2 ـ عبد الله بن عمرو بن العاص .
3 ـ عبد الله بن زيد ين عاصم .
4 ـ الرّبيّع بنت معوّذ .
علماً أنّ المروي عن عبد الله بن زيد بن عاصم هنا يعارض ما أخرجه ابن أبي شيبة عنه ، بأنّ رسول الله مسح رأسه ورجليه مرتين
(1) .
وكذا الحال بالنسبة للربيّع بنت معوّذ ، فإنّ ابن عبّاس ناقشها في وضوئها الغسليّ ؛ وقال : يأبى الناس إلاّ الغسل ، ولانجد في كتاب الله إلاّ المسح
(2) . وهو يشعر بعدم قبول اهل البيت بنقلها .
بهذا انحصر الوضوء الثلاثيّ الغسليّ في عثمان بن عفّان ، وعبد الله بن عمرو بن ابن العاص .
هذا بالنسبة إلى الروايات الصحيحة ؛ وثمّة روايات ضعيفة سنداً ونسبة ، يلزم مناقشتها . . منها : ما روي عن عليّ وابن عبّاس ، فإنها على الرغم من سقوط أسانيدها عن الاعتبار ، تتعارض مع ما تواتر عنهما بصحاح المرويّات الدالّة على تبنيهما الوضوء الثنائيّ المسحيّ ، والمؤكّدة على اعتراضهما على من ينسب الوضوء الثلاثيّ الغسليّ إلى النبيّ(ص) ، كما فعله ابن عبّاس مع الربيّع بنت معوّذ ، والذي مرّ عليك قبل قليل .
علماً بأنّ أصحاب الاتجاه الوضوئيّ الجديد ينسبون كلّ آرائهم في الوضوء إلى عليّ بن أبي طالب ، وطلحة ، والزبير ، وغيرهم من الصحابة المعارضين ! !
وسنتعرّض لبعض النماذج من ذلك في الصفحات القادمة ، إن شاء الله تعالى .
هذا وقد عدّ الترمذيّ أسماء الصحابة الذين رووا عن رسول الله وضوءاً
____________
(1) المصنّف 1 : 18| 4 .
(2) كنز العمّال 9 : 432| 26837 .
(52)
بيانيّاً ، في باب [ ما جاء في وضوء النبيّ كيف كان ] فقال ـ بعد نقله حديثاً عن عليّ ـ :
وفي الباب عن عثمان ، وعبدالله بن زيد ، وابن عبّاس ، وعبد الله بن عمرو ، والربيّع ، وعبد الله بن أنيس ، وعائشة رضوان الله عليهم
(1) .
وقد عرفت أخي المطالع حال ستّة من المذكورين آنفاً ، فلم يبق من العدد الذين ذكرهم الترمذيّ سوى :
1 ـ عبد الله بن أنيس .
2 ـ عائشة .
وقد قال المباركفوريّ في شرحه على الترمذيّ ، بعد إرجاعه أحاديث الباب إلى مصادرها في الصحاح والسنن : وأمّا حديث عبد الله بن أنيس ، فلينظر من أخرجه ؛ وأمّا حديث عائشة ، فلم أقف عليه
(2) .
وبذلك أمكننا التعرفّ أجمالاً على أحاديث الباب وأنّه ينحصر في عثمان ابن عفّان وعبد الله بن عمرو بن العاصّ ، وستقف على دور عثمان في الوضوء وروايته لها ، مع أنّ المفروض أو المحتمل القريب ـ كما هو في غالب أحكام الدين ـ أن يروي الوضوء أصحاب النصيب الأوفر والمكثرون من الرواة والصحابة الأقدمون والمقرّبون من النبيّ (ص) ، لا أن يختصّ بعثمان وذلك النفر القليل جدّاً !
نعم . . لو كان البادئ بالخلاف الوضوئيّ هم الناس من الصحابة لاقتضى السير الطبيعيّ أن يقف رواة الحديث ـ من كبار الصحابة وفقهائهم ـ بوجههم فيروون ما رأوه من النبيّ (ص) وما سمعوه . . في حين لا نرى من مرويّات ذلك
____________
(1) سنن الترمذيّ 1 : 34 ذيل حديث 48 .
(2) تحفة الاحوذيّ لشرح الترمذيّ 1 : 136 . أما حديث عبد الله بن انيس فقد رواه الطبراني في الاوسط ـ كما في مجمع الزوائد للهيثمي 1 : 233ـ اما حديث عائشة فيمكن ان يكون الذي اخرجه النسائي في سننه 1 : 72 .
