فهذه النصوص تدلل على تضاد في الرؤى والأهداف بين السلطة وأهل البيت ، وان صدور هذه النصوص عن أئمة أهل البيت في تلك الفترة يعني أن الحكومة غير شرعية . ومن الطبيعي أن تكون هذه الرؤية مما يزعج الحكام إذ يرون السلطتين التشريعية والتنفيذية في أيديهم ، وهم يسعون بما يقدمونه من آراء أن ينالوا ثقة الناس ، فكيف يُسمح لهؤلاء أن يحطوا من لا يرون قيمة للسلطان ؟ !
وعليه فإن مخالفة الشيعة للحكام لم تكن لغصبهم الخلافة وكونهم خلفاء غير شرعيين فحسب بل لجهلهم بكتاب الله وسنة نبيه . وستقف على أقوالهم لاحقاً .
ان السلطة الحاكمة اعتبرت هذا التصور خروجاً عن الطاعة ، ومن هنا كانوا يعدون اتهامهم الأئمة وشيعتهم بسوء العقيدة والخروج عن الأسلام ، ثم دعوة وعاظ السلاطين للنيل منهم والتهجم عليهم ، ضرورة سياسية يفرضها الواقع الاجتماعي . وان تهمة الغلو في الأئمة وما واكبها من مصاعب كان من تأثيرات السياسة ، وإن الساسة كانوا وراءها ، فانهم لم يكتفوا بما أشاعوه عن الصادق بل نسبوا إلى مخالفيهم السياسيين الآخرين كسفيان الثوري وأبي حنيفة تُهماً أيضاً ، وذلك لأن الإمام أبا حنيفة ناصر الثورات العلوية كثورة زيد بن عليّ ومحمد النفس الزكية وإبراهيم الإمام وإنه كان يفتي برأي علي بن أبي طالب ، وقال بأن الخلافة هي حق ولد علي من فاطمة ، وذهب إلى أن علياً كان محقاً في قتاله أهل الجمل ، وقال عن يوم الجمل : سار علي فيه بالعدل وهو أعلم المسلمين في قتال أهل البغي ، وقوله : ما قاتل علياً إلاّ وعلي أولى .
وقال : ان أمير المؤمين علياً إنما قاتل طلحة والزبير بعد ان بايعا وخالفا .
فإنه بنقله هذه النصوص كان يريد الإشارة إلى سياسة الحكام في الحديث ، وانه قد ترك الكثير من هذه الأحاديث الحكومية لعرفانه بدور السلطة في
(302)
وضع الحديث وليس كما علله مقدم كتاب المنذري(1) وابن خلدون(2) من انه قد ترك الحديث لأن كثيراً من الزنادقة في عصره كانوا يضعون الأحاديث وأن أهل الغفلة من المحدثين كانوا يروونها ، وان الإمام قد تركها لذلك !
وكلامنا هذا عن الإمام أبي حنيفة لا يعني أنه كان شيعياً أو ان الإمام الصادق قد رضي عنه أو ترضى عليه ، أو صحح رؤاه العقائدية والفقهية أو أخذ عنه ، بل نقول إن كثيراً من الطعن الذي لحقه كان بسبب بعض مواقفه المعارضة للحكومة والمؤيدة للعلويين وغيرهم من أعداء خط السلطة العقائدي الفقهي ، فأن أهل البيت كانوا لا يرتضون القياس ولا الاحكام المبتنية عليه .
قال الاُستاذ عبدالحليم الجندي : لو كانت الحكومة تدرك بأن أبا حنيفة يعتنق مذهب التشيع لما تركته يلقي دروسه في الكوفة ـ مركز السنة ـ سنوات عديدة(3) !
وهناك نصوص حوارية كثيرة بين الصادق وأبي حنيفة تؤكد رفض الصادق لآرائه القياسية . وقد ألف علماء الشيعة وأصحاب الأئمة في رد القياس كتباً كثيرة ، لكن المهم الذي نؤكد عليه هو دور السياسة في احتواء الفقهاء فكرياً وسياسيا وبثهم الدعايات والتهم الشائنة ضد من لم يمكن احتواؤهم ، بل إنهم قد جندوا الطاقات والعلماء الآخرين لكي ينسبوا إليهم ما لم يقوله ، أو لكي يحرفوه أو ليضخموه فيصبغوه صبغة هو بعيد عنها . وقد وقفت على دور أبي هريرة والسيدة عائشة وابن عمر والزهري وفقهاء المدينة السبعة في العهد الأموي . وعرفت شدة تأكيد الحكومة على الأخذ بأقوالهم . ومر عليك قول ابن عمر وإرجاعه الناس للأخذ بفقه عبدالملك بن مروان جاء عن المنصور
____________
(1) انظر : الترغيب والترهيب 1 : 13 (المقدمة) .
(2) المقدمة : 410 .
(3) انظر : أبو حنيفة : 213 .

(303)

أنه سال مالك عن اراء ابن عمر وقال له : خذ بها وإن خالف علياً وابن عباس ، وفي نص آخر : يا مالك ، أراك تعتمد على قول ابن عمر دون أصحاب رسول الله ؟
فقال : يا أمير المؤمنين ، إنه آخر من بقى عندنا من أصحاب رسول الله ، فاحتاج الناس اليه ، فسألوه وتمسكوا بقوله .
فقال المنصور : يا مالك ، عليك بما تعرف أنه الحق ولا تقلدن علياً وابن عباس(1) . وقد عرفت أن فقهاء الحكومة قبل مالك وأبي يوسف في العهد العباسي كانوا : ابن شبرمة وابن أبي ليلى ، وقد بقيا إلى عهد متأخر ، وأن الحكام أمكنهم تقريب أبي يوسف واستمالته للتأثير على معتنقي الحنفية ، فكان أول من قُلد منصب قاضي القضاة في الإسلام .
وقد صرح أكثر من واحد من المؤرخين أن أبا يوسف اختلف عن اُستاذه في توليه المناصب العامة في الدولة العباسية لفقره خاصة)(2) .
وعليه ، فأن ابن شبرمة وابن أبي ليلى وأضرابهما كانوا فقهاء الدولة منذ أواخر العهد الأموي وحتى زمن أبي العباس السفاح وشطراً من خلافة المنصور ، وإن المنصوربتقريبه مالكاً وإعطائه المكانة العليا ، وتوحيد الحديث والفقه على يده قد قلل من نفوذ الآخرين !
ومنذ أواخر عهد المنصور وحتى أواخر عهد الرشيد تمكنت الحكومة من السيطرة على الاتجاهين : اتجاه الرأي واتجاه الأثر ، وذلك بتقريبهم أبا يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني في بغداد وتقليدهم منصب القضاء ، ووجود مالك في المدينة من قبل في ركابهم .
____________
(1) انظر الامام الصادق والمذاهب الاربعة 1 : 504 .
(2) انظر : الفهرست : 286 .

