وصاكم به لعلكم تتقون) (1) .

بعض خيوط السياسة العباسية


إن الخلفاء في الفترة الاُولى من العهد العباسي بالخصوص أخذوا يرسمون الخيوط العامة لسياستهم المستقبلية في إبعاد بني عليّ وفاطمة وعزلهم إلى الأبد عن الجماهير المسلمة . ومؤشرات ذلك المخطط كثيرة ، نقدم بعضها على نحو الإجمال :
1 ـ التأكيد على أن خلافتهم كانت شرعية ، وأنهم هم آل الرسول المعنيون في الأحاجيث النبوية الشريفة ، ومنه كسبوا الشرف وأضفوا الشرعية على ممارساتهم وتصحيح ادعاءاتهم الدينية ، وأنهم يريدون تطبيق ما أمر به الرسول وتطبيق سنته وإحياء دينه ، ولهذا تلقبوا بألقاب تحمل هذا المعنى : الهادي ، المهدي ، الرشيد ، المنصور ، الناصر لدين الله ، المعز لدين الله ، المتوكل على الله و . . .
هذه القضايا كلها تدلل على أنهم قد استخدموا الدين لخدمة أهدافهم السياسية ، حتى نراهم يدعون بأن العم يحجب البنت عن الإرث ؛ لكي يحرموا أبناء فاطمة الزهراء بنت محمد رسول الله من كل شيء ، وحتى يكون العباس ـ عم النبي ـ هو الوارث الشرعي !
2 ـ توسعة دائرة النقاش العلمي بين الفقهاء وأولاد عليّ ، وتنظيم الحلقات العلمية بين المذاهب الكلامية ؛ لتكثير الشبهات والتشكيك في الإسلام ، لكي يحرجوا من يدعي العلم من أهل بيت النبوة وفقهاء بني فاطمة ، ثم يسقطوهم اجتماعياً وعلمياً وسياسياً .
3 ـ الدعوة إلى ترجمة كتب اليونان والهند والفرس وإدخال بعض علومهم
____________
(1) الأنعام : 153 .

(282)

كالفلسفة و . . ضمن العلوم الإسلامية ، مع ما تحمل من شبهات برهانية عقلية لنفس الغرض السابق ، وإشغال أئمة المسلمين بإجابة تلك المسائل وإبعادهم عن معترك الصراع السياسي والكفاح المسلح ضد السلطة ، وليكونوا تحت أنظار وسيطرة الحكومة ورقابتها دائماً .
4 ـ لصق تهمة الزندقة بمعارضيهم ، فقد جاء : إن شريك بن عبدالله القاضي كان لا يرى الصلاة خلف المهدي ، فأحضره وتكلم معه .
فقال له المهدي في جملة كلامه : يا ابن الزانية ! !
فقال شريك : مه مه يا أمير المؤمنين ، فلقد كانت صوامة قوامة .
فقال له المهدي : يا زنديق لأقتلنك .
فضحك شريك ، وقال : يا أمير المؤمنين ، وإن للزنادقة علامات يعرفون بها : شربهم القهوات واتخاذهم القينات !
فأطرق المهدي(1) .
5 ـ السعي إلى تقوية البُنية العلمية لأولاد الخلفاء ، وتخصيص مربين لهم يعلمونهم كل شيء ، حتى يمكنهم بذلك الحفاظ على المُلك بابتكار طرق وحلول سياسية جديدة تواكب المرحلة .
وبهذا عرفنا : أن الحركة العلمية في العهد العباسي لم تكن خالصة لنشر العلم ، بل كانت تستبطن أمراً سياسياً كذلك ، وأن دور الخلفاء وسعيهم لاحتواء الفقهاء والمحدثين والقراء والشعراء . . كان ملحوظاً فيه الجانب السياسي وتطبيق الأهداف التي ترسمها الحكومة في الشريعة .

النفس الزكية والمنصور

إن استفادة الحكام من الشريعة لمصلحة الحكم والنظام لم تكن وليدة
____________
(1) البداية والنهاية 10 : 157 .

(284)

ساعتها ، بل هي خطة ، رُسمت اُصولها وبذرت نواتها في أواخر عهد الشيخين ، وأثمرت في العهد الأموي ، وأينعت في العهد العباسي ؛ ومن يقرأ رسالة محمد (ذي النفس الزكية) إلى المنصور يؤمن بأن النزاع بينهم كان في المفاهيم ، وأن محمداً كان يدعي أنه أحق بالأمر ، لأنه هو من الآل ، فقد جاء في جواب محمد (ذي النفس الزكية) على رسالة المنصور التي أعطاه فيها الأمان :
(فإن الحق حقنا ، وإنما ادعيتم هذا الأمر بنا ، وخرجتم له بشيعتنا ، وحظيتم بفضلنا ، وإن أبانا علياً كان الوصي ، وكان الإمام ، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء ؟) .
ثم افتخر على المنصور بانتسابه إلى فاطمة بنت رسول الله ، وإلى خديجة اُم المؤمنين ، وإلى الحسن والحسين سبطي رسول الله (ص) .
وسخر من الأمان الذي عرضه المنصور عليه ؛ فقد عرف بأنه ينكث العهود والمواثيق إذ المنصور كان قد أعطى البيعة لمحمد بن عبدالله مرتين إحداهما بمكة في المسجد الحرام ، والاُخرى عندما خرج من بيته فقد أخذ بزمام فرسه وقال : (هذا مهدينا أهل البيت)(1) فمحمد أراد الإشارة إلى هذه الحقيقة ؛ فقال : « وأنا أولى بالأمر منك ، وأوفى بالعهد ، لأنك أعطيتني من العهد والأمان ما أعطيته رجالاً قبلي ، فأي الأمانات تعطيني ، أمان ابن هبيرة ؟ ! أم أمان عمك عبدالله بن علي ؟ أم أمان أبي مسلم ؟ ! » .
ولما وصل إلى المنصور كتاب محمد غضب غضباً شديداً ، وفكر في أن يسحب منه كل ما يتكئُ عليه ، ويغير المفاهيم التي يستند عليها الطالبيون ، منها كونهم أولاد فاطمة ، ويجب أن تكون الخلافة فيهم ، أو أن الرسول قد أوصى إلى عليّ من بعده ، . . وخصوصاً لما أيقن بان « الناس » ينظرون اليهم كسوقه فقد جاء في رسالة المنصور لعمه عبدالصمد بن علي (. . . ونحن بين قوم
____________
(1) مقاتل الطالبيين : 239 .

