إلى موقف عبدالله .
هذا ، وإن عدم مجيء عليّ بن الحسين إليها ينبئ بأنه لا يريد أن يعطي لوضوئها المشروعية بمجيئه إليها ، وأن إرسال عبدالله ، وهو يومئذ صغير السن ، يكفي في التدليل على اعتراضهم على هذا الأمر .
وقد أراد البعض ـ بنقلهم رواية عن عبدالله بن محمد بن عقيل ، عن الربيع ؛ بأنه (ص) : « مسح رأسه ، ومسح ما أقبل منه وما أدبر ، وصدغيه واُذنيه مرة واحدة » (1) ـ إثبات كون عبدالله من القائلين بالمسح الشمولي في الرأس ، كما يقول بذلك الإمام مالك !
إن قول الربيع : « وقد أتاني ابن عم لك . . . » ليشير بكل وضوح إلى معرفتها وتوجهها لمغزى سؤل ابن عقيل وكونه استنكارياً وليس حقيقياً ، وهي بذلك أرادت أن تفهمه بأنها ثابتة على رأيها على الرغم من عدم استساغة العلويين لما قالته ، هذا أولاً .
وثانياً : في سند هذه الرواية ، رجال أمويون غير معتمدين في السند كمحمد ابن عجلان القرشي ـ مولى فاطمة بنت الوليد بن عتبة ـ الذي أغرق الرجاليون في(مدحه !) حتى نقل عن ابنه عبدالله انه قال : (حمل بأبي أكثرمن ثلاث سنين)(2) !
ثالثاً : المنقول في حديث عبدالله بن محمد بن عقيل عن الربيع في حكم الرأس لا يرد في الوضوءات البيانية الاُخرى المحكية عن عثمان وغيره ، إلاّ في حديث عبدالله بن زيد بن عاصم المازني وما حكى عن معاوية .
وعليه ، فلا يمكن القول بأن ذلك سنة متبعة كان رسول الله (ص) يفعلها على نحو التشريع ، مضافاً إلى أن المروي عن جابر ـ بطريق عبدالله بن محمد بن
____________
(1) سنن الترمذي 1 : 26 | 34 .
(2) تهذيب الكمال 21 : 107 .

(262)

عقيل ـ عن رسول الله انه قال : إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه(1) ؛ أو قوله : رأيت رسول الله يدير الماء على المرافق . . . مما يؤكد حقيقة اُخرى تخالف ما نسب إليه ، وسنشير إليها لاحقاً إن شاء الله تعالى .
قال الحسن بن علي الحلواني عن علي بن المدائني ، عن بشر به عمر الزهراني : (كان مالك لا يروي عنه)(3) .
وقال يعقوب بن شيبة ، عن عليّ بن المدائني : (لم يدخل مالك في كتبه ابن عقيل وال ابن فروة)(4) .
لماذا ؟ ألعدم صدقه ، أم لمواقف الإمام مالك من العباسيين وعدم ارتضائهم للطالبيين ؟ أم لشيء آخر ؟ !
ولماذا يترك أبن سعد حديثه مع شهادته بكثرة علمه ؟ !
وهل إن عدم رواية مالك حديثاً عنه دليل على ضعفه حقاً ؟ فلو كان كذلك فالإمام عليّ بن أبي طالب هو أول الضعفاء في منطق المدائني ومالك ومن يقول بهذا ، إذ ليس لعلي حديث في الموطأ ، قيل إنه لما سئل عن ذلك قال : إنه لم يكن بالمدينة(5) ! !
وكيف نرى الإمام مالكاً يستجيب للمنصور في كتابة الموطأ ، مع علمه بوجود من هو أعلم منه(6) ؟ !
____________
(1) السنن الكبرى للبيهقي 1 : 56 باب إدخال المرفقين في الوضوء .
(2) تهذيب الكمال 16 : 80 ، تهذيب التهذيب 6 : 14 عن الطبقات .
(3) الضعفاء للعقيلي : 2 : 299 ، وعنه في تهذيب الكمال 16 : 80 ، وتهذيب التهذيب 6 : 14 .
(4) الكامل لابن عدي 4 : 1447 ، تهذيب الكمال 16 : 80 ، تهذيب التهذيب 6 : 14 .
(5) انظر : مقدمة موطأ مالك ، بقلم الدكتور محمد كامل حسين (جك) وغيرها .
(6) انظر : المصدر السابق وغيره من كتب التراجم عن الإمام مالك .

(263)

وما يعني كلام المنصور له : هل أخذت بأحاديث أبن عمر ؟
فقال : نعم .
فقال المنصور : خذ بقوله ، وإن خالف عليّاً وابن عباس(1) !
هل هناك منهجان في التحديث عن رسول الله ، يتزعم أحدهما ابن عمر وهوى الحكام ، والآخر عليُّ وابن عباس ؟ وما دلالة مثل هكذا نصوص ؟ وهل تراه يضعف ابن عقيل حقاً ؟
فإن كان ضعيفاً وكذاباً عند الإمام مالك ، فكيف تأخذ المالكية إذن بحديثه في مسح جميع الرأس ؟ !