(53)
الرهط من الصحابة إلاّ ما تخالف مرويّات عثمان أو لا تؤيّدها
(1) ، وهي بمجموعها لا تعادل عُشر ما رواه عثمان بمفرده في الوضوء ! إذن في الأمر شيء ! . . فما عساه أن يكون ؟
وهذه قائمة لأسماء الصحابة المكثرين من الرواية ، وعدد مرويّاتهم في الوضوء البيانيّ ووصفهم لصفة وضوء رسول الله (ص) :
التسلسل |
اسم الصحابيّ |
مجموع الاحاديث المرويّة عنه (ص) |
مرويّاته في الوضوء البيانيّ للنبيّ (ص) |
الملاحظات |
1 |
أبو هريرة الدوسيّ |
5374 |
/ |
|
2 |
عبد الله بن عمر بن الخطّاب |
2630 |
/ |
|
3 |
أنس بن مالك |
2286 |
/ |
|
4 |
عائشة |
1210 |
/ |
نسبو الها وضوءاً ، أنكر المباركفوري كون المحكي وضوءاً بيانيّاً . |
5 |
عبد الله بن العبّاس |
1660 |
|
له عدّة أحاديث بعضها مسحيّ ؛ والباقيّة غسليّة(2) |
6 |
أبو سعيد الخدريّ |
1170 |
/ |
|
7 |
جابر بن عبد الله الأنصاريّ |
1540 |
/ |
|
8 |
عبد الله بن مسعود |
848 |
/ |
|
9 |
عبد الله بن عمرو بن العاص |
700 |
|
له روايات صحيّة وغسلية |
10 |
عليّ بن أبي طالب |
537 |
|
له عدّة أحاديث في الوضوء ، بعضها مسحيّة ثنائيّة الغسلات ، والبواقي غسلية(3) |
11 |
عمر بن الخطّاب |
527 |
/ |
|
12 |
أمّ سلمة أُمّ المؤمنين |
378 |
/ |
|
13 |
أبو موسى الأشعريّ |
360 |
/ |
|
14 |
البراء بن عازب |
305 |
/ |
|
____________
(1ـ3) سنوضح ذلك في الجانب الروائي .
(54)
التسلسل |
اسم الصحابيّ |
مجموع الاحاديث المرويّة عنه(ص) |
مرويّاته في الوضوء البيانيّ للنبيّ (ص)
|
الملاحظات |
15 |
أبو ذرّ الغفّاريّ |
281 |
/ |
|
16 |
سعد بن أبي وقّاص |
271 |
/ |
|
17 |
أبو أمامة الباهليّ |
250 |
/ |
|
18 |
حذيفة بن اليمان |
200 |
/ |
|
19 |
سهل بن سعد |
188 |
/ |
|
20 |
عبادة بن الصامت |
181 |
/ |
|
21 |
عمران بن الحصين |
180 |
/ |
|
22 |
أبو الدرداء |
179 |
/ |
|
23 |
أبو قتادة |
170 |
/ |
|
24 |
بريدة الأسلميّ |
167 |
/ |
|
25 |
أُبي بن كعب |
164 |
/ |
|
26 |
معاوية بن أبي سفيان |
163 |
/ |
|
27 |
معاذ بن جبل |
155 |
/ |
|
28 |
عثمان بن عفّان |
146 |
|
له ما يقارب من عشرين حديثاً في الوضوء . |
29 |
جابر بن سمرة الأنصاريّ |
146 |
/ |
|
30(1) |
أبوبكر |
142 |
/ |
|
الملاحظ في الجدول الإحصائيّ المذكور أنّ أحداً من المكثرين من الصحابة ، والخلفاء الثلاثة ـ أبي بكر وعمر وعليّ ـ وأُمّهات المؤمنين ، وموالي النبيّ . . لم يرو في الوضوء البيانيّ ، إلاّ عليّ بن أبي طالب ، وعبد الله بن عبّاس .
وأمّا عثمان صاحب الـ [ 146 ] حديثاً ، فيتصدرّ بـ (ما يقارب من عشرين رواية)
(2) في الوضوء البيانيّ !
نعم . . يتصدّر القائمة بتلك النسبة الهائلة ، مع قلّة مرويّاته بالنسبة لكبار الصحابة وفقهائهم ، الذين خالفوه في اتجاهه ، وبذلك يرجح أن يكون عثمان هو
____________
(1) التسلسل المذكور عن كتاب : أسماء الصحابة الرواة وما لكلّ واحد منهم من العدد ، لا بن حزم الأندلسيّ ، أمّا مرويّاتهم في الوضوء البيانيّ فتابع لجردنا .
(2) سنفصّل ذلك في الجانب الروائي من هذه الدراسة .
(55)
المتبني والمروّج لفكرة الوضوء الثلاثيّ الغسليّ دون بقيّة الصحابة والفقهاء .
