كانت هذه نماذج اُخرى لوضوءات صحابة آخرين ، تراهم يمسحون ويؤكدون على أن المسح هو من وضوء النبي (ص) ، عرضناها لدحض اتهامات المغرضين الذاهبين لكل سبيل حالك !
ونأتي بنماذج اُخرى لوضوءات بعض التابعين ، وبعض أهل البيت ، حتى يتبين لنا استمرار خط المسح ، للتأكيد على أن المسح ليس من مبتدعات الروافض والشيعة ، كما يقولون .

وضوء بعض التابعين وأهل البيت

عروة بن الزبير والوضوء :

مر سابقاً خبرعباد بن تميم عن عمه زيد بن عاصم المازني ـ صاحب حديث الوضوء ـ وأنه أخبر بأن رسول الله كان يتوضأ ويمسح على رجليه ، ونص الخبر هو :
أخرج الطحاوي بسنده عن عباد بن تميم ، عن عمه : ان النبي توضأ ومسح على القدمين ، وان « عروة » كان يفعل ذلك(1) .
ففي هذا النص ترى عروة بن الزبير يمسح على القدمين .
وجاء في المصنف لعبدالرزاق ، عن هاشم بن عروة ، أن أباه كان يقول بالمسح على الرجلين ، لكنه رجع عنها إلى الغسل ، لقوله : ( وأرجلكم إلى الكعبين) ، والنص :
عبدالرزاق عن معمر عن هشام بن عروة ، ان أباه قال : إن المسح على الرجلين رجع إلى الغسل في قوله : ( وأرجلكم إلى الكعبين)(2) .
____________
(1) شرح معاني الآثار 1 : 35 | 162 .
(2) المصنف لعبدالرزاق 1 : 21 ، المصنف لابن أبي شيبة 1 : 31 ـ ح 9 .

(218)

وقد اختلف الرجاليون في هشام(1) قدحاً ومدحاً ، وفيما نسبه إلى أبيه .
فقال يعقوب بن شيبة : ثبت ، ثقة ، لم ينكر عليه شيء إلاّ بعدما صار إلى العراق ، فإنه انبسط في الرواية عن أبيه ، فأنكر ذلك عليه أهل بلده ، والذي يرى أن هشاماً يسهل لأهل العراق أنه كان لا يحدث عن أبيه إلاّ بما سمعه منه ، فكان تسهله أنه أرسل عن أبيه مما كان يسمعه من غير أبيه عن أبيه .
وقال عبدالرحمن بن يوسف بن خراش : كان مالك لا يرضاه ، وكان هشام صدوقاً تدخل أخباره في الصحيح ، بلغني أن مالكاً نقم عليه حديثه لأهل العراق .
وقال علي بن محمد الباهلي ، عن شيخ من قريش : أهوى هشام بن عروة إلى يد أبي جعفر المنصور يقبلها فمنعه ، وقال : يا ابن عروة إنا نكرمك عنها ، ونكرمها عن غيرك .
قال شعبة : لم يسمع هشام حديث أبيه في مس الذكر ، قال يحيى ، فسألت هشاماً ؟ فقال : أخبرني أبي .
توفي هشام بن عروة ، ومولى للمنصور في يوم واحد ، فخرج المنصور بهما ، فبدأ بهشام بن عروة فصلى عليه وكبر عليه أربع تكبيرات بالقرشية ، وكبر على هذا خمس تكبيرات بالهاشمية .
وفي رواية ، قال : صلينا على هذا برأيه ، وعلى هذا برأيه .
أما عروة بن الزبير ، (أبو هشام) فهو أخو عبدالله ، وكان بينه وبين أخيه عبدالله بن الزبير عشرون سنة .
وعلى ضوء ما تقدم نستبعد أن يكون عروة بن الزبير قد رجع عن رأيه في المسح على القدمين إلى القول بالغسل ، وما أخذ به ابنه هشام ضعيف لما عرفت
____________
(1) جميع الأقوال اللاحقة اُخذت من تهذيب الكمال 30 : 238 ـ 241 .

(219)

من حاله ولما قدمه من دليل وذكره من تعليل وهي القراءة القرآنية ، مع العلم ان سندرس الوجوه القرآنية لاحقاً .

الحسن البصري والوضوء :

هو من أعلام التابعين ، حضر يوم الدار(1) .
وولي القضاء في زمن عمر بن عبدالعزيز(2) .
قال أبو هلال الراسبي ، عن خالد بن رباح الهذلي : سئل أنس بن مالك عن مسألة ، فقال : سلوا مولانا الحسن .
قالوا : يا أبا حمزة نسألك ، تقول سلوا الحسن مولانا ؟
قال : سلوا مولانا الحسن ، فإنه سمع وسمعنا ، فحفظ ونسينا(3) .
قال الذهبي في سير الأعلام : قال قائل : إنما أعرض أهل الصحيح عن كثير مما يقول فيه الحسن : عن فلان ، وإن كان مما ثبت لُقيّهُ فيه لفلان المعين ، لأن الحسن معروف بالتدليس ، ويدلس عن الضعفاء ، فيبقى في النفس من ذلك ، فننا وإن ثبتنا سماعه من سمرة ، يجوز أن يكون لم يسمع فيه غالب النُسخة التي عن سمرة . والله العالم(4) .
كان هذا بعض الشيء عن الحسن البصري ، وفي مدحه الكثير ، وقد مر عليك سابقاً كلام أنس بن مالك ـ خادم الرسول ـ وكيف كان يوصي الناس للأخذ عن مولانا الحسن ! !
قال الزهري : العلماء أربعة : ابن المسيب بالمدينة ، والشعبي بالكوفة ،
____________
(1) راجع ترجمته في تهذيب الكمال 6 : 96 .
(2) سير أعلام النبلاء 4 : 588 .
(3) تهذيب الكمال 6 : 104 .
(4) سير أعلام النبلاء 4 : 588 .