عود على بدء

نرجع إلى صلب الموضوع للتأكيد على وحدة الطالبيين فكرياً وفقهياً وسياسياً ، بعد ما عرفت اتجاه علي بن الحسين وابن عقيل وابن عباس وعلي بن أبي طالب في الوضوء ، ومن خلاله يمكننا معرفة وضوء الإمام زيد بن عليّ بن الحسين ، وأنه لم يكن موافقأً للربيع وقد سردنا مواقف غيرهم من بني هاشم كابن عباس ، أخذاً عن آبائهم .
قال الشيخ أبو زهرة في كتابه « تاريخ المذاهب الإسلامية » عن الإمام زيد : (. . . . قد مات أبوه عام 94 هـ أي وهو في الرابعة عشرة من عمره ، فتلقى الرواية عن أخيه محمد الباقر ، الذي يكبره بسن يسمح بأن يكون له أباً ، إذ إن الإمام جعفر بن محمد الباقر كان في سن الإمام زيد رضي الله عنهم أجمعين .
وما كان من المعقول أن يجمع الإمام زيد وهو في سن الرابعة عشرة كل علم أهل البيت ، فلابدّ أن يكمل أشطره من أخيه ، الذي تلقى علم أبيه كاملاً . وقد
____________
(1) طبقات ابن سعد 4 : 147 .

(264)

كان الباقر إماماً في الفضل والعلم ، أخذ عنه كثيرون من العلماء ، ورووا عنه ، ومن هؤلاء أبو حنيفة شيخ فقهاء العراق . وقد نال الباقر فضل الإمامة العلمية حتى إنه كان يحاسب العلماء على أقوالهم وما فيها من خطأ وصواب . . . (1)) .
والآن نتساءل :
كيف جاء هذا النقل عن الإمام زيد إذن ؟ وهل حقاً أنه حدث أصحابه عن أبيه عن جده بذلك ؟ أم إن الإخبار تظافرت عنه دون معرفة ملابسات الحكم الشرعي ؟ ! وإنا بطرحنا العاملين الثاني والثالث ـ من أسباب اختلاف الطالبيين ـ سنوضح إن شاء الله جواب هذا السؤال وغيره .

وأما العامل الثاني(2) :

فهو محاولة الحكام إشاعة حالة الفرقة والخلاف بين الطالبيين ، لتضعيفهم ثم احتوائهم فكرياً وسياسياً .
فقد مر عليك خبر ابن الحسن بن صالح بن حيّ مع يحيى بن عبدالله بن الحسن في (المسح على الخف) ، وكيف كان يخالف يحيى في أمره ، ويفسد أصحابه عليه ، وقول يحيى بن عبدالله : (فأذن المؤذن يوماً ، وتشاغلت بطهوري واُقيمت الصلاة ، فلم ينتظرني ، وصلى بأصحابي . . فخرجت ، فلما رأيته يصلي قمت اُصلي ناحية ، ولم اُصل معه لعلمي أنه يمسح على الخفين) .
ففي الجملة الإخيرة إشارة إلى أن يحيى بن عبدالله وغيره من أهل البيت كانوا لا يرون مشروعية الصلاة خلف الذي يمسح على الخفين ، وكذا لا يرون الاقتصار على التكبيرة الرابعة في صلاة الميت . وإذا ظهر منهم ما يخالف مذهبهم فإنما جاء امتثالاً لأمر الرسول (ص) بلزوم الحفاظ على وحدة الصف
____________
(1) تاريخ المذاهب الإسلامية : 653 .
(2) قد مرت الإشارة إلى العامل الأول في ص 252 من هذا الكتاب .

(265)

الإسلامي وعدم الانشغال بجزئيات الشريعة ، ولا يدل موقفهم ذلك على كون هذا الفعل المأتي به هو سنة رسول الله !
نعم ، إن أبن الحسن بن صالح بن حيّ كان يريد بث الفرقة في صفوف أصحاب يحيى وإثارة المشاعر بقوله : (علام نقتل أنفسنا مع رجل لا يرى الصلاة معنا ، ونحن عنده في حال من لا يرتضى مذهبه ؟) فالإمام يحيى لا يرتضي الصلاة خلفه لعدم رعايته لحقوق الإمرة والاخوة وسعيه في بث الفرقة بين المجاهدين .
وقد استغل أبن الحسن بن صالح الخلاف المذهبي في إثارة هذه النعرة بين صفوف الثوار ، وهو ما كان يسعى إليه الحكام ويبذلون من أجله الأموال .
وحكى يحيى بن عبدالله نصاً آخر عن دور ابن حيّ التخريبي في صفوف الثوار ، فقد جاء في مقاتل الطالبيين :
(. . . وأهديت إليّ شهدة في يوم من الإيام ، وعندي قوم من أصحابي فدعوتهم إلى أكلها ، فدخل (ابن حيّ) في إثر ذلك ؛ فقال : هذه الإثرة ! أتأكله أنت وبعض أصحابك دون بعض ؟ !
فقلت له : هذه هدية اُهديت إليّ وليست من الفيء الذي لا يجوز هذا فيه .
فقال : لا ؛ ولكنك لو وليت هذا الأمر لاستأثرت ولم تعدل .
وأفعال مثل هذا من الاعتراض(1)) .
وجاء في مقاتل الطالبيين كذلك : إن إدريس بن عبدالله بن الحسن أفلت من وقعة فخ وكان الرشيد يتابع خبره ، فلما بلغه أنه قدم مصر متوجهاً إلى افريقية غم كثيراً لعدم إمكانه القبض عليه ، فشكا ذلك إلى يحيى بن خالد ؛ فقال : أنا أكفيك أمره ، ودعا سليمان بن جرير الجزري ، وكان من متكلمي
____________
(1) مقاتل الطالبيين : 468 .

