بحوث في الفقه المعاصر ـ الجزء الثاني ::: 251 ـ 260
(251)
وإلى هنا انتهينا من ذكر الطرق الحديثة والقديمة للتذكية ، فما هو الحكم الشرعي
اتجاهها ؟
والجواب :
1 ـ بالنسبة للخنق بالطريقة الانجليزية حيث تؤدّي إلى موت الحيوان بالاختناق ـ
فالحكم بالتحريم واضح ، إذ المنخنقة محرّم أكلها بالنص القرآني ( حرمت عليكم الميتة
والدم ولحم الخنزير وما اُهلّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة
وما أكل السبع إلاّ ما ذكيتم ... ) (1).
وكذا الحكم جار في كل خنق يؤدّي إلى ازهاق الروح ، كاطلاق غاز ثاني اوكسيد
الكاربون في غرف مقفلة ، يؤدي إلى ازهاق الروح.
2 ـ وأمّا بالنسبة إلى التدويخ ـ بصوره المتقدّمة ـ فتارة نفترض أنّ هذا التدويخ
قد ادّى إلى وقف قلب الحيوان وموته ـ كما قد يحدث بصورة نادرة ـ قبل إجراء عملية
الذبح عليه ، ففي هذه الحالة يكون الحيوان ميتة ولا ينفعه الذبح بعد الموت.
وتارة نفترض أنّ هذا التدويخ قد ادّى إلى جعل الحيوان فاقد الوعي ( كما هو
الفرض ) وسيعود الوعي إليه بعد مدّة معينة ، ففي هذه الحالة يكفي إجراء
التذكية على الحيوان لحلِّها فيكفي خروج الدم المتعارف في أمثال هذه الحيوانات
المدوّخة وان كان زمن النزف فيه أطول من الوقت المعتاد بدون التدويخ.
وأمّا إذا شككنا في حياة الحيوان بعد التدويخ فيكفي للحكم بالحياة حركته بعد
التذكية ( كحركة الذنب والاُذن ) وذلك للروايات الصحيحة : منها صحيحة الحلبي عن
الإمام الصادق ( عليه السلام ) المصرِّحة باعتبار الحركة بعد الذبح ، قال : « سألته
عن
(1) المائدة : 3.
(252)
الذبيحة ؟ قال : إذا تحرك الذنب والطرف أو الاُذن فهو ذكي » (1).
ومنها : صحيحة زرارة عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « ... فإن
ادركت شيئاً منها وعين تطرف أو قائمة تركض أو ذنب يمصع فقد ادركت ذكاته فكله » (2).
نعم ، هناك رواية الحسين بن مسلم (3) التي اكتفت بخروج الدم المعتدل ( الخارج
بدفع لا بتثاقل ) ، لكن سندها غير تام ، ومن اعتمدها من الفقهاء جعل أحد الأمرين
كافياً في حليّة الذبيحة ، وبعض اعتبر اجتماعهما شرط لحلية الذبيحة ، لكن الأقوى هو
الاكتفاء بحليّة الذبيحة بالحركة بعد التذكية لصحة دليله وضعف غيره.
وعلى هذا فمن الطبيعي حرمة الحيوان المشكوك حياته إذا اُجريت عليه التذكية ولم
يتحرك منه شيء ، وهذا هو مفهوم صحيحتي الحلبي وزرارة المتقدّمتين ، أو لم يتحرك منه
شيء ولم يخرج الدم بصورة معتدلة على الرأي الآخر.
تنبيه :
إنّ التدويخ إذا اُجري على عشرين رأس من الغنم ، وحصل لنا قطع بوقف قلب بعضها من
هذا التدويخ وحصل الذبح للجميع ولم نعلم على وجه التعيين ذلك البعض الذي وقف
قلبه نتيجة التدويخ فالحكم هنا يكون بحرمة أكل جميع العشرين من الغنم; وذلك لحصول
العلم الاجمالي بحرمة بعضها في الشبهة المحصورة ، فيحرم الجميع لهذه الشبهة
الموضوعية والعلم الاجمالي الذي حصل فيها.