(220)

والحسن البصري بالبصرة ، ومكحول بالشام(1) .
فالحسن كان له اتصال وثيق بالحكام ، وصدور هذه الأقوال فيه إنما جاء لهذا الغرض ، حتى قيل بأن السياسة الأموية كانت مبتنية على دعامتين : لسان الحسن وسيف الحجاج ولولاهما لوئدت الدولة المروانية !
والآن نتساءل عن موقفه في الوضوء ، وهل إنه كان يدعو إلى مسح الأرجل أم إلى غسلها ، والنصوص المنقولة عنه تحتمل كلا الوجهين ؟
جاء في الاحتجاج للطبرسي : عن ابن عباس قال : لما فرغ عليّ من قتال أهل البصرة ، وضع قتباً على قتب ثم صعد عليه فخطب ، فحمد الله وأثنى عليه ، فقال :
« يا أهل البصرة ، يا أهل المؤتفكة ، يا أهل الداء العضال ، أتباع البهيمة ، يا جند المرأة ، رغا فأجبتم ، وعقر فهربتم ، ماؤكم زُعاق ، ودينكم نفاق ، وأخلاقكم دقاق » ؛ ثم نزل يمشي بعد فراغه من خطبته فمشينا معه ، فمر بالحسن البصري وهو يتوضأ فقال : يا حسن أسبغ الوضوء .
فقال : يا أمير المؤمنين : لقد قتلت بالأمس أُناساً يشهدون أن لا إلاً الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، يصلون الخمس ، ويسبغون الوضوء !
فقال أمير المؤمين : فقد كان ما رأيت ، فما منعك أن تعين علينا عدونا ؟
فقال : والله لأصدقنك يا أمير المؤمنين ، لقد خرجت في أول يوم فاغتسلت وتحنطت وصببت عليّ ، وأنا لا أشك في أن التخلف عن اُم المؤمنين عائشة ؟ ! هو الكفر ، فلما انتهيت إلى موضع من الخربة ناداني منادٍ : يا حسن ، إلى أين ؟ ! ارجع فإن القاتل والمقتول في النار ، فرجعت ذعراً ، وجلست في بيتي ، فلما كان في
____________
(1) مقدمة تحفة الأحوذي : 359 .

(221)

اليوم الثاني ، لم أشك أن التخلف عن اُم المؤمنين عائشة هو الكفر ، فتحنطت . . . وخرجت أريد القتال حتى انتهيت إلى موضع من الخربة ، فناداني منادٍ من خلفي : يا حسن ، ارجع فإن القاتل والمقتول في النار .
قال عليّ : . . . أفتدري من ذلك المنادي ؟
قال : لا .
قال عليّ : ذاك أخوك إبليس ، وصدقك ان القاتل والمقتول منهم في النار .
فقال الحسن البصري : الآن عرفت يا أمير المؤمنين أن القوم هلكى(1) .
وفي أمالي المفيد ، عن الحسن البصري : لما قدم علينا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب البصرة مرّ بي وأنا أتوضأ ، فقال : يا غلام ، أحسن وضوءك يحسن الله إليك ، ثم جازني ، فأقبلت أقفو أثره ، فحانت مني التفاتة ، فنظر إليّ فقال : يا غلام ، ألك حاجة ؟
قلت : نعم ، علمني كلاماً ينفعني الله به .
فقال : يا غلام ، من صدق الله نجا ، ومن أشفق على دينه سلم من الردى ، ومن زهد من الدنيا قرت عينه بما يرى من ثواب الله . . (2) إلى آخر الخبر .
فعلى خبر الاحتجاج ، وما نقلناه عنه من حضوره يوم الدار ، وتعاطفه مع الأمويين ، يُحتمل أن يكون الحسن البصري من الدعاة إلى الغسل ومن المستفيدين من مصطلح أسبغ الوضوء للتدليل عليه ، وأن الإمام عليّاً أراد بقوله : (يا حسن أسبغ الوضوء) أراد الإزدراء والتفقيص بما يذهب إليه الحسن في الوضوء .
لكن هذا الاحتمال في غاية البعد ، إذ لا يتواءم ذلك مع خلق الإمام ، بل
____________
(1) الاحتجاج : 171 .
(2) أمالي المفيد : 77 .

(222)

وعلى ضوء النصوص اللاحقة يتأكد العكس ، إذ إن الحسن كان من المقلين في ماء الوضوء ، والإمام عليّ جاء يؤكد على لزوم الإسباغ وإحسان الوضوء وإعطاء الوضوء حقه .
فقد جاء في مصنف ابن أبي شيبة وعبدالرزاق ، أنه كان يقول بالمسح على القدمين .
حدثنا ابن عليه ، عن يونس ، عن الحسن ، انه كان يقول : إنما هو المسح على القدمين .
وكان يقول : يمسح ظاهرهما وباطنهما(1) .
وجاء في مصنف عبدالرزاق : عن معمر ، عن قتادة ، عن عكرمة والحسن قالا في هذه الآية : (يا أيها الذين أمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين)(2) .
قالا : تمسح الرجلين(3) .
قال الجصاص : قرأها الحسن بالخفض ، وتأولوها على المسح(4) .
وقولنا السابق أن الحسن كان له اتصال وثيق بالحكام ، أو إنه ولي القضاء في زمن عمر بن عبدالعزيز وغيرها ، لا يعني أن جميع أرائه مستقاة من السلطان ، بل إن دوره في الفقه كان كدور سفيان الثوري وأبي حنيفة وأمثالهما من الذين كانت لهم شخصية علمية مستقلة ، وإن تعاطف هؤلاء العلماء مع الدولة كان تارة لأجل خوفهم من الاصطدام بالسلطة ، واُخرى لتقارب وجهات النظر بينهما ، وإليك هذا النص عن الحسن البصري لتقف على الحقيقة
____________
(1) المصنف لابن أبي شيبة 1 : 30 ب 17 ح 2 .
(2) المائدة : 6 .
(3) المصنف 1 : 18 ح 53 .
(4) أحكام القرآن 2 : 345 .