وممّا يزيد المرء حيرة ودهشة هو زيادة روايات عثمان في الوضوء البيانيّ حتّى على أبي هريرة صاحب الرقم الأعلى في المرويّات [ 5374 ]
(1) ، والمعروف بأنّه لم يترك شاردة ولا واردة ـ صغيرة كانت أم كبيرة ـ إلاّ ورواها عن النبيّ الأكرم (ص) ، وزاد على ابن عمر ، صاحب لـ [ 2630 ] رواية ؛ وجابر بن عبدالله الانصاري ، صاحب لـ [ 1540 ] رواية ؛ وعائشة ، صاحبة لـ [ 1210 ] رواية ؛ وأنس ، صاحب لـ [ 2286 ] رواية ؛ وأبي سعيد الخدريّ ، صاحب لـ [ 1170 ] رواية ؛ وعبد الله بن مسعود ، صاحب لـ [ 848 ] رواية ؛ وعمر بن الخطّاب ، صاحب لـ [ 527 ] رواية . . . الخ !
ولا نفهم من هذه الظاهرة إلاّ التأكيد لما قلناه ، المتلخصّ في : تأسيس عثمان لاتجاه وضوئي ما كان متعارفاً عليه قبله ، وصار من بعد ذلك مدرسة وضوئيّة مستقلّة تخالف ما كانت عليه سيرة المسلمين باتّباعهم وضوء النبيّ(ص) .
وقد حاول الإمام عليّ أثناء خلافته بكلّ ما يمكن بيان الوضوء الصحيح روايةً ، وعملاً ، وكتابةً إلى عمّاله في الأمصار
(2) ، لكنّه ـ مع كلّ ذلك ـ لم يصل في رواياته الوضوئيّة لذلك العدد الذي اختصّ به عثمان دون غيره !
نرجع قليلاً . . فنقول : لو أنّ « الناس » كانوا هم البادئين بالخلاف ، لاندفع الرواة المكثرون ـ بدافع الحرص على الدين ـ لتبيان وضوء النبيّ ، كما فعلوا ذلك من قبل مع مانعي الزكاة . . ولأسقطوا به التكليف عن الخليفة في مواجهتهم .
فقد وردت روايات كثيرة عن كبار الصحابة في ذكر عقوبة ما الزكاة وحرمة منهم ، عليّ بن أبي طالب ، أبوهريرة الدوسيّ ، عبد الله بن
____________
(1) سنذكر حديثه في مبلغ حلية المؤمن وكيفيّة وضوئه في الجانب الثالث من هذه
الدراسة(وضوء في الكتاب واللغة) .
(2) بحثنا هذه الأُمور من ص 124 إلى ص 146 من هذا الكتاب .
(56)
مسعود ، جابر بن عبد الله الأنصاريّ ، أبو ذرّ الغفاريّ ، أنس بن مالك ، وغيرهم من مشاهير الصحابة . . وهي الحالة الطبيعيّة المتّبعة في جميع الديانات والمذاهب على مرّ العصور ، وسارت عليها سيرة المسلمين في شتّى مجالات الدين ، وبالخصوص في أبواب الفقه ومسائله الشرعيّة ؛ فلماذا نجد شذوذاً عن هذه القاعدة المتعارف عليها هنا ؟ . . ألا تجعلنا نتّخذ موقف الشكّ والريبة وعدم الاطمئنان بمرويّات الخليفة وأنصاره ، وتدعونا بدافع الحرص والأمانة للوصول إلى حقيقة الحال .
فنقول : لو كان غيره البادئ بالخلاف ، لكان بوسع الخليفة بما له من قوّة تشريعيّة وتنفيذيّة أن يحسم النزاع بإحدى طرق ثلاث :
الأُولى : استعمال أُسلوب الردع الحاسم
فقد ثبت بين المسلمين أنّ من حقّ الإمام : ردع المخالفين ؛ وتأديب الخاطئين
(1) ؛ وتعزير المنحرفين بما يراه صلاحاً في الدنيا والدين .
الثانية : طلب النصرة .
بأن يستنصر المسلمين استنصاراً عامّاً ليقضي على ما أدخله أُولئك في الدين ، وإعلان ذلك على منبر النبوة ، كما فعل ذلك أبوبكر بأهل لاردّة ومدّعي النبوّة ، وأن لا يختصّ بجماعات صغيرة في الاشهاد ، أي يلزم على الخليفة الاستفادة من الفهم العرفي العام عند المسلمين لنبذ البدعة .
الثالثة : المطالبة بالدليل (المحاجّة) .