(304)

رأي آخر

وبعد هذا العرض السريع الذي بينا فيه بعض الرؤى ، نحاول أن نطرح رؤية اُخرى هي في سبب تسمية المذهب الشيعي الاثني عشري بمذهب جعفر ابن محمد الصادق .
ذلك أن ما قيل بأن الإمام عاش بين فترة الشيخوخة الأموية والطفولة العباسية ، وأن هذه الفترة كانت مواتية لنشر المذاهب ، لم تكن السبب الوحيد في ذلك ، بل هناك اُمور اُخر ، منها : دور الحكام في الإحكام الشرعية واحتواؤهم للفقهاء والمحدثين والقراء وسواهم .
فإن الصادق لما رأى دورهم في تدوين الحديث ثم تأصيل المذاهب وتقريب المحدثين والقراء والشعراء ، والاهتمام بالحركة العلمية ، كان واضحاً لديه أن هذه المبادرة الحكومية هي ثورة ثقافية ضد الاُصول العقائدية والفقهية والتاريخية للمسلمين . فالإمام أبو حنيفة يبث أفكاره في الكوفة مركز العلويين ، وبين أفكاره وما يطرحه من رؤى ما يخالف الصريح من كلام الرسول . والإمام مالك يسيطر على مركز الدعوة الإسلامية ويفتي الناس بالمدينة . والليث بن سعد يفتي الناس بمصر . وقيل إن أهل مصر كانوا ينتقصون من عثمان ، فنشأ فيهم الليث فحدثهم بفضائل عثمان . والأوزاعي يفتي الناس بالشام وقد عُرف انحرافه عن أهل البيت ، فكان في كل مصر فقه خاص واعتقاد خاص يبتعد في غالبه عن الاُصول النبوية والآراء الفقهية الصحيحة في القليل أو الكثير .
ولما رأى الصادق دعم الحكومة لهؤلاء الفقهاء ـ تلويحاً وتصريحاً ـ أحس بالخطر وضرورة مواجهة الغزو الفكري والفورة الثقافية التي شنتها الحكومة العباسية على النهج العلوي ، فكان أن بدأ في مواجهة هذه الحملة مواجهة في غاية الجد ، وأخذ أصحابه في التوجه إلى الفقه وتعلم الأحكام وقد تخوف على
(305)

شيعته من تأثرهم بالخطوط الفكرية العاملة آنذاك ، فأخذ يوضح لهم ما وصل إليه من كلام رسول الله ، ويعنعن إسناده إليه (ص) حتى لا تكون ذريعة بيد المغرضين للنيل منه .
وبهذا تبين تلويحاً سبب عدم مشاركة الإمام الصادق في الثوارت العلوية ، إذ نراه يتبنى مسألة هي أهم بكثير مما عليه المقاتلون إذ انهم يرابطون على الثغور العسكرية ، في حين كان الصادق يرابط على ثغور العقيدة والفكر .
وإن توزيع الإمام الصادق البحوث العلمية والنشاطات المعرفية التي تحتاج إليها الساحة بين أصحابه لهو أمر ثابت في التاريخ .
فقد أمر أبان بن تغلب أن يجلس في المسجد ويفتي الناس .
وأوكل إلى حمران بن أعين الإجابة عن مسائل علوم القرآن .
وعين زرارة للمناظرة في الفقه .
ومؤمن الطاق للمساجلة في الكلام .
والطيار للمناظرة في الإمامة وغيرها .
وهشام بن الحكم للمناظرة في الإمامة والعقائد .
وبطون الكتب حافلة بمحاورات هؤلاء الأصحاب ومناظراتهم ، وقد أشارت كتب الفهارس إلى أسماء ما ألفوه في كل الميادين ، حتى اُحصي ما دونوه في عصره فكانت أربعمائة مؤلف لأربعمائة مؤلف في الحديث فقط ، وهي التي عُرفت بالاُصول الأربعمائة التي عليها مدار الفقه الشيعي .
بعد هذا لا نشك أن تكون السلطة وراء طرح بعض الآراء الفقهية التي لا يقبلها الطالبيون ، إذ إن في طرح تلك الرؤى تأصيلاً لنهج وفقه الحكومة وتعرفاً على مخالفيها ، وان الأحكام الفقهية خير ميدان للتعرف على الرافضة ومن لا يقبل سلطان الدولة . وقد مر عليك سابقاً خبر الرجل الذي جاء الرشيد مخبراً بمكان اختفاء يحيى بن عبدالله بن الحسن وتعرفه عليه إثر جمعه
(306)

بين الصلاتين ، وقول الرشيد له : لله أبوك لجاد ما حفظت تلك صلاة العصر وذلك وقتها عند القوم .
وقول سليمان بن جرير لإدريس بن عبدالله بن الحسن : ان السلطان طلبني لما يعلمه من مذهبي ، فجئتك . . .
وقد نقلنا قبل ذلك حديث أبي مالك الأشعري ، وكيف كان يتخوف من إتيان صلاة رسول الله ، ويقول : هل فيكم أحد غيركم ؟
فقالوا : لا ، إلاّ ابن اُخت لنا .
قال : ابن اُخت القوم منهم ، فدعا . . .
وغيرها الكثير . وهي جميعها تؤكد على أن الفقه الإسلامي صار يستقي منابعه من طريقين :
1 ـ السلطان ومن يعمل معه .
2 ـ الطالبيون ، وقد انحصر هذا الخط بجعفر بن محمد الصادق وآله .
وان الفقهاء والمحدثين والقراء غالباً كانوا يدورون في فلك السلطان يرسمون القواعد ويوقفون الخليفة على الحلول ، وكان الخليفة يقرب من العلماء من يخدم أهداف السلطان ويبعد من لا يرتضي التعاون معه بل يرفضه !
فقد نقل المؤرخون : أن الرشيد أعطى الأمان ليحيى بن عبدالله بن الحسن ، ثم ظفر به وبعد ذلك سعى لنقض الأمان ، فاستعان بالفقهاء لتسويغ غدره هذا .
نترك تفاصيل الخبر لأبي الفرج الأصفهاني ، قال في سياقه خبر مقتل يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب :
ثم جمع له الرشيد الفقهاء وفيهم : محمد بن الحسن صاحب أبي يوسف القاضي ، والحسن بن زياد اللؤلؤي ، وأبو البختري وهب بن وهب ، فجمعوا في مجلس وخرج إليهم مسرور الكبير بالأمان ، فبدأ محمد بن الحسن فنظر فيه
(307)

فقال : هذا أمان مؤكد لا حلية فيه ، وكان يحيى قد عرضه بالمدينة على مالك ، وابن الدّراوردي وغيرهما ، فعرفوه أنه مؤكد لا علة فيه .
قال : فصاح عليه مسرور وقال : هاته ، فدفعه إلى الحسن بن زياد اللؤلوي فقال بصوت ضعيف : هو أمان .
واستلبه أبو البختري وهب بن وهب فقال : هذا باطن منتقض ، قد شق عصا الطاعة وسفك الدم فاقتله ، ودمه في عنقي ‍‍ !
فدخل مسرور إلى الرشيد فأخبره فقال له : اذهب فقل له : خرقه إن كان باطلاً بيدك ، فجاءه مسرور فقال له ذلك ، فقال : شقه يا أبا هاشم .
قال له مسرور : بل شقه أنت إن كان منتقضاً .
فأخذ سكيناً وجعل يشقه ويده ترتعد حتى صيره سيوراً ، فأدخله مسرور على الرشيد فوثب فأخذه من يده وهو فرح وهو يقول له : يا مبارك يا مبارك ! ووهب لأبي البختري ألف ألف وستمائة ألف ، وولاه القضاء وصرف الآخرين ، ومنع محمد بن الحسن من الفتيا مدة طويلة ، وأجمع على إنفاذ ما أراده في يحيى بن عبدالله(1) .
بهذه الطريقة كانوا يستخدمون الفقهاء ، ويغيرون الأحكام الشرعية .
وإن السياسة العباسية ـ كغيرها من السياسات ـ كانت مبتنية على الترغيب والترهيب ، وان الطالبيين من أبناء عليّ كانوا أكثر الناس ظلامة .
ولو درسنا حال يحيى بن عبدالله بن الحسن ، وهو أحد الطالبيين ، وما جرى عليه من الظلم لوقفت على الحقيقة ، ولننقل خبريحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين وكيف كان يريد الالتقاء بعمه عيسى بن زيد .
قال يحيى بن الحسين بن زيد : قلت لأبي : يا أبه ، إني أشتهي أن أرى عمي
____________
(1) مقاتل الطالبيين : 479 ـ 480 .

