المقدمة
إنّ من الموضوعات المهمّة التي طرحها مجمع الفقه الإسلامي ـ بجدة في دورته
العاشرة ـ هو التذكية الشرعية وطرقها الحديثة ، الذي سوف نتعرض فيه إلى معنى
التذكية وشروطها الشرعية ، لنخلص إلى أنّ الذبح بالمكائن الحديثة هل يطلق عليه ، أو
يمكن أن يطلق عليه التذكية الشرعية إذا روعيت فيه شروط التذكية الشرعية ؟
كما أننا سوف نتعرض ثانياً إلى حكم ما جهل إسلام ذابحه ممّا حلّ أكل لحمه ، أو
بالأحرى نتعرض إلى حكم ما جهل تحقّق أحد شروط التذكية الشرعية ممّا حلّ أكل لحمه ،
ليكون البحث أكثر نفعاً وأعمّ ممّا طرح في موضوع الذبائح.
كما أنّنا سوف نتعرض لحكم اللحوم المستوردة التي ابتلي بها المسلمون في هذه
الأيام وغزت الدول الإسلامية. وطبيعي سوف يقتصر كلامنا على تذكية البهائم والطيور
التي تقع عليها الذكاة مع القدرة عليها.
التذكية لغةً :
التذكية هي الذبح ، وذكّيتم أي ذبحتم ، والذبح ـ بالفتح ـ هو قطع الحلقوم من
باطن عند النصيل ، وهو موضع الذبح من الحلق ، وأصل الذبح هو الشق ، وهو
(224)
مصدر قولك : ذبحتُ الحيوان فهو ذبيح ومذبوح (1).
التذكية شرعاً :
وأمّا التذكية الشرعية فقد وقع الاختلاف في معناها عند الفقهاء ، فقد ذكر مشهور
علماء الإمامية : أنّ التذكية عبارة عن قطع الأعضاء الأربعة التي هي :
المريء : وهو مجرى الطعام.
والحلقوم : وهو الحلق ومجرى النفس.
والودجان : وهما عرقان محيطان بالحلقوم.
هذا ، وذكر صاحب نهاية الكرام ومحكي المهذب الإجماع عليه (2).
ولكن ذهب الأسكافي إلى أنّ التذكية عبارة عن قطع الحلقوم وخروج الدم ، وقد ذكر
في الدروس أنّه يظهر من الخلاف ، ومال إليه الفاضل ، وربما مال إليه في المسالك (3).
ولعلّ دليل المشهور هو صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج قال : « سألت الإمام أبا
إبراهيم ( الإمام الكاظم ( عليه السلام ) ) ... فقال : إذا فرى الأوداج فلا بأس بذلك
» (4).
فإنّ مفهومها ثبوت البأس إذا لم تفر ( تقطع ) الأوداج.
وأمّا دليل المخالف للمشهور فقد ذكرت صحيحة زيد الشحّام عن الإمام
(1) مجمع البحرين ، مادة ذكى وذبح ، ولسان العرب مادّة ذبح.
(2) راجع جواهر الكلام : ج36 ، ص105.
(3) المصدر السابق.
(4) وسائل الشيعة : ج16 ، ب2 من الذبائح ، ح1.
(225)
الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال : « ... إذا قطع الحلقوم وخرج الدم فلا
بأس » (1).
وبما أنّ النسبة بين صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج وصحيحة زيد الشحّام العموم من
وجه ، حيث يجتمعان في صورة ما إذا قطع الحلقوم والأوداج الثلاثة ، ويفترقان في صورة
قطع الحلقوم بدون الأوداج ، أو قطع الأوداج الثلاثة بدون الحلقوم ، فيقع التعارض
بينهما في صورة قطع الحلقوم فقط ، خصوصاً إذا نظرنا إلى أن التذكية حكم شرعي يحتاج
إلى التوقيف.
وقد نقل صاحب الجواهر ( قدس سره ) إمكان أن لا تكون معارضة بين صحيحة عبد الرحمان
بن الحجاج وصحيحة زيد الشحّام ، بناءً على ما ذكره المقداد « من أنّ الأوداج
الأربعة متصلة بعضها مع بعض ، فإذا قطع الحلقوم أو الودجان فلابدّ أن ينقطع الباقي
معه ، ولعلّه كذلك في الذبح المتعارف المسؤول عنه في النصوص ، لا ما إذا قصد
الاقتصار على أحدها ... وحينئذ فالانتهاء بالذبح المتعارف إلى منتهى الحلقوم
يستلزم قطع الجميع ، لأنّها مع اتصالها به على وجه الإحاطة ونحوها لا يزيد عرضها
على عرضه ... » (2).