بأن يطالب الخليفة « الناس » بأدلّتهم ، ليبيّن بذلك زيف ادّعائهم ، لأنّها ـ على فرض كونها بدعة ـ سيعوزها الدليل ويقف الجميع على عدم صلتها بالدين وبعدها عن جذور الشريعة
(2) ، وبذلك سوف يعيى أربابها أمام ما
____________
(1) كما فعل عمر بن الخطاب مع صبيغ بن عُسل الحنظلي العراقي ، انظر الاصابة : 165 ، والدارمي ح 146 ، والبدع لابن وضاح : 69 ، ودر التعارض 7 : 172 ، كما في حقيقة البدعة للغامدي 1 : 114 .
(2) كفعل ابن عباس مع الخوارج ، انظر البداية والنهاية 7 : 297 ، وجامع بيان العلم وفضله 2 : 126 .
(57)
يدّعيه المسلمون عامّة وستصبح أُضحوكة وستمحى ، لتضافر السلطة مع عامّة الصحابة ضدّها .
والمثير للدهشة هنا ، أنّ الخليفة الثالث لم يتّخذ أيّاً من هذه الإجراءات الثلاث ، بل والأغرب من ذلك . . نراه يلتجئ إلى طريقة معاكسة لما يفترض لعلاج مثل هذه المسألة ، فقد تصرّف وكأنه متّهم مشارإليه ، وذلك باتّخاذه موقف الدفاع ، والتشبّث بكلّ صغيرة وكبيرة لدعم فكرته . . وكأنّ الوضوء ليس من العبادات الواضحة في الشريعة ، كما سترى لاحقاً ! !
نعم ؛ قد اتّجه الخليفة إلى الطريقة الأولى ، ولكن لا كما تتطلّبه مصلحة الدين والملّة ، بل لتحصين فكرته الخاصّة به ، فقد كانت القوّة طريقته المثلى باطّراد لتثبيت أفكاره وإسكات معارضيه طيلة سني حكمه الاثنتي عشرة ، لأنه يرى في القوّة الأُسلوب الأنجح والاكثر ترويضاً ، ولذا نراه قد استخدمه حتّى في أبسط وأقل المسائل أهميّة ، وسخّره بنطاق واسع في قمع معارضيّه الفكريين ، مع احتمال كونهم أقرب منه إلى الحقّ ، وهو أبعد عنه بمسافات شاسعة !
لو قلنا : إنّ كلاالفكرتين متوازيتان ، أو إنّ فكرة الخليفة هي الأرجح ، فأين وجه الصواب باستخدام القوّة بذلك النطاق الواسع ، مع وجود باب الحوار والنقاش مفتوحاً على مصراعيه ؟ !
ونحن لا نريد بهذه العجالة أن نقدّم جرداً إحصائيّاً عن سياسة العنف التي اتّبعها الخليفة مع الصحابة وانك ستقف على بعضها لاحقاً ، ومن تلك أنه سيّر في سنة (33هـ) نفراً من أهل الكوفة إلى الشام ، وذلك لاعتراضهم على سياسة سعيد بن العاص في تفضيل قريش وجعله السواد بستاناً لقريش
(1) .
وسيّر قبلها أبا ذرّ إلى الربذة ، ومنع ابن مسعود من القراءة ، وضرب عمّار
____________
(1) تاريخ الطبريّ 4 : 318 ، الكامل في التاريخ 3 : 137 ، البداية والنهاية 7 : 173 .
(58)
ابن ياسر وداس في بطنه حتّى أصابه الفتق
(1) .
وقيل : بأنّ عثمان ـ لمّا بلغه موت أبي ذرّ ـ قال : رحمه الله !
فقال عمّار بن ياسر : نعم ؛ فرحمه الله من كلّ أنفسنا .
فقال عثمان : يا عاضّ أير أبيه ، أتراني ندمت على تسييره ؟ ! وأمر ، فدفع في قفاه ؛ وقال : إلحق بمكانه ! فلمّا تهيّأ للخروج ، جاءت بنو مخزوم إلى عليّ فسألوه أن يكلّم عثمان فيه .
فقال له عليّ : يا عثمان ! اتّق الله فإنّك سيّرت رجلاً صالحاً من المسلمين فهلك في تسييرك ،
ثمّ أنت الآن تريد أن تنفي نظيره ؟ !
وجرى بينهما كلام . . . حتّى قال عثمان : أنت أحقّ بالنفي منه !
فقال عليّ : رم ذلك إن شئت . . واجتمع المهاجرين ؛ فقالوا : إن كنت كلّما كلمك رجل سيّرته ونفيته ! فإنّ هذا شيء لا يسوغ . . فكفّ عن عمّار
(2) .