(308)

عيسى بن زيد ، فإنه يقبح بمثلي ان لا يلقى مثله من اشياخه ، فدافعني عن ذلك مدة ، وقال : إن هذا أمر يثقل عليه ، وأخشى أن ينتقل عن منزله كراهية للقائك إياه فتزعجه .
فلم أزل به اُداريه وألطف به حتى طابت نفسه لي بذلك ، فجهزني إلى الكوفة وقال لي : إذا صرت إليها فاسأل عن دور بني حي ، فإن اُدللت عليها فاقصدها في السكة الفلانية ، وسترى في وسط السكة داراً لها باب صفته كذا وكذا ، فاعرفه واجلس بعيداً منها في أول السكة ، فإنه سيقبل عليك عند المغرب كهل طويل مسنون الوجه قد أثر السجود في جبهته ، عليه جبة صوف ، يستقي الماء على جمل ]وقد انصرف يسوق الجمل ] يضع قدماً ولا يرفعها إلاّ ذكر الله عز وجل ودموعه تنحدر ، فقم وسلم عليه وعانقه ، فإنه سيذعر منك كما يذعر الوحش ، فعرفه نفسك وانتسب له ، فإنه يسكن إليك ويحدثك طويلاً ، ويسألك عنا جميعاً ويخبرك بشأنه ولا يضجر بجلوسك معه ، ولا تطل عليه وودعه ، فإنه سوف يستعفيك من العودة إليه ، فافعل ما يأمرك به من ذلك . فإنك إن عُدت إليه توارى عنك ، واستوحش منك وانتقل عن موضعه ، وعليه في ذلك مشقة ! !
فقلت : أفعل كما أمرتني ، ثم جهزني إلى الكوفة وودعته وخرجت ، فلما وردت الكوفة قصدت سكة بني حي بعد العصر ، فجلست خارجها بعد أن تعرفت الباب الذي نعته لي ، فلما غربت الشمس إذا أنا به قد أقبل يسوق الجمل ، وهو كما وصف لي أبي : لا يرفع قدماً ولا يضعها إلاّ حرك شفتيه بذكر الله ، ودموعه ترقرق في عينيه وتذرف أحياناً ، فقمت فعانقته ، فذعر مني كما يذعر الوحش من الإنس . فقلت : يا عم ، أنا يحيى بن الحسين بن زيد ابن أخيك ، فضمني إليه وبكى حتى قلت قد جاءت نفسه ! ثم أناخ جمله وجلس معي فجعل يسألني عن أهله رجلاً رجلاً ، وامرأة امرأة ، وصبياً صبياً ، وأنا أشرح له أخبارهم وهو يبكي ، ثم قال :


(309)

يا بني أنا أستقي على هذا الجمل الماء ، فأصرف ما أكتسب ـ يعني من أجرة الجمل إلى صاحبه وأتقوت باقيه ، وربما عاقني عائق عن استقاء الماء فأخرج إلى البرية ـ يعني بظهر الكوفة ـ فألتقط ما يرمي الناس به من البقول فأتقوته !
وقد تزوجت إلى هذا الرجل ابنته وهو لا يعلم من أنا إلى وقتي هذا ! فولدت مني بنتاً ، فنشأت وبلغت وهي أيضاً لا تعرفني ولا تدري من أنا ، فقالت لي امها : زوج ابنتك بابن فلان السقاء ـ لرجل من جيراننا يسقي الماء ـ فإنه أيسر منا وقد خطبها ، وألحت عليَّ ، فلم أقدر على إخبارها بأن ذلك غير جائز ، ولا هو بكفءٍ لها ، فيشيع خبري فجعلت تلح عليَّ فلم أزل أستكفي الله أمرها حتى ماتت بعد أيام ، فما أجدني آسى على شيء من الدنيا أساي على أنها ماتت ولم تعلم بموضعها من رسول الله (ص) !
قال : ثم أقسم عليَّ أن أنصرف ولا أعود إليه وودعني .
فلما كان بعد ذلك صرت إلى الموضع الذي انتظرته فيه لأراه فلم أره ، وكان آخر عهدي به(1) .
نعم ، إن وضع الطالبيين كان هكذا ، بل أسوأ حالاً ، نكتفي منه بهذا العرض التاريخي الموجز ، وننتقل إلى حديث الوضوء ودور الطالبيين في ترسيخ ما سمعوه عن آبائهم من وضوء رسول الله .

المنصور والوضوء

جاء في كتاب الرجال للكشي عن حمدويه وإبراهيم ابني نصير ، عن محمد بن إسماعيل الرازي ، عن أحمد بن سليمان ، عن داود الرقي قال : دخلت على أبي عبدالله ـ أي الصادق ـ فقلت له : جعلت فداك ، كم عدة الطهارة ؟
____________
(1) مقاتل الطالبيين : 409 ـ 410 .

(310)

فقال : « ما أوجبه الله فواحدة ، وأضاف إليها رسول الله واحدة لضعف الناس ، ومن توضأ ثلاثاً ثلاثاً فلا صلاة له » ، أنا معه في ذا حتى جاءه داود بن زربي ، فسأله عن عدة الطهارة ؟
فقال : له « ثلاثاً ثلاثاً ، من نقص عنه فلا صلاة » !
قال : فارتعدت فرائصي ، وكاد أن يدخلني الشيطان ، فأبصر أبو عبدالله إليّ وقد تغير لوني ، فقال : « اسكن يا داود ، هذا هو الكفر أو ضرب الأعناق » .
قال : فخرجنا من عنده ، وكان ابن زربي إلى جوار بستان أبي جعفر المنصور ، وكان قد اُلقي إلى أبي جعفر أمر داود بن زربي ، وأنه رافضي يختلف إلى جعفر بن محمد .
فقال أبو جعفر : إني مطلع إلى طهارته ، فإن توضأ وضوء جعفر بن محمد ـ فإني لأعرف طهارته ـ حققت عليه القول وقتلته .
فاطلع وداود يتهيأ للصلاة من حيث لا يراه ، فأسبغ داود بن زربي الوضوء ثلاثاً ثلاثاً كما أمره أبو عبدالله ، فما تم وضوؤه حتى بعث إليه أبو جعفر المنصور فدعاه .
قال : فقال داود : فلما أن دخلت عليه رحب بي وقال : يا داود قيل فيك شيء باطل ، وما أنت كذلك ، قد اطلعت على طهارتك وليس طهارتك طهارة الرافضة ، فاجعلني في حل ، وأمر له بمائة ألف درهم !
قال : فقال داود الرقي : التقيت أنا وداود بن زربي عند أبي عبدالله ، فقال له داود بن زربي : جعلت فداك ، حقنت دماءنا في دار الدنيا ، ونرجو أن ندخل بيمنك وبركتك الجنة .
فقال : « فعل الله ذلك بك وبإخوانك من جميع المؤمنين » .
فقال أبو عبدالله لداود بن زربي : « حدث داود الرقي بما مر عليكم حتى
(311)