ومع تحكيم المعارضة فإذا شككنا في حصول التذكية الشرعية بقطع الحلقوم وجريان
الدم فالأصل عدمها ، كما أنّ التقديم يكون ما ذكره المشهور ـ من معنى التذكية
الشرعية ـ على ما ذكره غيره كما هو واضح.
وقد وقع الخلاف أيضاً في معنى التذكية الشرعية عند أهل السُنَّة ، فقال بعض : «
يعتبر قطع الحلقوم والمريء ، وبهذا قال الشافعي. وعن أحمد رواية اُخرى : أنّه
يعتبر مع هذا قطع الودجين ، وبه قال مالك وأبو يوسف ، لما روى أبو هريرة قال : نهى
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عن شريطة الشيطان ، وهي التي تذبح فتقطع الجلد
(1) المصدر السابق ح3.
(2) جواهر الكلام : ج36 ، ص106 ـ 107.
(226)
ولا تفري الأوداج ، ثم تترك حتى تموت. رواه أبو داود. وقال أبو حنيفة : يعتبر
قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين » (1).
ولكن اتّفق علماء السنة على أنّ الأكمل في التذكية هو قطع الأوداج الأربعة (2).
أولا : اسلام الذابح :
وهذا شرط ذهب إليه مشهور الإمامية ، ودلّت عليه روايات كثيرة ، منها :
صحيحة سليمان بن خالد قال : « سألت الإمام الصادق ( عليه السلام ) عن ذبيحة الغلام
والمرأة هل تؤكل ؟ فقال ( عليه السلام ) : إذا كانت المرأة مسلمة فذكرت اسم الله على
ذبيحتها حلّت ذبيحتها ، وكذلك الغلام إذا قوي على الذبيحة فذكر اسم الله ... » (3). وبما أنّ الأحكام يشترك فيها الرجل والمرأة فتدل على المطلوب.
أمّا ذبيحة الكافر فإنّ كان وثنيّاً أو ملحداً أو مرتداً أو مغالياً أو
ناصبيّاً (4)
(1) المغني لابن قدامة : ج11 ، ص44 ـ 45 ، الشرح الكبير : ج11 ، ص51.
(2) المصادر المتقدّمة نفسها.
(3) وسائل الشيعة : ج16 ، ب23 من الذبائح ، ح7 وغيره.
(4) حدث لآية الله الشيخ محمد المؤمن « حفظه الله تعالى » حدث في الدورة الثامنة
لمجمع الفقه الإسلامي المنعقدة في بروناي « دار السلام » حيث قدم بحثه المعنون ببطاقة
الائتمان ، وكان يصدره بالسلام على النبي وآله ولعن أعدائهم. فأثارت كلمة « لعن اعداء
أهل البيت ( عليهم السلام ) » بعض الحضّار حيث طبق عنوان الاعداء على نفسه ومن وافقه ،
واعتبر هذا من اللعن المبطّن لهم ولبعض الصحابة. ثم طلب الرئيس رفع البحث من طاولة
الاجتماع وهكذا كان.
أقول : للتوضيح ان كلمة : أعداء أهل البيت تختلف عن كلمة : المخالفين لأهل البيت.
وأهل السُنَّة ( باستثناء النواصب ) يعتبرون عند الإمامية من المخالفين لا أعداء لأنّ
العدوّ وهو الناصبي يُعتبر منكراً لضرورة قرآنية وهي « محبة أهل البيت » فيكون
كافراً. بينما المخالف لا يحكم بكفره لانه ليس عدواً لأهل البيت وان كان قد خالف
طريقتهم باعتقاد الامامية فالمخالف ليس منكراً لمحبة أهل البيت ، بل قد يفتخرون
بمحبتهم ويطلبون الشفاعة منهم استناداً إلى تعاليم القرآن التي أمرت بمحبتهم.
ولكن وللأسف طبق بعضٌ على نفسه العداء لأهل البيت واعتبر نفسه هو الملعون.