(266)

الزيدية البترية ، ومن اُولي الرئاسة فيهم ، فأرغبه ووعده عن الخليفة بكل ما أحب على أن يحتال لإدريس حتى يقتله ، ودفع إليه غاليةً مسمومة ، فحمل ذلك وانصرف من عنده ، فأخذ معه صاحباً له وخرج يتغلغل في البلدان حتى وصل إلى إدريس بن عبدالله فمت إليه بمذهبه ؛ وقال : إن السلطان طلبني لما يعلمه من مذهبي فجئتك ، فأنس به واجتباه ، وكان ذا لسان وعارضة ، وكان يجلس في مجلس البربر فيحتج للزيدية ويدعو إلى أهل البيت كما كان يفعل ، فحسن موقع ذلك من إدريس إلى أن وجد فرصة لإدريس ؛ فقال له : جعلت فداك ، هذه قارورة غاليةٍ حملتها إليك من العراق ليس في هذا البلد من هذا الطيب شيء ؛ فقبلها وتغلل بها وشمها وانصرف سليمان إلى صاحبه ، وقد أعدّ فرسين ، وخرجا يركضان عليهما .
وسقط إدريس مغشياً عليه من شدة السم ، فلم يعلم من بقربه ما قصته ، وبعثوا إلى راشد مولاه ، فتشاغل به ساعة يعالجه وينظر ما قصته .
فأقام إدريس في غشيته هاته نهاره حتى قضى عشياً ، وتبين راشد أمر سليمان فخرج في جماعة يطلبه . . . . (1) الخبر .
كانت هذه إحدى طرق التصفية الجسدية عند الحكام ، وقد وقفت على اُسلوبهم وكيفية استغلالهم المذهب كسلاح ضد الطالبيين ، وأن سليمان بن جرير مع كونه من متكلمي الزيدية البترية واُولي الرئاسة فيهم ، تراه يدخل ضمن المخطط ، وأن جملة سليمان : (ان السلطان طلبني لما يعلمه من مذهبي) فيها إشارة إلى أن فقه الطالبيين هو غير فقه السلطان وأن الحكام استخدموا الشريعة لصالح السياسة ليتعرفوا على الطالبيين وفق ما يؤدونه من العبادات !
ومن خلال موقف سليمان نصل إلى انه كان من المندسين الفكريين في صفوف الزيدية ، ومن ثم استخدمه السلطان للغدر والخيانة .
____________
(1) مقاتل الطالبيين : 489 .

(267)

وبهذا ، تجلى لنا أن الحكام قد اتبعوا طرقاً لاحتواء الزيدية ، منها :
1 ـ دس علماء السوء بين صفوفهم ، وكانت مهمتهم : محاولة إبعاد الفصائل الثورية الزيدية عن فقه عليّ بن أبي طالب .
2 ـ بث النعرات المذهبية بين صفوف الزيدية .
3 ـ محاولة خلق فجوة خلاف بين الطالبيين وغيرهم ، وسواها الكثير .
أما العلويون فكانوا ـ بقدر المستطاع ـ يسعون للمحافظة على وحدتهم سياسياً وفكرياً ، مما دعا المنصور لأن يعتب على الزيدية لتعاونهم مع بني الحسن بقوله : (ما لي وبني زيد ! وما ينقمان علينا ؟ ! ألم نقتل قتلة أبيهما ونطلب بثأره ونشفي صدورهما من عدوهما(1)) ؟ !
وكيف لا ينقمون على العباسيين وهم يرون باُم أعينهم ذلك الدور التخريبي الذي يمارسونه والذي فاق دور وممارسات الأمويين خسة وحقداً !

وأما العامل الثالث :

فهو احتواء بعض الفقهاء لثورة زيد بن عليّ .
من الثابت في كتب التاريخ ان الإمام نعمان بن ثابت (أبا حنيفة) كان من المؤيدين للثورات العلوية ، كثورة زيد بن علي بالكوفة ، ومحمد النفس الزكية في المدينة ، وأخيه إبراهيم في البصرة ، وكان من الداعين للخروج على السلطان الفاسد .
ومن الطبيعي أن تؤثر هذه المواقف على نفسيات المجاهدين مما يولد لديهم حالة من التعاطف مع الإمام أبي حنيفة ، مضافاً إلى أن اُصول فقه أبي حنيفة كانت توافق الرأي وترتسم وفق القياس ، وانه كان يجادل مخالفيه الفقهيين
____________
(1) مقاتل الطالبيين : 406 ـ 407 .