(284)

رأونا بالامس سوقة ، واليوم خلفاء(1) . . .) .
فالمنصور إذ أراد أن يغير هذه الاُصول ركز في جوابه لمحمد على قضايا :
1 ـ نفي كون النفس الزكية هو ابن رسول الله لقوله تعالى : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) بل هو ابن بنت الرسول ، وأن هذه النسبة لا تجوز الميراث ولا تورث الخلافة بل لا تجوز لها الإمامة .
2 ـ ثم ذكر المنصور في جوابه لمحمد أمراً آخر وهو : إن المسلمين اختاروا أبا بكر وعمر وعثمان خلفاء دون علي بن أبي طالب ؛ ليرغم بقوله هذا أنف محمد وغيره من الطالبيين ، وقوله : « دون عليّ » إشارة إلى دور الحكومة العباسية في إبعاد عليّ ونهجه وعدم عده حتى رابعاً من الخلفاء الأربعة . . إلى أن عد كذلك في عهد أحمد بن حنبل ، وتقريب الشيخين وعثمان بل كل الصحابة والسير على نهجهم دون عليّ (ع) .
فالحكومة الأموية قد رجحت عثمان على سائر الخلفاء الراشدين لكونه منهم ، فقربوا نهجه وأبعدوا نهج علي لبغضهم إياه ، فانحسر فقه علي وخط السنة آنذاك . وعندما تسلم العباسيون زمام السلطة احتضنوا نهج الشيخين ، وأبعدوا عثمان بغضاً للأمويين ، وعلياً بغضاً للعلويين ، فبقيت السنة النبوية (نهج علي) في اضطهاد طيلة فترة الحكمين الأموي والعباسي .
3 ـ ويفهم من رسالته واُصول سياسته أنه رأى من الضروري الاستعانة بالفقهاء وتقريبهم إليه ، لاكتساب الشرعية والوقوف على المبررات والحلول في المواقف الحرجة ، إذ إنه بتقريبه الفقهاء والعلماء قد جمع في قبضته بين السلطتين التشريعية والتنفذية في آن واحد .
ولا غرابة في اُسلوب المنصور هذا ـ وهو الداهية ـ وفي كيفية استغلاله للشريعة ، وقد كانت هذه هي سيرة أغلب الحكام من قبله ، إذ كانت الاستعانة
____________
(1) تاريخ الخلفاء : 267 .

(285)

بالشريعة خير طريقة للتعرف على مخالفيهم وخصومهم ، وقد مر عليك سابقاً كيفية تشخيص ابن أبي سرح ـ والي عثمان على مصر ـ لمحمد بن أبي حذيفة على أنه من مخالفي عثمان وذلك على أثر تكبيرة الإحرام أو الجهر بالقراءة والبسملة .
وقد عرفت أن الصحابة كانوا بعترضون على هذه السياسة ، وقد أرسلوا وفداً إلى عثمان بسبب تغيير ابن أبي سرح أوقات الصلاة ليتعرف عن طريق هذا الاُسلوب على مخالفيهم .
فالحكام ـ وكما قلنا ـ كانوا يريدون التعرف على من يخالفهم في الرأي بتأكيدهم على بعض المفردات العبادية المختلف فيها بين الصحابة ، إذ إن الملتزم بخط السنة النبوية لا يمكنه ـ رغم كل الظروف ـ أن يتخلى عما يعتقد به إلاّ أن تكون حالة خاصة تستوجب التستر دفعاً للتهلكة عن النفس .
وعليه ، فقد عرفت ان الدعوة للأخذ بالأحكام السلطانية واتباع الحاكم « وان ضرب ظهرك وأخذ مالك » هي دعوة سلطوية بذرت نواتها في أواخر عهد الشيخين وعهد عثمان ، ثم نمت في العهد الأموي ، ونضجت في العهد العباسي . ويؤكد هذا المعنى قضايا كثيرة منها دعوة عبدالله بن عمر الاُمة إلى الأخذ بفقه عبدالملك بن مروان ، وكلام سعيد بن جبير عن رجاء بن حيوة ـ أحد الفقهاء السبعة في العهد الأموي ـ وقوله : ولكن كنت إذا حركته وجدته شامياً يقول قضى عبدالملك بن مروان بكذا وكذا .
وإن منادي الدولة الأموية كان ينادي : أن لا يفتي إلاّ عطاء بن رباح ، ومنادي الدولة العباسية : ألا لا يفتي الناس إلاّ مالك بن أنس وابن أبي ذؤيب .
ومنها إرسال نافع الديلمي مولى ابن عمر إلى مصر ليعلمهم السنن ، وتصدر سليمان بن أبي موسى ومكحول للإفتاء بدمشق ، وما قاله الذهبي عن عبدالله بن ذكوان وانه : وَلِيَ بعض اُمور بني اُميّة .
(286)

وبهذا اتضح بأن الحكام كانوا يستغلون الشريعة لمصالحهم السياسية ولكشف المخالفين ، وأن العباسيين كانوا أذكى في تعاملهم في هذه المسألة من الأمويين إذ كانوا يفرضون آراءهم تحت غطاء البحوث العلمية والمناقشات الحرة ليتصيدوا في الماء العكر .