(223)

أكثر .
قال محمد بن موسى الحرش : حدثنا ثمامة بن عبيدة ، قال : حدثنا عطية بن محارب ، عن يونس بن عبيد ، قال : سألت الحسن ، قلت : يا أبا سعيد إنك تقول : قال رسول الله ، وإنك لم تدركه !
قال : يا ابن أخي ، لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك ، ولولا منزلتك منّي ما أخبرتك ، إني في زمان كما ترى ـ وكان في عمل الحجاج ـ كل شيء سمعتني أقول : قال رسول الله ، فهو علي بن أبي طالب ، غير أني في زمان لا أستطيع أن أذكر عليّاً(1) .
وقد اشتهر عنه أنه عندما كان يريد التحديث عن علي يقول : قال أبو زينب .
وبعد أن نقلنا هذا النص عنه والنصوص الاُخرى ، ينبغي أن ندرس أحاديث الحسن البصري ـ كغيرها من أقوال الإعلام ـ لتبين لنا أنها تحت أي ظروف صدرت ، إذ عرفت بأنه كان يتخوف ـ في كثير من الأحيان ـ من السلطة ولا يحدث عن علي إلاّ كناية ، فلا بستبعد أن تكون بعض آرائه صدرت تحت ظروف سياسية خاصة ، وأنه كان لا يؤمن بها ويخشى من نسبة تلك الأخبار إليه ، وأن أمره لابنه بحرق كتبه دليل عليها .
نقل الذهبي في سير الأعلام : عن موسى بن إسماعيل : حدثنا سهل بن الحصين الباهلي ، قال : بعثت إلى عبدالله بن الحسن البصري ، ابعث إليّ بكتب أبيك ، فبعث إليّ أنه لما ثقل ، قال لي : اجمعها ، فجمعتها له وما أدري ما يصنع بها فأتيت بها .
فقال للخادم : اسجري التنور ، ثم أمر بها فأحرقت غير صحيفة واحدة ، فبعث بها إليّ وأخبرني أنه كان يقول : اروِ ما في هذه الصحيفة ، ثم لقيته بعد ،
____________
(1) تهذيب الكمال 6 : 124 .

(224)

فاخبرني به مشافهة بمثل ما أدى الرسول(1) وقد جاء عن عروة بن الزبير أنه احرق كتبه كذلك(2) .
يتحصل مما تقدم أن الحسن البصري كان من كبار التابعين القائلين بالمسح ، ومن كلامه نستشف أنه من القائلين بتثنية الغسلات .
قال الجصاص ـ بعد كلامه الأول ـ : والمحفوظ عن الحسن البصري استيعاب الرجل كلها بالمسح ، ولست أحفظ عن غيره ممن أجاز المسح من السلف هو على الاستيعاب أو على البعض(3) .

ابراهيم النخعي والوضوء :

جاء في طبقات ابن سعد (ترجمة إبراهيم) :
1 ـ قال : أخبرنا أحمد بن عبدالله بن يونس ، قال : حدثنا فضيل بن عياض عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال: من رغب عن المسح فقد رغب عن السنة ، ولا أعلم ذلك إلا من الشيطان .
قال فضيل : يعني تركه المسح .
2 ـ قال : أخبرنا أحمد بن عبدالله بن يونس ، قال : حدثني جعفر الأحمر عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : من رغب عن المسح فقد رغب عن سنة النبي (ص)(4) .
فالمعروف عن النخعي أنه كان موالياً لأهل البيت(5) .
وكلاهما هذا لا يعني أن جميع الأقول المنسوبة إليه كانت مستقاة من عليّ ،
____________
(1) سير أعلام النبلاء 4 : 584 .
(2) انظر تهذيب الكمال 20 : 19 .
(3) أحكام القرآن للجصاص 2 : 345 .
(4) الطبقات الكبرى لابن سعد 6 : 275 .
(5) انظر كلام الدكتور رواس قلعه‌ چي فيه : موسوعة فقه إبراهيم النخعي 1 : 139 .

(225)

بل قد يكون بين تلك الأقوال ما نُسب إليه ولم يقل به ، وقد يكون فيها ما أخطأ في استنباطه ، لكن الذي تلزم الإشارة إليه هو دوره المخالف للحجاج الثقفي ـ الداعي للوضوء الغسلي ـ وأنه قد انضم إلى ثورة الأشعث ضده وأفتى بجواز لعنه(1) .
قال الذهبي : ونقموا عليه ـ أي على إبراهيم ـ لقوله : لم يكن أبو هريرة فقيهاً(2) .
وكان يقول : كان أصحابنا يدعون حديث أبي هريرة .
وقال : ما كانوا يأخذون بكل حديث أبي هريرة إلاّ ما كان من صفة جنة أو نار أو حث على عمل أو نهي عن شر جاء في القرآن(3) .
ولم يختص إبراهيم فيما قاله عن أبي هريرة بل قال ذلك طائفة اُخرى من الكوفيين(4) .
وقد ثبت أن نهج علقمة وابن مسعود وإبراهيم واحد(5) ، ولو قارنا الواحد منهم إلى الآخر لحصل لدينا أن إبراهيم النخعي يقول بالمسح إذ إن عبدالرزاق روى في مصنفه عن معمر عن قتادة : أن ابن مسعود قال : رجع إلى غسل
____________
(1) الطبقات الكبرى ، لابن سعد 6 : 279 .
(2) انظر : ميزان الاعتدال 1 : 75 .
(3) البداية والنهاية 8 : 113 .
(4) البداية والنهاية 8 : 113 .
(5) انظر : تهذيب التهذيب 7 : 177 ، تذكره الحفاظ ، موسوعة ابراهيم النخعي 1 : 163 .