(268)

ويبين لهم وجوهاً من الرأي مما كان يعجب كثيراً من الناس ، هذا من جهة .
ومن جهة ثانية ، كان الإمام أبو حنيفة يعيش في الكوفة ، ويرى أن غالب أهلها علويون فكراً ، فكان عليه أن يتسلح بسلاح الحديث والمأثور إلى جوار ما يحمله من الاستدلال والرأي ، فذهب إلى المدينة للاستزادة من حديث محمد الباقر وجعفر الصادق لتقوية مكانته الاجتماعية في الكوفة أكثر من ذي قبل .
قال المستشرق رونلدسن :
إن الشيعة كانوا يحترمون ويجلون أبا حنيفة لصلاته الودية بالإمام جعفر الصادق ، وقد ازداد إعجابهم به حينما قال عن العباسيين : إنهم لو أرادوا بناء مسجد وأمروه بإحصاء الآجر فانه لا يفعل ، لأنهم فاسقون والفاسق لا يتولى الإمامة(1) .
أما الإمامان الباقر والصادق فكانا يتخوفان على شيعتهم من الإمام أبي حنيفة وأشاروا عليهم بالحيطة والحذر من آرائه لمخالفتها اُصول مدرستهم (مدرسة السنة والتعبد) بل ولموافقة اجتهاد الإمام أبي حنيفة للرأي والقياس ، في حين يرى أهل البيت أن دين الله ـ أي التشريع ـ لا يقاس بالعقول .
هذا ، وإن القول بالرأي لا يدل على كون قائله من المتأثرين بالحكومة قطعاً ، أو هو من أتباع السياسة الأموية ، بل ان الفقيه قد يوافق السلطان في رأيه وقد لا يوافقه ، ومن ذلك ما قلناه في مسألة الوضوء العثماني ، فإن ذهاب أبي حنيفة إلى وضوء عثمان لا يعني انه قد استجاب للسلطان أو تأثر بالأجواء الحاكمة ، بل أنه تبنى هذه الوجهة لموافقتها للاُصول التي رسمها لنفسه وبنى عليها فقهه .
وعليه ، فإن توافق الآراء بين أبي حنيفة والحكومة لا يعني تطابق السياسة
____________
(1) عقيدة الشيعة : 143 .

(269)

والمنحى ، وقد عرف عن الإمام أبي حنيفة انه كان الوحيد في الكوفة الذي يترحم على عثمان بن عفان(1) .
ولنوضح ما قلناه بتقرير آخر :
مضى على الوضوء العثماني إلى أيام ثورة الإمام زيد بن عليّ ما يقارب القرن من الزمن ، فلا يعقل أن لا يترك هذا الوضوء بصماته على الحديث ومواقف التابعين ، مع ما عرفت من سعي الحكومة في تبيي فقه الخليفة عثمان ونشر آرائه ، مضافاً إلى أن مدرسة عثمان في الوضوء ـ كما سيتضح لك لاحقاً ـ كانت تبتني علىالرأي والاستحسان . وهذه الرؤية كانت تتحد في بعض اُصولها مع فكر الإمام أبي حنيفة ، فذهاب أبي حنيفة إلى الوضوء الثلاثي الغسلي إنما جاء لاعتقاده بصحة تلك الأحاديث المنقولة وموافقتها لاُصول مذهبه وليس لتأثره بالاتجاه الحكومي ، إذ إنه قد حضر عند عطاء بن رباح في مكة ، ونافع مولى ابن عمر في المدينة ، وأخذ عن عاصم بن أبي النجود ، وعطية العوفي وعبد الرحمن بن هرمز مولى ربيعة بن الحارث ، وزياد بن علاقة ، وهشام بن عروة وآخرين ، وغالب هؤلاء كانوا يتحدون في الفكر والآراء .
وعلى هذا ، تكون الزيدية قد تأثرت بالفقه الحنفي للعلاقات والمواقف التي وقفها الإمام لهم ، فإنهم قد تمسكوا بالفقه الحنفي وتركوا ما كان رسمه لهم زيد من فقه آبائه عن رسول الله (ص) ، وذلك لعاملين :
1 ـ خلو الكوفة من علماء الزيدية ـ بعد مقتل الإمام زيد ـ وانشغال الطالبيين بمقارعة الظالمين ، وبذلك تهيأت الأرضية لأبي حنيفة لاحتوائهم فقهياً لقربه إليهم مكانياً وسياسياً .
2 ـ ابتعادهم عن فقهاء الطالبيين الموجودين في المدينة ، كعبدالله بن الحسن وجعفر بن محمد الصادق ، وسعي المندسين في صفوف الثوار لبث روح
____________
(1) انظر تاريخ المذاهب الاسلامية : 261 عن الانتقاء لابن عبدالبر : 130 .

(270)