(1) وسائل الشيعة : ج16 ، ب11 من الذباحة ، ح3.
(2) وسائل الشيعة : ج16 ، ب12 من الذباحة ، ح1.
(3) وسائل الشيعة : ج16 ، ب12 من الذباحة ، ح2.
(253)
الآداب الشرعية في التذكية :
روي عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنّه قال : « إنّ الله كتب الإحسان على كل
شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحدّ أحدُكم
شفرته وليُرح ذبيحته » (1).
وقد قال النبي ( صلى الله عليه وآله ) لمن حدّ شفرته أمام الشاة : « أتريد أن
تميتها ميتتين ، هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها ؟ ».
وقال الإمام علي ابن أبي طالب ( عليه السلام ) : « لا تذبح الشاة عند الشاة ، ولا
الجزور عند الجزور وهو ينظر إليه » (2).
ومن هذه النصوص المتقدّمة نفهم أن الإسلام أراد إراحة الحيوان عند الذبح ، ولكن
كيف لنا إراحة الحيوان عند الذبح ؟
ذهب بعضٌ (3) إلى أن إراحة الحيوان بصورة موضوعية تكون من خلال علامات رئيسية هي
الألم والكرب (4) والوعي ، فالألم يسبب الكرب ، والكرب قد يحدث لأسباب عديدة احدها
الإحساس بالألم ، وحينئذ إذا أفقدنا وعي الحيوان فيزول الكرب والإحساس بالألم.
أقول : لابدّ لإراحة الحيوان من غياب الألم أو إنقاصه إلى الحدّ الأدنى عند
الذبح الذي هو العنصر الرئيسي في اراحة الحيوان ، وهذا يتوقّف على أن تكون آلة
الذبح حادّة جداً ، ولكن حدّها ينبغي أن لا يكون أمام الحيوان الذي يتولد له
(1) اخرجه مسلم في باب الأمر بالاحسان بالذبح.
(2) الكافي : ج6 ، ص230.
(3) نقل هذا الرأي الدكتور محمد الهواري في مقالته حول الذبائح والطرق الشرعية
في انجاز الذكاة عن دراسة مقتبسة من رسالة جامعية لذيل شهادة الدكتوراه من اعداد «
إن كاترين فيرمو » بعنوان الذبح الشرعي الديني الحلال والشيخيتا عام 1994 ـ 1995م.
(4) الكرب هو الخوف.
(254)
خوف وكرب من هذه الحالة.
وعلى هذا فينبغي أن نتجنّب أيّ عملية تخيف الحيوان عند الذبح مثل الضجيج الذي
يحدث عند الذبح ، ورائحة الدم الذي يخرج من حيوان نتيجة ألم وخوف ، حيث ثبت أن الدم
الذي يخرج على الصفة المتقدّمة يؤدّي إلى كرب الحيوانات الاُخرى ، بخلاف الدم الذي
يخرج من حيوان هادئ حيث لا يسبب أي خوف للحيوانات الاُخرى ، بل تقوم الحيوانات
الاُخرى بلعق هذا الدم الذي خرج بهدوء.
أمّا فقد الوعي في الحيوان بواسطة مسدس واقذ أو بواسطة الصعقة الكهربائية أو
بغاز ثاني اوكسيد الكاربون ، فإنّ ثبت أنّ هذه الأمور لا توجد أي أذىً او خوف عند
الحيوان ولا توجب توقف قلبه وإماتته فلا بأس بها ، وتكون منسجمة مع النصوص الشرعية
التي أمرت باراحة الذبيحة عند الذبح ومصاديق جديدة لها. وأمّا إذا كان فيها نوع
أذىً وخوف للحيوان فتكون منافية للغرض الذي جاءت من أجله ، حيث أوجدت خوفاً أو أذىً
للحيوان ، وقد تكون أكثر من خوفه وأذاه عند الذبح وهو واجد لوعيه تماماً ، ولهذا
نرى أنّ فقدان الوعي في الحيوان إنّما يكون من الآداب الشرعية إذا خلا من الأذى
والكرب للحيوان ، وإلاّ فلا يكون من آداب الذبح.
