيضاً كما يجوز بيع المقاثي والمباطخ.
ثالثاً : وأمّا حديث النهي عن « بيعتين في بيعة » فقد وردت عدّة روايات تنهى عن
بيعتين في بيعة ، أو عن شرطين في بيع ، أو صفقتين في صفقة ، ولكنّ الكلام في معنى
هذه الروايات وشمولها لما نحن فيه.
وقد فسّر الشافعي البيعتين في بيعة على نحوين :
1 ـ أن يقول بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا.
2 ـ أن يقول : بعتك هذا العبد ـ مثلا ـ بألف على أن تبيعني أو فلان يبيعني الدار
بكذا ، أو يقول : أبيعك داري هذه بكذا على أن تبيعني غلامك بكذا ، فإذا وجب لي
غلامك وجبت لك داري (1).
أمّا التفسير الأول فهو الصحيح ، لأنّ البيع يكون باطلا; لتردّد الثمن عند العقد
، بل لم يحصل قصد الى أحدهما بالخصوص.
وأمّا التفسير الثاني للشافعي فهو لا يبطل المعاملة ، لأنّه من قبيل الالتزام في
الالتزام ، فيشمله قوله ( عليه السلام ) : « المؤمنون عند شروطهم » الذي تقدم ذكره.
(1) نهاية المحتاج الى شرح المنهاج ، للرملي : ج3 ، ص433 وما بعدها ، وفتح
القدير : ج5 ، ص218.
(145)
ويوجد معنى آخر للبيعتين في بيعة ، وهو : أن يسلفه ديناراً في قفيز حنطة الى
شهر ، فلمّا حلّ الأجل وطالبه بالحنطة قال : بعني القفيز الذي لك عليّ الى شهرين
بقفيزين ، فصار ذلك بيعتين في بيعة ، لأنّ البيع الثاني قد دخل على الأوّل فيردّ
إليه أوكسهما ، وهو الأول (1).
وهذا المعنى الأخير للأحاديث بهذا المثال المذكور آنفاً يوجب حرمة البيع الثاني;
لوجود الربا ، لأنّ المشتري قد باع قفيزاً واحداً بقفيزين من الحنطة فهو ربا ، إلاّ
أنّ المثال إذا غيّرناه وأراد المشتري أن يبيع قفيزه من الحنطة بدراهم فهو بيع جائز
رغم أنه بيع ما لم يقبض ، إلاّ أنّ النهي الوارد عن بيع ما لم يقبض مخصوص ببيعه على
غير بائعه ، أمّا بيعه على بائعه فلا بأس به ، وقد وردت النصوص بصحة ذلك ، منها :
صحيحة يعقوب بن شعيب ، قال : « سألت أبا عبد الله ( عليه السلام ) عن رجل باع طعاماً
بدراهم ، فلمّا بلغ ذلك الأجل تقاضاه ، فقال : ليس عندي دراهم ، خذ مني طعاماً ، قال
( عليه السلام ) : لا بأس إنّما له دراهمه يأخذ بها ما شاء » (2) وغيرها من الروايات.
نعم ، يحتمل أن يكون المعنى الذي ذكر أخيراً للبيعتين في بيعة ، عبارة عن بيع ما
لم يقبض على شخص ثالث ( غير البائع ) ، كما إذا اشتريت كمية من الحنطة ولم أقبضها بعد
، وأردتُ بيعها الى ثالث فهنا توجد أدلّة تمنع من بيعها قبل القبض بزيادة أو نقيصة
، وهذا الحكم صحيح ، وقد يبنى على النظرية القائلة بأنّ الكسب من دون عمل غير صحيح.
وعلى كل حال ـ سواء اُريد بالبيعتين في بيعة ما ذكره الشافعي أو ما ذكر أخيراً
من النهي عن البيع قبل القبض ـ فهل ما نحن فيه داخل تحت معنى الحديث ؟
(1) نظرية الربا المحرم ، لإبراهيم بدوي : ص214 هامش3.
(2) وسائل الشيعة : ج13 ، ب19 من أبواب السلف ، ح10 ، وهي مروية عن عبيد بن
زرارة أيضاً.