الفرقة بين صفوفهم وإشاعة كون عبدالله بن الحسن ليس بفقيه ولا يجوز الرجوع إليه ، وأن جعفر بن محمد لا يمكن الأخذ عنه لتقاعسه عن الجهاد مع زيد ، وما شاكل ذلك من الشبهات ، كل ذلك ليحصروا الأخذ في الإمام أبي خنيفة .
وقد ثبت في علم الاجتماع أن الخلاف بين الأقارب ـ سواء في العقيدة أو النسب ـ يكون أكثر وضوحاً من الخلاف بين الأباعد ، فلو لحظنا ـ مثلاً ـ الخلاف بين الشيعي والسني ـ في العقائد وغيرها ـ لرأيناه يشغل كثيراً من وقت المسلمين ، مع تقارب نظرهم واستقائهم من اُصول واحدة واتحادهم في كثير من الميادين والاُصول ، في حين لا نرى مثل هذه المواجهة بين المسلم وبين اليهودي أو المسيحي مع اختلافهم معهم في أكثر من أمر ؛ وهكذا الأمر بالقياس إلى الخلاف النسبي بين الأقارب ؛ فإن الخلاف بين الإخوة وبين الأعمام تظهر ملامحه سريعاً على عكس الخلاف بين الإباعد . ولما كان الفقه الزيدي يستوحي فقهه من العترة وأن الإمام جعفر بن محمد الصادق هو ابن أخ الإمام زيد بن عليّ ، فإن المندسين بين صفوف الزيدية يسعون لتكدير الموقف بين الزيدية والجعفرية عن طريق رفع مستوى التوقعات وطرح بعض الشبهات ، ليبعدوا أنظار الزيدية عن أعلام الطالبيين في المدينة ، حتى يسهل الالتفاف حولهم لاحتوائهم فكرياً .
وتبين بهذا أن القريب دوماً يتوقع من قريبه ـ أكثر من البعيد أو المختلف معه ـ أن يؤازره وينصره ، وأن يسير معه ، وحينما لا يلمس هذا التعاون ـ رغم ما بهذا من مسوغات وأدلة ـ نراه يبتعد شيئاً فشيئاً عن قريبه ، ولربما بلغ به الأمر أن يجعله في ضمن أعدائه ومناوئيه ، وخصوصاً إذا لحظنا بُعد المسافة بين الكوفة والمدينة ووجود أعلام كالإمام أبي حنيفة في الكوفة !
ولأجل كل هذا ، نرى بصمات الفقه الحنفي ظاهرة على الفقه الزيدي ،
(271)

ويمكننا أن نعد أكثر من ثلثيه مأخوذاً عن الإمام أبي حنيفة ، وقد أكد هذه الحقيقة الشيخ محمد بخيت ـ مفتي الديار المصرية في أوانه ـ في تقريظه لمسند الإمام زيد بن عليّ ، بقوله :
أما بعد ، فاني اطلعت على هذا المجموع الفقهي الذي جمعه الإمام عبدالعزيز بن إسحاق ، المنسوب بالسند الصحيح إلى الإمام الشهيد زيد بن عليّ زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، صهر الرسول وزوج البتول بضعة الرسول (ص) ، وقرأته على راويه حضرة الاُستاذ الشيخ عبد الواسع ، فوجدته مجموعاً جمع من المسائل الفقهية والأحكام الشرعية ما هو مدلل عليه بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، وهو موافق في معظم أحكامه لمذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان ، وحيث إن مذهب الزيدية في العلوم الشرعية لم يشتهر في الديار المصرية . . . (1) .
وبهذا ، يحتمل أن يكون مجيء الإمام أبي حنيفة إلى المدينة ـ مضافاً إلى تقوية مكانته الاجتماعية في الكوفة ـ إنما كان لاختراق صفوف الشيعة الإمامية .
أما حيطة الإمام جعفر بن محمد الصادق وتركيزه على الأخذ بالمأثور وترك الرأي والقياس وتنظيمه لحلقات الدرس وقوله : « ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقهوا » وتأكيده على الفقه . . فإنه هو الذي أحبط بادرة الإمام أبي حنيفة في محاولة اختارقه للفقه الشيعي ، بخلاف الزيدية الذين انشغلوا بالحرب والكفاح المسلح وعدم وجود أئمة من أهل البيت بينهم مما أدى إلى خلق فجوة وفراغ فقهي عندهم اضطرهم إلى الالتجاء لفقه أبي حنيفة .
____________
(1) من مقدمة مسند الامام زيد بن علي : 36 ، وحكى المامقاني في تنقيح المقال 1 : 336 عن الوحيد البهبهاني (في ترجمة الحسين بن علوان) إن الزيدية في الفروع مثل العامة . ولعبدالحليم الجندي في كتابه للامام الصادق : 131 مثله .

(272)

بين وضوء زيد ووضوء الزيدية

وعلى هذا فالوضوء المتداول بين الزيدية اليوم لم يكن وضوء الإمام زيد بن علي ، إذ إنه ليس بوضوء أخيه أبيه عليّ بن الحسين ، وليس بوضوء جده عليّ بن أبي طالب وليس بوضوء أخيه الباقر ، ولا ابن أخيه الصادق ، وليس بوضوء ابن عمه عبدالله بن محمد بن عقيل ، ولا هو وضوء عبدالله بن عباس وغيرهم من الطالبيين ، بل هو وضوء الإمام إبي حنيفة وفق ما ثبت عندهم من الاُصول والمباني ، ومثل هذا الحكم الشرعي كثير في فقه الزيدية . قد جاء في مقدمة مسند الإمام زيد :
ومما جرى عليه الناس ولم يعرفوا سبب ذلك هو عدم ذكر آل رسول الله (ص) في الكتابة في كتبهم في الصلاة . وسبب عدم ذكرها أن الأموية شددت في ذكر الآل كما هو مشهور من قتلهم وتشريدهم في البلاد ، حتى إن الحجاج منع من التحديث عن عليّ كرم الله وجهه ، حتى كان الحسن البصري وجماعة من التابعين إذا رووا حديثاً وكانوا في الجوامع لم يقدروا أن يصرحوا بذكر عليّ خوفاً من سيف الحجاج ، فكانوا يقولون : وعن أبي زينب عن النبي (ص) فجرى الناس على ذلك من عدم ذكر الآل ، والآن بحمد الله زال المانع وذلك الزمن المخوف ، والآن كتب الهند وبعض الكتب المصرية الحديثة وأمثالها الذين أهلها متنورون ، صاروا يذكرون الآل في الصلاة بعد ذكر النبي فيجعلونها من جملة الصلاة ، والصلاة على النبي التي لا يذكر فيها تسمى الصلاة البتراء المنهي عنها كما في الحديث : « لا تصلوا عليَّ الصلاة البتراء » .
قيل : « يا رسول الله ، وما الصلاة البتراء ؟
قال : « أن تصلوا عليَّ ولا تصلوا على آلي » .
وأخرج الدارقطني والبيهقي في حديث : « من صلى عليَّ ولم يصل على أهل
(273)

