المدخل
تارخ اختلاف المسلمين في الوضوء

أسبابه ودواعيه

وقد جعلناه في

بابين :



(28)

(29)

الباب الأوّل

الوضوء في عهد النبيّ صلّى الله عليه واله وسلم والخلفاء


هل في الوضوء تشريعان ؟
بدايات الخلاف الوضوئي :
* متى حدث الخلاف ؟
* كيف ؟
* من هو البادئ ؟
ما هي منزلة المختلفين ؟
اتّفق الاتجاهان أم لا ؟
ما هي مفردات الخلاف الوضوئي ؟


(30)

(31)

توطئة :
كثيراً ما يتساءل البعض عن سبب الاختلاف بين المذاهب الإسلاميّة في الأحكام الشرعيّة ، على الرغم من كون مصادر الحكم الشرعيّ ـ الكتاب ، السنّة ، الإجماع ـ واحدة عند الجميع .
فهل يا تُرى أنّ منشأهُ يرجع إلى اختلافهم في تعريف هذه الأدلّة ونحو دلالتها ؟ أم إلى الترديد في حجّيّة القياس والا ستحسان والا ستصلاح والعرف و . . . ؟ أم مردّه إلى تشعّب مشاربهم في معطيات الأصل العمليّ والدليل اللفظّي ؟ أم مرجعه إلى النزعات الفرديّة والضغوط السياسية و . . . ؟
لا شكّ أنّ لكلّ ما ذكر دوراً في حصول الاختلاف ، وأنّه بعض العلّة لا تمامها ؛ لسنا بصدد وضع أجوبة لهذه التساؤلات ، بل الذي يهمنا وندعو المعنيّين إليه هو دراسة الفقه وفق المناهج الحديثة ، وأن لا يقتصر التحقيق عندهم على مناقشة النصوص الشرعيّة ودلالاتها بعيداً عن دراسة جذور المسألة وما يُحيط بها من ملابسات شتّى ، إذا إنّ دراسة الفقه مع ملاحظة ظروفه

(32)

التاريخيّة والسياسية والاجتماعيّة هي الطريقة التي تخدم البحث العلميّ وتوصل إلى معرفة الحقيقة .
كما أنّ الجديّة في البحث والأمانة العلميّة تستلزم متابعة مختلف الآراء والأقوال عند جميع الأطراف ؛ كي نتجاوز النظرة من زاوية محدودة وننطلق من الإطار المقيّد إلىعالم أرحب ؛ إذ أنّ النظرة الضيّقة وعدم الانفتاح يوصدان أبواب التفاهم وتلاقح الأفكار ، وبالنتيجة تحرمنا من قطف ثمار الاتصال بالآخرين والحوار معهم .
والآن بين أيدينا أمر عبادي مهم سنسلّط الضوء عليه ليتّضح لنا مدى عمق جذور الاختلاف وما هيّته في مصداق واحد ، ومن خلاله ربّما تظهر ملامح صورة الاختلاف : وهي دراسة عن كيفيّة « وضوء النبيّ(ص) » .
فكيف وقع الخلاف بين المسلمين في هذا الأمر المهم ؟ !
ولِمَ اختلف في مثل الوضوء ، ذلك الفعل الذي كان يؤدِّيه النبيّ(ص) لعدّة مرّات في اليوم على مدى ثلاث وعشرين سنة ، بمرأىً من المسلمين .
الوضوء الذي أَكد عليه النبيّ وجعله شرطاً للصلاة التي هي عمود الدين ؛ فقال : « لا صلاة إِلا بطهور » (1) ، وقال أَيضاً : « الوضوء شطر الإيمان » (2) ؟ !
إذاً فالوضوء أمر عباديّ ، مارسه الرسول بمحضر المسلمين ثمّ اتّبعوهُ بعد التعلّم العمليّ والبيان القوليّ منه ، وهو لم يكن بالأمر الخفيّ ، ولابالتشريع المؤقّت المختصّ بفترة زمنيّة دون أُخرى ، حتّى تطمس معالمه ، وتخفى ملامحُه بحيث يصل الحال إلى الاختلاف فيه .
____________
(1) سنن أبي داود 1 : 16|59 ، سنن ابن ماجة 1 : 100|271ـ274 ، صحيح مسلم 1 : 204 ب2 ، مسند الإمام زيد : 68 .
(2) كنز العمّال 9 : 288|26044 ، وص 316|26200 ، في صحيح مسلم 1 : 203|1 ، ومسند أحمد 4 : 260 بتفاوت يسير .