مطارحة بين الصادق وأبي حنيفة

نقل الإمام أبو حنيفة قصة حواره مع الإمام جعفر بن محمد الصادق فقال : قال لي أبو جعفر المنصور : يا أبا حنيفة إن الناس قد فُتنوا بجعفر بن محمد فهيّئ له من المسائل الشداد . فهيأت له أربعين مسألة ، والتقينا بالحيرة .
ثم قال : أتيته ، فدخلت عليه وجعفر بن محمد عن يمينه ، فلما بصرت به دخلني من الهيبة لجعفر بن محمد ما لم يدخلني لأبي جعفر المنصور ، فسلمت عليه ، وأومأ ، فجلست ، ثم التفت إليه وقال : يا أبا عبدالله هذا أبو حنيفة ! فقال : نعم ، ثم التفت إليّ فقال : يا أبا حنيفة ألقِ على أبي عبدالله من مسائلك . فجعلت ألقي عليه فيجيبني ، فيقول : أنتم تقولون كذا ، وأهل المدينة يقولون كذا ، ونحن نقول كذا ، فربما تابعنا ، وربما تابعهم ، وربما خالفنا جميعاً ، حتى أتيت على الأربعين مسألة ، وما أخل منها بمسألة .
ثم قال أبو حنيفة : ان أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس(1) .
والنص السابق يوقفنا على عدة اُمور :
1 ـ استغلال المنصور الإمام أبا حنيفة رغم كونه من المخالفين للحكام ومن الذين لم يقبلوا مهنة القضاء في العهدين الأموي والعباسي ، أما حينما دخل الاقتراح تحت إطار النقاش العلمي بين الأئمة وبيان الاقتدار الفقهي ، فإن أبا
____________
(1) انظر : الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1 : 53 ، عن مناقب أبي حنيفة للموفق 1 : 73 ، جامع أسانيد أبي حنيفة 1 : 222 ، وانظر تذكرة الحفاظ 1 : 166 ـ 167 .

(287)

حنيفة ساهم في المناظرة ، مع علمه بأن الصادق من فقهاء أهل البيت ومن أولاد عليّ ، ومن الذين يكن لهم الاحترام ويعترف بفضلهم وعلمهم . وإن قوله (دخلني من الهيبة لجعفر بن محمد ما لم يدخلني لأبي جعفر المنصور) ليؤكد على هذه الحقيقة وتدل علىأن إعداد أربعين مسألة إنما جاء بطلب حكومي وتحت غطاء نشر العلم وبث المعارف .
2 ـ إن اللقاء كان معداً له من قبل المنصور ، لقول أبي حنيفة « قال لي أبو جعفر المنصور : يا أبا حنيفة ان الناس قد فتنوا بجعفر بن محمد فهيئ له من المسائل الشداد » ، وقول المنصور لأبي حنيفة « ألق على أبي عبدالله مسائلك ، فجعلت ألقي عليه فيجيبني » . . يفهم منه أن المبادرة في السؤال كانت بيد أبي حنيفة وأن الإمام الصادق لم يسبق بما سيطرحه أبو حنيفة من مسائل لكي يستعد للإجابة ، وأن قول أبي حنيفة (وما أخل منها بمسألة) ثم قوله (ان أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس) يؤكدان على ان الصادق كان أعلم أهل زمانه .
3 ـ إن جملة « فيجيبني فيقول : أنتم تقولون كذا ، وأهل المدينة يقولون كذا ، ونحن نقول كذا ، فربما تابعنا وربما تابعهم ، وربما خالفنا جميعاً » تنبئ عن وجود ثلاثة خطوط فكرية في الشريعة :
أ ـ قول أهل العراق .
ب ـ قول أهل المدينة .
ج ـ قول أهل البيت .
وإن مدرستي العراق والمدينة ـ كما ستعرف ـ كانتا مدرستين في قبال مدرسة أهل البيت ، إذ كان بعضهم يفتي طبق الأثر والآخر طبق الرأي ، ولم يكونوا على اختلاف مع السلطة ، بل نراهم دوماً يخضعون لها ويأمرون بمسايرتها ويرون وجوب إطاعة السلطان برّاً كان أم فاجراً ، ويقولون يجواز
(288)

الصلاة ـ وهي عمود الدين ـ خلفه .
وان جملة أبي حنيفة « فربما تابعنا ، وربما تابعهم ، وربما خالفنا جميعاً » تؤكد على أن الأحاديث المروية عن النبي (ص) في المدونات ليست جميعها صحيحة النسبة إليه (ص) ، فترى الصادق ـ وهو من أهل البيت ـ وأهل البيت أدرى بما فيه يوافق أهل العراق لصحة مروياتهم عن رسول الله تارة ، ويوافق أهل المدينة لصحة نقلهم عنه (ص) تارةً اُخرى وفي ثالثة يخالفهم جميعاً ويبين موقف أهل بيت الرسالة فيه .
وعليه ، فإن موافقته لإحدى هاتين المدرستين تدل على وجود جذور لمدرسة أهل البيت عندهم . وبه يرد كلام الدكتور محمد كامل حسين في مقدمته لموطأ مالك : « ويروي الشيعة عن طريقه (أي الصادق) أحاديث لا نجدها إلاّ في كتب الشيعة » (1) .
كما يرد كلام ابن سعد في طبقاته حيث قال : « إن جميع ما روي عن الباقر لا يحتج به » (2) .
فإن كلامهما يفنده كلام أبي حنيفة ، ويفنده الواقع الفقهي للمسلمين ، ويدلك على أنه ليس من الحقيقة بشيء ، وإنما هو محض تعصب وتجنّ على فقه المسلمين .
وبذلك تبين لنا أن فقه الصادق ليس بأجنبي عن فقه الصحابة ؛ فقد ترى شيئاً منه تارة عند أنس وشيئاً آخر عن عائشة وغيره عند حذيفة وهكذا . . .
وبهذه يمكننا القول عن فقه الصادق أنه فقه رسول الله (ص) إذ نراه تارة عند الإمام أبي حنيفة واُخرى عند مالك وثالثة عند آخر .
أما إذا رأيته يشذ عن آراء الجميع ويقول بشيء آخر فيلزم التحقيق في
____________
(1) موطأ مالك : المقدمة (اك) .
(2) انظر كتاب الامام الصادق لأسد حيدر 1 : 44 عن الطبقات .