بيتي لم تقبل منه » وأخرج مسلم وغيره . . . (1) .
هذا ، ولو سلمنا جدلاً بأن الإمام زيد بن علي كان قد توضأ وغسل رجليه ـ مع انا قد أوضحنا عدم وقوع ذلك ـ فهو لا يدل على مشروعيّة ذلك الفعل وكونه سنة رسول الله ، إذ إن الإمام زيداً كان موقفه موقف الإمام العادل الذي يجب عليه التحلي بجميع فضائل الإمام العادل المجاهد ضد أئمة الجور ، وأن يحذر كل الحذر من إشغال أصحابه في الجزئيات والفروع ، خوفاً من وقوع الخلاف بينهم ، وقد التف بالفعل حوله أغلب الفرق الإسلامية ، حتى المرجئة والخوارج ، فيحتمل أن يكون الإمام زيد قد أتى بالوضوء الغسلي رعاية لحال غالبية الجند ووحدة الصف وإن كان لا يعتقد بمشروعيته ، وقد لحظ مثل هذا الموقف في كلام إبراهيم بن عبدالله بن الحسن في الصلاة على الميت وقوله : (هذا أجمع لهم ، ونحن إلى اجتماعهم محتاجون ، وليس في تكبيرة تركتها ضرر إن شاء الله)(2) .
وقد صدرت عن الصادق نصوص كثيرة في صلاة الجماعة مع العامة رعاية للصف الإسلامي ولزوم الصلاة معهم ؛ فقال : « ومن صلى معهم في الصف الأول كمن صلى خلف رسول الله في الصف الأول » (3) .
وقوله : « يا إسحاق ، أتصلي معهم في المسجد ؟ » .
قلت : نعم .
قال : « صل معهم ، فإن المصلي معهم في الصف الأول كالشاهر سيفه في سبيل الله » (4) .
وقوله : « إذا صليت معهم ، غفر الله لك بعدد من خالفك » (5) .
____________
(1) مقدمة مسند الإمام زيد : 34 .
(2) مقاتل الطالبيين : 406 .
(3) من لا يحضره الفقيه 1 : 250 | 1126 ، أمالي الصدوق 300 | 14 ، الكافي 3 : 380 | 6 .
(4) تهذيب الأحكام 3 : 277 | 809 .
(5) من لا يحضره الفقيه 1 : 265 | 1211 .

(274)

تلخص مما سبق

بهذا عرفت أن موقف الإمام زيد في الوضوء لا يمكن أن يخالف موقف جعفر بن محمد الصادق وبني الحسن ، بل إن فقه الجميع واحد كما رأيت دعوتهم وتأكيدهم على وحدة الصف الإسلامي في اُمور متشعبة ومختلفة .
وإن الخلاف لو حدث بينهم إنما كان لأحد العوامل التالية :
1 ـ سيطرة الروح الثورية على بني الحسن والزيدية وتأثرهم بأقوال المندسين بين صفوفهم وقناعتهم بتلك الشبهات ، مثل أن جعفر بن محمد الصادق لا يجوز الأخذ بكلامه لقعوده عن القتال مع زيد والنفس الزكية و . . . !
2 ـ دور الحكام في اتساع الفجوة بين الزيدية والإمام الصادق ، بل التمهيد وبصورة غير مباشرة إلى الأخذ بفقه الإمام أبي حنيفة .
3 ـ حصول فراغ فقهي في الطائفة الزيدية ـ بعد مقتل الإمام زيد بن عليّ عام 120 ـ لمدة تقارب الثلاثين عاماً ، أي حتى عام 150 ، وهي المدة التي استطاع الفكر الحنفي أن يخترق خلالها صفوف الفقه الزيدي .
وقلنا بأن تعلق الزيدية بفقه الإمام أبي حنيفة كان لعاملين :
أ ـ قرب الإمام أبي حنيفة منهم مكانياً وسياسياً ، وتعاطفه مع المجاهدين منذ عهد الإمام زيد وحتى قيام محمد النفس الزكية بالمدينة وأخيه إبراهيم بالبصرة .
ب ـ عدم وجود فقيه من أهل البيت في الكوفة ، ولو حسبنا الإمام يحيى بن زيد هو الفقيه من أهل البيت فإنه لم يعش إلاّ خمس سنوات بعد والده وقد خذلته الزيدية . وإن قلنا إنه أحمد بن عيسى بن زيد ، فإن جلَّ فقهه مأخوذ من تلامذة الإمام أبي حنيفة ، وكذا الأمر بالنسبة إلى القاسم بن إبراهيم الرسني الحسني ، ويحيى بن الحسن بن القاسم ، وغيرهم من أعلام العلويين .