(146)
نقول : لا يوجد أي ارتباط بين ما نحن فيه وبين الحديث ، وذلك :
أ ـ إنّ مفروض مسألتنا هو : يشتري البنك اولا ويقبضها.
ب ـ وبعد ذلك يعرضها على المشتري ويبيعها له مرابحة.
فلا يوجد بيع قبل القبض ، كما لا يوجد بيع ( نقداً بكذا أو نسيئة بكذا الذي يبطل
العقد نتيجة عدم معلومية الثمن ). نعم ، الذي وقع قبل القبض هو الالزام بالبيع عند
التملك والقبض ، وهذا لا بأس به; لعدم وجود نهي فيه ، وإنّما النهي عن البيع قبل
القبض.
رابعاً : أما المخاطرة : التي تحدث عن الالزام كما يقول الشافعي : « إنّك إن
اشتريته بكذا اُربحك فيه كذا » (1). فلا ندري ماذا يريد الشافعي من قوله هذا ، فهل
يريد بيع العينة بالمعنى المتقدّم كما ورد أن بيع العينة يسمى ببيع المخاطرة ، فقد
تقدّم أنّه يختلف عمّا نحن فيه فلا نعيد (2) ، أو يريد أن الالزام بالبيع الثاني فيه
مخاطرة على المشتري أو البائع ؟
نقول : الصحيح أن عدم الالزام هو الذي فيه مخاطرة على البائع أو المشتري.
وتوضيح ذلك : أنّ البنك إذا اشترى السلعة ولم تكن مرغوبة إلاّ للمشتري ثم امتنع
المشتري من شرائها نتيجة عدم الزامه شرعاً فهذا فيه مخاطرة وضرر على البنك ، كما أن
البنك إذا اشترى السلعة وقد انتظرها المشتري مدّة طويلة ، ولم يوظف أمواله في أي
عمل بانتظار تلك السلعة المعينة ولكن البنك لسبب عدم الزامه يبيعها لمن أمره
بالشراء ، أو لبذل سعر أكثر ممّا بذله الآمر بالشراء باعها البنك لغير الآمر
المنتظر الموعود ببيعها له ، فهنا توجد مخاطرة وضرر على المشتري ، إذن جاءت
(1) الاُم ، الشافعي : ج3 ، ص33.
(2) نقول : لا يمكن للشافعي أن يريد بالمخاطرة هو بيع العينة بالمعنى المتقدّم ،
لأنّه قال بجواز بيع العينة كما نقل عنه ، راجع نظرية الربا المحرم : ص203.
(147)
المخاطرة من عدم الالزام ، لا أنّها جاءت من الالزام.
وأمّا إذا اراد الشافعي ورود النصوص بحرمة هذا ، وقد علّله بالمخاطرة فهذا سوف
يأتي.
خامساً : أمّا ما ذكر من أن مسألتنا داخلة تحت النهي الوارد « عن سلف وزيادة »
كما قال الباجي : « لأنّه يبتاع له البعير بعشرة على أن يبيعه منه بعشرين الى أجل
يتضمّن ذلك أنّه أسلفه عشرة في عشرين الى أجل » (1) فهو بعيد عمّا نحن فيه ، لأنّ
البنك إنّما يشتري السلعة لنفسه ( كما هو مفروض الصورة الاُولى التي نحن بصددها )
بينما السلف والزيادة المنهيّ عنه ـ كما يقول الباجي ـ هو عبارة عن شراء السلعة
للآمر بعشرة ، ثم يبيع المشتري العشرة بعشرين إلى أجل فهو رباً لا كلام لنا في
حرمته.
إذن إذا كان شراء البنك السلعة لنفسه وبماله ، ثم بعد ذلك يبيع السلعة إلى الآمر
نسيئةً مرابحة فهو ممّا لا إشكال فيه ، وكثير من البيوع التي تحصل في الخارج تكون
على هذا النسق من البيع مرابحة مع أن البائع قد اشتراها لنفسه بثمن أقل.