(33)

فإن كان الأمر كذلك ، فيما هي دواعي الاختلاف فما ؟ وما هي حقيقة البيان النبويّ الشريف لهذه المسألة المهمّة ؟
للإجابة عن هذين السؤالين وغيرهما ؛ نقول : لابدّ من تنقيح البحث بشكل دقيق يخضع للمنهج العلميّ الحديث ، وإخضاع جميع ما ورد بهذا الشأن للدقّة والتمحيص ، وهذاما سنحاول القيام به في دراستنا للكشف عن أُمور غامضة تداخلت في هذه العبادة ، وجعلتها مثاراً للأخذ والردّ ؛ فنقول :
اختلف المسلمون تبعاً لاختلاف الصحابة في نقل وبيان وضوء رسول الله (ص) على نحوين ونهجين رئيسيّين (1) ، وكان لكلٍّّ منهما ـ على ما وصل إلينا من السلف ـ أتباع وأنصار ، من صحابة وتابعين لهم يذودون عمّا يرتؤون ، ويقيمون الأدلّة والبراهين على ما يذهبون إليه .
ولكن قبل الخوض في غمار البحث ، ومناقشة الأدلّة ومدى حجّيّتها ، لابدّ من التمهيد للموضوع بمقدّمة نبحث فيها عن تاريخ الاختلاف وأسبابه ودواعيه ، بادئين ذلك بوضوء المسلمين في الصدر الإسلاميّ الأوّل .
____________
(1) يتلخّص النهجان في وضوء المذاهب الأربعة ، ووضوء الشيعة الإمامية والذي ستقف عليهما فيما يأتي من هذا الكتاب .

(34)

الوضوء في العهد النبويّ

ممّا لا شكّ ولا ريب فيه أنّ المسلمين في الصدر الأوّل كانوا يتضّؤون كما كان النبيّ(ص) يتوضّأ بكيفيّة واحدة ، ولم يقع بينهم أيّ خلاف يذكر ، وأنّه لو وجد لوصل إلينا ما يشير إليه ، ولتناقلته كتب الحديث والسير والأخبار ؛ إذ إنّ المشرّع كان بين ظهراني الأُمّة ، وهو بصدد التعليم والإرشاد ـ لأمّته الحديثة العهد بالإسلام كقوله لفعه (ص) : « صلّوا كما رأيتموني أُصلّي » أو « خذوا عني مناسككم » ـ فمن البعيد حدوث الخلاف بينهم مع كون الجميع يرجعون إلى شخص واحد للأخذ منه وقد قال سبحانه (فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول) ، أضف إلى ذلك مشاهدتهم لفعفه (ص) الذي هو السنّة والرافع لكلّ لبس وإبهام ؛ هذا من جهة .
ومن جهة أُخرى : أنّ الخلاف في كثير من الأُمور بين الأُمّة إنّما هو وليد العصور المتأخّره التي جاءت بعد عهده الشريف قال الدكتور محمد سلام مدكور : لم يكن من سبيل الى وجود اختلاف بين الصحابة في الاحكام الفقهية في عصر الرسول (ص) وهو بين ظهرانيهم ، يشرع لهم ويرجعون اليه ، أما بعد

(35)

وفاته فقد وجدت اسباب متنوعه أدت الى اختلاف النظر وتباين الاتجاه وقد يكون للسياسة دخل في هذا . . . » (1) .
نعم ؛ قد يقال : إنّ سبب اختلاف الأمّة في الوضوء وجود تشريعين ، كان النبيّ(ص) يفعلهما على نحو التخيير ، دون الإشارة إلى ذلك ! ! أي أنّه (ص) : كان تارة يتوضّأ حسبما رواه عثمان (2) وعبد الله بن زيد بن عاصم (3) والربيّع بنت المعوّذ(4) وعبد الله بن عمرو بن العاص(5) عنه (ص) ؛ وأخرى مثلما نقله عليّ بن أبي طالب (6) ورفاعة بن رافع (7) وأوس بن أبي أوس (8) وعباد بن تميم بن عاصم (9) و . . . عنه(ص) .
فلو ثبت ذلك . . . لصحّت كلتا الكيفيّتين ، ولتخيّر المكلّف في الأخذ بأيّهما شاء وترك الآخر ، فتكون حاله كبقيّة الأحكام التخييريّة .
لكنّ هذا الاحتمال في غاية البُعد ؛ لأنّنا نعلم بأنّ الحكم الشرعيّ ـ سواء التعيينيّ أو التخييريّ ـ إنّما يأخذ مشروعيّته من الكتاب والسنّة ، فكفّارة اليمين ـ مثلاً ـ دلّ عليها دليل من القرآن وهو قوله تعالى : (فكفّارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون به أهليكم أو كسوتهم أوتحرير رقبة) (10) فعرفنا على ضوء الآية بأنّ الحكم في كفّارة اليمين تخييري إمّا إطعام عشرة مساكين ، أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة .
____________
(1) مناهج الاجتهاد في الاسلام : 144 .
(2) سنن النسائيّ 1 : 80 ، صحيح مسلم 1 : 204|3 ، سنن البيهقيّ 1 : 53 ، 68 .
(3) سنن النسائيّ 1 : 71 ، صحيح مسلم 1 : 210|18 ، سنن البيهقيّ 1 : 50 ، 59 .
(4) سنن الدارقطنيّ 1 : 96| 5 ، سنن البيهقّي 1 : 64 .
(5) سنن البيهقيّ 1 : 68 .
(6) شرح معاني الآثار 1 : 34|156 .
(7) سنن ابن ماجة 1 : 156|460 .
(8) كنز العمّال 9 : 476| 27042 .
(9) كنز العمّال 9 : 429| 26822 ، شرح معاني الآثار 1 : 35| 162 .
(10) سورة المائدة : 89 .