نعم ؛ لولا مخالفة الإمام عليّ والمهاجرين لسياسته الضاغطة ، لما كفّ عن عمّار بن ياسر ، لأنّه قد اتّخذ من تلك السياسة طريقاً لفرض آرائه ، فإنّ كلّ تلك الشدّة والصرامة التي مارسها عثمان ضدّ كبار الصحابة وفقهائهم وعبّادهم وزهّادهم ومتّقيهم ، إنّما جاءت لكونهم خالفوه في قضيّة قراءة القرآن ـ كما لوحظ في قضية ابن مسعود وكسر أضلاعه ـ ، أو في كيفية توزيع الأموال والفيء ـ كما هو المشاهد مع أبي ذرّ وغيره ـ ، أو لأنّ أحدهم خالف فتوى كعب الأحبار الموافقة لرأي الخليفة ـ كما جاء في ردّ أبي ذرّ لكعب وقوله له : با ابن اليهوديّة ما أنت وما . . .
(3) ـ ، أو لأنّ أحدهم لا يرى فضلاً لبني العاص ، ناهيك عمّن ينال منهم أو يروي حديثاً ضدّهم . . . وما إلى ذلك الكثير .
____________
(1) أنساب الأشراف 5 : 48 ـ 49 ، شرح النهج لابن أبي الحديد 3 : 47 و49 و50 .
(2) أنساب الأشراف 5 : 55 .
(3) انظر : تاريخ الطبريّ 4 : 284 ، الكامل في التاريخ 3 : 115 ، وشرح النهج لابن أبي الحديد 3 : 54 .
(59)
وبعد هذا . . لانجد أحداً يشكّ بسياسة العنف التي ما رسها عثمان ضدّ عظماء الصحابة وفضلائهم دفاعاً عن آرائه ، فإذا ثبت ذلك . . نتساءل :
لماذا لا نرى أيّ بادرة عنف من الخليفة تجاه مخالفيه في مسألة الوضوء ، على الرغم من ادّعائه أنّ وضوءه هو وضوء رسول الله (ص) ؟ !
فلو صحّ . . للزم أن يكون وضوء المسلمين هو وضوء الخليفة ، وبذلك لاندحر « الناس » بوضوئهم ، ولكفى المسلمون الخليفة مؤنة الصراع معهم ، ولما تكلّف ما تكلّف .
ويزيد الاستنتاج وضوحاً ما نقل عن الخليفة من مراقبته لجزئيّات الوضع ـ ومعاقبة الظالمين والمنحرفين
(1) .
وذات مرّة . . استخفّ رجل بالعبّاس بن عبد المطلّب ، فضربه عثمان ، فاستحسن منه ذلك ؛ فقال : أيفخّم رسول الله (ص) عمّه وأرخّص في الاستخفاف به ! لقد خالف رسول الله (ص) من فعل ذلك ورضي به
(2) .
فكيف بنا نوفقّ بين غيرة الخليفة على الدين ، وشدّة محافظته على احترام عمّ النبيّ (ص) ـ لأنّه رأى النبيّ(ص) يعظّمه ويفخّمه ـ التي جعلته يحكم بأنّ الفاعل للاستخفاف ، والراضي به ، مخالفٌ للرسول (ص) . . وبين ما نراه يفعل بالوضوء ؟ !
فكيف بمن خالف أمراً دأب عليه رسول الله (ص) ثلاثاً وعشرين سنة من عمره الشريف ، وأكّد عليه مراراً وتكراراً ، وبلّغ عن ربّه أنّه نصف الإيمان ، وأنّ الصلاة موقوفة عليه ؟ مع ضخامة المخالفة ، فالخليفة الثالث لم يتّخذ أيّ إجراء حاسم ضدّ من توضّأ بخلاف ما هو عليه ، على الرغم من أنّ هذه
____________
(1) كما فعل مع الذين اطاروا الحمام والجلاهقات ، انظر تاريخ الطبريّ 4 : 398 ، الكامل في التاريخ 3 : 181 ، البداية والنهاية 7 : 224 ، المنتظم 4 : 338 .
(2) تاريخ الطبريّ 4 : 400 ، الكامل في التاريخ 3 : 182 .
(60)
المعارضة الوضوئيّة كانت حديثاً شائعاً قد اندلعت ضدّه ، لقوله (انّ ناساً يتحدّثون . . .
(1)) !
