بحوث في الفقه المعاصر ـ الجزء الثاني ::: 461 ـ 465
(461)
والشراب (1) ، وقد يحصل ضرر من الصوم ومرض ، كما في غالب الأمراض التي يكون الصوم
مضرّاً بها عادة.
ولكن قلنا سابقاً : إنّ العبرة بالضرر لا بالمرض; لأن الآية الكريمة والروايات
جعلت موضوع الافطار هو المرض لكن من حيث إنَّه مضرٌّ ، وحينئذ يكون موضوع الافطار
هو الضرر المحرز ، فإذا أحرزنا وجود مرض لم يضرّه الصوم أو يخفّ بالصوم فلا يجوز
الافطار معه ، إذ لا ضرر متصوّر في البين حتى يبطل معه الصوم ، وحينئذ يكون الأمر
بالصوم من القرآن والسنّة على حاله.
وعلى ما تقدّم يتّضح عدم صحة ما يقال : « من جواز الافطار من الأمراض من غير
ايجاب لكونه يزداد بالصوم أو يتأخر برؤه من غير هلاك أو شديد أذى » ; لأنّ المرض إذا
كان يضره الصوم فلا يصح; لعدم وجود أمر بالصوم; لأنّ شرط صحة الصوم عدم الضرر ،
وإذا كان لا يضره الصوم فيجب صومه.
ومن هنا يتّضح : أن الضعف (2) الذي يعتري الانسان الصائم بعد أن لم يتصف المكلف
بالضرر الحالي نتيجة الصوم أو خوف الضرر في المستقبل لا يجوّز الافطار ولا يضرّ
بالصوم بمقتضى إطلاق الأدلّة من الكتاب والسنّة.
نعم : إذا كان الضعف لا يتحمّل عادةً ، بأن بلغ حدّ الحرج على المكلف فلا إشكال
في جواز الافطار معه; وذلك لدليل رفع الحرج ( ما جعل عليكم في الدين من حرج ) وهو المراد من قوله تعالى : ( والذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين ) فإنَّ
الإطاقة هي إعمال القدرة في أقصى مرتبتها المساوق للحرج الذي يغلب حصوله في الشيخ
أو الشيخة ، وهذا ما سنتكلّم عنه الآن.
(1) كالتخمة ، وكالامراض التي لا أثر للصوم فيها ، كوجع الضرس ، وجرح في الإصبع
والدمّل والجَرَب وأشباه ذلك.
(2) الضعف قد يكون كلياً وقد يكون جزئياً خصوصاً إذا صادف شهر رمضان في أيام
الصيف الذي يستمر فيه النهار سبع عشرة ساعة وفي بعض البلدان أكثر من عشرين ساعة.
(462)
ما يجوّز الإفطار :
وقد اختلف علماء الإمامية في وجود أمثلة لهذا العنوان ، فهناك موارد جوّز بعض
العلماء فيها الافطار من غير إيجاب ، وهي :
1 ـ ما تقدّم قبل قليل من جواز إفطار الشيخ والشيخة اللذين يتمكنان من الصوم
بمشقة شديدة تبلغ حدّ الحرج من الصوم. كما يجوز لهما الافطار في حال تعذر الصوم
منهما ، وهذا واضح.
ودليله ـ بالاضافة الى دليل نص الحرج ـ الآية القرآنية ( وعلى الذين يطيقونه
فديةٌ طعام مسكين ) (1).
وليست الاطاقة في هذه الآية هي القدرة حتى يقال بأنَّ هذه الآية منسوخة بآية ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) باعتبار أن المتمكن من الصيام كان مخيّراً في
صدر الاسلام بين الصوم والفداء ، بل الاطاقة هي التمكّن مع المشقّة الشديدة التي
تتعقب بالعجز كما فَسّرها به في لسان العرب وغيره ، فالآية تشير الى أن مَنْ يتمكن
من الصوم مع المشقة والحرج الشديد يجوز له الافطار مع إعطاء الفدية.
ولكن نقل عن مجمع البيان قوله : إنّ آية ( وأن تصوموا خيرٌ لكم ) من
الافطار والفدية ، ولذا ذهب صاحب الحدائق ( قدس سره ) والسيد اليزدي في العروة الوثقى
الى صحة الصوم أيضاً ، وعدم تعين الفداء ، وأنّ الحكم بالفدية والافطار ترخيصيّ لا
إلزامي ، حيث أرجعوا ( وأن تصوموا خيرٌ لكم ) متمِّماً لقوله تعالى : (
وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين ).