(36)

وكفّارة صوم شهر رمضان ، قد دلّ عليها حديث الأعرابيّ (1) ، ورواية أبي هريرة (2) ؛ وهكذا الأمر بالنسبة إلى غيرهما من الأحكام التخييريّة . . .
أمّا فيما نحن فيه ، فلا دلالة قرآنيّة ، ولانصّ من السنّة النبويّة ، ولا نقل من صحابيّ بأنّه (ص) فعلها على نحو التخيير ؛ وليس بأيدينا ولا رواية واحدة ـ وإن كانت من ضعاف المرويّات ـ مرويّة عن أيّ من الفريقين تدلّ على التخيير ، بل الموجود هو التأكيد على صدور الفعل الواحد عنه (ص) ، وقد اختلفوا في ذلك ، فذهب بعض إلى أنّه(ص) غسل رجله ، وذهب البعض الآخر إلى أنّه(ص) مسح رجله ، واستند كلّ منهما الى القرآن والسنة على ما ذهب إليه .
وإذا ما تتّبع الباحث أقوال علماء الإسلام فسوف يقف على أنّ الوضوء عندهم تعيينيّ لا تخييريّ ؛ فغالب أتباع المذاهب الأربعة يقولون بلزوم الغسل في الأ رجل لاغير ، أمّا الشيعة الإماميّة فإنّهم لا يقولون إلاّ بالمسح وحده ، وإنّ كلاً منهما ينسب قوله ـ مضافاً إلى دعوى استظهاره من الكتاب ـ إلى فعل رسول الله (ص) ، وهو ما جاء في صحاح مرويّاتهم .
أمّا القائلون بالجمع (3) أو التخيير(4) ، فإنّهم إنّما يقولون بذلك لا على أساس أنّ النبيّ (ص) جمع أو خيّر ، بل إنّ القائل بالجمع إنّما يقول به لكونه مطابقاً للاحتياط ، وأنّه طريق النجاة ؛ إذ الثابت عنده أنّ الكتاب ورد بالمسح ، وأنّ السنّة وردت بالغسل ، فأوجبوا العمل بهما معاً رعاية للاحتياط ، لا على أساس أنّ النبيّ(ص) جمع بينهما ؛ وأنّ ذلك هو المرويّ عنه (ص) .
وكذلك الحال بالنسبة للقائل بالتخيير ، فإنّه إنّما ذهب إلى ذلك لتكافؤ الخبر
____________
(1) موطأ مالك 1 : 297|29 .
(2) موطأ مالك 1 : 296|28 ، صحيح البخاريّ 3 : 41 ، صحيح مسلم 2 : 781|81 .
(3) كالناصر للحق من أئمّة الزيديّة ، وداود بن عليّ الظاهري وغيرهما .
(4) كالحسن البصريّ ، وأبي عليّ الجبائيّ ، وابن جرير الطبريّ وغيرهم .

(37)

عنده في الفعلين (المسح والغسل) ، فالمكلّف لو أتى بأيّهما كان معذوراً ؛ إذ لم يرجح عنده أحدهما حتّى يلزمه الأخذ به ، وعليه فدعوى التخيير مجرد رأي جماعة قليلة من فقهائنا السابقين ، فلا يمكن به نقض الإجماع المركّب بين المسلمين على أنّ الوضوء إمّا مسحيّ أو غسليّ ، بل هناك أدلّة ستقف عليها لاحقاً ترجح أحد الطرفين وبها يثبت أن لا معنى للتخيير !

(38)

عهد أبي بكر (11ـ 13هـ)

لم ينقل التاريخ في هذا العهد خلافاً بين المسلمين في الوضوء ؛ ذلك لقرب عهدهم بالنبيّ (ص) ، وأنّه لو كان لبان ، بل التحقيق عدمه ؛ إذا إنّ حكم الوضوء لم يكن كغيره من الأحكام الشرعيّة ، كالعارية ، الشفعة ، العتق ، . . . وغيرها من الأحكام ممّا يمكن تجاهلها أو التغاضي عن فهم حكمها ، لعدم الابتلاء بها كثيراً ، وخلوهما عمّا في الوضوء من الاهمية ، إذ إنّ الوضوء فعلٌ يمارسه المسلم عدّة مرّات في اليوم الواحد ، وتتوقّف عليه أهم الأمور العباديّة ، وأنّ الاختلاف في أمر كهذا مثارٌ للدهشة والاستغراب ، وتزداد الغرابة إذا ما تصوّرنا وقوعه مع فقد دليل أونصّ شرعيّ يدلّ عليه .
وهنا نؤكّد ونقول : إنّه من الأُمور التي تنطبق عليها قاعدة (لو كان لبان) ؛ فعدم ورود نصّ ينبئ عن وجود الخلاف ، وعدم وجود ردود فعل للصحابة في أمر الوضوء ، أو ما شابه ذلك ، دليل على استقرار الوضع بين المسلمين فيه ، وعلى تعبّدهم بسيرة الرسول (ص) .
وإنّنا رغم استقصائنا الدقيق في كتب التاريخ بحثاً عن مؤشّر واحدٍ يدلّنا