(289)

أطرافه ، لنتبين إن كان هناك رواسب حكومية ونزعات إقليمية وظروف اجتماعية وسواها ؟ ! !
هذا ، وقد علق الاًستاذ أبو زهرة بعد نقله قصة الإمام أبي حنيفة مع الصادق فقال :
وقد صدق أبو حنيفة فيما قال ؛ لأن العلم باختلاف الفقهاء وأدلة آرائهم ، ومناهج استنباطهم يؤدي إلى الوصول إلى أحكم الآراء ، سواء أكان من بينها أم من غيرها ، فيخرج من بعد ذلك بالميزان الصحيح الذي يوزن به الآراء ، ويخرج بفقه ليس بفقه العراق وليس بفقه المدينة وهو لون آخر غيرهما ، وإن كانت كلها في ظل كتاب الله تعالى وسنة رسوله(1) .
هذا ، وقد عرفت أن العباسيين لم ينجحوا في تطبيق مخططهم في الإزراء بالصادق والغلبة عليه علمياً كما كانوا يهدفون وقد أنبأك الإمام أبو حنيفة عن ذلك ، بل إن هذه المناقشات قد عززت منزلة الصادق علمياً واجتماعياً ، فأخذ الإقبال عليه يزداد يوماً بعد يوم ، وإن قبائل بني أسد ومخارق وطيّ وسليم وغطفان وغفار والأزد وخزاعة وخثعم ومخزوم وبني ضبة وبني الحارث وبني عبد المطلب أخذت ترسل فلذات أكبادها إلى الإمام للتعلم(2) بل نرى كبار العلماء والمحدثين يقصدونه للاستزادة من علمه كيحيى بن سعيد الأنصاري ، وابن جريح ، ومالك بن أنس ، وأبي حنيفة ، والثوري ، وابن عيينة ، وشعبة ، وأيوب السجستاني وفضيل بن عياض اليربوعي وغيرهم(3) .
وليس هناك أحد يمكنه التعريض بعلم الإمام الصادق والمساس بمكانته ، فالجميع يعترفون بأن مدرسته أنجبت خيرة العلماء وصفوة المجتهدين وجهابذة العلم والدين ، وأن الحضارة الإسلامية والفكر العربي بالخصوص
____________
(1) تاريخ المذاهب الإسلامية : 693 .
(2) انظر : جعفر بن محمد ، سيد الأهل .
(3) انظر : الإمام الصادق لأسد حيدر 1 : 39 ، عن مطالب السؤول 2 : 55 .

(290)

لمدين لهذا العلم الفطحل .
أما المنصور فكان يسعى ـ كما ذكرنا ـ لتضعيف مكانة الصادق علمياً واجتماعياً . إلاّ أن جهوده ذهب سدىً ، لكنه بعد ذلك عرج على شعية عليّ والصادق للنيل منهم ، فقد نُقل عنه أنه أتى الكوفة ، قبل تأسيس بغداد ، مع خمسمائة من جنده وهو يزعم أن أهلها من شيعة محمد بن عبدالله (النفس الزكية) فأمرهم بصبغ ملابسهم باللون الأسود ، حتى قيل بأن دور الصباغة صارت لا تتمكن من القيام بمهامها ، وأن البقالين كانوا يصبغون ثيابهم بالانقاش (المداد) ويلبسون السواد(1) .
وكذا نقل عنه أنه استغل ـ في أوائل خلافته ـ النزاع الفكري الذي حدث بين أهل العراق وأهل المدينة ، فأخذ يقوي جانب العراقيين ويشد أزر الإمام أبي حنيفة وأصحابه ويستغل الموالي ليحط بذلك أنفة العرب ، وخصوصاً المدنيين منهم الذين كانوا يصرحون بعدم شرعية خلافة بني العباس .

التزام الحكام الفقه المغاير للعلويين

والباحثون يعلمون ان تقوية مدرسة أهل الرأي قبال أنصار الأثر كان له بعد سياسي ، وانه إجراء مؤقت وليس بسياسة عامة للحكام ولا دائمة ، وان المنصور قد استفاد بالفعل من هذا التقريب كما رأيت في مناظرة أبي حنيفة مع الصادق ، لكنا نراه فيما بعد يغير سياسته مع الفقهاء ، ويسعى لتقريبهم ، فيطلب من الإمام مالك بن أنس أن يكتب موطأه ويقول له : اجعل العلم يا أبا عبدالله علماً واحداً .
فقال مالك : إن أصحاب رسول الله تفرقوا في البلاد فأفتى كل في مصره بما رأى ، ان لأهل البلد ـ يعني مكة ـ قولاً ، ولأهل المدينة قولاً ، ولأهل العراق
____________
(1) مقاتل الطالبيين : 319 .