(226)

القدمين في قوله : ( وأرجلكم إلى الكعبين)(1) .
وفي نقل هذا المعنى عن ابن مسعود عناية ، اما أن يراد به أن قوله في (أرجلكم ) يرجع إلى الغسل فتصير معطوفة على الوجوه والأيدي لا علىالرؤوس ومعناه عدم امكان الاستدلال بها على المسح ، وفي هذا بحث مفصل بين الأعلام سنتعرض إليه في الجانب القرآني من هذه الدراسة إن شاء الله تعالى ، ولكن المتبادر من الجملة ليس هذا .
أو أن يراد منه أن ابن مسعود رجع إلى القول بالغسل بعد أن كان يقول بالمسح . ولو صح هذا فأين قوله بالجواز حتى نقول انه قد رجع عنه يا ترى ؟‍‍ !
نعم ، إنها أقوال متناثرة لو قرن بعضها إلى بعض لحصلنا على النتيجة .
فقد روي عن إبراهيم النخعي كرهه الإسراف في الوضوء وعدم لزوم تخليل اللحية والدلك فيها ، وكان يقول : تشديد الوضوء من الشيطان لو كان فضلاً لأوثر به أصحاب محمد (ص)(2) .
أو قوله : لم يكونوا يلطمون وجوههم بالماء ، وكانوا أشد استبقاءً للماء منكم في الوضوء ، وكانوا يرون أن ربع المد يجزي من الوضوء ، وكانوا أصدق ورعاً وأسخى نفساً وأصدق عند البأس(3) .
وفي قوله هذا تعريض بالذين يزيدون في الوضوء ويلتمسون الفضل بالغسل ! وقد قال عنهم : من رغب عن المسح ، فقد رغب عن السنة ، ولا أعلم ذلك إلاّ من الشيطان .
وبذلك كان يريد أن يدلل على أن فعله تابع لفعل الصحابة وانه من أنصار مدرسة التعبد المحض لا الرأي والاجتهاد ، فإنه لو رأى الصحابة قد مسحوا
____________
(1) المصنف 1 : 20 ، كنز العمال 9 : 434 (عب ، طب) والدر المنثور .
(2) انظر المغني 1 : 117 ، كنز العمال 9 : 473 | 24 ، 27 .
(3) كنز العمال 9 : 473 | 20726 .

(227)

على ظفر لمسح عليها فقط ، ولا يعمم المسح إلى جميع الرجل أو يتعدى فيها إلى الغسل ، فاستمع لما رواه أبو حمزه عن إبراهيم أنه قال :
لو أن أصحاب محمد (ص) لم يمسحوا إلاّ على ظفر ما غسلته التماس الفضل ، وحسبنا من إزراء على قوم أن نسأل عن فقههم ونخالف أمرهم(1) .

الشعبيّ

قال السيوطي : أخرج عبدالرزاق بن جاروه ، وابن أبي شيبة ـ في سننه ـ ، وعبد بن حميد ، وابن جرير في ـ تفسيره ـ ، عن الشعبي ؛ أنه قال : نزل جبرئيل بالمسح على القدمين ، ألا ترى أن التيمم أن تمسح ما كان غسلاً ، ويلغى ما كان مسحا(2) .
أخرج الطبري بسنده ، عن أبي خالد ، أنه : كان يقرأ الشعبي ( وأرجلكم) بالخفض(3) .
وقال قبلها : إن جماعة من قرّاء الحجاز والعراق قرؤوا : (وأرجلكم) في الآية بخفض الأرجل ، وتأولها : إن الله إنما أمر عباده بالمسح للرجلين في الوضوء دون الغسل . . فذكر أسماءهم ، وذكر من جملتهم عامر الشعبي(4) .
وقد أخرج عبدالرزاق بسنده إلى الشعبي أنه قال : (أما جبرئيل فقد نزل بالمسح على القدمين)(5) .
وقال النيسابوري :
اختلف الناس في مسح الرجلين وغسلهما ، فنقل القفال في تفسيره ، عن ابن
____________
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد 6 : 274 .
(2) الدر المنثور 2 : 262 ، المصنف 1 : 30 | 7 ، تفسير الطبري 6 : 82 .
(3) تفسير الطبري 6 : 83 .
(4) تفسير الطبري 6 : 82 .
(5) المصنف لعبدالرزاق 1 : 19 | 56 .

(228)

عباس ، وأنس بن مالك ، وعكرمة ، والشعبي : إن الواجب فيهما المسح ، وهو مذهب الإمامية .
ثم قال : وحجة من أوجب المسح قراءة الجر في ( أرجلكم) عطفاً على (رؤوسكم) ، ولا يمكن أن يقال : إنه كسر على الجوار ، كما في قوله :

* جحر ضب خرب *
لأن ذلك لم يجئ في كلام الفصحاء ؛ وفي السنة وأيضاً إنه جاء : لا لبس ولا عطف بخلاف الآية(1) .
فالشعبي ـ كما قرأت ـ كان يقول بالمسح رغم كل الضغوط السياسية والاجتماعية الحاكمة آنذاك .
فقد أخرج أبو نعيم بسنده ، عن الشعبي ؛ أنه قال :
اُتي بي إلى الحجاج موثقاً ، فلما انتهيت إلى باب القصر ، لقيني يزيد بن أبي مسلم ؛ فقال : إنا لله يا شعبي ! لما بين دفتيك من العلم ، وليس بيوم شفاعة ، بؤ للأمير بالشرك والنفاق على نفسك ، فبالحري أن تنجو . ثم لقيني محمد بن الحجاج فقال لي مثل مقالة يزيد .
فلما دخلت عليه ؛ قال : وأنت يا شعبي فيمن خرج علينا وكثر ؟
قلت : أصلح الله الأمير ؛ أحزن بنا المنزل . . .
ثم سأله الحجاج عن الفريضة في الاُخت ، واُم الجد ؟ فأجابه الشعبي باختلاف خمسة من أصحاب الرسول فيها : عثمان ، زيد ، ابن مسعود ، علي ، ابن عباس . . ثم بدأ بشرح كلام ابن عباس .
فقال له الحجاج : فما قال فيها أمير المؤمنين ـ يعني عثمان ـ ؟ فذكرها له .
فقال الحجاج : مر القاضي فليمضها على ما أمضاها عليه أمير المؤمنين
____________
(1) تفسير غرائب القرآن (تفسير الطبري 6) : 73 ـ 74 .