(39)

على اختلاف المسلمين في حكم من أحكام الوضوء في ذلك العهد ، لم نعثر على أثر يذكر .
ثمّ إنّ عدم وجود بيان لصفة وضوء رسول الله (ص) من الخليفة الأوّل دليل آخر على استقرار الأُمّة على الوضوء النبويّ ، إذ إنّ الوضوء أصبح من البديهيات التي لا تحتاج إلى تعليم ، بل كان معروفاً واضحاً متداولاً ممّا لا يحتاج إلى تأكيد الخليفة على تعليمه وذكر كيفيّته وتكراره ، ولو كان هناك خلاف أو ما يستوجب البيان والتوضيح لبيّن الخليفة صفة وضوء رسول للناس لقطع دابر الاختلاف .
علماً بأنّ الخليفة قد حارب أهل الردّة ؛ معلّلاً بأنّهم قد فرّقوا بين الصلاة والزكاة ، فكيف به لايجابه الذي يحرّف الوضوء ؟ ! فهذه قرائن آخر على عدم وجود الخلاف في زمانه ؛ إذ لو كان لوردت نصوص عليه في المصادر المعتبرة ، كما رأيناه فيما يماثلها .

(40)

عهد عمر بن الخطّاب (13ـ23 هـ)

على الرغم من استقرائنا ، وتتبّعنا الدقيق في تاريخ اختلاف المسلمين في الوضوء ـ في هذا العهد ـ لم نعثر على ما يشير إلى وجود اختلاف جوهري بين المسلمين فيه . . اللّهم إلاّ في مسألة يسيرة وفي حالة من حالات الوضوء ، هي جواز المسح على الخفّين ، او عدمه .
وإليك بعضاً من النصوص الواردة بهذا الشأن :
جاء في تفسير العياشيّ ، عن زرارة بن أعين ؛ وأبي حنيفة ، عن أبي بكر ابن حزم ؛ قال : توضّأ رجل ، فمسح على خفّيه ، فدخل المسجد فصلّى ، فجاء عليّ فوطأ على رقبته ؛ فقال : ويلك ! تصلّي على غير وضوء ؟
فقال [ الرجل ] : أمرني عمر بن الخطّاب .
قال [ الراوي ] : فأخذ بيده ، فانتهى به إليه .
فقال [ عليّ ] : انظر ما يروي هذا عليك ؟ ـ ورفع صوته ـ .
فقال [ عمر ] : نعم ؛ أنا أمرته ؛ إنّ رسول الله (ص) مسح .

(41)

قال [ عليّ ] : قبل المائدة ، أو بعدها ؟
قال [ عمر ] : لاأدري !
قال [ عليّ ] : فلم تفتي وأنت لاتدري ؟ ! سبق الكتاب الخفّين(1) .
وفي النصّ إشارات جمّة ، يهمّنا منها ـ في هذا المقام ـ : عبارة (ما يروي هذا عليك) بدلاً من(. . . عنك) ، فالذي يظهر من قول الإمام عليّ أنّه قد اتّهم الماسح على الخفّين بالتقوّل على عمر ؛ وذلك لبداهة كون المسح على القدمين هو السنة المنصوص عليها ، دون المسح على الخفيّن (2) ؛ ويمكننا أن نفهم من ظاهر قول الإمام عليّ كون المسح على القدمين في غاية الوضوح عند الجميع ، وإلاّ لماصحّ الإنكار ، وادّعاء التقول .
وأخرج السيوطيّ بسنده ، عن ابن عبّاس ، أنّه قال : ذكر المسح على القدمين عند عمر ، سعدٌ وعبد الله بن عمر .
فقال عمر [ لعبد الله ] : سعد أفقه منك !
فقال [ عبد الله بن ] عمر : يا سعد ؛ إنّا لاننكر أنّ رسول الله مسح ، ولكن هل مسح منذ أُنزلت سورة المائدة ؟ فإنّها أحكمت كلّ شيء ؛ وكانت آخر سورة من القرآن ، إلاّ براءة(3) .
نحن لسنا بصدد تنقيح البحث في جواز المسح على الخفّين أو عدمه ، بل الذي نقوله هو : أنّ الخلاف لم يشكّل مدرسة وضوئيّة كاملة ، بل إنّ أغلب الروايات الواردة عن الخليفة في الوضوء كانت تدور حول نقطة واحدة وبيان حالة معينة من حالات الوضوء ، ولم نعثر على اختلافات أُخرى بين الصحابة
____________
(1) تفسير العياشيّ 1 : 297|46 .
(2) لما روى عن الصحابة وأهل البيت في ذلك ، راجع : التفسير الكبير 11 : 163 ، والانساب للسمعاني 5 : 405 ، ومقاتل الطالبين : 468 ، ومسند الامام زيد : 75 .
(3) الدرّ المنثور 2 : 263 .