(291)

قولاً تعدوا فيه طورهم .
فقال المنصور : أما أهل العراق فلا أقبل منهم صرفاً ولا عدلاً ، وأما العلم عند أهل المدينة ، فضع للناس العلم(1) .
فإن جملة المنصور : (أما أهل العراق فلا أقبل منهم صرفاً ولا عدلاً) فيها إشارة إلى يأسه منهم لكونهم علويين عقيدة ، ولوجود أبي حنيفة بينهم الذي لم يكن على وفاق مع الحكام .
ولأجل ذلك نرى المنصور يولي مالكاً عناية خاصة ويطلب منه أن يكتب الموطأ ويقول له في خبر آخر : (لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك ونبثها في الأمصار ، ونعهد إليهم ألا يخالفوها ، ولا يقضوا بسواها) .
قال صاحب كتاب « موقف الخلفاء العباسيين من أئمة المذاهب الأربعة » : فاذا تأملنا آراء مالك فيما يتعلق بقضية التفضيل بين الخلفاء الراشدين ، نجد الإمام ينفرد عن غيره ، فهو يرى أنهم ثلاثة لا أربعة ، وهو يجعل خلافة الراشدين في أبي بكر وعمر وعثمان ، ويجعلهم في مرتبة دونها سائر الناس . وأما علي فإنه في نظره واحد من جملة من الصحابة ، لا يزيد عنهم بشيء(2) .
وقد عزا البعض من الكتاب سبب تعديل المنصور سياسته نحو أهل الأثر وتقريبه لمالك بن أنس والطلب من مالك أن يضع الموطأ بقوله « ضعه فما أحد أعلم منك(3) » انه كان خوفاً من ازدياد نفوذ الإمام الصادق سياسياً وعلمياً ، إذ ان اجتماع أربعة آلاف راوٍ عنده كل يوم يأخذون عنه العلم لم يكن بالشيء السهل على الخليفة ، وان تقوية هذه الحلقة تعني تضعيف المخطط الحكومي والسياسة العامة للبلاد(4) .
____________
(1) انظر : الإمام مالك للدكتور مصطفى الشكعة : 133 ، عن ترتيب المدارك : 30 ـ 33 .
(2) موقف الخلفاء العباسيين : 170 .
(3) انظر : الأئمة الأربعة للشرباصي : 92 ، إسلام بلا مذاهب : 415 ، الأئمة الأربعة لشكعة : 412 .
(4) انظر : مالك بن أنس للخولي : 371 .

(292)

لكنا نرجح أن يكون ـ الطلب مضافاً إلى ما قيل ـ كان يخضع إلى عامل سياسي آخر ، أملته عليهم الظروف السياسية الحاكمة آنذاك ، خصوصاً بعد قيام النفس الزكية في المدينة وأخيه إبراهيم في البصرة ، فالمنصور قد شدد سياسته ضد العلويين بعد الظفر بمحمد وأخيه إبراهيم ، وانك ستقف لاحقاً على نماذج من تلك السياسة المبتنية على الرعب والإرهاب وأساليب كشف المخالفين والمناوئين وفق عباداتهم وفقههم ، وبذلك يحتمل أن يكون طلب المنصور من مالك تدوين السنة جاء لتأصيل الفقه والحديث وتوحيد العلم وإبعاد فقه الطالبيين واعتبار آرائهم شواذ من بين الآراء .
هذا والمعروف ان مالكاً قد وضع الموطأ وما كان يفرغ منه حتى مات المنصور(1) ، أي أنه ألفه في أواخر عهد المنصور .

موقف آخر

جاء في غالب كتب التاريخ أن سفيان الثوري لقي المنصور بمنى سنة 140 أو 144 واعترض على إسراف المنصور وتبذيره . .
فقال له المنصور : فإنما تريد أن أكون مثلك ؟
فقال الثوري : لا تكن مثلي ، ولكن كن دون ما أنت منه ، وفوق ما أنا فيه .
فقال له المنصور : اُخرج .
فخرج الثوري من عنده وأتى الكوفة فجعل يأخذ عليه ما يفعل بالمسلمين من الجور والقهر ، فصبر عليه المنصور مدة ، وأخيراً أمر بأخذه ، فاختفى . ولما مات أبو جعفر 158 ظن الثوري أن الخلاف الذي بينه وبين الحكومة قد دفن معه ، وكان قد عاش الشدة حين اختفائه بمكة ، فجاء إلى
____________
(1) انظر : حياة مالك لأبي زهرة : 180 ، ترتيب المدارك 1 : 192 .

(293)

المهدي وسلم عليه تسليم العامة .
فقال له المهدي : ياسفيان ، تفر منا ههنا وههنا ، وتظن أنا لو أردناك بسوء لم نقدر عليك ، فقد قدرنا عليك الآن ، إنما تخشى أن نحكم فيك بهوانا ؟
قال سفيان : إن تحكم في بحكم ، يحكم فيك ملك قادر يفرق بين الحق والباطل .
فقال الربيع للمهدي ـ وكان قائماً على رأس سفيان ـ : ألهذا الجاهل أن يستقبلك بمثل هذا ؟ ائذن لي أن أضرب عنقه .
فقال له المهدي : اسكت ويلك ! وهل يريد هذا وأمثاله إلاّ أن نقتلهم فنشقى بشقاوتهم ، اكتبوا عهده على قضاء الكوفة على أن لا يعترض عليه في حكم(1) .
فالحكام وبتولية الفقهاء القضاء كانوا يريدون القضاء على شخصيتهم ، وما نقلناه كان خير شاهد على ذلك .
فقد نقل المباركفوري في تحفة الأحوذي عن شعيب بن جرير أنه طلب من سفيان الثوري أن يحدثه بحديث السنة ، فقال : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم : القرآن كلام غير مخلوق . . . .
إلى أن يقول : يا شعيب لا ينفعك ما كتب حتى ترى المسح على الخفين ، وحتى ان إخفاء بسم الله الرحمن الرحيم أفضل من الجهر ، وحتى تؤمن بالقدر ، وحتى ترى الصلاة خلف كل بر وفاجر ، والجهاد ما مضى إلى يوم القيامة ، والصبر تحت لواء السلطان جائراً أو عادلاً .
فقلت : يا أبا عبدالله ، الصلاة كلها ؟
قال : لا ، ولكن صلاة الجمعة والعيدين ، صل خلف من أدركت ، أما سائر
____________
(1) تاريخ بغداد 9 : 152 ـ 153 ، مقدمة تفسير سفيان الثوري | طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ 1403 .