حكم ما جهل اسلام ذابحه ممّا حلّ أكل لحمه ( حكم ما جهل ذابحه ) :
وهذه المسألة قد عبرّ عنها علماء الإمامية بـ ( الشبهة الموضوعية ) لأنّ الحكم
واضح من حيث حلية الذبيحة إذا كان الذابح مسلماً ، وحرمتها إذا كان غير مسلم كما هو
الصحيح. ولكن الاشكال في حلية الذبيحة قد جاء من الموضوع الخارجي الذي حقّق الذبح
، هل هو مسلم أو غير مسلم ؟
(255)
وهذا البحث لا يكون علمياً إذا شككنا في اسلام الذابح أو كتابيته ، بناءً
على ما ذهب إليه مشهور أهل السنة (1) وبعض من غيره من حلية ذبيحة الكتابي وذبح
ما يستحلّه ، لأنّ الذبيحة حلال على كل حال إذا توفّرت بقية شروط الذبح.
نعم ، يكون هذا البحث مثمراً لأهل السنّة ومن يرتأي رأيهم في صورة كون الشك في
اسلام الذابح أو كونه كافراً غير كتابي ، فتكون الشبهة موضوعية أيضاً ، بمعنى أنّها
نشأت من الموضوع الخارجي مع معرفة الحكم في صورة كون الذابح مسلماً أو كونه كافراً
غير كتابي.
وعلى كل حال فقد يعمّم موضوع البحث لما إذا شُكَّ في تحقّق شروط الذبيحة أو لم
يسمّ عمداً ، أو شك في تركه في توجيه الذبيحة إلى القبلة عمداً أو سهواً ، أو نشك
في فري الأوداج الأربعة بآلة حادة ، أو بالسكين بناءً على من يشترطها أو يشترك
الفلزّ الخاص ، أو قطعها بيده ، وهكذا ممّا يرجع الشك إلى الموضوع الخارجي.
وأمّا حكم هذه المسألة فتوجد عندنا قاعدة واستثناء :
أمّا القاعدة فهي عامّة في كل حكم قد شرط (2) بأمر آخر ، فما لم يتحقّق ذلك الأمر
لا يتحقّق الحكم خارجاً ، وحينئذ يكون الحكم في موردنا عدم جواز الأكل من الذبيحة
للذي يشك في اسلام الذابح ، فلا يدري أنّه مسلم أو ملحد ، أو لا يدري
(1) راجع المغني لابن قدامة : ج11 ، ص54 وما بعدها ، والجواهر الثمينة : ج1 ،
ص584 ، والشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك : ج2 ، ص154.
هناك اختلاف شديد بين أهل السنّة في حلية ذبيحة الكتابي مطلقاً ، أو في صورة
سماع تسميته ، أو في ذبحه لنفسه ما يستحلّه ، أو ذبحه لمسلم ، راجع في ذلك الجواهر
الثمينة.
(2) المراد من الشرط هنا هو « ما يلزم من عدمه عدم الشيء » كما يقال : إنّ
الوضوء شرط الصلاة.
(256)
أنّه مسلم أو غير مسلم بناء على الرأي الآخر. وقد طابق هذه القاعدة أيضاً أصل
عدم التذكية ، لأنّ شرط الأكل هو التذكية الشرعية ، وهذا الأمر مشكوك في تحقّقه ،
كما هو الفرض ، والأصل يقتضي عدم التذكية ، لأنّها أمر وجودي يشك في تحقّقه ، فتبقى
حرمة الأكل على حالها.