(42)

آنذاك ، كما هو مختلف فيه بين فرق المسلمين بعد ذلك ، مثل حكم غسل اليدين ، هل هو من الأصابع إلى المرافق أو العكس ؟
أو كمسح الرأس ، هل يجب كلّه ، أو يجوز بعضه ؟
و ما هو حكم مسح الرقبة ، هل هو من مسنونات الوضوء ، أم . . . ؟
أنّ عدم نقل وضوء بيانيّ عن الخليفة ، وعدم تأكيده على تعليم الوضوء للمسلمين لدليل على أنّ الاختلاف بينهم لم يكن إلاّ جزئيّاً ، وأنّه لم يشكّل بعد عند المسلمين نهجين وكيفيّتين كما هو المشاهد اليوم ؛ إذ لو كان ذلك لسعى الخليفة في إرشاد الناس ودعوتهم إلى وضوء رسول الله (ص) ، وقد تناقلت كتب السير والتاريخ اهتمامه بجزئيّات الشريعة مدّة خلافته الطويلة(1) .
فإذا كان الاهتمام بالأحكام إلى هذا المدى ، فلم لانرى للخليفة وضوءاً بيانيّاً لو كان الاختلاف في الوضوء قد شجر بين المسلمين ؟ !
وإذا كان يفعل بشابّ ما فعل به لقول قائلة متغزّلة ، والولاة يهتمّون بنقل اخبار من شرب الخمر وغيره من الأمصار إلى الخليفة ، فلماذا لا نرى نقل خبر عنهم في الوضوء ؟ !
وإذا صحّ وقوع الخلاف في الوضوء في هذا العهد ، فكيف يصحّ السكوت من عمر ـ على وسع اهتماماته ـ عن الاختلاف في الوضوء ؟ ! ذلك الفرض الذي تتوقّف عليه كثير من العبادات من صلاة وحجّ !
بناءً على ما تقدّم ، نستبعد حصول اتّجاه وضوئيّ مخالف لسنّة رسول الله (ص) وفعله ؛ إذ لو كان لتناقلة الكتب فعدم توجّه الخليفة إلى هذه المسألة المهمّة الحسّاسة ، دليلٌ على استقرار المسلمين على وضوء رسول الله (ص) .
____________
(1) انظر مثلاً صحيح مسلم 3 : 646|241 ، وحلية الاولياء 4 : 322 ، ومجموعة طه حسين 4 : 51 و164 .

(43)

عهد عثمان بن عفّان (23 ـ 35 هـ)

كان الخليفة عثمان بن عفّان الوحيد بين الخلفاء الثلاث الأوائل قد حكى صفة وضوء رسول الله ، وروى لنا وضوءاً بيانياً عنه (ص) .
فقد أخرج البخاريّ ومسلم بسندها عن ابن شهاب : انّ عطاء بن يزيد الليثيّ أخبره أنّ حمران مولى عثمان أخبره ، أنّ عثمان بن عفّان (رضي الله عنه) دعا بوضوء ـ فتوضّأ ـ فغسل كفّيه ثلاث مرّات ، ثمّ مضمض واستنثر ، ثمّ غسل وجهه ثلاث مرّات ، ثمّ غسل يده اليمنى إلى المرافق ثلاث مرّات ، ثمّ غسل به اليسرى مثل ذلك ، ثمّ مسح رأسه ، ثمّ غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرّات ثمّ غسل اليسرى مثل ذلك ، ثمّ قال : رأيت رسول الله (ص) توضّأ نحو وضوئي هذا .
ثمّ قال رسول الله : من توضّأ نحو وضوئي هذا ، ثمّ قام فركع ركعتين ، لايحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدّم من ذنبه (1) .
____________
(1) صحيح البخاريّ 1 : 52 ، صحيح مسلم 1 : 204| 3 .
(44)

نصّان أساسيّان
1ـ أخرج المتّقيّ الهنديّ ، عن أبي مالك الدمشقّي ؛ قوله : حدّثت أنّ عثمان بن عفّان اختلف في خلافته في الوضوء(1) .
2ـ أخرج مسلم في صحيحه ، عن قتيبة بن سعيد ، وأحمد بن عبدة الضّبّي ؛ قالا : حدّثنا عبد العزيز وهو الدراوردي عن زيد بن أسلم ، عن حمران مولى عثمان ؛ قال : أتيت عثمان بن عفّان بوضوء ، فتوضّأ ثمّ قال : إنّ ناساً يتحدّثون عن رسول الله (ص) بأحاديث ، لاأدري ما هي ! إلاّ أنّي رأيت رسول الله توضّأ مثل وضوئي هذا ثمّ قال : « من توضّأ هكذا غفر له ما تقدّم من ذنبه » (2) .