(229)

عثمان(1) .
هذه هي سياسة الحكومة ، معلنة صريحة ، فالذي يجب أن يتبعه القاضي ويفتي به في المنازعات ، هو رأي عثمان لا غير ! !
وقول الحجاج (وأنت يا شعبي فيمن خرج علينا وكثر) إشارة إلى أنه خرج عن طاعة السلطان وأخذ يفتي الناس ناقلاً آراء الآخرين بجنب رأي عثمان ، وقد عرفت عنه أنه كان لا يحبذ الأخذ بالرأي ، بل يؤكد على لزوم اتباع المأثور ، وإن كن يقول بها تحت ظروف خاصة ، وستقف في الفصل الاول على سياسة الحكام أكثر مما قلناه ، وأنهم كانوا لا يحبذون نقل حديث رسول الله ، بل يفضلون نقل اجتهادات الشيخين لقول عثمان عن السنة (إلاّ ما عمل في زمن الشيخين) ولثبات سياسة الحكام بتقوية مكانة الصحابة وعدهم عدولاً يجب الأخذ بقولهم ، وأن نقل الحديث المخالف لاجتهادات الصحابة كان مما يغضب السلطان !
وأن كلام يزيد بن مسلم ، لما لقيه عند باب القصر (لله يا شعبي لما بين دفتيك من العلم) ؛ وقول الشعبي : (انما هلكتم بأنكم تركتم الآثار ، وأخذتم بالمقاييس)(2)إشارة إلى هذه الحقيقة . . فلو كان الشعبي قد رأى بين الآثار الموجودة عنده ما يصفه عثمان من وضوء رسول الله ، لما قال : (نزل جبرئيل بالمسح على القدمين) ! ولأدى ما عليه من الفضل لعبد الملك بن مروان ، الذي ثبت في التاريخ أنه كان حظياً عنده .
إن إصرار الشعبي على المسح إذن ، دليل على أصالته ، وأنه وضوء رسول الله ، وكبار الصحابة . . لا أنه وضوء عليّ والرافضة ـ كما يدعون ـ فقط .
بعد هذا كله ، كيف يتأتى للشعبي ـ وقد انخرط في سلك الدولة ـ أن يتوضأ
____________
(1) حلية الأولياء 4 : 325 .
(2) حليه الأولياء 4 : 320 .

(230)

بوضوء عليّ ، وهو الذي أقسم بالله بأن عليّاً دخل حفرته وما حقظ القرآن(1) . .
بل وقد كذب كل من نادى بحب عليّ وأشار إلى مناقبه وفضائله ، كما فعله مع الحارث الهمداني وغيره ؟ !

عكرمة

أخرج الطبري في تفسيره بسنده عن يونس ؛ أنه قال : حدثني من صحب عكرمة إلى واسط ؛ قال : فما رأيته غسل رجليه [ إنما كان ] يمسح عليهما حتى خرج منها(2) .
وبسنده ، عن عبدالله العتكي ، عن عكرمة ؛ أنه قال : ليس على الرجلين غسل ، إنما نزل فيهما المسح(3) .
وقال القرطبي ـ بعد كلام طويل ـ : . . . وكان عكرمة يمسح رجليه ؛ وقال : ليس في الرجلين غسل إنما نزل فيهما المسح(4) .
وقال الرازي في تفسيره (ما مضمونه) : ذهب عكرمة إلى وجوب المسح في الرجلين دون غسلهما (5) .
وفي تفسير النيسابوري : اختلف الناس في مسح الرجلين ، والمنقول عن عكرمة : إن الواجب فيهما المسح(6) .
أخرج عبدالرزاق عن معمر عن قتادة عن عكرمة والحسن ، قالا في هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) قالا : تمسح
____________
(1) القرطين لابن مطرف الكناني 1 : 158 ، وعنه في البيان للسيد الخوئي : 537 .
(2) تفسر الطبري 6 : 83 .
(3) تفسير الطبري 6 : 82 ، وانظر : المصنف لعبدالرزاق 1 : 19 | 55 .
(4) تفسير القرطبي 6 : 92 .
(5) التفسير الكبير للرازي 11 : 161 .
(6) تفسير غرائب القرآن (تفسير الطبري) 6 : 73 .

(231)

الرجلين(1) .
وعنه عن ابن عباس قال : افترض الله غسلتين ومسحتين ، ألا ترى انه ذكر التيمم فجعل مكان الغسلتين مسحتين وترك المسحتين ، وقال رجل لمطر الورّاق : من كان يقول المسح على الرجلين ؟
فقال : فقهاء كثيرون(2) .
قال الجصاص ، في أحكام القرآن : قرأ بن عباس ، والحسن ، وعكرمة ، وحمزة ، وابن كثير : ( وأرجلكم) بالخفض ، وتأولوها على المسح(3) .
وقد نقل الخطيب في (الفقيه والمتفقه) أن عكرمة أنكر مسح الخفين فقلت له : أن ابن عباس بلغني أنه كان يمسح ؟
قال عكرمة : ابن عباس إذا خالف القرآن لم يؤخذ به (4) .
ومن هذا الكلام نفهم أصالة المسح ، ووجود ترابط بين القول بالمسح على الرجلين وإنكار المسح على الخفين ‍‍ !
وعلى ضوء ما سبق استبان ان موقف عكرمة من الوضوء لدليل واضح على أن وضوء عليّ هو وضوء رسول الله ، إذ لو كان الوضوء المسحي هو وضوء علي وحده لما تبعه رجال من أمثال الشعبي وعكرمة أبداً ؛ لأن المعروف عن عكرمة أنه أول من نشر رأي الخوارج في المغرب ، وهو القائل بأن قوله تعالى : ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) (5) نزلت في ابي بكر ، خلافاً لجميع المفسرين(6) ، وهو
____________
(1) المصنف لعبدالرزاق 1 : 18 | 53 .
(2) المصنف لعبدالرزاق 1 : 19 | 54 .
(3) أحكام القرآن 2 : 345 .
(4) الفقيه والمتفقه 1 : 76 .
(5) المائدة : 55 .
(6) تفسير ابن كثير 2 : 119 ، تفسير القرطبي 6 : 221 ، تفسير الطبري 6 : 186 ، الكشاف 1 : 649 .

