بحوث في الفقه المعاصر ـ الجزء الثاني ::: 341 ـ 350
(341)
الذي يخسّر به الإنسان المتَّبع له.
وعيب هذا الدليل هو عدم إمكان الأخذ بظاهر الآية; وذلك لأنّ كثيراً من الأشياء
المتيقّن بجوازها هي عبارة عن تغيير خلق الله ، مثل قصر اللحى والختان وقص الاظفار
والشعر ، وتغيير مجرى المياه وإزالة الجبال وشق الطرق وما إلى ذلك من اُمور كثيرة
نقطع بجوازها وهي تغيير لخلق الله تعالى.
وقد يجاب على هذا الاشكال بتطبيق قانون التغيير ، فيقال : إنّ الآية مطلقة في
حرمة تغيير خلق الله على انه من عمل الشيطان ، وقد خرج ما خرج بمخصص منفصل أو إجماع
أو ضرورة فقهية أو بمخصص متصل ، وبقي ما بقي مثل نقص العضو في الإنسان الذي نحن
بصدده.
ولكن نقول : إنّ الاشكال الذي نذكره هنا هو أحد شِقّين :
1 ـ إنّ وضوح خروج عدد مهمٍّ من الاُمور بصورة مرتكزة قد اكتنف بالآية القرآنية
، وهذا يغيّر المعنى ويزلزل أصل الظهور ، فيأتي الاجمال.
2 ـ أو نقول : إنّ هذا الخروج لكثير من الاُمور المهمّة بصورة مرتكزة المقارن
للآية يكون قرينة على ارادة معنى آخر وهو : أنّ الشيطان بقوله : ( فليغيّرن خلق
الله ) يريد به التهديد بتغيير فطرة التوحيد ، لا التغيير المادي.
ولكن ممّا يهدم الشق الثاني قوله تعالى : ( فليبتكن آذان الأنعام ) فإنّ
تشقيق آذان الأنعام هو أمر مادّي ، فيكون المراد من تغيير خلق الله في الآية هو
التغيير المادّي لا تغيير فطرة التوحيد.
ولكنّ هذا الهدم غير سليم; وذلك لأنّ فرض ضلالية تشقيق الآذان ليس من باب تغيير
خلق الله ، وإنّما توجد هناك عمليتان يشير إليهما ابليس ، وهما :
أ ـ فليبتِّكن آذان الأنعام ، فقد فسّر بأنّه اشارة إلى جرّ البشرية الخرافات ،
وكانت هناك خرافة في العصر الوثني في أن الأنعام : إمّا أن تقص آذانها أو تشق ،
(342)
وحينئذ يحرم أكل لحمها ، والإسلام جاء لابطال هذه الخرافات.
ب ـ فليغيّرنّ خلق الله ، وقد فسّر بتفاسير ، وفي الروايات التي نقلتها كتب
التفسير عن الإمام الباقر والصادق ( عليهما السلام ) : أنّ المراد بتغيير خلق الله هو
تغيير فطرة التوحيد ، ويستشهد على ذلك بآية
( فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرةَ الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله
ذلك الدين القيّم ) (1).
إذن يبقى الاشكال على الآية بأنّها إمّا مجملة ، أولها معنىً آخر غير التغيير
المادّي الذي نحن بصدده.
ج ـ وقد يستدل بدليل ثالث على حرمة بعض هذه الاُمور (2) ، كما إذا كان تنقيص
العضو عند المرأة يستوجب إجراء عملية لها من قبل الرجل ، وهو حرام ، لحرمة النظر
إلى المرأة الأجنبية ، أو كون تنقيص العضو ـ من قبيل سدّ الأنابيب ـ الذي يسمى
بالعقم الدائم قد يستوجب النظر إلى العورة وهو أمر محرم ، بينما يكون سدّ الأنابيب
أو تنقيض العضو أمراً اختيارياً للمرأة ، وحكمه الجواز ، ولكن لا يقدم الجواز على
الأمر الحرام. وهنا لأجل البحث في هذا الموضوع المهم نقسّمه قسمين :
القسم الأول : ويبحث عن صورة التماثل بين المعالِـج والمعالَج ، فالطبيب هو
الذي يجري عملية العقم الدائمي على الرجل وينظر إلى خصيتيه مثلا ، أو المرأة هي
التي تنظر إلى عورة المرأة لأجل غلق الأنابيب ، أو قطع الكلية مثلا.