نعم ، هنا إلزام في البيع الثاني على البنك أن يبيع السلعة على المتعهد بالشراء
، كما يوجد الزام على المشتري أن يشتري السلعة التي اشتراها البنك بأمر الآمر ،
وهذا الالزام حصل بتعهد الطرفين أو بحلفهما أو بنذرهما أو بشرط في عقد لازم فهل هذا
الالزام يبطل البيع الثاني ؟
الجواب : قلنا فيما تقدّم إن القاعدة الأوليّة تقول بصحة العقد الثاني كما قالت
بصحة العقد الذي أوجده البنك في شراء السلعة بأمر الآمر ، إذن لا إشكال في صحة هذا
العقد الذي يحدث من قبل البنك الآمر بالشراء حتى مع الالزام للطرفين
(1) المنتقى : ج5 ، ص38 و 39.
(148)
بالبيع للآمر وبالشراء من البنك.
سادساً : وقد ذكر البعض : أنّ الإمام محمد بن الحسن الشيباني ذكر حيلةً تقوم
مقام الالزام ، فقد قيل له : « أرأيت رجلا أمر رجلا أن يشتري داراً بألف درهم
وأخبره أنّه إن فعل اشتراها الآمر بألف درهم ومائة درهم ، فأراد المأمور شراء الدار
ثم خاف إن اشتراها أن يبدو للآمر فلا يأخذها ، فتبقى في يد المأمور ، كيف الحيلة في
ذلك ؟ قال : يشتري المأمور الدار على أنّه بالخيار ثلاثة أيام ، ويقبضها ويجيء الآمر
ويبدأ فيقول : قد أخذتُ منك هذه الدار بألف ومائة درهم ، فيقول المأمور : وهي لك
بذلك ، فيكون ذلك للآمر لازماً ويكون استيجاباً من المأمور للمشتري ، وإن لم يرغب
الآمر في شرائها تمكّن المأمور من ردّها بشرط الخيار فيدفع عنه الضرر بذلك » (1).
واستفاد هذا القائل من هذه الحيلة أن الالزام في المعاملة غير جائز ، بينما
الصحيح هو أن الشيباني ذكر عملا يدفع به البائع الضرر عن نفسه فيما إذا كان المشتري
مختاراً في شرائه وعدمه ، وهذا لا يدل على أن الالزام غير جائز إذا حدث سببه ،
وبواسطته يندفع الضرر على البائع ، إذ لو اهتدى الامام الشيباني الى عملية تؤدّي
إلى الالزام فلعلّه يقول بصحتها ، إذ الطريق الذي قاله : إنّما كان لأجل دفع الضرر
عن البائع في بعض الصور ، والالزام الذي يقوله أيضاً طريقة لدفع الضرر عن البائع ،
فاهتداؤه إلى الطريق الأول ليس معناه حرمة الطريق الثاني.
على أنّ الأفضل للدارس أن يذكر دليلا على الحكم الشرعي ، لا أن يأتي بفتوىً لبعض
الفقهاء.
سابعاً : قالوا : إنّ ما نحن فيه هو بيع نقد بنقد أكثر منه الى أجل ( بينهما سلعة
(1) كتاب الحيل رواية السرخسي : ص79 من بحث المرابحة للآمر بالشراء ، للاُستاذ
الصدّيق محمد الأمين الضرير : ص5.
(149)
محلّلة ) فغايته قرض بفائدة.
ويرد على هذا القول : أن كل بيع نسيئة أو بنقد هو معناه ( بيع نقد بنقد
أكثر منه ، نقداً أو نسيئة بينهما سلعة محلّلة ) ، ولكن الله سبحانه أحلّ هذا حيث
إنّ البائع حوّل نقده الى عمل مخزون ، وهذا العمل المخزون يستهلك بمرور الزمان ،
فتذهب صفته ، والمشتري له الحقّ أن يبيع هذا العمل المخزون بعد قبضه بفائدة وربح ،
فيكون ربحه مرتكزاً على عمل ، أمّا القرض بفائدة الذي حرّمه الشارع المقدّس
فالمفروض فيه أن النقد الذي دفعته إلى المقترض يرجع بنفسه إليّ بعد الأجل من دون
نقيصة في صفاته ، ومن دون استهلاك ، ومعنى هذا عدم جواز الفائدة ككسب يحصل عليه
المقرِض ، لأنّه لم يقدم عملا مباشراً إلى المقترض ولا مخزوناً بحيث يستهلك أو تذهب
صفته بالاستعمال ، وحينئذ لا يحقّ له الاكتساب من هذا الطريق.