(232)

القائل أيضاً بأن آية التطهير نزلت في نساء النبي ، واشتهر عنه انه كان يصيح في الأسواق : ليس كما تذهبون إليه ، إنما نزلت في نساء النبي ، كما كان يدعوالناس ـ من بغضه لعليّ وأهل بيته ـ إلى المباهلة في آية التطهير(1) .
ولم يوافقه في ذلك إلاّ مقاتل بن سليمان ونفر آخر ، وله أحاديث اُخرى كلها تدلل على بغضه وانتقاصه من عليّ .
وقد نقل ابن أبي الحديد عن أبي جعفر الاسكافي : أن عروة بن الزبير كان من الذين استخدمهم معاوية لرواية أخبار قبيحة في عليّ تقتضي الطعن فيه والبراءة منه .
وقد مر عليك كلام الزهري في عروة وعائشة وانه يتهمهما في عليّ !
وعليه ، فأن مجيء أسماء اُناس ، كأنس بن مالك ، والشعبي ، وعكرمة ، وعروة بن الزبير وغيرهم في سجل الوضوء الثنائي المسحي ، يقوم دليلاً على أصالة هذا الخط ، وأن هذا الوضوء هو وضوء رسول الله حقاً .

محمد بن علي الباقر

أخرج الكليني بسنده ، عن زرارة ؛ قال : قال أبو جعفر (ع) : « ألا أحكي لكم وضوء رسول الله » ؟
فقلنا : بلى .
فدعا بقعب فيه شيء من ماء ، فوضعه بين يديه ، ثم حسر عن ذرعيه ، ثم غمس فيه كفه اليمنى ؛ ثم قال : « هكذا ، إذا كانت الكف طاهرة » ؛ ثم غرف ملأها ماء ، فوضعها على جبينه ؛ ثم قال : « بسم الله » وسدله على أطراف لحيته . ثم أمر يده على وجهه وظاهر جبينه ، مرة واحدة . ثم غمس يده اليسرى فغرف بها
____________
(1) تفسير الطبري 22 : 7 ـ 8 ، تفسير القرطبي 14 : 182 ـ 184 ، المعارف لابن قتيبة : 258 .

(233)

ملأها ، ثم وضعه على مرفقه اليمنى ، فأمر كفه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه . ثم غرف بيمينه ملأها ، فوضعه على مرفقه اليسرى ، فأمر على كفه على ساعده حتى جرى الماء على أطراف أصابعه ، ومسح مقدم رأسه ، وظهر قدميه ، ببلة يساره ، وبقية بلة يمناه(1) .
وفيه ، عن عمر بن أُذينة ، عن زرارة وبكير ؛ أنهما سألا أبا جعفر (ع) عن وضوء رسول الله . . فدعا بطست ، أو تور فيه ماء ، فغمس يده اليمنى ، فغرف بها غرفة ، فصبها على وجهه ، فغسل بها وجهه ؛ ثم غمس كفه اليسرى ، فغرف بها غرفة ، فأفرغ على ذراعه اليمنى ، فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكف ، لا يردها إلى المرافق ؛ ثم غسل كفه اليمنى ، فأفرغ بها على ذراعه اليسرى من المرفق ، وصنع بها مثل ما صنع باليمنى ؛ ثم مسح رأسه ، وقدميه ، ببلل كفه ، لم يحدث لهما ماءً جديداً ؛ ثم قال : « ولا يدخل أصابعه تحت الشراك » .
قال : ثم قال : « إن الله يقول : ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم) فليس له أن يدع شيئاً من وجهه إلاّ غسله ؛ وأمر بغسل اليدين إلى المرفقين ، فليس له أن يدع من يديه إلى المرفقين شيئاً إلا غسله ، لأن الله تعالى يوقل : (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) ؛ ثم قال : (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) فإذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من قدميه ، ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع ، فقد أجزأه » .
قال : فقلنا : أين الكعبان ؟
قال : ها هنا . . يعني : المفصل دون عظم الساق .
فقلنا : هذا ما هو؟
فقال : هذا عظم الساق ، والكعب أسف من ذلك(2) .
____________
(1) الكافي 3 : 25 | 4 .
(2) الكافي 3 : 25 | 5 .

(234)

ورواه الشيخ الطوسي في التهذيب والاستبصار مع اختلاف في بعض الألفاظ(1) .
وأخرج الطوسي بسنده ، عن ميسر ، عن أبي جعفر (ع) ؛ قال : « ألا أحكي لكم وضوء رسول الله ؟ . . ثم أخذ كفاً من ماء فصبها على وجهه ، ثم أخذ كفاً فصبها على ذراعه ، ثم أخذ كفاً آخر فصبها على ذراعه الاُخرى ، ثم مسح رأسه وقدميه ، ثم وضع يده على ظهر القدم ؛ ثم قال : « هذا هو الكعب » . . قال : راوياً بيده إلى أسف العرقوب ؛ ثم قال : « إن هذا هو الظنبوب » (2) .
وأخرج الكليني بسنده ، عن محمد بن مسلم ، عن الباقر (ع) ؛ أنه قال : « ألا أحكي لكم وضوء رسول الله؟
قلت : بلى .
قال : فأدخل يده في الإناء ولم يغسل يده ، فأخذ كفاً من ماء فصبه على وجهه ، ثم مسح جانبه حتى مسحه كله ، ثم أخذ كفاً آخر بيمينه فصبه على يساره ، ثم غسل به ذراعه الأيمن ، ثم أخذ كفاً آخر فغسل به ذراعه الأيسر ، ثم مسح رأسه ورجليه بما بقي في يديه(3) .
وبسنده عن زرارة : قال : حكى لنا أبو جعفر (ع) وضوء رسول الله . . فدعا بقدح ، فأخذ كفاً من ماء فأسدله على وجهه ثم مسح وجهه من الجانبين جميعاً ، ثم أعاد يده اليسرى في الإناء فأسدلها على يده اليمنى ثم مسح جوانبها ، ثم أعاد اليمنى في الإناء فصبها على اليسرى ، ثم صنع بها كما صنع باليمنى ، ثم مسح بما بقي في يده رأسه ورجليه ، ولم يعدهما في الإناء(4) .

____________
(1) التهذيب 1 : 56 | 158 ، الاستبصار 1 : 57 | 168 .
(2) التهذيب 1 : 75 | 190 .
(3) الكافي 3 : 24 | 3 .
(4) الكافي 3 : 24 | 1 ، التهذيب 1 : 55 | 157 .