(275)

والذي يؤكد حقيقة ما قلناه من تبدل الفقه الزيدي وبعده عن آراء زيد ، هو اضطراب مباني الفقه الزيدي اليوم ، فتراها ملفقةً وخليطاً من مباني عدة مذاهب .
إلى هنا ننهي الكلام عن الوضوء في العهد الأموي ، وننتقل إلى دراسة الوضوء حتى نهاية العصر العباسي الأول .

(276)

العهد العباسي الأول (132 ـ 232 هـ)

طال العهد العباسي أكثر من خمسة قرون ، وقد حفل بأحداث سياسية وتيارات فكرية وحركة علمية ، ومظاهر حضارية ، فلا يمكننا بهذه العجالة اعطاء صورة تفصيلية وتقديم فكرة شاملة لها ، بل نقتصر في الكلام عن العهد العباسي الأول ـ أي من عام 132 لغاية 232 ـ إذا تأسست فيه المذاهب الأربعة ، ونظراً لعناية الحكام بالجانب الثقافي والسعي في تدوين العلوم ، أحببنا تناول موضوع واحد من تلك المواضيع الكثيرة المتشعبة ، لنسلط عليه الضوء ، ألا وهو :

الفقه ودور الحكام فيه


المعروف عن الحركة العباسية ـ في بداية أمرها ـ انها كانت حركة دينية تدعو إلى (الرضا من آل محمد) . وقد شمل هذا الشعار بالفعل جميع فصائل المعارضة الإسلامية ضد الأمويين ، إذ أنه شعار جماهيري نبع من ضمير الاُمة ، أدركته الاُمة وتفاعلت معه ، منذ مقتل الحسين بن عليّ بكربلاء وسبي
(277)

نسائه إلى الشام ، وحتى سقوط الدولة الأموية .
فتراهم قد تستروا بغطاء (الرضا من آل محمد) ليحرفوا مسيرة الثورة ويزوروا آمال الجماهير المؤمنة .
ولا شك أن الدعوة تحت هذا الشعار تعني كون الأمر إلى آل البيت النبوي ، وهم : عليّ وأبناؤه الميامين والمضطهدون في العهد السابق ، الذين تحملوا ألوان الأذى وأنواع الرزايا والمحن ، من سم الحسن المجتبى ن وقتل الحسين الشهيد ، وسبّ عليّ بن أبي طالب . . وأن الدعوة تحت هذا الشعار تعني أن الناس كانوا يدركون موضع أهل البيت ، بل يسعون إلى إيصال الحق لأهله .
غير إن بني الأعمام ـ عندما وصل الأمر إليهم ـ قد قلبوا للعلويين ظهر المجن ، فسعو لتحريف معنى الآل والتأكيد على أن هذا اللقب والشعار كان لهم هم دون العلويين ، فانهم المعنيون بآل محمد ، ثم راحوا يعضدون مدعاهم بالشاهد تلو الشاهد ، وقد رغب الحكام الشعراء لنظم الشعر في ذلك فأخذت القصائد تنشد تلو القصائد(1) .
والحق أن الثابت في التاريخ هو أن العباس بن عبدالمطلب ـ جد العباسيين الأول ـ وابنه عبدالله كانوا من الحماة والمدافعين عن عليّ بن أبي طالب في كل الظروف والمواقف ، وإن ما حفظه التاريخ من كلامهم ومواقفهم ليؤكد على أنهم كانوا يؤمنون بخلافة عليّ ، بل كانوا يصرحون بوصاية الرسول لعليّ بن أبي طالب . وقد تناقلت المصادر أن العباس بن عبدالمطلب قد تخلّف عن بيعة أبي بكر ، ولم يشارك في اجتماع السقيفة ، بل بقي بجنب عليّ يجهزان الرسول حتى واروه التراب ، دعماً لعليّ ، وكذا موقفه في الشورى .
وإنا لا نرى ضرورة في تفصيل هذه الاُمور ونقتصر فيه على ما دار بين المهدي العباسي وشريك القاضي :
____________
(1) انظر : تاريخ بغداد 13 : 142 ـ 143 .

(278)

قال المهدي لشريك القاضي : ما تقول في عليّ بن أبي طالب ؟
قال : ما قال فيه جدك العباس وعبدالله .
قال : وما قالا فيه ؟
قال : فأما العباس فمات وعليّ عنده أفضل الصحابة ، وكان يرى كبراء المهاجرين يسألونه عما ينزل من النوازل ، وما احتاج هو (ع) إلى أحد حتى لحق بالله . وأما عبدالله فانه كان يضرب بين يديه بسيفين ، وكان في حروبه رأساً منيعاً وقائداً مطاعاً . فلو كانت إمامته على جور ، كان أول من يقعد عنها أبوك لعلمه بدين الله وفقهه في أحكام الله ، فسكت المهدي ، ولم يمض بعد هذا المجلس إلاّ قليلاً حتى عزل شريك(1) .
لكنا ، ماذا نقول عن الأبناء وموقفهم من عليّ وأبنائه ، فحب السلطان وزخارف الدنيا قد أعمى بصائرهم ، فنراهم يقدمون الدين فداءً للدنيا ، والشريعة قرباناً للسلطان ، وصاروا يدعون ما ليس لهم ، فنرى الأحكام الإلهية في عهدهم تأخذ طابعاً سياسياً ويستخدمون الدين ضد الدين كما عهدناه سابقاً في الحكم الأموي ، فتتأصل فيه آراء فقهية وترى وضع الأحاديث ينسابُ ويتتالى تقرباً إلى السلطان ، وأن القارئ سيقف على بعضها ، حينما يقتضي السياق بيان ذلك .
وسنبين حال الوضوء في هذا العهد وهل تأثر بالسياسة أم بقي بعيداً عن المجريات الحكومية ؟ وذلك بعد تقديمنا عرضاً تاريخياً للعهد العباسي الأول ، ودور الحكام في حدوث المذاهب الفقهية ودعمهم لها ، وما أصاب العلويين من الظلم ، وأنه كان أضعاف ما أصابهم في عهد الأمويين ، حتى قال الشاعر :
فليت ظلم بني مروان دام لنا * وليت عدل بني العباس في النار