القسم الثاني : ويبحث عن صورة الاختلاف ، بمعنى أن الطبيب هو الذي يجري
عملية العقم الدائمي على المرأة ، أو قطع كليتها ، أو المرأة هي التي تجري عملية
العقم الدائمي للرجل وتنظر إلى خصيتيه مثلا أو تقطع كليته.
(1) الروم : 30.
(2) إنّ هذا الدليل يختص في صورة كون العملية فيها نظر إلى العورة ، أو فيها
حرام آخر مثل النظرالأجنبية.
(343)
أمّا بالنسبة للقسم الأول فقد يقال : إنّ الحرمة التي اثبتها الشارع المقدّس على
المرأة في النظر إلى عورة امرأة متماثلة لها ، أو وجوب ستر عورتها عن المماثل لها
قد دلّت عليها الآية القرآنية ( قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم
ذلك أزكى لهم إنّ الله خبير بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن
فروجهن ... ) (1). وكذا جملة من الروايات مثل صحيحة حريز عن الإمام الصادق
( عليه السلام ) قال : « لا ينظر الرجل إلى عورة أخيه » (2).
وفي حديث المناهي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) عن النبي ( صلى الله عليه وآله )
قال : « ومن تأمل في عورة أخيه المؤمن لعنه سبعون ألف ملك ، ونهى المرأة أن تنظر
إلى عورة المرأة » (3).
ولكن لنا أن نتساءل هنا عن تقييد لهذا الاطلاق يجوّز لنا أن تنظر المرأة عورة
المرأة ، فهل يوجد تقييد ؟
الجواب : هناك تقييد واضح في حالة الاضطرار إلى المعالجة ، أو كون عدم المعالجة
فيه حرج على المرأة ، فنفس الضرورة والحرج يُجوِّزان للمرأة أن تعرض نفسها على
المرأة لأجل النظر إلى العورة إذا احتاجت إلى ذلك ، وكذا يجوز للطبيبة النظر كذلك.
ولكنّنا حيث كنّا نتكلم في العقم غير الضروري ، بحيث لو بقيت المرأة من
دون سدٍّ للأنابيب تتمكّن من عدم الإنجاب ، أو الإنجاب من غير أن توقع نفسها في حرج
أو ضرر كبير ، فهل لنا تقييد آخر يجوّز لنا أن ينظر المماثل إلى المماثل ؟
(1) النور : 30 ـ 31.
(2) وسائل الشيعة : ج1 ، ب75 احكام الخلوة ، ح1.
(3) وسائل الشيعة : ج1 ، ب75 من أحكام الخلوة ، ح2.
(344)
قد يقال (1) بأنّنا لا نفهم الاطلاق من حرمة النظر إلى المماثل ، لأنّ هذا الحكم
الذي هو خال عن الشهوة إنّما وجد من أجل الاحترام والاحتشام ، ففي كل مورد يوجد
هناك غرض عقلائي لكشف العورة لا يكون الكشف محرماً; لأنّه; لا يكون خلاف الاحتشام
والوقار.
وبعبارة اُخرى : أنّ الاستظهار العرفي من الآية القرآنية المتقدّمة ومن رواية «
لا ينظر الرجل إلى عورة أخيه » وأمثالها لا يفهم منه الاطلاق بعد إحراز أنَّ
(1) ذهب إلى هذا الدليل آية الله السيد كاظم الحائري ، وهو متين إذا احرزنا أن
الحرمة التي جعلها الشارع المقدّس في النظر إلى المماثل هي حرمة احترامية ، ونستطيع
أن نثبت ذلك بعدّة روايات ، منها :
1 ـ صحيحة ابن أبي عمير عن غير واحد عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : «
النظر إلى عورة مَن ليس بمسلم مثل النظر إلى عورة الحمار ». وسائل الشيعة : ج1 ،
ب6 من أبواب آداب الحمّـام ، ح1.