نعم ، إنّه لم يتّخذ نفس الموقف الذي اتّخذه الخليفة الأول في تحشيد المسلمين ضدّ مانعي الزكاة ، ثمّ مقاتلتهم بلا هوادة ، حتّى نسبوا إلى الارتداد والخروج عن الدين . . فعادوا صاغرين لأداء الزكاة ـ رغبة أو رهبة ـ وتسليمها للخليفة الأوّل ؛ وذلك بعد أن أفهم أبوبكر المسلمين رأيه في ذلك ، وقف الكثير منهم إلى جانبه ، على الرغم ما لبعضهم كـ [ مالك بن نويرة ] من إذن من النبيّ (ص) في أخذ الزكاة والصدقات وتوزيعها على محتاجي قومه ومعوزيهم .
وإذا توغّلنا في التاريخ بعين فاحصة فسنجد حتّى خاصّة عثمان ومؤيّديه في حكومته ، كزيد بن ثابت والمغيرة بن شعبة لم يتجرّؤوا أن ينقلوا وضوءات تشبه وضوء خليفتهم ! بل ولم ينقل عنهم أيّ ردّ فعل تجاه مدرسة الناس الآخرين في الوضوء النبويّ
(2) . . .
وبقي عثمان ـ مع نفر يسير ـ يؤكّد ما رآه من وضوء ، ونسبه عنوة لرسول الله (ص) ، وراح يضفي على اتّجاهه الوضوئيّ العناية والاهتمام ، بعد أن تمكّن من تسخير هذه المجموعة الضئيلة لمصلحته ، وأنّها قد لا تكون في حساب الحقيقة والتأثير أيّ شيء في قبال ذلك المدّ العارم الذي وقف بوجهه متحدّياً وطالباً بكلّ قوّة وأمانة رجوعه إلى الكتاب والسنّة . . .
ومع ذلك كلّه لم يقو عثمان على محاججة ولو شخص واحد من أتباع المدرسة الأخرى ، ليفند رؤيته الوضوئيّة على ملأ من المسلمين ؛ بل ولم يقو على التصريح باسم واحد منهم ليجعله محطّ ردود فعل المسلمين تجاه من
____________
(1) وبهذا نعرف أنّ الخليفة لم يستنصر المسلمين استنصاراً عامّاً ـ كما هو المتوقّع ـ بل الستنصر أفراداً واختصّ بهم ، شأن من يبذر فكرة جديدة ويريد الاستنصار له ، فالاشهاد هنا يختلف عن الاشهاد في الملأ العامّ ، وأنّ الاستنصار الجزئيّ يختلف عن الاستنصار العامّ الشامل ! !
(2) هذا ما سيتّضح لك بالارقام لاحقاً .
(61)
سيرويه عن النبيّ الأكرم (ص) ! !
بعض أساليب عثمان في الإعلان عن الوضوء الجديد :
عن أبي علقمة ، عن عثمان بن عفّان أنّه دعا يوماً بوضوء ، ثمّ دعانا ناساً من أصحاب رسول الله (ص) ، فأفرغ بيده اليمنى على يده اليسرى وغسلها ثلاثاً ، ثمّ مضمض ثلاثاً ، واستنشق ثلاثاً ثم غسل وجهه ثلاثاً ، ثمّ غسل يديه ثلاثاً إلى المرفقين ، ثمّ مسح برأسه ، ثمّ غسل رجليه فأنقاهما ؛ ثمّ قال : رأيت رسول الله (ص) يتوضّأ مثل هذا الوضوء الذي رأيتموني توضّأته ، ثمّ قال : من توضّأ فأحسن الوضوء ، ثمّ صلّى ركعتين ، كان من ذنوبه كيوم ولدته أمّه ؛ ثمّ قال : أكذلك يا فلان ؟
قال : نعم .
ثمّ قال : أكذلك يا فلان ؟
قال : نعم .
حتّى استشهد ناساً من أصحاب رسول الله (ص) ؛ ثم قال : الحمد لله الذي وافقتموني على هذا
(1) .
يوقفنا هذا النصّ على بعض الأساليب التي اتبعها عثمان في ترسيخ اتجاهه الوضوئيّ وهو : دعوته لبعض من الصحابة في فترات متعاقبة ليريهم وضوءه !
وهنا . . نتساءل : هل الصحابة في حاجة لرؤية وضوء الخليفة ، أم أنّ الغاية من إشهادهم على الوضوء تتعلق بإسكات أفواه المعارضة ؟
كيف يمكن لنا أن نتصوّر صحابيّاً لا يعرف وضوء النبيّ (ص) بعد مضي ما يقارب نصف قرن من ظهور الإسلام ؟ !
____________
(1) كنز العمّال 9 : 441|26883 ، عن الدارقطنيّ 1 : 85| 9 .