وهذا التطبيق الذي حصل لا يرتضيه حضّار المجمع بالتأكيد ، إذ فيه من اللوازم ما
لا يقبله المسلم فكان الأنسب لرئيس المجمع ان لا يتخذ قراراً برفع البحث عن طاولة
المؤتمر وينسبه إلى المجتمعين ولكن الذي حصل خلاف ذلك وهو نقطة غير مضيئة في تاريخ
هذا المجمع. غفر الله للجميع.
ومن الطريف ما حدث في الدورة العاشرة ، للمجمع حيث زفّ الأمين العام للمجمع
«الدكتور محمد الحبيب بن الخوجه » بشرى طبع المجمع كتاب « المدخل المفصّل إلى فقه
الإمام أحمد بن حنبل وتخريجات الأصحاب » لرئيس المجمع الدكتور « بكر بن عبد الله أبو
زيد ». وحينما تصفحت الجزء الأول منه تذكرت هذه الحادثة السابقة حيث وجدت السبّ
واللعن لمن لم يرتأي رأي صاحب الكتاب ومسلكه وهو كثير جداً.
اللهم نسألك العفو والارتفاع عمّا لا يرضي الله سبحانه وتعالى والحمد لله أولا
وآخراً ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.
(227)
ونحوهم فذبيحته محرَّمة عند الإمامية « بل في المسالك وغيرها : أنّه مجمع عليه
بين المسلمين » (1).
وإنّ كان الكافر كتابيّاً فالأقوال ثلاثة عند الإمامية ، ثالثها التفصيل
بالحلّية مع سماع لتسميتهم ، والحرمة مع عدمها.
ولكن المشهور شهرة عظيمة ـ عند الإمامية ـ حرمة ذبيحته ، « بل استقرّ الإجماع في
جملة من الأعصار المتأخرة عن زمن الصدوقين على ذلك ، بل والمتقدّمة كما حكاه
المرتضى أو الشيخ بعد اعترافهما بأنّهُ من منفردات الإمامية ، بل
(1) جواهر الكلام 36 : 79 ـ 80.
(228)
كاد يكون من ضروريات المذهب في زماننا ، مضافاً إلى النصوص المستفيضة التي إن لم
تكن متواترة بالمعنى المصطلح فمضمونها مقطوع به ... » (1).
نعم ، هناك روايات وردت عن أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) تجوّز أكل ذبائحهم ،
إلاّ أنّ هذه الروايات المجوّزة مطلقاً أو المفصّلة قد بلغت من الاختلاف الشديد (
حتى عدّ صاحب الجواهر اثني عشر وجهاً من هذه الروايات ) ما يوجب القطع بأنّها لم
تصدر لبيان الحكم الواقعي (2).
أقول : إنّ الأدلّة الدالة على إسلام الذابح ، والروايات القائلة بعدم أكل ذبائح
أهل الكتاب والناهية عن ذبحهم إن كانت مرشدةً إلى ميتة المذبوح فهي تعارض الروايات
المجوّزة لأكل ذبائح أهل الكتاب ، وحينئذ نأخذ بروايات التحريم ، للترجيح. ومع
تحكّم المعارضة فإنّ الشك في حلية الذبيحة يؤدي إلى جريان أصل عدم التذكية الشرعية
، خصوصاً إذا علمنا أنّ التذكية حكم شرعي يحتاج إلى التوقيف (3).
أمّا علماء أهل السنة فقد اتّفقوا على حلّيّة ذبيحة الكتابي ، مستندين إلى قوله
تعالى : ( وطعام الذين اُوتوا الكتاب حِلٌّ لكم )
حيث فُسِّر الطعام بالذبائح ، لما رواه البخاري عن ابن عباس ومجاهد وقتادة من
أنّ طعامهم يعني ذبائحهم.
وقد اختلفوا في ذبائح العرب من أهل الكتاب ، وذبائح نصارى بني تغلب ، ومن كان
أحد أبويه غير كتابي ممّا لا يحلّ ذبيحته. وقد استدلّوا لحلّيّة ذبائحهم أيضاً
بعموم الآية القرآنية (4). كما قد اختلفوا فيما يذبحه الكتابي لكنيسته وأعياده
،
(1) جواهر الكلام : ج36 ، ص79 ـ 80.
(2) راجع جواهر الكلام : ج36 ، ص81 ـ 85.
(3) التذكية أمر وجودي سواء كان عبارة عن الأفعال المخصوصة التي اشترطها الشارع
أو شيئاً بسيطاً حاصلا منهما.
(4) راجع الشرح الكبير : ج11 ، ص46 ـ 47 ، المغني : ج11 ، ص35.