تسكن روعته » .
قال : فقال أبو عبدالله : « لهذا أفتيته ، لأنه كان أشرف على القتل من يد هذا العدو » ثم قال : « يا داود بن زربي توضأ مثنى مثنى ولا تزيدن عليه ، فإنك إن زدت عليه فلا صلاة لك » (1) .
فالحكومة والحكام بتقويتهم للخلافات الفقهية السابقة بين الصحابة وتبنيهم لآراء المخالفين لعلي وولده ، كانوا يسعون إلى إثارة الرأي العام ضد أتباع عليّ والآخذين بفقه جعفر بن محمد الصادق بحجة أنهم قد خرجوا عن إرادة الاُمة وأتو بالذي لا تأنسه العامة ، وأن الخروج عن الجماعة فسق ! !
والإمام الصادق كان لا يريد إعطاء المبرر بيد الحكام للنيل من شيعته ومواليه . ومن خلال انتهاجه التقية كان يريد الحفاظ على المؤمنين من شيعته وصونهم من بطش السلطة ، وقد نقل عنه بأنه مسح اُذنيه(2) وعنقه(3) وأخذ ماءً جديداً لمسح الرأس(4) بل مسح جميع رأسه(5) وغسل رجليه(6) ، فتحمل جميع هذه الروايات على التقية لما علم من مذهبه في الوضوء ولما ثبت صدوره عنه .
هذا وان ضغط الحكام على الصادق وغيره من أئمة أهل البيت لم يقتصر على الوضوء بل كانوا يريدون توحيد المسلمين على فقه مالك بن أنس وفي جميع أبواب الفقه لقول المنصور له : (لنحمل الناس على علمك) أو قوله : (لنجعل العلم علماً واحداً) .
وقد ثبت في التاريخ أن السلطة حصرت الإفتاء أيام الموسم بمالك ، وكان
____________
(1) رجال الكشي : 312 رقم 564 .
(2) وسائل الشيعة 1 : 405 ح 1052 .
(3) وسائل الشيعة 1 : 411 ح 1070 و 1072 .
(4) وسائل الشيعة 1 : 408 ح 1060 و 1061 و 1062 .
(5) وسائل الشيعة 1 : 412 ح 1071 .
(6) مستدرك الوسائل 1 : 327 .

(312)

مناديها يهتف : لا يفتي الناس إلاّ مالك ؟ ! وجاء عن مالك انه كان يعترض على من يخالف رأيه واجماع أهل المدينة ، فقد جاء في كتابه الى الليث بن سعد : اعلم رحمك الله أنه بلغني أنك تفتي الناس باشياء مختلفة ، مخالفه لما عليه جماعة الناس عندنا وبلدنا الذي نحن فيه . . . (1) » .
وقد جاء في وسائل الشيعة بأن الصادق كان يقول بناقضية القُبلة للوضوء وكذا مس باطن الدبر والإحليل(2) وغيرها . وقد حمل فقهاء الشيعة تلك الأخبار على التقية ، وبرهنوا على ان تلك الأخبار ـ كغيرها من أخبار التقية ـ تدل بنفسها على نفسها بأنها صدرت تقية لمخالفتها للنصوص القرآنية والثابت الصحيح من مروياتهم .
فقد جاء في التهذيب والاستبصار عن سماعة أنه سأل الصادق عن الرجل لمس ذكره أو فرجه أو أسفل من ذلك وهو قائم يصلي ، يعيد وضوءه ؟
فقال : « لا بأس بذلك ، إنما هو من جسده » (3) .
وجاء في تفسير العياشي عن قيس بن رمانة أنه سأل الصادق : أتوضأ ثم أدعو الجارية فتمسك بيدي فأقوم فاُصلي ، أعليَّ وضوء ؟
قال : « لا » .
قال : يزعمون أنه اللمس ؟
قال : « لا والله ، ما اللمس إلاّ الوقاع » ـ يعني الجماع ـ ثم قال : « كان أبو جعفر ـ أي الباقر ـ بعدما كبر يتوضأ ثم يدعو الجارية فتأخذ بيده فيقوم فيصلي » (4) .
نعم ، ان صدور مثل هذه الروايات عن الصادق تدلل على ان الوضع الديني لم يكن عادياً ، بل نرجح ـ على فرض صدور الروايات عنه ـ أن صدورها كان
____________
(1) أثر الاحكام المختلف فيها للدكتور دبب البغا : 435 عن ترتيب المدارك 1 | 36 .
(2) وسائل الشيعة 1 : 272 ح 712 ، عن التهذيب 1 : 22 | 56 و 45 | 127 ، الاستبصار 1 : 88 | 280 و 284 .
(3) التهذيب 1 : 346 | 1015 ، الاستبصار 1 : 88 | 283 .
(4) تفسير العياشي 1 : 243 | 142 .

(313)

في السنين الثلاث الأخيرة من عمره الشريف ، أي بعد الإطاحة بثورتي النفس الزكية في المدينة وأخيه إبراهيم الإمام بالبصرة .
وإن الواقف على مجريات الأحداث في العهد العباسي وخصوصاً في النصف الثاني من عهد المنصور إلى أواخر عهد الرشيد ، والعارف بأساليب الحكام والإرهاب ضد أولاد عليّ وشيعته . . يدرك مدى الظلم الواقع على أهل البيت آنذاك . وقد مر عليك سابقاً خبر ريطة وجثث الهاشميين وتسليم تلك الخزانة للمهدي العباسي ، وخبر يحيى بن عبدالله بن الحسن وان عيسى عمه لم يكن قادراً أن يصرح بأن بنته هي بنت رسول الله وليس له أن يزوجها لذلك السقاء . وقرأت قبلها عن بني الحسن وكيف سامهم المنصور إذلالاً وأودعهم بطون السجون المظلمة بحيث كانوا لا يعرف وقت الصلاة فيها إلاّ بتلاوة عليّ بن الحسن بن الحسن بن الحسن(1) .
إن من يقف على هذه الاُمور يدرك أن التقية كانت هي السبيل الأوحد لبقاء فقه العلويين ونهجهم ، علماً بأن التقية لم تكن نفاقاً كما يطرحه البعض ، إذ إن النفاق هو إظهارالإيمان مع كتمان الكفر . أما التقية فهي إظهار المسايرة والموافقة والعمل بخلاف الواقع لحفظ الدماء والأعراض وما شابه ذلك ، وكتمان الإيمان . . ضماناً لاستمرار مسيرة الخط الإسلامي الأصيل .
بعبارة اُخرى : الكافرون هم الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ، مثل قوله : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا * وإذا خلو إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن) .
فهذا . . إيمان ظاهر + كفر باطن = نفاق .
أما أهل التقية فمثلهم مثل مؤمن آل فرعون ، لقوله تعالى : (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه) .
____________
(1) مقاتل الطالبيين : 192 و 194 .

(314)

وقد ذهب إلى العمل بالتقية أكثر العلماء وقد ثبت عن الإمام أبي حنيفة أنه أباح قذف المحصنات وترك الصلاة والإفطار في شهر رمضان تقية وحيث كان مكرهاً ، وهكذا الحال بالنسبة إلى مالك فإنه اتقى الأمويين والعباسيين واستدل بقوله تعالى ( إلاّ أن تتقوا منهم تقاة) على جواز التقية في معرض حديثه عن طلاق المكره ، اما الإمام الشافعي فلا يرى كفارة على الإنسان الذي حلف بالله كذباً تحت الإكراه ، والنووي الشافعي لا يرى القطع بحق السارق كرهاً وهكذا الحال بالنسبة إلى الأحناف والظاهري والطبري والزيدي(1) .
فعليه ، إن مشروعية التقية ثابتة في التاريخ ، وقد عمل بها الرسول (ص) مع المشركين . وان قضية عمار مشهورة قد أنزل الله فيها آية ، وقد مر عليك خبر مؤمن آل فرعون ، ونحن على اطمئنان بأن المسلم الذي لا يقر بالتقية سيمارسها حتماً لو نزل به الظلم والإرهاب وعاش ظروف الشيعة ، وإن التقية حقيقة فطرية يتمسك بها الإنسان في المهمات والملمات .