ولكن هناك جمع من فقهاء الإمامية لم يرتضوا أن يكون الحكم بالفدية والافطار
للشيخ والشيخة ترخيصي ، بل هو إلزامي (2).
(1) البقرة : 183.
(2) راجع مستند العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج2 ، ص39 ـ 41.
(463)
2 ـ مَنْ به داء العطش : قد يقال : إنّ مَنْ به داء العطش يندرج تحت عنوان
المريض الذي يجب عليه الافطار والمحكوم بوجوب القضاء بعد البرء ، كما إذا ارتفع داء
العطش الناشئ من خلل في كبده بمعالجة أوبمجيء فصل الشتاء.
ولكن المريض الذي تقدّم وجوب افطاره ، وإذا ارتفع مرضه يجب عليه القضاء إنّما هو
من يتضرّر بالصوم بحيث يكون الصوم موجباً لازدياد المرض أو طول برئه ، وحينئذ يكون
ذو العطاش مخالفاً; حيث إنّه لا يتضرّر من ناحية الصوم ، وإنّما يقع في مشقة شديدة
وحرج عظيم فيختلف عن المرض موضوعاً ويشارك الشيخ والشيخة في اندراجه تحت قوله تعالى
: ( وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين ... ). ولهذا فقد جعلت صحيحة
محمد بن مسلم ذا العطاش في مقابل المريض ، ومرادفاً للشيخ والشيخة ، فقد « سئل
الإمام الباقر ( عليه السلام ) عن قول الله عزّوجلّ : ( وعلى الذين يطيقونه فديةٌ
طعامُ مسكين ) قال ( عليه السلام ) : الشيخ الكبير والذي يأخذه العطاش ، وسئل عن
قوله عزّوجلّ : ( فمن لم يستطع فإطعام ستّين مسكيناً ) قال : من مرض أو عطاش
» (1).
وعلى هذا فسيكون الكلام عن داء العطاش هو بعينه الكلام عن الشيخ والشيخة لوحدة
المستند (2).
3 ـ الحامل المقرب والمرضعة القليلة اللبن : ذكر بعض الفقهاء (3) جواز الافطار
للحامل المقرب والمرضعة القليلة اللبن; لأنّهما لا تطيقان الصوم ، كما ذكرت ذلك
صحيحة محمد بن مسلم قال : « سمعت الإمام الباقر ( عليه السلام ) يقول : الحامل المقرب
والمرضع القليلة اللبن لا حرج عليهما أن تفطرا في شهر رمضان;
(1) وسائل الشيعة : ج7 ، ب15 ممّن يصحّ منه الصوم ، ح3.
(2) للتوسع راجع هذا البحث في مستند العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج2 ، ص50 ـ 51.
(3) مثل سلاّر وعلي بن بابويه رحمهما الله تعالى والمحقّق صاحب الشرائع وغيرهم.
(464)
لأنّهما لا تطيقان الصوم » (1).
وهذه الرواية تشعر بدخولهما تحت قوله تعالى : ( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام
مسكين ) ، فتكون الرواية قد جوّزت الافطار لهما في مقابل الفدية.
هذا ولكن هناك جمع آخر من علماء الطائفة الإمامية يذهب الى وجوب الافطار على
الشيخ والشيخة وذي العطاش والحامل المقرب التي يضرّ الصوم بها أو بولدها ، والمرضع
القليلة اللبن; وذلك لأنّ الآية القرآنية قد قررت أن الذي يتمكن من الصوم بمشقة ـ
وهو معنى الاطاقة ـ يفطر ويعطي الفدية ، وهذا واجب وعلى نحو العزيمة لا الرخصة ،
وأمّا الآية ( وأن تصوموا خير لكم ) فهي ليست راجعةً الى ( وعلى الذين يطيقونه ... ) بل هي راجعة الى أن من يجب عليه الصوم أو القضاء فهو خيرٌ لكم ونفعه لكم لا
الى الله سبحانه الذي هو غني على الاطلاق.