2 ـ ما روي عن السكوني عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : « قال رسول الله
( صلى الله عليه وآله ) : لا حرمة لنساء أهل الذمّة أن ينظر إلى شعورهن وأيديهن ».
وسائل الشيعة : ج14 ، ب112 من مقدّمات النكاح وآدابه ، ح1.
3 ـ ما روي عن عباد بن صهيب قال : سمعت الصادق ( عليه السلام ) يقول : « لا بأس
بالنظر إلى رؤوس أهل تهامة والأعراب وأهل السواد والعلوج ، لأنّهم إذا نهوا لا
ينتهون ، قال : والمجنونة والمغلوبة على عقلها لا بأس بالنظر إلى شعرها وجسدها ما
لم يتعمّد ذلك ». المصدر السابق : ب113 ، ح1.
4 ـ صحيحة محمد بن مسلم قال : سمعت الإمام الباقر ( عليه السلام ) يقول : « ليس
على الأمة قناع في الصلاة ولا على المدبَّرة ، ولا على المكاتبة إذا اشترط عليها
قناع في الصلاة وهي مملوكة حتى تؤدّي جميع مكاتبتها ... ». المصدر السابق : ب114
، ح2.
وهذه الروايات واضحة الدلالة على أنّ الحكم في الحجاب هو للاحترام ، ولذا يسقط
هذا الحكم في صورة زوال الاحترام والاحتشام. ولكن لا يمكن العمل باطلاق الرواية
الاُولى التي هي تشمل صورة نظر المماثل إلى المماثل ونظر المخالف إلى المخالف;
لوجود روايات تمنع من أن ينظر المخالف إلى المخالف إلاّ في صورة الاضطرار ، كما في
صورة احتياج المرأة إلى الطبيب الذكر ، فتبقى صورة المماثلة يجوز فيها النظر إذا لم
يكن خلاف الاحترام ، كما في صورة وجود غرض عقلائي من الكشف. قد يقال : إنّ
الاحترام الذي يدور مداره الحكم الشرعي ليس بيد العرف ، لتربية الإسلام الخاصة
لأتباعه ، ولهذا فقد ارتأى الإسلام أن الاحترام يرفع في صورة الاضطرار فقط.
(345)
الحرمة هنا احترامية ، بل يفهم أنَّ كل ما كان خلاف الاحتشام والوقار والاحترام
يكون محرَّماً ، كما في كشف المرأة عورتها أمام المماثل بلا داع عقلائي ، أمّا إذا
جاء الداعي العقلائي فلا يكون كشف العورة أمام المماثل محرّماً; لأنّه لا يكون خلاف
الاحترام والوقار. ويؤيده أن سعد بن معاذ لمّا حكم على قريضة « كان يكشف عورات
المراهقين ، ومن انبت منهم قُتِل ، ومن لم ينبت جُعل في الذراري (1) مع إمكان معرفة
البلوغ بغير الكشف.
وعلى هذا فلا يشمل اطلاق التحريم حالة العقم التي فيها هدف عقلائي ، بمعنى أن
موضوع الحكم قد انتفى إذا وجد الهدف العقلائي لكشف العورة ، وهذا هو معنى : أنَّ
العرف والارتكاز العقلائي لا يرى أن كشف العورة ـ أمام المماثل إذا كان هناك هدف
عقلائي ـ خلاف الاحترام والاحتشام ، بنكتة الحكم والموضوع.
نعم ، إذا كان كشف العورة ـ حتى في صورة وجود الهدف العقلائي ـ خلاف الاحتشام
فتشمله أدلّة الحرمة ، ولكنّ هذا غير صحيح عرفاً.
وأمّا بالنسبة لقطع كلية المرأة من قبل امرأة مماثلة فلا إشكال فيها من ناحية
حرمة النظر ، كما هو واضح.