وهكذا الأمر بالنسبة إلى الصلاة التي اشترط في صحتها أن يكون الملبوس غير ميتة ،
فالقاعدة تقول بعدم جواز الأكل وعدم صحة الصلاة إلاّ بما علم أنّه مذكّى (1).
(1) وقد ذكر المشهور نجاسة الجلد أو اللحم ، بالاضافة إلى عدم جواز اكله وعدم
جواز الصلاة فيه ، لأنّ المشهور قد جعل عدم التذكية ميتة ، فإذا كان أصل عدم
التذكية جارياً ، فاللحم حرام أكله ، ولا يجوز الصلاة في جلده وهو نجس. راجع فوائد
الاُصول ، تقريرات الميرزا النائيني ( قدس سره ) : ج3 ، ص384 ، إذ قال : « لا يمكن
التفكيك بين الطهارة والحلية بحسب الاُصول العملية. هذا ولكن يظهر من بعض الأساطين
التفصيل بين الطهارة والحلية في المثال المتقدّم ، فحكم عليه بالطهارة وحرمة لحمه ».
وراجع مستمسك العروة الوثقى : ج1 ، ص328 حيث نقل عن الحدائق نجاسة الجلد المطروح
ـ الذي لا يعلم أنّه مذكّى أم لا ـ إلى المشهور لأصالة عدم التذكية. وراجع المحكم
في اُصول الفقه للسيد محمد سعيد الحكيم : ج4 ، ص119 و120.
بينما ذكر بعض ـ كصاحب الحدائق وغيره ـ أنّ الطهارة التي هي شرط في الصلاة يكفي
فيها احتمال التذكية ، وحينئذ تجري قاعدة الطهارة في المقام ، فيحصل التفكيك بين
حرمة الأكل وطهارة الجلد واللحم ، باعتبار أن الأكل ( وكذا جواز الصلاة في الجلد )
لابدّ فيهما من احراز التذكية ، وما لم تحرز التذكية لا يجوز أحدهما. بينما طهارة
اللحم والجلد يكفي فيهما احتمال التذكية الذي هو موجود في المقام.
وقد وافق صاحبَ الحدائق السيدُ الخوئي ( رحمه الله ) ولكنه خالفه في دليل طهارة
اللحم والجلد فقال : إنّ الطهارة وجواز الانتفاع بمشكوك الحلّ أو الحرمة هو من باب
أنّ النجاسة وحرمة الانتفاع إنّما رتّبا على موضوع الميتة ، واستصحاب عدم التذكية
أو إحالة عدم التذكية لا يثبتا الميتة إلاّ بالأصل المثبت ( الذي ليس بحجة كما قرر
في الاُصول ) فلا تترتب النجاسة ولا حرمة الانتفاع بالمشكوك ذكاتُه. فقه الشيعة :
تقريرات الإمام الخوئي : ج2 ، ص393 ـ 396.
(257)
وقد اشار إلى هذا صاحب الجواهر إذ قال : « إنّ المشكوك فيه باعتبار عدم العلم
بتذكيته وعدم أمارة شرعية تدلّ عليها محكوم بأنّه ميتة لأصالة عدم التذكية » (1).
والدليل على ذلك ـ بالاضافة إلى ما تقدّم من ـ النصوص الشرعية التي منها :
قول الإمام الصادق ( عليه السلام ) لزرارة في موثّق ابن بكير : « ... فإن
كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره وشعره وبوله وروثه وألبانه وكل شيء منه جائزة
إذا علمت أنّه ذكيّ قد ذكاه الذابح » (2) بناءً على أنّ التذكية شرط في حلية الأكل
كما هي شرط في لباس المصلّي ، أو نستفيد ذلك من قوله ( عليه السلام ) : « وكل شيء منه
جائزة إذا لم تكن راجعة إلى ألبانه ».