حدوث الخلاف في الوضوء

يوقفنا هذان النصّان على أُمور :
الأوّل : ينبئ النصّ الأوّل وكذا الثاني عن حدوث اختلاف بين المسلمين في الوضوء وانشقاقهم إلى خطين :
1ـ وضوء الخليفة عثمان بن عفّان .
2ـ وضوء ناس من المسلمين .
وكلّ واحد منهما يكتسب مشروعيّة عمله بانتساب فعله إلى رسول الله ، فهؤلاء الناس كما قال الخليفة يحدّثون عن رسول الله (ص) لقوله (انّ ناساً يتحدًثون عن رسول الله بأحاديث) ، أمّا الخليفة فنراه يقول : إلاّ أنّي رأيت رسول الله توضّأ مثل وضوئي هذا ! !
الثاني : يؤكّد النصّ الأوّل على أنّ الخلاف في الوضوء قد حدث في عهد
____________
(1) كنز العمال 9 : 443| 26890 .
(2) صحيح مسلم 1 : 207| 8 ، وعنه في كنز العمّال 9 : 423| 26797 .

(45)

الخليفة عثمان ، لقول أبي مالك « حدّثت أنّ عثمان بن عفّان اختلف في خلافته في الوضوء » ، وأنّ ذلك يتضمّن الإشارة إلى عدم وجود الاختلاف قبل عهده ويقوّي ما سقناه سابقاً ، وستقف لاحقاً على أنّ الخليفة قد توضّأ وضوء الناس شطراً من خلافته(1) كما نقل عنه في الصلاة بمني وأنّه أتمّ الصلاة فيها بعد أن كان قد قصر فيها شطراً من خلافته وكذا في الأذان الثالث يوم الجمعة ، وتقديم الخطبة على الصلاة يوم العيدين . . وغيرها .
الثالث : إنّ عبارة الخليفة « إنّ ناساً يتحدّثون » تؤكّد مشروعيّة فعل هؤلاء الناس باعتباره مرويّاً عن رسول الله (ص) ، ولم يكذّب الخليفة روايتهم لصفة وضوء رسول الله بل اكتفى بقوله (لا أدري) ، وبذلك يكون وضوؤهم هو وضوء رسول الله ، حيث لا يعقل أن يتحدّثوا بشيء ولا يفعلونه ، وخصوصاً أنّهم في خلاف مع خليفة المسلمين فيه ، أمّا « الناس » فكانوا لايقبلون وضوء الخليفة ولا يعدّونه وضوء رسول الله ! !
الرابع : إنّ جملة « إنّ ناساً » او « لاأدري ما هي » ظاهرة في استنقاص الخليفة لـ « الناس » وأنّهم صحابة مجهولون . . فهل حقّاً كانوا كذلك ؟ أم أنّ الخليفة قال بمثل هذا لمعارضتهم إيّاه ، وأنّ طبيعة المعارضة تستوجب الاستنقاص ؟ !
كانت هذه بعض النقاط . . ولنواصل الحديث بطرح تساؤلات أُخرى :
لماذا وقع الاختلاف في هذا العهد ولم يلاحظ في عهد الشيخين ؟
ولماذا نرى الصحابة ينسبون إلى عثمان البدعة والاحداث ـ كما ستقف عليه لاحقاً في حين لم ينسبوا ذلك إلى أبي بكر وعمر ؟
فلو قلنا بأنّ الخليفة هو المبدع لهذا الوضوء الجديد ، فما هو السبب والداعي لسلوكه هذا السلوك ، مع علمه بأنّ ذلك يسبب معارضة الصحابة له ؟
وهل الوضوء من الأُمور الماليّة أو السياسيّة أو الحكوميّة . . حتّى يمكن
____________
(1) انظر كنز العمال 9 : 436| 26863 مثلاً .

(46)

التعامل معها وفق مصلحة الحكم والبلاد ؟
أم كيف يمكن لهؤلاء « الناس » الاجتراء والتعدّي على شعور المسلمين وإحداث وضوء يخالف وضوء الخليفة وما عمله المسلمون مدّة من الزمن ؟
وإذا كانوا هم البادئين بشقّ الصفّ الإسلاميّ ، أيعقل أن تتجاهلهم كتب السير والتاريخ ولم تنوّه بأسمائهم ؟
ولم لا نرى مواجهة من كبار الصحابة لهم ، وظهور وضوءات بيانيّة منهم لإفشال ذلك الخطّ المبتدع الجديد ؟
ولماذا نرى الخليفة يقول : لا أدري . . وهل أنّه لا يدري حقّاً ؟
وكيف لا يدري وهو من المسلمين الأوائل ، وخليفتهم القائم ؟
وإن كان يدري ، فكيف يجوّز لنفسه تجاهل أحاديث من يروي ويتحدّث عن رسول الله ؟ وإن كان الناس قد كذبوا على رسول الله ونسبوا إليه ما لم يصحّ فلماذا لم يشهّر بهم ولم يودعهم السجون ؟
هذه التساؤلات مع جملة أُخرى ، سنجيب عنها في مطاوي البحث إن شاء الله تعالى .
لكنّ اللافت للنظر في هذا المجال أنّ الخليفة هو الذي تصدّى بنفسه لمسألة الوضوء !
فما سبب ذلك ؟
ولماذا اعتبرت روايته للوضوء هي أكثر وأصحّ ما يعتمد عليه في حكاية وضوء النبيّ في أبواب الفقه ؟ مع العلم بأنّ صورة الوضوء لم تنقل عن كبار الصحابة الملازمين للرسول ، وهم مئات عدداً وكانوا يحيطون به (ص) ويعايشونه ، أضف إلى ذلك كون كثير منهم من أهل الفقه ، وحملة الآثار ، ومن العلماء ، المهتمين بدقائق الأُمور ، وهم الذين نقلوا لنا رأي الإسلام في مختلف
(47)