(235)

تلخّص

توقفنا النصوص السابقة على أمرين :
1 ـ استمرار اختلاف المسلمين في صفة وضوء رسول الله حتى عهد الإمام الباقر(الذي توفى سنة 114 هـ) ، إذ نرى زرارة وبكيراً يسألانه حتى وضوء رسول الله ، أو نرى الباقر يحكي لهم ذلك الوضوء « حكى لنا أبو جعفر وضوء رسول الله » أو قوله « ألا أحكي لكم وضوء رسول الله » . . ففي الجملتين دلالة على أهمية طرح هذا الوضوء في ذلك العصر الذي ضاعت فيه تعاليم السماء فقد كان أنس وغيره من الصحابة يبكون على حال الشريعة ! . . لأن الناس ـ وعلى مر الأيام ـ أخذوا يتطبعون شيئاً فشيئاً بسيرة الحكام ، رغبةً أو رهبةً ، إذ ليس بين المتبقين من الصحابة من بإمكانه الوقوف أمام اجتهادات الحكام ، بل أخذ الناس في تدوين السنة حسبما يرتضيه الحكام ! وقد أراد الإمام محمد بن علي الباقر أن يحكي وضوء رسول الله لبعض أصحابه ، لتبقى وثيقة تاريخية تشريعية في تاريخ المسألة ، وليرتفع اللبس والخلط بين الناس ، بوقوفهم على حقيقة صفة وضوء رسول الله (ص) وسيرة أهل بيته فيه ! !
2 ـ عرفنا على ضوء ما تقدم أن للوضوء الثنائي المسحي أصالة . . إذ نرى أنس بن مالك والشعبي وعكرمة وعروة ـ رغم مخالفتهم لعليّ بن أبي طالب ـ ، قد رووا هذا الوضوء عن الرسول ، ورأوه أنه هو المنزل من السماء لا غير ، وأن الحكام ـ رغم اتباعهم سياسة العنف في ترسيخ الشريعة التي يرغبون تطبيقها (من قال برأسه كذا ، قلنا بسفنا كذا) ـ لم يتمكنوا من مجابهة الوضوء المسحي ؛ ولا نرى (التقية) تعمل ـ في الوضوء ـ عند أئمة أهل البيت حتى أواخر عهد الأمويين ، ومن يراجع مرويات الباقر في الكتب الحديثية الأربعة يجد الإمام يصف وضوء رسول الله وهو غير مكترث بما قيل أو يقال ؛ وأن الأمويين كانوا يجاملون الصحابة والتابعين ، كأنس بن مالك ومحمد بن علي الباقر وعبدالله بن
(236)
عباس في وضوئهم ولم يواجهوهم بالعنف ، كما كانوا يواجهون الآخرين ، وقد وقفت على حديث أبي مالك الأشعري ، وكيف كان خائفاً من بيان وضوء النبي أو صلاته لقومه .
حتى وصل الأمر بالناس ـ في الوضوء ـ أن يعترضوا على فقهاء الدولة لمنعهم مسح الرجلين ، متخذين اعتقاد الغالبية بمشروعيته اُسلوباً في المواجهة .
فقد أخرج عبدالرزاق عن ابن جريح ، قال : قلت لعطاء : لم لا أمسح بالقدمين كما أمسح بالرأس ، وقد قالها جميعاً ؟
قال : لا أراه إلاّ مسح الرأس وغسل القدمين ، اني سمعت أبا هريرة يقول : ويل للأعقاب من النار .
قال عطاء : وان اُناساً ليقولون هو المسح ، وأما أنا فأغسلهما(1) .
وأخرج الطحاوي عن عبدالملك قال : قلت لعطاء : أبلغك عن أحد من أصحاب رسول الله انه مسح القدمين ؟
قال : لا(2) .
وترى عطاء يبت في أن « الكعبين » داخلان في الغسل ، مع علمه بأن هذا يخالف جمعاً غفيراً من الصحابة ، لسؤالهم إياه : لم لا أمسح بالقدمين كما أمسح بالرأس ، وقد قالها جميعاً ؟
فيقول لأبي جريح عندما سأله : قوله ( وأرجلكم إلى الكعبين) ترى الكعبين فيما يغسل من القدمين ؟
قال : نعم ، لا شك فيه(3) .
وقد أخرج عبدالرزاق عن محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة عن
____________
(1) المصنف لعبدالرزاق 1 : 20 | 58 .
(2) شرح معاني الآثار 1 : 41 | 220 .
(3) المصنف لعبدالرزاق 1 : 25 | 78 .

(237)

عثمان ابن أبي سويد انه ذكر لعمربن عبدالعزيز المسح على القدمين فقال : لقد بلغني عن ثلاثة من أصحاب محمد ، أدناهم ابن عمك المغيرة بن شعبة ، أن النبي غسل قدميه(1) .
وهناك نصوص كثيرة من هذا القبيل تدل جميعاً على وجود خيوط ومؤشرات لكلا الاتجاهين ، وأن الخلفاء ومن يدور في مدارهم كانوا يؤكدون على الغسل ويعدونه سنة رسول الله ، أما الناس فكانوا يعترضون على عطاء ، ـ فقيه الحكومة ـ ويذكرون مشروعية المسح على القدمين عند عمر بن عبد العزيز ـ خليفة المسلمين ـ .
هذا ، وان حالة المداراة للصحابة أو التابعين في الوضوء لم تستمر كثيراً بل نرى سياسة الحكام تتغير في العهد العباسي ، إذ نرى ظاهرة التقية تجري في بعض روايات الصادق والكاظم ، وهذا ينبئ بأن الحكام قد اتخذوا سياسةً جديدةً في العهد العباسي ، وستقف ـ بعد قليل ـ على اُصول تلك السياسة .
وبذلك . . فقد عرفنا مشروعيّة المسح ، وأن جمعاً غفيراً من الصحابة والتابعين كانوا يمسحون على أرجله ناسبين ذلك الفعل إلى رسول الله (ص) وليس إلى عليّ ! وقد ذكرنا أسماء عشرة منهم ، وها نحن نضيف إليهم آخرين :
11 ـ أبو مالك الأشعري .
12 ـ عباد بن تميم المازني .
13 ـ تميم بن زيد المازني .
14 ـ عبدالله بن زيد المازني(2)
15 ـ عروة بن الزبير .
____________
(1) المصنف لعبدالرزاق 1 : 21 | 61 ، والكنز تحت رقم 2197 .
(2) حسبما رواه ابن أخيه عنه في شرح معاني الآثار ، وما جاء عنه في المصنف لابن أبي شيبة .