(294)

ذلك فأنت مخير لا تُصلي إلاّ من تثق به وتعلم انه من أهل السنة(1) .
وهذا النص يوقف القارئ على ان اُصول سياسة الحكام كانت مبتنية على مخالفة علي في نهجة وفقهه ، وان في قول سفيان (يا شعيب لا ينفعك ما كتبت حتى ترى المسح على الخفين) إشارة إلى أن السنة الحكومية هي القول بالمسح على الخفين وإخفاء بسم الله الرحمن الرحيم و . . . وكل هذه القضايا مخالفة لفقه علي بن أبي طالب ونهجه ، بل إنها لتؤكد على إطاعة السلطان برّاً كان أم فاجراً !
كانت هذه هي سياسة المنصور ، وتراها مبتنية على الترهيب والترغيب ، والمطالع في هذا النص يقف على دهاء المنصور وكيف كان يتعامل مع كل فرد حسب نفسيته . وننقل نصاً آخر يوضح طريقة اختباره لأعدائه وطرق تجسسه ، وإن نقل هذه النصوص يعطي للمطالع صورة قد تكون قريبة من الواقع .
طلب المنصور عقبة بن مسلم بن نافع من الأزد يوماً وأناط به مهمة ، فقال له : إني لأرى لك همة وموضعاً ، واني أريدك لأمر أنا معني به .
قال : أرجو أن أصدق ظن أمير المؤمنين ؟
قال : فأخف شخصك وائتني في يوم كذا ، فأتيته . .
فقال : ان بني عمنا هؤلاء قد أبوا إلاّ كيداً لملكنا ، ولهم شيعة بخراسان بقرية كذا يكاتبونهم ، ويرسلون إليهم بصدقات وألطاف ، فاخرج بكسىً وألطاف حتى تأتيهم متنكراً بكتاب تكتبه عن أهل القرية ، ثم تسير ناحيتهم ، فإن كانوا نزعوا عن رأيهم فأحبب والله بهم وأقرب ، وإن كانوا على رأيهم علمت ذلك ، وكنت على حذر منهم ، فاشخص حتى تلقى عبدالله بن الحسن متخشعاً ، فإن
____________
(1) تحفة الأحوذي : 352 (المقدمة) .

(295)

جبهك ـ وهو فاعل ـ فاصبر ، وعاوده أبداً حتى يأنس بك ، فإذا ظهر لك ما قبله فاعجل علي .
ففعل ذلك ، وفعل به حتى آنس عبدالله بناحيته ، فقال له عقبة : الجواب ؟
فقال : أما الكتاب فإني لا أكتب إلى أحد ، ولكن أنت كتابي إليهم فاقرأهم السلام ، واخبرهم أن ابني خارج لوقت كذا وكذا ؟
فشخص عقبة حتى قدم على أبي جعفر فأخبره الخبر(1) .
وقد امتحن المنصور الصادق وعبدالله بن الحسن وابنيه محمداً وإبراهيم وغيرهم من الطالبيين في عدة قضايا وأراد أن يقف على رأيهم من الأموال والسياسة ، فانخدع عبدالله بن الحسن وابناه وغيرهم بطرق التميه العباسية ، أما الصادق فكان الوحيد من البيت العلوي الذي لا تخدعه الأساليب (2) .
ومما نقله المؤرخون أن المنصور كان يسعى في استمالة الصادق وجذب عطفه للنظام ، وكان يقول له : لِمَ لا تغشانا كالناس ؟
فأجابه الصادق : ليس لنا ما نخافك من أجله ، ولا عندك من أمر الآخرة ما نرجوك له ، ولا أنت في نعمة فنهنيك فيها ، ولا تراها نقمة حتى نعزيك عليها .
ويقول له في نص آخر : تصحبنا لتنصحنا ؟
فقال له الصادق : من أراد الدنيا لا ينصحك ، ومن أراد الآخرة لا يصحبك .
هذه الأساليب كانت لا تجدي نفعاً ولا تثمر إذ إن الصادق كان يرى المنصور يتلاعب بالأحكام وإنه قد جعل الشريعة جسراً يعبر عليه إلى مقاصده كالأمويين . . فكيف به يتعاون مع شخص كهذا .
ولما اتضح للمنصور أنه لا يمكنه التوافق مع الإمام واحتواء العلويين
____________
(1) انظر : مقاتل الطالبيين : 211 ـ 212 ، والطبري وغيره من المؤرخين .
(2) انظر : مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب 4 : 220 .