المهدي العباسي والوضوء

تولى المهدي العباسي الخلافة عام 158 بعدما امتنع عيسى بن موسى ولي عهد المنصور عن التنازل إلى ابنه محمد المهدي ، فبدأ سياسته بالنظر في المظالم ، والكف عن القتل وإطلاق سراح السجناء السياسيين ، حتى نرى الحسن بن زيد يبايع المهدي بصدر منشرح ونفس طيبة .
ورأى المهدي ان الحجاز ، وخصوصاً بعد مقتل محمد النفس الزكية ، أصبحت مركزاً رئيسياً من مراكز الحركة الشيعية ، فرحل إليها عام 160
____________
(1) نقل الاُستاذ ثامر العميدي في كتابه « واقع التقية عند الفرق الاسلام من غير الشيعة الامامية » آراء علماء المسلمين في التقية فراجع .

(315)

ليستميل إليه أهلها حتى لا يشاركوا العلويين في حركاتهم ، فأعلن المهدي في الحجاز بداية سياسة جديدة والعفو العام ، وبالغ في التقرب إليهم ، حتى قيل بأن عدد الثياب المهداة إلى أهالي مكة مائة وخمسون ألف ثوب ، وصرف عليهم أموالاً طائلة واهتم بالأماكن المقدسة فيها .
والشيعة كانوا على حيطة من سياسة المهدي وتعاملوا معها بحذر ، إذ إنهم عرفوا ان المنصور نصح المهدي بقوله : (يا بني اني قد جمعت لك من الأموال ما لم يجمعه خليفة قبلي وبنيت لك مدينة لم يكن في الإسلام قبلها ، ولست أخاف عليك إلاّ أحد رجلين : عيسى بن موسى ـ ولي عهد المنصور سابقاً ، وعيسى بن زيد أخو الحسن الذي بايع المهدي أولاً ـ فأما عيسى بن موسى فقد أعطاني من العهود والمواثيق ما قبلته ، ووالله لو لم يكن إلاّ أن يقول قولاً لما خفته عليك ، فاخرجه من قلبك . وأما عيسى بن زيد فانفق هذه الأموال واقبل هؤلاء الموالي واهدم المدينة حتى تظفر به ثم لا ألومك) .
علماً بأن عيسى كان قد اتخذ الكوفة مركزاً لنشاطه السياسي بعد أن كان في البصرة يقاتل العباسيين مع إبراهيم حتى قتل ، فالعباسيون كانوا يراقبون تحركات الشيعة للوقوف على مكان عيسى وغيره من المجاهدين . وكانوا يسعون للعثور عليهم على ضوء ما يمارسونه من عبادات . وقد مرت عليك النصوص السابقة وكيف تعرفوا على يحيى ، وان سليمان بن جرير جاء إلى إدريس وقال : ان السلطان طلبني لما يعلمه من مذهبي .
ومن المستحسن أن نذكر خبراً آخر عن عيسى بن زيد حتى تتأكد ما قلناه عن ظلامة الطالبيين ، ثم نعرج بك على رواية الوضوء في هذا العهد .
جاء في مقاتل الطالبيين عن المنذر بن جعفر العبدي عن ابنه ، قال : خرجت أنا والحسن وعلي بن صالح ابنا حي ، وعبد ربه بن علقمة ، وجناب بن نسطاس مع عيسى بن زيد حجاجاً بعد مقتل إبراهيم ، وعيسى بيننا يستر نفسه في زي
(316)

الجمالين ، فاجتمعنا بمكة ذات ليلة في المسجد الحرام ، فجعل عيسى بن زيد والحسن بن صالح يتذاكران أشياء من السيرة ، فاختلف هو وعيسى في مسألة منها ـ وغالباً ما كانوا يختلفون ـ فلما كان من الغد دخل علينا عبد ربه بن علقمة فقال : قدم عليكم الشفاء فيما اختلفتم فيه ، هذا سفيان الثوري قد قدم ، فقاموا بأجمعهم فخرجوا إليه ، فجاءوه وهو في المسجد جالس ، فسلموا عليه . ثم سأله عيسى بن زيد عن تلك المسألة ، فقال : هذه مسألة لا أقدر على الجواب عنها لأن فيها شيئاً على السلطان (مع العلم أن الثوري كان من المخالفين للسلطان وكان متوارياً عن الأنظار) .
فقال له الحسن : إنه عيسى بن زيد ، فنظر إلى جناب بن نسطاس مستثبتاً .
فقال له جناب : نعم ، هو عيسى بن زيد ، فوثب سفيان فجلس بين يدي عيسى وعانقه وبكى بكاءً شديداً واعتذر إليه مما خاطب به من الرد ، ثم أجابه عن المسألة وهو يبكي . وأقبل علينا فقال : ان حب بني فاطمة والجزع لهم مما هم عليه من الخوف والقتل والتشريد ليبكي من في قلبه شيء من الإيمان .
ثم قال لعيسى : قم بأبي أنت ، فاخف شخصك لا يصيبك من هؤلاء شيء نخافه ، فقمنا فتفرقنا(1) .
وبذلك تأكد لنا وحدة كلمة الطالبيين ـ حسنيين وحسينيين ـ وأن فقههم كان غير فقه الحكام ، وأن الحكام كانوا يستخدمون الشريعة للتعرف عليهم . وقد قدمنا شواهد ، وإليك نصاً آخر :
أخرج الشيخ الطوسي بسنده إلى داود بن زربي قال : سألت الصادق عن الوضوء ؟
فقال لي : « توضأ ثلاثاً ثلاثاً » .
____________
(1) مقاتل الطالبيين : 415 ـ 416 .

(317)

ثم قال لي : « أليس تشهد بغداد وعساكرهم ؟ ! » .
قلت : بلى .
قال ] داود ] : فكنت يوماً أتوضأ في دار المهدي ، فرآني بعضهم وأنا لا أعلم به .
فقال : كذب من زعم أنك رافضي وأنت تتوضأ هذا الوضوء .
قال : فقلت : لهذا والله أمرني(1) .
وقد نقل الطبري لنا نصاً يكفينا تعريفاً بالمهدي وشدة بغضه لعلي ، فقد جاء في الطبري أن القاسم بن مجاشع التميمي عرض على المهدي وصيته ـ وكان فيها بعد الشهادة بالوحدانية ونبوة محمد « وأن علي بن أبي طالب وصي رسول الله ووارث الإمامة من بعده » ـ فلما بلغ المهدي إلى هذا الموضع رمى بالوصية ولم ينظر فيها(2) .