وأمّا بالنسبة للقسم الثاني ـ المعالجة عند الاختلاف ـ فإنّ الإشكال يتركّز في
حرمة النظر إلى عورة المرأة أو جسمها لأجل عملية العقم الدائم من قبل الرجل ، في
صورة وجود المرأة الطبيبة أو عدم وجودها; لأنّنا نبحث في صورة كون تنقيص العضو أو
العقم الدائم ليس بواجب ، ولكنّه ذو فائدة عقلائية للفرد ، فهل هناك طريق لتجويز
هذا النظر المحرّم بالأصل ؟
الجواب : لا طريق لذلك إلاّ في حالة انطباق عنوان الضرورة من عدم وجود الطبيبة ،
أو كان الطبيب الموجود لا يفيد لهذا الأمر ، وذلك لوجود الروايات المانعة
(1) سنن البيهقي : ج6 ، ص58.
(346)
من النظر إلى العورة أو إلى جسم المرأة غير الوجه والكفين ، ومن الروايات الدالة
على ذلك :
1 ـ صحيحة أبي حمزة الثمالي ، عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) قال : « سألته عن
المرأة المسلمة يصيبها البلاء في جسدها إمّا كسر وإمّا جرح في مكان لا يصلح النظر
إليه ، يكون الرجل أرفق بعلاجه من النساء ، أيصلح له النظر إليها ؟ قال : إذا
اضطرّت إليه فليعالجها إن شاءت » (1).
ومفهومها : أنّها إذا لم تضطرّ إليه ووجدت طبيبة تؤدّي نفس الغرض فلا يجوز.
ثمّ إنّ الاضطرار الذي أشارت إليه الرواية هو اضطرار عرفي ، قد يحصل
بواسطة كون الطبيب ( اعلم واقدر ، مع أن مرضي يحتاج إليه ) ، أمّا إذا كان الطبيب
أعلم وأقدر ولكن مرضي نوع مرض لا يحتاج إليه فلا يعدّ من الاضطرار العرفي.
ثم إنّ كلمة « إن شاءت » التي جاءت في آخر الرواية تشير إلى نكتة أنّ الطبيب لا
يجوز له معالجة المرأة إلاّ برضاها ، رغم أنّ المرأة قد أجاز لها الشارع أن يعالجها
الطبيب عند الضرورة.
2 ـ صحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه ( الإمام موسى بن جعفر ( عليه السلام ) )
قال : « سألته عن الرجل يكون ببطن فخذه أو أليته الجرح هل يصلح للمرأة أن تنظر إليه
وتداويه ؟ قال : إذا لم يكن عورة فلا بأس » (2).
وهذه الرواية جوّزت مداواة المرأة للرجل إذا لم يكن فيه كشف لعورته ، فيجوز لها
أن تجري عملية جراحية لقطع كلية الرجل ولو لم تكن ضرورة
(1) وسائل الشيعة : ج14 ، ب130 من أبواب مقدّمات النكاح ، ح1.
(2) وسائل الشيعة : ج14 ، ب130 من أبواب مقدّمات النكاح ، ح4.
(347)
لذلك. أمّا الرجل فلا يجوز له أن يجري عملية جراحية للمرأة حتى الاستئصال
كليتها إلاّ في صورة الضرورة. وبهذا اختلف الحكم بين مداواة الرجل للمرأة
إذا استلزم النظر إلى جسمه ـ خلا العورة ـ تبعاً لاختلاف الروايات في ذلك.
هل يجوز نقل الأعضاء البشرية وزرعها ؟
بقي عندنا نفس نقل الأعضاء البشرية من إنسان لآخر التي ليس فيها حرمة مسبقة فهل
هو جائز بلا كلام ، أو حرام بلا كلام ؟
قد يقال بعدم الجواز ، ودليله هو : أن الإنسان وإن كان متسلّطاً على نفسه إلاّ
أنّه ليس له حقّ المثلة بجسمه ، وقطع الإنسان لعضو من اعضائه وإن كان بواسطة الطبيب
ورضاه هو مثلة غير جائزة.
ولكن الجواب عن ذلك : أنّ العرف يرى أنّ المثلة تتحقّق عند التعدّي على الإنسان
، وفي صورة ما نحن فيه لا يكون أي تعدٍّ من إنسان على آخر ، بل جاء الإنسان
الأول بطوع اختياره وإرادته وطلب من الطبيب نقل عضو من أعضائه إلى أخيه أو صديقه ،
أفهل يصدق عرفاً على هذا العمل من الطبيب أنه مثلة ؟ !