أمّا الاستثناء فهو في صورة ما إذا شككنا في إسلام الذابح ، أو شككنا في توفر
شرائط الذبح ، ولكن كان المشكوك في يد المسلمين بأنّ كان في سوقهم أو أرضهم ، وكان
عليه أثر الاستعمال فيما يشترط فيه الطهارة ، فإنّه يجوز اكله والصلاة في جلده.
وقد دلّ على هذا الاستثناء روايات صحيحة منها :
1 ـ صحيح الحلبي قال : « سألت الإمام الصادق ( عليه السلام ) عن الخفاف التي تباع
في السوق فنشتريها فما ترى في الصلاة فيها ؟ فقال ( عليه السلام ) : اشترِ وصلِّ فيها
حتى تعلم أنّه ميتة بعينه » (3).
2 ـ صحيح أحمد ابن أبي نصر عن الإمام الرضا ( عليه السلام ) « وقد سأله الخفّاف
(1) جواهر الكلام : ج8 ، ص50.
(2) وسائل الشيعة : ج3 ، ب2 من لباس المصلي ، ح1.
(3) وسائل الشيعة : ج2 ، ب50 من النجاسات ، ح2.
(258)
ياتي السوق فيشتري الخف لا يدري أذكي هو ام لا ، ما تقول في الصلاة فيه وهو لا
يدري أيصلي فيه ؟ قال ( عليه السلام ) : نعم أنا أشتري الخف من السوق ويصنع لي
واُصلّي فيه ، وليس عليكم المسألة » (1).
3 ـ وفي موثّق اسحاق بن عمار عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال : « لا
بأس بالصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام. قلت له : وإنّ كان فيها
غير أهل الإسلام ؟ قال ( عليه السلام ) : إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس » (2).
وقد يقال هنا بجريان قاعدة اُخرى في خصوص ما إذا شككنا في شرائط الذبيحة بعد
إحراز أنّ الذابح مسلمٌ ، وهي قاعدة حمل فعل المسلم على الصحة التي هي مقدّمة على
أصالة عدم التذكية (3).
ولكن ذكر الشيخ النائيني ( قدس سره ) في فوائد الاُصول بأنّ أصالة الصحة إنّما
تكون حاكمة على خصوص أصالة عدم النقل والانتقال وبقاء المال على ملك مالكه ،
وأمّا إذا كان في مورد الشك أصل موضوعي آخر يقتضي الفساد كأصالة عدم بلوغ العاقد أو
عدم قابلية المال للنقل والانتقال فلا تجري فيه اصالة الصحة (4).
تنبيهات :
1 ـ ما المراد من الاستعمال فيما يشترط فيه الطهارة ؟
الجواب : إنّ المراد من الاستعمال في ما يشترط فيه الطهارة هو الاستعمال
(1) المصدر السابق : ح6.
(2) المصدر السابق : ح5.
(3) جواهر الكلام : ج8 ، ص56 حيث أرجع قاعدة سوق المسلمين ويد المسلم إلى أصالة
صحة فعل المسلم.
(4) فوائد الاُصول : ج4 ، ص656.
(259)
الاقتضائي أو الاستعدادي لا الفعلي من كل جهة ، فإذا كان الجلد الذي
يعرض للبيع يمكن أن يُجعل ظرفاً للماء ، كما يمكن أنّ يجعل ظرفاً للقاذورات ،
وكان اللحم المعرّض في السوق للبيع يمكن أن يأكله الإنسان ، كما يمكن أنّ يقدّم
غذاء للقطط ، فهذا كاف في صحة الاستعمال في ما يشترط فيه الطهارة (1).
كما أنّ الموجود في سوق المسلمين أو أرض الإسلام لا يكفي في الحلّية للأكل
أو جواز الاستعمال في الصلاة إذا لم يعلم استعماله الاقتضائي أو الاستعدادي في ما
يشترط فيه الطهارة ، كما إذا وجد في السوق مع احتمال إرادة احراقه أو اعطائه
للحيوانات احتمالا معتدّاً به ، أو احتمل أن يكون فريسة سبع كذلك (2).