الرشيد والوضوء

جاء في الإرشاد للمفيد : عن محمد بن الفضل قال : اختلفت الرواية من بين أصحابنا في مسح الرجلين في الوضوء ، أهو من الأصابع إلى الكعبين أم من الكعبين إلى الأصابع ؟
فكتب عليّ بن يقطين إلى أبي الحسن موسى بن جعفر : جعلت فداك ، إن أصحابنا قد اختلفوا في مسح الرجلين ، فان رأيت أن تكتب إلي بخطك ما يكون بحسبه ، فعلت إن شاء الله .
فكتب إليه أبو الحسن : « فهمت ما ذكرت من الاختلاف في الوضوء ، والذي آمرك به في ذلك أن تتمضمض ثلاثاً وتستنشق ثلاثاً ، وتغسل وجهك ثلاثاً ، وتخلل شعر لحيتك وتغسل يدك إلى المرفقين ثلاثاً ، وتمسح رأسك كله ،
____________
(1) التهذيب 1 : 82 | 214 ، الاستبصار 1 : 71 | 219 ، وسائل الشيعة 1 : 443 .
(2) انظر : تاريخ الطبري 8 : 176 حوادث 169 .

(318)

وتمسح ظاهر اُذنيك وباطنهما ، وتغسل رجليك إلى الكعبين ثلاثاً ، ولا تخالف ذلك إلى غيره » .
فلما وصل الكتاب إلى عليّ بن يقطين ، تعجب مما رسم له مما أجمع العصابة على خلافه ، ثم قال : مولاي أعلم بما قال ، وأنا ممتثل أمره ، فكان يعمل في وضوئه على هذا الحد ، ويخالف ما عليه جميع الشيعة ، امتثالاً لأمر أبي الحسن .
وسُعي بعلي بن يقطين إلى الرشيد ، وقيل له : إنه رافضي مخالف لك . فقال الرشيد لبعض خاصته : قد كثر عندي القول في علي بن يقطين ، والقرف ـ أي الاتهام ـ له بخلافنا ، وميله إلى الرفض ، ولست أرى في خدمته لي تقصيراً ، وقد امتحنته مراراً ، فما ظهر منه عليّ ما يُقرف به ، وأحب أن أستبرى أمره من حيث لا يشعر بذلك فيتحرز مني .
فقيل له : إن الرافضة يا أمير المؤمنين تخالف الجماعة في الوضوء فتخففه ، ولا ترى غسل الرجلين ، فامتحنه من حيث لا يعلم بالوقوف على وضوئه .
فقال : أجل ، إن هذا الوجه يظهر به أمره .
ثم تركه مدة وناطه بشيء من الشغل في الدار حتى دخل وقت الصلاة ، وكان علي بن يقطين يخلو في حجرة في الدار لوضوئه وصلاته ، فلما دخل وقت الصلاة وقف الرشيد من وراء حائط الحجرة بحيث يرى علي بن يقطين ولا يراه هو ، فدعا بالماء للوضوء ، فتمضمض ثلاثاً واستنشق ثلاثاً ، وغسل وجهه ، وخلل شعر لحيته وغسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً ، ومسح رأسه واٌذنيه ، وغسل رجليه ، والرشيد ينظر إليه ، فلما رآه الرشيد فعل ذلك لم يملك نفسه حتى أشرف عليه بحيث يراه ، ثم ناداه : كذب ] يا علي بن يقطين ] من زعم أنك من الرافضة ، وصلحت حاله عنده .
وبعد ذلك ورد عليه كتاب من أبي الحسن : « ابتدئ من الآن يا علي بن يقطين ، توضأ كما أمر الله ، اغسل وجهك مرة فريضة واُخرى إسباغاً ، واغسل
(319)

يديك من المرفقين كذلك ، وامسح بمقدم رأسك وظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك ، فقد زال ما كان يخاف عليك ، والسلام » (1) .

العباسيون وتأصيل المذاهب الأربعة

قدمنا سابقاً عناية الحكومة العباسية بالفقه المخالف لآل البيت واحتواء العباسيين لخطي الأثر والرأي . لما في انتشار مذهب آل البيت من تضعيف لخط الحكومة وتقوية لمنافسيهم على منصب الخلافة .
وإن احتواءهم لخطي الأثر والرأي هو تعضيد لحكمها وتمسك بالصفة الشرعية ، لأن رواد الخط الأول لا يرتؤون شرعية الخلافة العباسية خلافاً لرواد الخط الثاني ، فإنهم انخرطوا في سلك الدولة وترعرعوا في أحضانها وتولوا منصب القضاء ، واستغلت الدولة قدراتهم وطاقاتهم العلمية في صالحها ، ولذلك ترى الحكومة العباسية تؤكد على رفض آراء الخط الأول ، وإن كان عبدالله بن عباس ـ جدهم الأعلى ـ من روادها والدعاة إليها .
بعد كل ذلك نحاول المرور سريعاً بالمذاهب الأربعة التي اُصلت آنذاك قبال مذهب علي وعبدالله بن عباس وأهل البيت ، لنأخذ فكرة إجمالية عنها ، وكيف أن هذه المذاهب جعلت الوضوء الثلاثي الغسلي الذي ركزت عليه الحكومة العباسية كنقطة من نقاط الاختلاف التي يمكن من خلالها معرفة مخالفيها العقائديين والفقهيين .

مذهب الإمام أبي حنيفة

وأول مذهب يطالعنا في ذلك العصر وأقدمه هو مذهب الإمام أبي حنيفة ،
____________
(1) الإرشاد 2 : 227 ، المناقب لابن شهرآشوب 4 : 288 ، الخرائج والجرائح 1 : 335 | 26 ، أعلام الورى : 293 ، البحار 48 : 38 | 14 ، وسائل الشيعة 1 : 444 | 1173 ، جامع أحاديث الشيعة 2 : 291 .

(320)

فان الإمام أبا حنيفة كان من اوائل الدين تقدموا لمبايعة أبي العباس السفاح في جملة من بايعه من الفقهاء ، حيث أن الناس كانوا يتشوقون لحكم وعدهم بإقامة العدل والسنة لينقذهم من جور الأمويين .
لكن أبا حنيفة سرعان ما أدرك انحراف العباسيين وشراءهم لضمائر بعض الفقهاء والعلماء ، فابتعد عن السلطة ورفض أن يتولى القضاء للمنصور العباسي رغم كل السبل التي اقتفاها لاحتوائه ، فكلما ازدادوا إلحاحاً عليه ازداد ابتعاداً عنهم ورفضاً لتولي القضاء ، حتى وصل الأمر إلى سجنه وتعذيبه ، وقيل : انه مات مسموماً على أيدي العباسيين .
وعلى كل حال فإنه لم يدون فقهه للسلطان ولا لغيره ، اللهم إلاّ وريقات باسم « الفقه الأكبر » في العقائد نسبت إليه ، ولم يصح ذلك على وجه القطع واليقين .
ثم إن السلطات بعد وفاة الإمام أبي حنيفة استطاعت أن تحتوي اثنين من أكبر تلامذته ، هما : أبو يوسف القاضي ، ومحمد بن الحسن الشيباني اللذين كانا ينسبان كل ما وصلا إليه من رأي إلى أبي حنيفة !
وكان أبو يوسف قد انضم إلى السلطة العباسية أيام المهدي العباسي سنة 158 وظل على ولائه أيام الهادي والرشيد !
وقد ذكر المؤرخون سبب أتصال أبي يوسف بالرشيد وتوثيق علاقاته معه : أن بعض القواد حنث في يمين ، فطلب فقيهاً يستفتيه فيها ، فجيء بأبي يوسف ، فأفتاه أنه لم يحنث ، فوهب له دنانير وأخذ له داراً بالقرب منه واتصل به .
فدخل القائد يوماً على الرشيد فوجده مغموماً ، فسأله عن سبب غمه ، فقال : شيء من أمر الدين قد حزبني ، فاطلب لي فقيهاً أستفتيه ؛ فجاءه بأبي يوسف .