(296)

فكرياً وسياسياً وخصوصاً بعد مقتل النفس الزكية . . بدأ يغير سياسته متخذاً التضليل والعنف اُصولاً في سياسته .
وقد زادت سياسة التنكيل والبطش بالعلويين بعد قمع ثورتي النفس الزكية في المدينة وإبراهيم في البصرة ، فجمع المنصور بني هاشم في الربذة وأثقلهم بالحديد والضرب بالسياط حتى اختلطت بدمائهم ولحومهم ، ثم حملهم إلى العراق على أخشن مركب وتوجه بهم إلى الكوفة ، وأودعهم ذلك السجن المظلم الضيق الذي لا يعرف فيه الليل من النهار إلاّ بأجزاء كان يرتلها علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن(1) .
وسلط عليهم شرطة جفاة بعيدين عن الرقة كابتعاده عن الإنسانية فعذبوهم بأمره ، كما إنه أمر أن تترك أجساد الموتى منهم في السجن ، فاشتدت رائحة الجثث على الأحياء ، فكان الواحد منهم يخر ميتاً إلى جنب أخيه .
ولما قتل إبراهيم بن عبدالله أرسل برأسه إلى أبيه مع الربيع وهو في السجن . وكان أبوه عبدالله يصلي ، فقال له أخوه إدريس : اسرع في صلاتك يا أبا محمد ، فالتفت إليه وأخذ رأس ولده ، وقال : أهلاً وسهلاً يا أبا القاسم ، والله لقد كنت من الذين قال الله عز وجل فيهم : ( الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل . . . )
فقال له الربيع : كيف أبو القاسم في نفسه ؟
قال : كما قال الشاعر :
فتى كان يحميه من الذل سيفه * ويكفيه أن يأتي الذنوب اجتنابها

ثم التفت إلى الربيع فقال : قل لصاحبك قد مضى من يومنا أيام والملتقى القيامة ؟ فمكثوا في ذلك السجن ، لا يعرفون أوقات صلاتهم إلاّ بأجزاء من
____________
(1) انظر : مقاتل الطالبيين : 192 ـ 194 ، وتاريخ الطبري .

(297)

القرآن . . حتى كانت نهاية أمرهم أن أمر المنصور بهدم السجن على الأحياء منهم(1) ليذوقوا الموت من بين ألم القيود وثقل السقوف والجدران ، وكان منهم من سمر يديه بالحائط .
وقد ذكر المؤرخون ومنهم الطبري بأن المنصور لما عزم على الحج دعا ريطة بنت أبي العباس امرأة المهدي ـ وكان المهدي بالري ـ فأوصاها بما أراد وعهد إليها ودفع إليها مفاتيح الخزائن على أن تدفعها للمهدي ، فلما قدم المهدي من الري إلى مدينة السلام دفعت إليه المفاتيح وأخبرته عن المنصور انه أخذ عهداً منها ألاّ يفتحه أحد حتى يصح عندها موته ، فلما انتهى إلى المهدي موت المنصور وولي الخلافة فتح الباب ومعه ريطة ، فإذا أزح كبير فيه جماعة من قتلى الطالبيين وفي آذانهم رقاع فيها أنسابهم ، وإذا فيهم أطفال ورجال شباب ومشايخ عدة كثيرة ، فلما رأى ذلك المهدي ارتاع وأمر فحفرت لهم حفيرة فدفنوا فيها وعملوا عليها دكاناً .
وبهذا الاُسلوب كانوا يريدون السيطرة على العلويين فكرياً وسياسياً .
علماً بأن الشيعة كانوا لا يرون قيمة للسلطان لانه لا يتمسك بحكم الشرع ولا يتنزه عن الظلم ولا يتورع عن محارم الله ، هذا من جهة .
ومن جهة اُخرى كانوا يرون أحقية أهل البيت بالأمر ، وان رسول الله قد أوصى لهم وانهم الدعاة إلى أمره ومن الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم .
فإن هذا المعنى والمفهوم كان لا يرضي الخليفة العباسي إذ كان ينظر إليهم نظرة خصم لا تلين قناته ولا يعمل الإرهاب عمله فيهم ، واعتبرهم رافضة يجب التنكيل بهم لإن الإعراض عن طلبات السلطان يعني الرفض ، والرفض غالباً ما يردف التنكيل والتحزب وإلصاق التهم والخروج عن الدين !
هذا ، وإن الحكومة العباسية لم تكتف بسياسة تقديم الشيخين وإخراج عليّ
____________
(1) انظر : مروج الذهب 3 : 299 ، الكامل في التاريخ 5 : 551 وغيره .

(298)

من بين الخلفاء الأربعة ، بل أمعنت أكثر ، فراحت تلصق التهم بجعفر بن محمد الصادق والادعاء بأنه يقول اني إله أو نبي أو ينزل عليَّ الوحي وما شابه ذلك ، بعد أن يئسوا من احتوائه ، والخدش في عقيدته وأفكاره ! وقد كانت تهمة نزول الوحي وغيرها من أهم المشاكل التي لاقاها الإمام الصادق إذ إن بعض السذج من الناس وبسطاء العقيدة كانوا يتفاعلون مع هذه الشائعات الحكومية لما يرون من ملكات باهرة عند الإمام ومن فقه رفيع وكرامات قدسية وقد كان صائد الهندي ومحمد بن مقلاس ووهب بن وهب القاضي والمغيرة بن سعيد وسالم بن أبي حفصة العجلي وغيرهم . . ممن كانوا يبثون الأحاديث المغالية في الآئمة .
وقد كذبهم الإمام وأعطى قاعدة عامة لأصحابه فقال : « لا تقبلوا علينا حديثاً إلاّ ما وافق القرآن والسنة أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة ، فإن المغيرة ابن سعيد لعنه الله دس في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها ، فاتقوا الله ولا تقبلوا ما خالف قول ربنا وسنة نبينا » وغيرها .
بهذه النصوص كان الأئمة يسعون لدفع تهم المتهمين وافتراء المفترين ويعملون لتوعية البسطاء والمغفلين للوقوف أمام إشاعات الساسة والمغرضين .
والآن لنرجع إلى ما ألزمنا به أنفسنا من البحث في أطراف الحركة العلمية في العهد العباسي وسعي الخلفاء لاحتواء الفقهاء سياسياً وفكرياً ، فالخلفاء رغم جهودهم المتواصلة لم يوفقوا لاحتواء الإمامين جعفر الصادق وأبي حنيفة . اما الإمام مالك فقد تعاون مع السلطة ودخل في سلكها بعد الفتنة والإطاحة بثورة النفس الزكية وأخيه إبراهيم فدون لها الموطأ ، ونحن نعلم بأن الإمام مالكاً ـ وقبل توجه الحكومة إليه ـ لم تكن له تلك المكانة ، وان والده أنس بن مالك بن أبي عامر لم يكن معروفاً عند العلماء ولم يفصح التاريخ بشيء
(299)