(62)
وإذا فرضنا حصول ذلك ، فهل يجوز لنا أن نسمّيه صحابيّاً ؟
ثمّ . . لماذا ذلك السعي الحثيث من قبل عثمان لتعليم المسلمين وضوءه ؟
ولماذا لم يفعل ذلك كلّ من الخليفتين أبي بكر وعمر . . ألم يكونا أولى منه بتعليم الوضوء ، إن كان ضروريّاً ؟
نستفيد من النصّ المذكور أمرين آخرين :
الأوّل :
قوّة معارضي عثمان ، وسعي الخليفة في الاستنصار ببعض أصحابه وخاسّبه لتأييده فيما يرويه ويحكيه عن رسول الله (ص) .
الثاني :
ضعف موقف الخليفة وعجزه أمام « الناس ! . . » ويستشفّ ذلك من نقطتين :
الاُولى :
اتخاذه سياسة الدفاع ، لا الهجوم كما هو المشاهد في حديث حمران السابق ، بقوله : « لا أدري ما هي ؟ ! إلاّأنيّ رأيت رسول الله يتوضّأ نحو وضوئي » ، وما رواه أبو علقمة : « دعا ناساً من أصحاب رسول الله » ، وقوله : « الحمد لله الذي وافقتموني على هذا » ، وغيرها من النصوص الدالّة على الضعف ـ ممّا ستقف عليه لاحقاً ـ بالإضافة إلى تجنيده مواليه ـ كحمران وابن دارة ـ لنقل أخبار وضوئه للناس والتأكيد على أنّ ذلك هو وضوء رسول الله ، محاولاً بذلك إقناع الناس ؛ فقد روى البيهقيّ : عن محمّد بن عبد الله بن أبي مريم : انّ ابن دارة سمع مضمضته ، فدعاه ليعلّمه بوضوء الخليفة ؛ وقوله : إنّه وضوء رسول الله
(1) .
وأخرج الدارقطنيّ بسنده إلى محمّد بن أبي عبد الله بن أبي مريم ، عن ابن دارة ؛ قال : دخلت عليه ـ يعني عثمان ـ منزله فسمعني وأنا أتمضمض ؛ فقال : يا محمّد !
____________
(1) سنن البيهقي 1 : 62 ـ 63 .
(63)
قلت : لبيك .
قال : ألاأحدّثك عن رسول الله (ص) ؟
قلت : بلى .
قال : رأيت رسول الله أتي بماء وهو عند المقاعد
(1) فمضمض ثلاثاً ، ونثر ثلاثاً ، وغسل وجهه ثلاثاً ، وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً ، ومسح رأسه ثلاثاً ، وغسل قدميه ثلاثاً ثلاثاً ؛ ثمّ قال : هكذا وضوء رسول الله (ص) أحببت أن أريكموه !
(2)
وفي حديث آخر عن عمر بن عبد الرحمن قال : حدّثني جدّي : انّ عثمان بن عفّان خرج في نفر من أصحابة حتّة جلس على المقاعد ، فدعا بوضوء ، فغسل يديه ثلاثاً ، وتمضمض ثلاثاً واستنشق ثلاثاً ، وغسل وجهه ثلاثاً وذراعيه ثلاثاً ، ومسح برأسه واحدة ، وغسل رجليه ثلاثاً ، ثمّ قال : هكذا رأيت رسول الله توضأ ، كنت على وضوء ولكن أحببت أن أريكم كيف توضأ النبيّ(ص)
(3)
هذا وقد نقلت المعاجم والصحاح أحاديث أخرى عن جلوس الخليفة عند المقاعد
(4) وباب الدرب لتعليم المسلمين وضوء رسول الله !
الثانية :
عدم جرأة الخليفة على طعن الناس بالكذب أو البدعة أوالإحداث ، بل اكتفى بقول : « لاأدري » ، لعلمه بأنّ وضوء أُولئك هو وضوء رسول الله وأنّ في تحدّثهم عنه (ص) دلالة واضحة على مشروعيّة فعلهم ، وإنّه هو ذات العمل الذي كان في عهد النبيّ(ص) .
ولو كان عثمان يملك دليلاً واحداً ـ وإن كان ضعيفاً ـ لما توانى عن طعنهم
____________
(1) جاء في هامش صحيح مسلم 1 : 270 المقاعد : قيل هي دكاكين عثمان . وقيل : درج ، وقيل : موضع بقرب المسجد اتّخذه للقعود فيه لقضاء حوائج الناس والوضوء ونحو ذلك .
(2) سنن الدارقطنيّ 1 : 91| 4 .
(3) سنن الدارقطنيّ 1 : 93| 8 .
(4) منها ما في سنن الدارقطنيّ 1 : 85| 10 ، وسنن البيهقيّ 1 : 62 .