وأمّا ذو العطاش فالكلام فيه هو الكلام في الشيخ والشيخة; لأنّ الصوم إذا كان
فيه مشقة له فيجب الافطار ، على أنّ قسماً من ذي العطاش الذي يكون مريضاً فله حكمه
من الافطار والقضاء عند التمكن حسب الآية التي قالت : ( فمن كان منكم مريضاً ... فعدّة من أيام اُخر )
وأمّا الحامل المقرب والمرضعة القليلة اللبن فإن كانتا تتمكّنان من الصوم بمشقة
فحكمهما ما ذكرته الآية من وجوب الافطار مع الفدية ، وأمّا صحيحة محمد ابن مسلم
الواردة في الحامل المقرب فهي أجنبية عن مقامنا; لأنّها ذكرت أنّ الحامل المقرب لا
تطيق الصوم ، أي لا تتمكن منه ، وهذا غير الاطاقة الذي معناه القدرة على الصوم مع
المشقة.
والنتيجة : أنّ علماء الإمامية اختلفوا في هذه الموارد الخمسة ( الشيخ والشيخة ،
وذو العطاش ، والحامل المقرب ، والمرضع القليلة اللبن ) وكل من تمكن
(1) وسائل الشيعة : ج7 ، ب17 من أبواب ما يصح منه الصوم ، ح1.
(465)
من الصوم بمشقة شديدة وحرج عظيم هل يجب عليه الافطار عزيمةً ، كما ذكر ذلك الشيخ
صاحب الجواهر (1) وجماعة من الفقهاء ( منهم الإمام الخوئي ) (2) ، أو يجوز لهم الافطار
رُخصة ، فإذا صاموا صحّ منهم ، كما ذهب الى هذا الرأي الثاني كل من عبّر بورود
الرخصة في إفطار جماعة ، ومنهم المحدث صاحب الحدائق وصاحب العروة ؟ (3).
ملاحظة : لا إشكال في أنّ الحامل المقرب والمرضع القليلة اللبن إذا خافت من
الصوم على نفسها أو على حملها فهي داخلة تحت عنوان المرض; لأنّها تخاف الضرر من دون
حاجة الى نصّ خاص ، وهو الميزان المريض الذي يجب عليه الافطار والقضاء بعد زوال
العذر ( كما تقدّم ) ، وأمّا إذا خافت على طفلها فيجب عليها الافطار من باب مزاحمة
حفظ النفس المحترمة وتقدمة على وجوب الصوم عند عدم التمكن من الجمع بينهما ، وهذا
واضح.
ما هو دور الطبيب إذا قال بضرر الصوم :
إذا أخبرنا الطبيب العارف بوجود الضرر من الصوم فهل يكون قوله حجّةً يجب
اتّباعه ؟
الجواب : أنّ الروايات المتقدّمة ـ التي جعلت المكلف مؤتمناً على الصوم وأنّه على
بصيرة من نفسه ، فإذا رأى من نفسه القدرة على الصوم صام ، وإن وجد من نفسه عدم
القدرة على الصوم أفطر ، وكذا الرواية القائلة : « إذا خاف على عينيه الرمد أفطر »
ـ جعلت الميزان في الافطار : الضرر الذي يحسّه المكلّف أو خوف الضرر.
وحينئذ إذا أوجد تحذير الطبيب من الصوم عند الانسان خوفاً فيجب عليه الافطار ،
وأمّا إذا لم يوجد خوفاً من الصوم ـ كما إذا اطمأن المكلف بخطأ الطبيب أو علم
وجداناً بخطئه ـ فلا يكون لتحذير الطبيب أيّ أثر. كما أن الطبيب إذا أخبر بعدم
الضرر من الصوم ولكن المكلّف أحسّ بالضرر أو خاف منه أو ظن به فيجب عليه ترك الصوم
، لأنّ صحة الصوم مشروطة بعدم خوف الضرر ( كما تقدّم ).
والنتيجة : هو عدم حجيّة قول الطبيب إلاّ إذا أوجد خوفاً عند المكلف من الصوم.
* * *
(1) جواهر الكلام : ج17 ، ص150 حيث قال : « ثم لا يخفى عليك أنّ الحكم في المقام
ونظائره من العزائم لا الرخص ضرورة كون المدرك فيه نفي الحرج ونحوه مما يقضي برفع
التكليف ».
(2) مستند العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج2 ، 37 ـ 38.
(3) راجع مستند العروة الوثقى ، كتاب الصوم : ج2 ، ص39 ، وكتاب الحدائق الناظرة
: ج13 ، ص421 ، والعروة الوثقى ، كتاب الصوم.