(321)

قال أبو يوسف : فلما دخلت إلى ممر بين الدور ، رأيت فتىً حسناً أثر المُلك عليه ] الظاهر أنه الأمين بن الرشيد ] وهو في حجرة في الممر محبوس ، فأومأ إليَّ بإصبعه مستغيثاً ، فلم أفهم عنه إرادته ، واُدخلت إلى الرشيد ، فلما مثلت بين يديه ، سلمت ، ووقفت .
فقال لي : ما اسمك ؟
قلت : يعقوب ، أصلح الله أمير المؤمنين .
قال : ما تقول في إمام شاهد رجلاً يزني ، هل يحدّه ؟
قلت : لا يجب ذلك .
قال : فحين قلتها سجد الرشيد ، فوقع لي أنه قد رأى بعض أولاده الذكور على ذلك ، وأن الذي أشار إليَّ بالاستغاثة هو الابن الزاني !
قال : ثم رفع رأسه وقال : ومن أين قلت هذا ؟
قلت : لأن النبي (ص) قال : ادرؤوا الحدود بالشبهات » ، وهذه شبهة يسقط الحد معها .
فقال : وأي شبهة مع المعاينة ؟
قلت : ليس توجب المعاينة لذلك أكثر من العلم بما جرى ، والحكم في الحدود لا يكون بالعلم .
قال : ولِمَ ؟
قلت : لأن الحد حق الله تعالى ، والإمام مأمور بإقامة الحد ، فكأنه قد صار حقاً له ، وليس لأحد أخذ حقه بعلمه ، ولا تناوله بيده ، وقد أجمع المسلمون على وقوع الحد بالإقرار والبينة ، ولم يجمعوا على إيقاعه بالعلم .
قال : فسجد مرة اُخرى ، وأمر لي بمال جليل ، ورزق في الفقهاء في كل شهر ، وأن ألزم الدار .


(322)

قال : فما خرجت حتى جاءتني هدية الفتى وهدية أمه وأسبابه ، فحصل لي من ذلك ما صار أصلاً للنعمة ، وانضاف رزق الخليفة إلى ما كان يجريه عليَّ ذلك القائد .
ولزمت الدار ، فكان هذا الخادم يستفتيني ، وهذا يشاورني ، فأفتي وأشير ، فصارت لي مكنة فيهم ، وحرمة بهم ، وصلاتهم تصل إليّ وحالتي تقوى . ثم استدعاني الخليفة وطاولني واستفتاني في خواص أمره وأنس بي ، فلم تزل حالي تقوى معه حتى قلدني قضاء القضاة(1) .
هذا حال أشهر تلامذة الإمام أب حنيفة الناشر لفقهه والمدون لآرائه . وقد وقفت على دور الدولة في الأخذ بفتواه والعمل برأيه وجعله قاضياً للقضاة ، وجلوسه في البيت لإفتاء الناس ! !
أما محمد بن الحسن الشيباني ، فهو ثاني أبرز تلامذة أبي حنيفة ، وقد درس عليه وناظر وسمع الحديث ، لكن غلب عليه الرأي .
قدم بغداد ودرس فيها ، ثم خرج إلى الرقة وفيها هارون الرشيد ، فولاه قضاء الرقة ، وأخرجه هارون معه إلى الري فمات بها .
كان ملازماً للسلطة العباسية وألف في الفقه الكثير .
منها كتاب « الجامع الصغير » عن أبي يوسف عن أبي حنيفة ، و « الجامع الكبير » ، وله مؤلفات فقهية اُخرى ، منها : (المبسوط في فروع الفقه) و(الزيادات) و (المخارج من الحيل) و (الأصل) و (الحجة على أهل المدينة) وغيرها من الكتب(2) .
فهذا حال التدوين عند أصحاب أبي حنيفة والمسائل التي سارعليها طائفة كبيرة من المسلمين .
____________
(1) نقلنا النص عن نشوار المحاضرة 1 : 253 ، وانظر : وفيات الأعيان ذلك .
(2) الأعلام للزركلي 6 : 80 .

(323)

وبذلك اتضح لك دور السلطة في انتشار مذهب أو التعتيم على آخر ، وأن مهنة القضاء وتوجه الحكام إلى البعض من العلماء كان له الدور الأكبر في تعرف الناس على ذلك المذهب أو الفقيه . وقد عرفت بأن ازدياد عدد أتباع هذا المذهب أو ذاك يرجع إلى العوامل الجانبية والسياسية لا المقومات الأساسية وقوة دليل المذهب ، بل لمسايرته الساسة جنباً إلى جنب .

مذهب الإمام مالك

بعد يأس المنصور من احتواء الإمام أبي حنيفة ، توجه إلى الإمام مالك ليكتب له (الموطأ) ، وقال له : انه سيحمل الناس على ذلك ، ويجعل العلم علماً واحداً !
وبعد وفاة المنصور تمكن المهدي العباسي من احتواء كلا الخطين ، إذ أناط إلى أبي يوسف مهنة القضاء وقربه إليه ، في حين كان المنصور قبله قد كسب الإمام مالكاً ، وقد قرأت ذلك سابقاً وعرفت تفانيه في خدمة المنصور .
وقد نقل عن الإمام مالك انه قال للمنصور : « لو لم يرك الله أهلاً لذلك ما قدر لك ملك أمر الاُمّة ، وأزال عنهم الملك من بعد نبيهم ولقرب هذا الأمر إلى أهل بيته . أعانك الله على ما ولاك وألهمك الشكر على ما خولك ، وأعانك على ما استرعاك » .
واتخاذ هذا الموقف من قبل مالك لمصالح الحكام جعل اُستاذه ربيعة الرأي يبتعد عنه ويكرهه ، لأنه كان لا يداهن السلطان ولا يرتضي التعامل معهم ، فلذلك هجر الناس ـ تبعاً للحكومة ـ ربيعة الرأي ، والتفوا حول مالك .
وجاء عن المنصور انه قال لمالك : « يا عبدالله ، ضع هذا العلم ودونه ، وتجنب فيه شواذ عبدالله بن مسعود ورخص ابن عباس وشدائد ابن عمر ، واقصد إلى أوسط الاُمور وما اجتمع عليه الأئمة والصحابة ، لنحمل الناس إن
(324)

شاء الله على علمك وكتبك ونبثها في الأمصار ، ونعهد إليهم ألاّ يخالفوها ولا يقضوا بسواها » (1) .
فاستجاب مالك لطلب المنصور ، وألف (الموطأ) مع علمه بأن أهل العراق لا يستجيون لما كتبه ، لكن المنصور طمأنه بأنه سيحملهم عليها بالقوة والسلطان ! !
فصار (الموطأ) دستور الحكومة ، وأول كتاب دون في الحديث للدولة العباسية .
وروى أن القزاز قرأ الموطأ على مالك ليعلمه للرشيد ويبينه ، وكان القزاز هذا قد أخذ أربعين ألف مسألة عن مالك(2) .
وأمر الرشيد عامله على المدينة بأن لا يقطع أمراً دون مالك ، واشتهر عن الرشيد أنه كان يجلس على الأرض أمامه لاستماع حديثه .
قال ابن حزم : مذهبان انتشر في مبدأ أمرهما بالرياسة والسلطان ، مذهب أبي حنيفة ، فإنه لما ولي أبو يوسف القضاء كان لا يولي قاضياً إلاّ من أصحابه والمنتسبين إلى مذهبه ، والثاني مذهب مالك . . . (3) .
فلاحظ كيف صار فقه رسول الله يدون من قبل الحكام الذين لا يهمهم إلاّ الحكم ! !
وكيف استغلوا الفقهاء لترجيح الآراء المخالفة لفقه الطالبيين وأنصار التعبد المحض ، ليكون نهجاً في الحياة دون فقه أهل البيت .
وقد طمأن مالك المنصور بأن الفقه سيبقى في أيديهم وليس لأهل البيت نصيب فيه ، فجاء فيما قاله :
____________
(1) الإمامة والسياسة 2 : 150 .
(2) طبقات الفقهاء لأبي إسحاق الشيرازي : 148 .
(3) وفيات الأعيان 6 : 144 .