مجالات الحياة .
فكيف لم تنقل عن أُولئك المكثرين كيفيّة الوضوء ؟ وهل من المعقول أن يسكت المقرّبون المكثرون عن بيان كيفيّة الوضوء ، إن كان فيها ما يستوجب البيان والتوضيح ؟ !
ولماذا هذا التأكيد من عثمان على الوضوء بالذات ؟ . . مع كونه يعاني من مشاكل وأزمات حادّة في إدارته السياسية ، وسياسته الماليّة ، ونهجه الفقهيّ . . بل حتّى في طور تفكيره وسائر شؤونه الأُخرى .
قد يكون لزاماً علينا أن نقول : إنّ الحالة الطبيعيّة كانت تقتضي أن تصدر النصوص البيانيّة الحاكية لوضوء رسول الله (ص) عن صحابة من أمثال : أنس بن مالك ، عبد الله بن مسعود ، عمّار بن ياسر ، أبي ذرّ الغفاريّ ، جابر بن عبد الله الأنصاريّ ، اُبي بن كعب ، معاذ بن جبل ، سلمان الفارسي ، أبوموسى الاشعري ، بلال بن رباح ، أبو رافع ، زوجات النبيّ ، موالي النبيّ ، وغيرهم الكثير من الذين ما انفكوا عن ملازمتة (ص) . . لا أن يقتصر النقل ويختصّ بفئة محدودة ، كعثمان ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، والرُّبيّع بنت معوّذ ، و . . .
فلماذا تصدر عن المقلّين في رواية الحديث ، لا المكثرين الملازمين للنبيّ (ص) مع أنّ طبيعة الأشياء تقتضي الإفاضة في أحاديث الوضوء في روايات المكثرين ؟ !
يبدو أنّ وراء المسألة أمراً خفيّاً ، خصوصاً بعد أن لا نرى للشيخين وضوءاً بيانيّاً في الباب !
أو لم يكن الشيخان من كبار القوم ، ومن السابقين في الإسلام . . . ؟ ؟
ثمّ . . ألم يكونا أفقه من عثمان ، وأشمل رؤية ، وأضبط رواية منه ؟
فإن كان الأمر كذلك . . فكيف يصحّ منهما أن يتركا موضوعاً عباديّاً في
(48)

غاية الأهميّة ، مع ما قيل عن شدّتهما في إيصال وتعليم الأحكام الشرعيّة إلى المسلمين ؟ !
وإذا سلّمنا أنّ حروب الردّة ، وفتح العراق والبحرين وغيرها قد شغلت أبابكر عن الاهتمام ببعض مسائل الشريعة ، فهذا ما لايمكن التسليم به بالنسبة إلى الخليفة الثاني ، الذي نقل عنه بأنه كان يحمل درّته ويدور في الأسواق والشوارع والأزقّة ، ليصلح ما قد يرى من فساد اجتماعيّ ، وليعلّم الناس ما يُفترص أن يتعلموه من أحكام وآداب وسنن ، وكان يهتّم أيّما اهتمام بمسائل الفقه فيحلّها ، وإذا استعصت عليه بعض المسائل ، نراه يجمع كبار الصحابة ويستشيرهم ، ويبحث معهم تلك المسألة ، ثمّ يخرج بالنتيجة الفقهيّة المتوخاة من البحث ، فتراه يطرح البحوث العلميّة الفقهيّة على الصحابة ممّن عاصروه ، أمثال : عليّ ين أبي طالب ، وعبد الله بن عبّاس ، والزبير ، وطلحة ، وعبد الله بن مسعود ، وغيرهم من كبار الصحابة .
فإذا كان ثمّة اختلاف أو إبهام في الوضوء في الصدر الأوّل . . فلم لم تطرق هذه المسألة المهمّة مجالس أُولئك الصحابة ؟ !
إنّ هذا ليؤكّد بوضوح استقرار المسلمين في الوضوء أثناء تلك المرحلة الزمنيّة من الإسلام . . بل المسألة كانت من البداهة والشيوع بحيث أصبحت من أوّليّات الرسالة المحمّديّة ومسلّماتها التي عرفها الجميع بما ينبعي ، دون أدنى شكّ أو ترديد أو التباس .
ومن الواضح أنّ الصحابي الذي لا يعرف الوضوء ، أو تراه يسأل عن كيفيّته ، يعدّ متهاوناً ومتساهلاً في الدين ، بل ويكشف سؤاله عن التشكيك في صلاته وعباداته ، وأنّه مُدّع للصحبة ليس إلاّ ، إذ كيف يعقل أن يصاحب رجلٌ النبيّ ، وهو لا يعرف وضوءه ولا أُصول دينه وفروعه وآدابه وسننه وواجباته مع كون النبيّ قد عاش بين ظهرانيهم ثلاثاً وعشرين سنة !