بالاضافة الى ورود النص بحرمة القرض بفائدة ، وعدم وروده إلى الآن فيما إذا
اشترى سلعةً من زيد ، وأراد بيعها إلى عمرو مرابحة نسيئة وكان ملزماً ببيعها بسبب
من أسباب الالزام.
ثامناً : الأصل اللفظي للمسألة : إذا تنزلنا عن الأدلّة السابقة الدالة على صحة
المرابحة للآمر بالشراء كما في الصورة الاُولى التي عرضناها فغاية ما يقال : إنّنا
نشك في صحة هذه المعاملة ، وحينئذ فإنّ إطلاق ( أحل الله البيع ) و ( أوفوا بالعقود )
و ( تجارة عن تراض ) تدل على صحة هذه المعاملة ، لأنّ معاملة البنك للعميل ممّا لا
إشكال أنّها بيع عند العرف ، وهي عقد وتجارة فتشملها الآيات الثلاث الدالّة على صحة
المعاملة ولزوم الوفاء بها ، وإن كان الالزام موجوداً لإيقاع هذه المعاملة.
نقول : هذا الذي تقدم كان على مقتضى القاعدة ، وعدم صحة ما ذكر من نصوص على
البطلان عند فقهاء السنة.
(150)
هذا ، ولكنّ الإمامية تلتزم ببطلان هذه المعاملة إذا كانت على نحو الالزام
للنصوص الكثيرة الواردة عن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) الدالّة على بطلان هذه
المعاملة إذا كانت على نحو الالزام ، وصحتها إذا كان البنك بالخيار إن شاء باع وإن
شاء لم يبع ، وكذا إذا كان العميل بالخيار إذا شاء اشترى أو إذا شاء لم يشترِ.
والشيعة الإمامية يلتزمون بالبطلان ، لا لما تقدم ذكره عن فقهاء السنة ، وإنّما
للنصوص الخاصة في المنع عن هذه المعاملة ، وقد ذكرت بعض الروايات على لسان الرواة :
أن هذا قسم من أفراد بيع العينة ، ولكن الحجّة التي نستند إليها هي نهي الأئمة عن
هكذا بيع ، سواء سمّـاه الأفراد السائلون للأئمّة بيع عينة ، أم لا.
والروايات كثيرة ، منها :
1 ـ صحيحة معاوية بن عمار قال : قلت للصادق ( عليه السلام ) : « يجيئني الرجل
فيطلب منّي بيع الحرير وليس عنده منه شيء ، فيقاولني عليه ، واُقاوله في الربح
والأجل حتى نجتمع على شيء ، ثمّ أذهب فاشتري له الحرير فأدعوه إليه ، فقال : أرأيت
إن وجد بيعاً هو أحبّ إليه ممّا عندك أيستطيع أن ينصرف إليه ويدعك ؟ أو وجدت أنت ذلك
أتستطيع أن تنصرف إليه وتدعه ؟ قلت : نعم ، قال : فلا بأس » (1).
وهذه الرواية واضحة الدلالة على أن الالزام في هذه المعاملة الثانية يوجد فيها
البأس وهو معنى البطلان ، وأمّا إذا كانت المعاملة الثانية خاليةً من الالزام
للمشتري وللبائع فلا بأس بها.
2 ـ صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج قال : « سألت الصادق ( عليه السلام ) عن العينة
فقلتُ : يأتيني الرجل فيقول : اشترِ المتاع واربح فيه كذا وكذا ، فاُراوضه على الشيء
من الربح فنتراضى به ، ثم أنطلق فاشتري المتاع من أجله ، لولا مكانه
(1) الوسائل : ج12 ، ب8 من أحكام العقود ، ح7.