2 ـ ما المراد من السوق الوارد في الروايات ؟
الجواب : إنّ كلمة « السوق » في الروايات منصرفة إلى سوق المسلمين; وذلك لعدم
وجود سوق للكفار في بلاد المسلمين يتعاطون فيها ما يعتبر فيه التذكية من لحوم أو
جلود أو شحوم. كما أن الروايات ذكرت عدم العبرة بسوق الكفار ، كصحيحة الفضيل
وزرارة ومحمد بن مسلم أنّهم سألوا الإمام الباقر ( عليه السلام ) عن شراء اللحوم من
الأسواق ولا يدرى ما صنع القصّابون ؟ فقال ( عليه السلام ) : « كُلْ إذا كان ذلك في
سوق المسلمين ولا تسأل عنه » (3).
3 ـ ما هو ميزان معرفة سوق المسلمين ؟
الجواب : إنّ الميزان في معرفة سوق المسلمين أو أرضهم من غيرهم هو الميزان الذي
ذكره الإمام الصادق ( عليه السلام ) في جواب سؤال اسحاق بن عمار المتقدّم :
(1) راجع مهذب الاحكام للسيد السبزواري : ج5 ، ص277.
(2) راجع جواهر الكلام : ج8 ، ص57.
(3) وسائل الشيعة : ج16 ، ب29 من الذبائح ، ح1.
(260)
« إذا كان الغالب عليها المسلمون فلا بأس » وهذا الميزان غير مناف للعرفأيضاً ،
فيميّز سوق الإسلام بأغلبية المسلمين فيه ، سواء كان حاكمهم مسلماً أم لا ، وحكمهم
نافذاً أم لا.
4 ـ لا موضوعية لسوق المسلمين أو أرضهم :
لقد ذكر الفقهاء أنّه لا موضوعية لسوق المسلمين أو أرضهم ، بمعنى أن سوق
المسلمين أو أرضهم يكون كاشفاً نوعيّاً عن كون البائع مسلماً ، وإلاّ فلا دخل
للبناء في السوق من غرف أو سقف. وعلى هذا فإنّ ما وجد في سوق المسلمين أو أرضهم هو
عبارة عن أمارة يد المسلم إذا كان المسلم يستعمل ما في يده في ما يشترط فيه الطهارة
( كالصلاة مثلا ) فلا اثنينية بين أمارة سوق المسلمين ويد المسلم في الحكم بتذكية
المشكوك الذي نحن بصدده.
وبعبارة أدقّ : إنّما يكون المقصود أولا وبالذات في أمارة التذكية هو يد المسلم
وتصرفه في اللحم أو الجلد في ما يشترط فيه الطهارة ، ويكون السوق طريقاً إليها ،
فلا تكون يد المسلم في قبال سوق المسلمين.
وهكذا نخلص إلى أنّ ما وجد في يد المسلم أو سوق المسلمين أو أرضهم ولا يعلم
ذابحه قد حكم الشارع بحلية الذبيحة ( كما ذكرت الروايات ) وحَكَمَ الشارع على
الذابح بأنّه مسلم ، ولذا عند موته يجب تغسيله ودفنه وغيرهما من احكام المسلمين (1).
وعلى ما تقدّم لا يجوز الشراء من معلوم الكفر ولو كان في سوق المسلمين ، لما
ذكرنا من أن العبرة هي يد المسلم الذي يستعمل السلعة في ما يعتبر فيه الطهارة ، ولا
خصوصية للسوق.
ومن نافلة القول أنّ نبيّن أن المفروض في كل مسلم معرفته بالأعمال المشترط فيها
الطهارة ومقيّد بها غالباً.
(1) جواهر الكلام : ج8 ، ص56.