(237)

16 ـ الحسن البصري .
17 ـ إبراهيم النخعي .
18 ـ علقمة بن قيس .
19 ـ عبدالله بن مسعود .
20 ـ أوس بن أبي أوس الثقفي .
21 ـ رفاعة بن رافع .
22 ـ الشعبي .
23 ـ عكرمة .
24 ـ محمد بن علي الباقر .
وهنا . . نعاود السؤال : لماذا يرمى القائلون بالمسح بالزندقة ، إن كان ذلك الفعل صحيح بالنسبة إلى النبي (ص) وأتى به كبار الصحابة والتابعين ؟ !
وما يعني هذا التهجم على الرافضة أو الشيعة . . ألم يكونوا معذورين في فعلهم باتباعهم سنة النبي (ص) ؟ !
ولم يرمونهم بالضلالة والبدعة . . أتقديراً لثباتهم على خط السنة النبوية ، أم استنصاراً للعصبية وطاعة للسلطة ؟ !

وضوء الزيدية

لرب سائل يسأل : كيف يمكن الاطمئنان إلى استناجكم ، ونحن نرى الزيدية يتوضؤون وفق ما رووه عن الإمام زيد بن عليّ بن الحسين ، عن أبيه ، عن رسول الله : وأن رسول الله توضأ وفق ما حكاه عثمان بن عفان .
فلو صح تحليلكم ، وكان وضوء الخليفة عثمان بن عثمان عبارة عن تشريع سياسي ، فكيف يتوضأ الإمام زيد بوضوئهم ؟

(239)

وحدة المرويات عند العلويين

ثبت في التاريخ أن بني علي بن أبي طالب ـ الحسنيين منهم والحسينيين سواء ـ كانوا على فقه واحد ، ولم يختلفوا في الأحكام وكان فقههم غير فقه الحكام ؛ وإليك بعض النصوص :

1 ـ وقت العصر عند الطالبيين :

جاء في مقاتل الطالبيين : بأن رجلاً عرض على الرشيد ؛ فقال : يا أمير المؤمنين ؛ نصيحة !
فقال لهرثمة : إسمع ما يقول !
قال الرجل : يا أمير المؤمنين ؛ إنها في أسرار الخلافة .
فأمره أن لا يبرح ، ثم خلا به واستمع إلى خبره . . .
قال الرجل : كنت في خان من خانات حلوان ، فإذا بيحيى بن عبدالله بن الحسن ابن عليّ في دراعة صوف غليظة ، وكساء صوف أحمر غليظ ؛ ومعه جماعات ينزلون إذا نزل ، ويرتحلون إذا ارتحل ، ويكونون معه ناحية ، فيوهمون من رآهم أنهم لا يعرفونه ، وهم أعوانه ! مع كل واحد منهم منشور بياض يؤمن به إن عرض له .
قال : أو تعرف يحيى ؟
قال : قديماً ؛ وذلك الذي حقق معرفتي بالأمس له .
قال : فصفه لي .
قال : مربوع ، أسمر ، حلو السمرة ، أجلح ، حسن العينين ، عظيم البطن .
قال : هو ذاك ؛ فما سمعته يقول ؟
قال : ما سمعته يقول شيئاً ، غير أني رأيته ورأيت غلاماً له أعرفه ، لما حضر وقت صلاته ، أتاه بثوب غسيل ، فألقاه في عنقه ، ونزع جبته الصوف ليغسلها ،
(240)

فلما كان بعد الزوال ، صلى ظننتها العصر ، أطال في الأولتين ، وحذف الأخيرتين .
فقال له الرشيد : لله أبوك ! لجاد ما حفظت ؟ . . تلك صلاة العصر ، وذلك وقتها عند القوم ؛ أحسن الله جزاءك ، وشكر سعيك ؛ فما أنت ؟ وما أصلك ؟
فقال : أنا رجل من أبناء هذه الدولة ، وأصلي مرو ، ومنزلي بمدينة دار السلام ، فأطرق مليّاً ؛ ثم قال . . . (1) ـ الخبر ـ .
يفهم هذا النص أن الخلاف الفقهي بين الخليفة وبني الحسن كان هو المعيار الشاخص في معرفتهم للطالبيين ، وخصوصاً في الظروف السياسية والوقائع الاجتماعية ؛ وإنك ستتعرف لدى حديثنا عن العهد العباسي على كيفية استخدام الحكام المذهب كوسيلة لعزل أبناء عليّ بن أبي طالب عن المسلمين ، بل عدّهم مارقين وخارجين عن الإسلام ! في حين أن الاُصول لتؤكد على أنهم لا يقولون بشيء إلاّ وكانوا قد توارثوه كابر عن كابر ، وأن أغلب حديثهم هو عن رسول الله (ص) .
إن أشاعة الخلاف المذهبي بين أوساط الاُمة ، إنما حركته النوازع والغايات السياسية ، وما وجاء إلاّ لعزل الشيعة عن غيرهم ؛ فقول الرشيد للرجل : (لله أبوك ! لجاد ما حفظت ؟ تلك صلاة العصر ، وذلك وقتها عند القوم) ليؤكد تلك الحقيقة .
وبهذا ، فلا يمكن أن يختلف أبناء عليّ في حكم ضروري يمارسه المسلم عدة مرات في اليوم .
ولو تابعنا رأي الإمام زيد في وقت العصر لرأيناه نفس رأي الإمام الصادق وعبدالله بن عباس وغيرهم من أهل البيت .
____________
(1) مقاتل الطالبيين : 466 ـ 467 .