(325)

يا أمير المؤمنين ، لا تفعل ، أما هذا الصقع فقد كفيتكه ، وأما الشام ففيه الرجل الذي علمته ـ يعني الأوزاعي ـ وأما أهل العراق فهم أهل العراق ! !
وأن جملة (وأما الشام ففيه الرجل الذي علمته) تعني عداءهُ وبغضه لأهل البيت ، وأنها هي المطلوبة ، أي أنك قد حصلت على النتيجة دون مقدمات . وقد عرف عن المنصور أنه كان يعظمه ويراسله لما عرف عنه من الانحراف عن آل محمد .
قال الدهلوي في حجة الله البالغة : (فأي مذهب كان أصحابه مشهورين واُسند إليهم القضاء والإفتاء واشتهرت تصانيفهم في الناس ، ودرسوا درساً ظاهراً انتشر في أقطار الأرض ، لم يزل ينتشر كل حين . وأي مذهب كان أصحابه خاملين ، ولم يولوا القضاء والإفتاء ، ولم يرغب فيهم الناس اندرس بعد حين)(1) .
هذا بالنسبة إلى المذاهب الحكومية ، أما مذهب أهل البيت فلم يكن يُسمح بتداوله ، بل إن اتباع هذا المذهب ، بممارساتهم الطقوس الدينية والعبادات الشرعية ، يعرفون أنهم من المخالفين لنظام السلطة .
هذا وان أشهر كتب المذهب المالكي هي : المدونة ، الواضحة ، العتيبة ، الموازنة .

مذهب الإمام الشافعي

أما الإمام الشافعي ، فإنه ارتبط بالفقه المالكي وحفظ الموطأ منذ صباه ، وأحب أن يتصل بمالك فأخذ كتاباً من والي مكة الى والي المدينة ليدخله على مالك ، فلما وصل إلى المدينة وقدم إلى واليها الكتاب ، قال الوالي : إن المشي ، من جوف المدينة إلى جوف مكة خافياً راجلاً أهون عليَّ من المشي إلى باب
____________
(1) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة 2 : 11 ، عن حجة الله البالغة 1 : 151 .

(326)

مالك ، فلست أرى الذل حتى أقف على بابه .
يبدو من هذا الكلام أن الشافعي أراد الاتصال بمالك بعد سطوع نجمه وارتقاء محله عند العباسيين ، حتى أن والي المدينة يشعر بالذلة والتصاغر أمام مالك والوقوف ببابه !
وقد طالت تلمذه الشافعي على يد مالك ما يقارب تسع سنين ، ثم إن الشافعي أملق أشد الإملاق بعد موت مالك فرجع إلى مكة ، وصادف ذلك أن قدم إلى الحجاز والي اليمن ، فكلمه بعض القرشيين ، فأخذه الوالي معه ، وأعطاه عملاً من أعماله ، وهي ولاية نجران .
ثم وشي به عند الرشيد بتهمة كونه ذا ميول علوية ويحاول الخروج على الحكم ، فأرسلوه إلى بغداد مكبلاً بالحديد ، فتبرأ من تهمة انخراطه مع العلويين ، وأكد إخلاصه للسلطة وشهد له صديقه محمد بن الحسن الشيباني ـ الذي كان قد تعرف عليه عندما كان يدرس عند مالك ثلاث سنين ، ـ بأنه ثقة ومن أتباع الدولة ، فخلى سبيله .
وبعد هذا توطدت علاقته وصلاته بالشيباني ، فأخذ يدرس عليه آراء أبي حنيفة في الرأي والقياس .
إذن فالشافعي أخذ من كلا المدرستين (1 ـ مدرسة الرأي والقياس ، بواسطة محمد بن الحسن ؛ 2 ـ مدرسة الأثر ، من مالك بن أنس) ، فكان نتاجه مدرسة جديدة خاصة به أشاعها في مصر بعدما عاد إليها من بغداد عام 199 هـ مع أميرها العباس بن عبدالله بن العباس .
وأنه بدأ في تقوية بناء مدرسته ، فهاجم مالكاً لتركه الأحاديث الصحيحة لقول واحد من الصحابة أو التابعين أو لرأي نفسه ، وهاجم أبا حنيفة وأصحابه لأنهم يشترطون في الحديث أن يكون مشهوراً ويقدمون القياس على خبر الآحاد وإن صح سنده ، وأنكر عليهم تركهم بعض الأخبار لأنها
(327)

غير مشهورة وعملهم بأحاديث لم تصح لأنها مشهورة ، فاستاء منه المالكيون وأخذوا يبتعدون عنه ، لأنه أخذ يغير آراءه القديمة التي كان يقول بها سابقاً والتي كانت موافقة لرأي مالك في الغالب ـ ويرسم مكانها رأيه الجديد المتخذ على ضوء القياس والرأي المخلوط بالأثر . ولما استقر مذهبه الجديد شغب عليه بعض عوام أصحاب مالك فقتلوه(1) .
وقد وردت طعون على الشافعي كعدم نقل البخاري ومسلم حديثاً عنه في صحاحهم ، وما نقله أحمد بن حنبل عن الشافعي قوله : أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا ؛ وقول أبي ثور : ما كان الشافعي يعرف الحديث ، وإنما كنا نوقفه عليه ونكتبه(2) ، وغيرها ، لكنا نحتمل كونها طعوناً عصبية ، فإن ترك البخاري ومسلم التحديث عن الشافعي لم يكن دليلاً على الجرح فيه ، إذ لم يكن ذلك دائراً مدار الواقع ، فإن الصحيح هو ما صح عندهما وإن كان مخالفاً للواقع ، فنراهما كثيراً ما يرويان عن أشخاص ضعاف أو عرفوا بالكذب ، وعدت تلك الروايات بمنزلة الصحاح ، وان المؤاخذات على البخاري لم تنحصر بهذا فقط .
وعلى هذا يحتمل أن يكون عدم تحديث البخاري ومسلم ، وغيرها من الطعون المذكورة فيه ، إنما جاءت لقوله : إن علي بن أبي طالب هو الإمام الحق في عصره ، وأن معاوية وأصحابه كانوا الفئة الباغية . وقد اتخذ الشافعي في كتاب السير من فقهه سنة علي (ع) في معاملة البغاة ، وإظهاره حب آل محمد رغم وقوف الحكام في طريق ذلك ، وقد اشتهر عنه قوله :

إن كان رفضاً حب آل محمد * فليشهد الثقلان اني رافضي

فهذه المواقف كانت لا ترضي الحكام ، وهي التي أوجدت نسبة تلك الطعون وأمثالها فيه .
____________
(1) معجم الاُدباء 17 : 289 .
(2) البداية والنهاية 9 : 327 ، طبقات الحنابلة 1 : 282 ، آداب الشافعي 95 . . اعتماداً على ما نقله أسد حيدر في الإمام الصادق والمذاهب الأربعة عنها ، انظر 2 : 244 .