____________
(1) تاريخ بغداد 9 : 292 .

(279)

وكذلك :
تالله ما فعلت اُمية فيهمو * معشار ما فعلت بنو العباسي

ولعل فيما عرضناه ما يساهم في معرفة واقع الاُمة الاجتماعي والسياسي ، ويوقفنا على ملابسات اختلاف المسلمين في الأحكام الشرعية .
وإن الخوض في مثل هذه البحوث من شأنه أن يقدم للفقيه والمحقق الباحث ومن يعنى بمسائل الخلاف بين المسلمين وغيرهم رؤية دقيقة وتكشف عن اُمور لم تدرس من قبل في مجال الفقه والشريعة ، مع أنها بحوث كانت جديرة بالدراسة قبل اليوم ، وخصوصاً في الفروع الفقهية المختلف فيها بين الاُمة . وإن محاولتنا في الوضوء هي خطوة اُولى في هذا الباب ، نأمل أن تتبعها محاولات اُخرى من قبل الأعلام .
وإذ كانت هذه المحاولة ـ التي قدمناها في الوضوء ـ هي حديثة عهد ولم يقدم فيها نموذج تطبيقي لحد الآن ، كان التفصيل في بعض المجالات وخصوصاً تاريخ حدوث المذاهب وبيان أسباب اختلاف المسلمين ضروياً في غاية الضرورة ، إذ لا يعقل أن يختلف المسلمون إلى هذا الحد في بيان حكم الله الواحد ، والمنزل في الكتاب المتفق عليه عند الجميع ، والمبين من قبل الرسول المعروف عند الجميع وإمكان تصحيح كل النقولات عنه (ص) وذلك لإيماننا : بعدالة كل الصحابة ، أو قولنا بمعذورية الأخذ بأيهم لقوله (ص) : (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) ، وكيف يصح الاختلاف في اٌمة هي خير الاُمم لقوله تعالى ( كنتم خير اُمة اُخرجت للناس . . . ) ، والآن نتساءل :
هل حقاً أن رأي الجميع حجة ؟ وكل القواعد المرسومة في الفقه هي قواعد صحيحة سديدة تماماً لا مجال فيها الخطأ أو اشتباه ؟ !
أم إن هناك بعض المفاهيم والرؤى حكومية المنبع يجب التوقف عندها ومعاودة النظر ؟ !

(280)

تغيير بعض المفاهيم الروائية

هل يصح ما قيل عن اختلاف الاُمة وأن هذا الاختلاف رحمة للمؤمنين ، لأنهم في الخيار : من أي مذهب شاؤوا أخذوا ؟ !
وكيف يتطابق هذا المفهوم مع ما قيل عن رسول الله (ص) : (ستفترق اُمتي إلى نيف وسبعين فرقة . فرقة ناجية ، والباقي في النار) ؟ !
ومن هي تلك الفرقة الناجية ؟
وكيف تكون الفرقة الناجية واحدة من بين الجميع ، ويكون عمل الجميع صحيحاً ؟ ولم لم يقل النبي (ص) مثلاً : كلها ناجية وواحدة في النار ؟ !
أليس هناك تضارب بين هذه الروايات إن لم نقل التناقض ؟ !
وما هو حكم الله الأحد والمنزل في الكتاب الواحد ؟
وهل حقاً أن مفهوم (اختلاف اُمتي رحمة) هو ما قاله فقهاء العامة ، أم ما قاله الصادق من آل محمد وهو في معرض جوابه عن اعتراض السائل : إذا كان اختلافهم رحمة ، فباجتماعهم نقمة ؟ ! قال جعفر بن محمد الصادق : ليس حيث ذهبت ويذهبون ـ يعني في تفسير هذا الحديث ـ إنما قصد رسول الله (ص) اختلاف بعضهم إلى بعض ، يعني يسافر بعضهم إلى بعض وينظر إليه ويقصده لأخذ العلم عنه ، واستدل على ذلك بقوله تعالى : ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذ رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) ثم أضاف قائلاً : فإذا اختلفوا في الدين صاروا حزب إبليس .
وعلى ضوء هذا التفسير نفهم بأن الله تعالى أرسل النبي (ص) بوحدة العقيدة لا للاختلاف فيها كما يريده الحكام ، وأن الآيات القرآنية تؤكد على الاعتصام بحبل الله ونبذ التفرق سواء في الفقه أو في العقيدة ، وتشير بوضوح إلى أن صراطه مستقيم لا التباس فيه ولا التواء ، لقوله تعالى (وان هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ، ذلكم