(49)

وإذا قيل لنا : إنّ فقيهاً من فقهاء المسلمين في زماننا الحاظر لا يعرف تفاصيل الوضوء ، أو أنّه يسأل عنها . . فإنّنا والحال هذه : إمّا أن لا نصدّق ما قيل عنه ؛ أو أن نرميه بالجهل ، رغم بعده عن عصر الرسالة بأربعة عشر قرناً .
فكيف يا ترى يمكننا تصوّر ذلك في صحابي ، بل في صحابة قد عاشوا مع النبيّ ورافقوه سفراً وحضراً ورأوه بأُمّ أعينهم يمارس عباداته وطقوسه التي فرضها الله عليه وعليهم ؟ !
نعم ؛ نحن لا ننكر أن يكون نقل الراوي لصفة وضوء رسول الله ، أو سؤاله عن بعض خصوصيّات الأحكام جاء لتعليم الآخرين ، لكنّنا نعاود السؤال ونقول : لماذا لايروي عنه(ص) الأحاديث الوضوئيّة الصحابة المكثرون ؟ ومن لهم دور مهم في تاريخ الاسلام غير الخليفة عثمان بن عفّان ! !
ومن هنا ـ وطبقاً لما ذكرناه ـ نقول قانعين : إنّ الاختلاف لم يدبّ بين المسلمين في تلك الحقبة من عصر الإسلام ، بل نشأ في عهد الخليفة الثالث ، الذي وردت عنه نصوص بيانيّة ـ تتجاوز الآحاد ـ في صفة وضوء النبيّ (ص) . ولو دقّق الباحث اللبيب النظر فيها لرآها تتضمّن الكثير من الإشارات الدالّة على حدوث الاختلاف في زمنه .
أضف إلى ذلك أنّ عثمان كان يستغلّ كلّ الفرص المؤاتية ليري الناس وضوءه ، ويحول التأكيد عليه بشتى الأساليب ـ كما سترى ـ .
والآن لنتعرّف على البادئ بالخلاف ، وهل أنّ وضوءه هو وضوء رسول الله ؟
وكيف بدأ الشقّ في الصفّ الإسلاميّ ، ولِمَ ؟

من هو البادئ بالخلاف ؟

نرجع إلى بعض التساؤلات السابقة فنقول :
يُفترض مبدئيّاً كون الميل والانحراف أو الخطأ في التفكير المستتبع للخطأ

(50)

في السلوك العمليّ ، إنّما ينتج عن هفوات وزلاّت عامّة الناس ؛ ويكون دور الحاكم في هذه الحال دور المقوّم والمصحّح لما يحدث من خطأ أو شذوذ في التفكير أو في المنهج العمليّ ، حيث نرى الأُمم في شتى مراحل تطوّرها تؤمّر على نفسها أو يتأمّر عليها من يتوخّى منه أن يقيم الأود ويشدّ العمد ، ويحافظ على مسار الأُمّة ، ويدافع عن أفكارها وآرائها .
لكنّ الدلائل والمؤشّرات في أمر الوضوء تقودنا إلى غير ذلك ، لأنّ « الناس » المخالفين هذه المرّة هم عن أعاظم الصحابة وفقهاء الإسلام(1) ، وليس فيهم من هو أقلّ من الخليفة الثالث من حيث الفقه ، والعلم ، والحرص على تقويم المجتمع والمحافظة على معالم الدين الإسلاميّ من أيدي التحريف والتخليط واللبس . . كما أنّهم ليسوا من عامّة الناس المكثرين من الأغلاط وغير المتفقهين في الدين ، وهم ليسوا من متأخّري الإسلام من الصحابة الذين لم يعيشوا طويلاً مع النبيّ(ص) ، بل العكس هو الصحيح ، إذ إنّهم على قدر من الجلالة والعظمة ، يجلّون معها عن أن يحتاجوا إلى من يقوّمهم ويشرف على ما رأوه ورووه عن النبيّ(ص) . . وسنفصّل لك لا حقاً أسماءهم وأحوالهم لتطّلع عليها .
ومن الأُمور التي تزيد المدعى وضوحاً وتؤكّد على أنّ الخليفة عثمان بن عفّان وراء مسألة الوضوء هو الجرد الإحصائيّ ، الذي توصلنا من خلاله إلى أنّ مرويّات الوضوء الثلاثيّ الغسليّ (2) الصحيحة السند ، إنّما تنحصر في :
1ـ عثمان بن عفّان .
____________
(1) ستقف على أسمائهم في ص 119 .
(2) سيمرّ بك من الآن فصاعداً مصطلحان :
الأوّل : الوضوء الثلاثيّ الغسليّ = وضوء الخليفة عثمان .
الثاني : الوضوء الثنائي المسحيّ = وضوء الناس المخالفين لعثمان .
وإنا قد انتزعنا عنا هذين المصطلحين من إشهاد الخليفة للصحابة عليهما ، وستقف على تفاصيله في آخر هذا الباب .