وقد يقال : « إن التبرع بنقل العضو البشري إنّما يكون فيما يملكه الإنسان ، وإن
المالك الحقيقي لجسد الإنسان وروحه هو الله تعالى ، أمّا الإنسان فهو أمين على جسده
فقط ومطلوب منه أن يحافظ عليه ممّا يهلكه أو يؤذيه استجابة لقوله تعالى : ( ولا
تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة )
ولهذا كانت عقوبة الانتحار هو الخلود في النار ، ... وبناءً على ذلك
فإنّ الإنسان الذي لا يملك ذاته ولا يملك أجزاء هذه الذات لا يمكن التبرع بأعضاء
جسمه فهي هبة من الله للإنسان المؤتمن عليها ، ولا يحقّ له التصرف فيها » (1).
(1) ذهب إلى هذا الرأي الشيخ محمد متولي الشعراوي في بحث كُتب في مجلة العالم
الأسبوعية السنة التاسعة 6 شباط 1993م 14 شعبان 1413 هـ العدد ( 469 ) ص33.
(348)
ولكن من حقّ إنسان أن يناقش فيما ذكر كدليل على عدم جواز نقل العضو من إنسان
لآخر ، إذ دليل المتكلّم ينحلّ إلى شقّين :
الأول : لا يجوز للإنسان أن يلقي نفسه في التهلكة ، وهذا أمر لم يختلف فيه اثنان.
الثاني : لا يجوز للإنسان أن يقدم عضواً من اعضائه إلى غيره بدليل أن الإنسان لا
يملك هذا العضو ، وأنّ المالك الحقيقي هو الله سبحانه وتعالى.
ونحن وإن قبلنا أنّ العضو الذي هو جزء من جسدي ليس ملكاً لي ، إلاّ أنّ قطعه
وتقديمه للغير غير متوقّف على ملكيته لي ، بل لنا أن نقول : إنّ الإنسان له نوع
ولاية على جسمه واعضائه وقد منع من القاء نفسه في التهلكة بواسطة آيتين قرآنيتين
هما ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) وآية ( ولا تقتلوا أنفسكم ) وأمّا
إعطاء عضو من الأعضاء إذا لم يكن قتلا للنفس ـ كما هو المفروض ـ فهو جائز للولاية
المعطاة للإنسان من قبل الله تعالى على أعضائه ، إذ من الواضح أن المتولّي يمكن أن
يتصرّف فيما جُعل ولياً عليه وإن لم يكن مالكاً (1).
على أنّنا يمكننا القول ـ كما قال الإمام الخوئي ( رحمه الله ) ـ « بأنّ الاضافة
الحاصلة بين المال ومالكه قد تكون اضافة تكوينية ، كالاضافة الكائنة بين الاشخاص
وأعمالهم وأنفسهم وذممهم ، فإن أعمال كل شخص ونفسه وذمّته مملوكة له ملكية ذاتية
وهو واجد لها فوق مرتبة الواجدية الاعتبارية ، ودون مرتبة الواجدية الحقيقية التي
هي لله جلّ وعلا.
(1) وقد ذهب إلى هذا الرأي شيخ الأزهر في مصر الشيخ جاد الحقّ علي جاد الحق بشرط
« أن يصرّح طبيب مسلم ثقة بأنّ نقل هذا العضو من شخص إلى آخر لا يترتب عليه ضرر
بليغ بالشخص المتبرّع ، وإنّما يترتب عليه انقاذ حياة الشخص المتبرّع له أو انقاذه
من مرض خطير » وهذا الشرط مفروض في مسألتنا أيضاً.
(349)
والمراد من الذاتي هنا ما لا يحتاج تحقّقه إلى أمر خارجي تكويني ، أو اعتباري ،
وليس المراد به الذاتي في باب البرهان ، أي ما ينتزع من مقام الذات ، ولا الذاتي في
باب الكليات الخمس ، أعني به الجنس والفصل ، وهذا واضح لا ريب فيه.