من حياته ولا تاريخ وفاته ، بل كل ما كان يقال عن مالك بأنه أخو النضر ، وذلك لشهرة النضر بن أنس أخو مالك ، وهو الذي روى عن ابن عباس .
ونقل أبو بكر الصنعاني : أتينا مالك بن أنس فحدثنا ربيعة الرأي ـ وهو اُستاذ مالك ومعلمه ـ فكنا نستزيده ، فقال لنا ذات يوم : ما تصنعون بربيعة وهو نائم في ذاك الطاق ؟ فأتينا ربيعة ، فقلنا : كيف يحيط بك مالك ولم تحط أنت بنفسك ؟
فقال : أما علمتم أن مثقالاً من دولة خيرمن حِمل علم(1) .
وفي هذا النص إشارة إلى دور السياسة والحكومة في ترسيخ المذاهب وتقديم المفضول مع وجود الفاضل(2) !
وقد جاء في تاريخ بغداد ان أبا العباس أمر لربيعة الرأي بجائزة فرفض أن يقبلها ، فأعطاه خمسة آلاف درهم ليشتري بها جارية فامتنع هن قبولها(3) .
أما الإمامان الصادق وأبو حنيفة فلم يُثنهما المنصور عما رسماه لنفسيهما وهو مقاطعة السلطة ، لكن الحكام تمكنوا ـ بمرور الايام ـ من احتواء نهج الإمام أبي حنيفة بتقريبهم الإمام أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني والحسن بن زياد اللولوي ، وإناطة القضاء والإفتاء بهم . وكان ذلك بالطبع بعد وفاة أبي حنيفة . لكنهم رغم كل المحاولات لم يمكنهم اختراق صفوف الشيعة لتولي عدول من أهل البيت شؤون قيادتهم ، فكانوا ينفون عن فكرهم بدع المبدعين . وإن سياسة العصيان المدني الذي رسمه الأئمة وأرشدوا إليه شيعتهم في الخروج عن طاعة السلطان الفاجر وتأكيدهم على عدم جواز المرافعة إلى الحكام والركون إليهم ، وقولهم : « الفقهاء اُمناء الرسل ، فإذا رأيتم الفقهاء قد ركبوا إلى السلاطين فاتهموهم » ، ودعوتهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
____________
(1) انظر : طبقات الفقهاء لأبي إسحاق : 68 ، تاريخ بغداد 8 : 424 ، الاحكام لابن حزم 1 : 246 .
(2) قد ذهبت أغلب المذاهب الإسلامية إلى ذلك ، انظر : الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 1 : 183 .
(3) تاريخ بغداد 8 : 425 .

(300)

رغم الرقابة المشددة عليهم ، كلها سبل هادفة لتوعية الاٌمة واطلاعها على الحقيقة ، إذ إن عدم التعاون يعني رفض الحكام ويعني سلب أهلية الحاكم لتولي الحكم ، وإنهم ولاة جور وان قول الصادق :
« أيما مؤمن قدم مؤمناً في خصومة إلى قاض أو سلطان جائر ، فقضى عليه بغير حكم الله ، فقد شركه في الإثم » .
وقوله : (ما أحب أن أعقد لهم ـ أي الظلمة ـ عقدة أو وكيت لهم وكاء ، ولا مدة بقلم . إن الظلمة وأعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يحكم الله بين العباد) .
وقوله : « أيما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حق فدعاه إلى رجل من إخوانكم ليحكم بينه وبينه ، فأبى الاّ أن يرافعه إلى هؤلاء ، كان بمنزلة الذين قال الله عز وجل فيهم : ( ألم تر الذين يزعمون انهم آمنوا بما اُنزل إليك وما اُنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد اُمروا أن يكفروا به) » .
وسئل الصادق عن قاضٍ بين قريتين يأخذ من السلطان عن القضاء الرزق ؟
فأجاب : « ان ذلك سحت ، وان العامل بالظلم والمعين له والراضي به كلهم شركاء » .
وعليه فقد عرفت أن الشيعة سموا بالرافضة لرفضهم التعاون مع الحكام لا لرفضهم الإسلام كما ينادي به أعوان الظلمة !
قال الشيخ محمد جواد مغنية « وبهذا نجد السر الاول والتفسير الصحيح لقول أحمد أمين وغيره بان التشيع كان ملجأ لكل من اراد هدم الاسلام ، لان الاسلام في منطق أحمد أمين واسلافه يتمثل في شخص الحاكم جائراً كان أو عادلاً ، فكل من عارضه أو ثار عليه فقد خرج على الاسلام » . والجائر في منطق الشيعة هو الخارج عن الاسلام وشريعته فمن ثار على الحاكم فقد آخذ بالدين وعمل بالقرآن وسنة الرسول(1) .
____________
(1) الشيعة والحاكمون : 29 .