(229)
فحرَّمه بعض لأنّه اُهلّ به لغير الله ، وأحلّه بعض استناداً إلى عموم آية
( وطعام الذين اُوتوا الكتاب حِلٌّ لكم ) (1).
أقول : جاء في لسان العرب : « وأهل الحجاز إذا أطلقوا اللفظ بالطعام عنوا به
البُرّ خاصة ... قال : وقال الخليل : العالي في كلام العرب أنّ الطعام هو البُرّ
خاصة » (2) وهذا هو الذي يظهر من كلام ابن الأثير في النهاية.
ثم إنّ الروايات المروية عن أهل البيت ( عليهم السلام ) (3) تؤكّد أنّ المراد من
الطعام في الآية هو البُرّ وسائر الحبوب ، فكأنّ الروايات عن أهل البيت تقول : إنّ
الآية نزلت على لغة أهل الحجاز.
فعلى هذا لا يشمل هذا الحلّ لحوم أهل الكتاب.
على أنّ حلية ذبائح أهل الكتاب من دون توفر شروط حلية الذبيحة التي منها التسمية
يؤدّي إلى نتيجة قد لا يلتزم بها أحد من المسلمين ، وهي كون أهل الكتاب أحسن حالا
من المسلمين عند الله تعالى ، لأنّ المسلم إذا ذبح من دون تسمية عمداً حرمت ذبيحته
، أمّا الكتابي الذي يذبح من دون تسمية تحلّ ذبيحته للمسلمين ، على أنّ التمسّك
بحلية كل (4) طعامهم يلزم أنّ تحلل الخمر والخنزير ، فهل يمكن الالتزام بهذه النتائج
؟ !
ولهذه النتيجة التي لا يلتزم بها مسلم ذهب الإمامية إلى أنّ حليّة الحبوب أيضاً
جهتية ، بمعنى عدم المانع من طعامهم من ناحية كونهم أهل كتاب لا من الجهات الاُخرى.
(1) المغني : ج11 ، ص37.
(2) لسان العرب : ج12 ، باب طعم.
(3) راجع وسائل الشيعة : ج16 ، ب26 من الذبائح و ب27.
(4) لأنّ كلمة طعام عامّة تشمل كل طعام لهم.
(230)
ثانياً : التسمية من الذابح :
وهذا الشرط لا خلاف فيه عند الإمامية في حلّ الأكل ، قال تعالى : ( ولا تأكلوا
ممّا لم يذكر اسم الله عليه وإنّهُ لفسق )(1). وقد خصّصت الروايات هذا الشرط في
صورة التذكّر ، ففي صحيح الحلبي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) « أنّه سأله عن
الرجل يذبح فينسى أن يُسمّ أتؤكل ذبيحته ؟ فقال ( عليه السلام ) : نعم ، إذا كان لا
يتّهم » (2) بمعنى تصديقه بدعوى النسيان إذا كان مسلماً يرى وجوب التسمية. وعلى هذا
فسيكون الجاهل بالتسمية كذلك إذا كان لا يتّهم ، بمعنى تصديقه بدعوى جهله بوجوب
التسمية ، وإن كان هناك من يذهب إلى حرمة ذبيحة الجاهل; لعدم النص على حلية ذبيحته
، فيدخل تحت إطلاقات حرمة مالم يذكر اسم الله عليه.
والتسمية عبارة عن ذكر اسم الله تعالى مع التعظيم ، كقوله : بسم الله الرحمن
الرحيم ، أو بسم الله والله أكبر ، ونحوهما ، كما يفهم ذلك العرف من ذكر اسم الله
تعالى. أمّا ذكر كلمة الله لوحدها فيشك في تحليلها للأكل فتجري أصالة عدم التذكية.
هذا ، وقد ذكر مشهور علماء أهل السنّة شرطها في حال الذكر أيضاً ، وتسقط بالسهو
، ولكن ذهب الإمام أحمد في أحد قوليه إلى استحبابها ، وبه قال الشافعي (3).
ثالثاً : أن يستقبل بالذبيحة القبلة :
وقد ذهب إلى اشتراطه الإمامية وبعض من غيرهم كما سيأتي ، ففي حسن
(1) الأنعام : 121.
(2) وسائل الشيعة : ج16 ، ب15 من الذبائح ، ح3.
(3) راجع المغني لابن قدامة : ج1 ، ص32 ـ 33.