والمراد من الملكية الذاتية ليس إلاّ سلطنة الشخص على التصرّف في نفسه وشؤونها ،
بداهة أن الوجدان والضرورة والسيرة العقلائية كلّها حاكمة بأنّ كل أحد مسلط على
عمله ونفسه ، وما في ذمته بأنّ يؤجر نفسه لغيره أو يبيع ما في ذمته ، ومن البيّن
الذي لا ستار عليه أن الشارع المقدّس قد امضى هذه السلطنة ولم يمنع الناس عن
التصرفات الراجعة إلى أنفسهم.
ليس المراد من الملكية هنا الملكية الاعتبارية لكي يتوهّم أن عمل الإنسان أو
نفسه ليس مملوكاً له بالملكية الاعتبارية » (1).
ثمّ إنّنا يمكننا القول بأنّ العضو بعد فصله من جسم الإنسان تصدق عليه الملكية
العرفية ، كملكية الدم بعد سحبه من الجسم ، فإنّ الاضافة هنا بعد فصل العضو بين
العضو ونفس الإنسان هي اضافة حقيقية ، لأنّها مال على كل حال حيث يبذل في مقابلها
المال وتدّخر لوقت الحاجة ويتنافس عليها العقلاء ، وعلاقتها بالإنسان كعلاقة الكتاب
به.
ثم إذا نوقش في هذا الدليل المجوّز لنقل العضو من إنسان لآخر فيكفينا الأصل
العملي في المقام القائل بجواز ذلك ، حيث نشكّ في أصل التكليف وفي الحرمة خصوصاً
إذا علمنا أن العرف ينظر إلى هذه العملية أنّها إيثار وبرّ وعمل خير وإحسان.
(1) مصباح الفقاهة في المعاملات ، تقرير بحث الإمام الخوئي ، بقلم محمد علي
التوحيدي : ج2 ، ص4 ـ 5.
(350)
هل يتمكّن الوليّ ( للطفل والمجنون ) أن يتبرّع بأحد أعضاء المولَّى عليه الى فرد
آخر ؟
والجواب عن ذلك : بعدم الجواز ، وذلك لما في هذا العمل من ضرر على المولّى عليه
، والوليّ إنّما يصحّ تصرّفه في خصوص مصلحة المولّى عليه ، وليس من مصلحته أن ينقص
عضواً من جسمه.
نعم ، قد تحدث في حالة نادرة أنّ أخوين أحدهما قد عُطِّل عضوه ، ويكون
بتقديم عضو أخيه له مصلحة مهمة جداً بحيث لو مات أحد الأخوين فإنّ الآخر يكون
في طريق الموت ، ففي هذه الحالة الخاصّة يجوز للوليّ أن يقدّم أحد أعضاء
المولّى عليه لأخيه الآخر ، ويكون هذا الضرر الذي قام به الوليّ على المولّى
عليه لأجل دفع الضرر الأكبر ، وطبيعيّ يجوز دفع الضرر الأكبر بضرر أقلّ ،
إلاّ أنّ هذه الحالة نادرة قد لا يكون لها موضوع في الواقع الخارجي.
هل يجوز بيع الأعضاء البشرية ؟
قد يقال بعدم الجواز من ناحية أن الإنسان لا يملك اعضائه ، فكيف يجوز له بيعها ؟
مع أن البيع متوقّف على الـمِلك كما قرّر ذلك الفقهاء.
ولكن لنا أن نقول : إنّ الولاية التي جعلها الله سبحانه وتعالى للإنسان على نفسه
وحقّه في الانتفاع بهذه الأعضاء واولويته تجعله قادراً على تنازله عن هذا الحقّ في
مقابل المال إن كان نقل العضو جائزاً كما تقدّم ذلك ، وقد افتى جمعٌ منهم السيد
الخوئي ( رحمه الله ) بجواز بيع الدم الذي يؤخذ من جسم إنسان لجسم آخر ، ولعلّه
للتنازل عن هذا الحق في مقابل المال ، أو لصدق الملكية الاعتبارية عليه ، بل
للملكية الذاتية كما تقدّم ذلك.