(64)
وردّهم بأقسى ردّ ، ولما اضطرّ لقول(لاأدري) وهو في حال صراع دائم معهم !
أليس من الغريب أن يقول (لا أدري) وهو الذي عاش مع النبيّ (ص) مدّة طويلة في المدينة ؟
وعليه . . يلزم اعتبار تجاهل الخليفة دليل ضعفه في قبال قوّة معارضيه ! !
فاتّضح ممّا سبق أنّ الخليفة عثمان بن عفّان لم ينتهج منطق القوّة والعنف ـ الذي مارسه ضدّ معارضيه عموماً ـ تجاه معارضية في مسألة الوضوء ، وإنّما نراه في منتهى الليونة والوداعة معهم ، مع كونهم من ألدّ خصومه ، وبيدهم ما يمكن إثارة الرأي العام ضدّه ، فنراه يطير فرحاً ويحمد الله إذا ما وافقه أحد الصحابة على وضوئه ، وحسبما نقلناه قبل قليل لأنّه توضّأ وذيّل وضوءه بقول النبيّ (ص) : (من توضّأ فأحسن الوضوء ، ثمّ صلّى ركعتين ، كان من ذنوبه كيوم ولدته أمّه) ؛ ثمّ قال : أكذلك يا فلان ؟ قال : نعم . ثمّ قال : أكذلك يا فلان ؟ قال : نعم . . . . حتّى استشهد ناساً من أصحاب رسول الله (ص) ؛ ثمّ قال : الحمد الله الذي وافقتموني على هذا
(1) .
وقد كان ديدن الخليفة غالبا تذييل ما يحكيه من صفة وضوء رسول الله (ص) ! وتثير هذه الظاهرة روح التحقيق عند الباحث . . إذ لماذا كلّ هذا التأكيد ؟ ولماذا لم نلاحظ هذا التذليل في المرويّات البيانيّة الأخرى المنقولة عن غيره من الصحابة في الوضوء ؟ فما سرّ ذلك الاختصاص به دون غيره يا ترى ؟
أمّا مطالبته أرباب المدرسة المخالفة له بأدلّتها ـ وهي الطريقة الثالثة للردع والردّ ـ فقد تغاضىعنها الخليفة وأحجم ، لعلمه أنّهم يمثّلون تيّاراً فكريّاً قويّاً وكبيراً نوعاً وكمّاً من جهة
(2) ، وأن لا طاقة له على محاججتهم من جهة أخرى . . فأعلام المدرسة المخالفة للخليفة على منزلة من الصحبة والسابقة والقدم والتفقه ، وقد
____________
(1) كنز العمال 9 : 441| 26883 ، سنن الدارقطنيّ 1 : 85| 9 .
(2) سيتّضح لك هذا حين دراستنا للجانب الروائي من هذه الدراسة .
(65)
رأوا بأمّ أعينهم كيفيّة وضوء رسول الله(ص) منذ بداية التشريع حتّى انتقاله (ص) إلى بارئه عزّ وجلّ ، ونقلوا ذلك للمسلمين ، وداوموا على فعله على الرغم من مخالفة الخليفة لذلك .
والأكثر غرابة . . أنّ الخليفة لم يقدّم أدلّته وبراهينه للمسلمين على صحّة وضوئه وسلامة فهمه ، بل اكتفى في نقله لوضوء رسول الله(ص) ، ولجأ إلى عمليّة إشهاد من يوافقه على صحّة نقله ! ومما يحتمل في الامران يكون الخليفة قد ألزم معارضيه بالشهادة على ذلك قسراً !
كلّ ذلك ينبئ عن كون الخليفة في موقف المفكّر الطارح لفكرة يعارضه عليها جمع غفير . .
فهو يشهد ويدلّل ، ويعضّد وضوءه بمرويّات متسالم عليها بين المسلمين ، في محاولةٍ منه لنقلهم من شيء معلوم إلى إثبات مجهول .
فعن حمران ؛ قال : أتيت عثمان بوضوء ، فتوضّأ للصلاة ، ثمّ قال : سمعت رسول الله (ص) يقول : من توضّأ فأحسن الطهور ، كفّر عنه ما تقدّم من ذنبه ؛ ثمّ التفت إلى أصحابه فقال : يا فلان ! أسمعتها من رسول الله ؟ . . حتّىأنشد ثلاثة من أصحابه ، فكلّهم يقول : سمعناه ووعيناه
(1) .
وعن عمرو بن ميمون ؛ قال : سمعت عثمان . . . يقول : قال رسول الله : من توضّأ كما أمر ، وصلّى كما أُمر ، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أُمّه . . ثمّ استشهد رهطاً من أصحابه ، النبيّ ، يقول : هذا ؟ قال : نعم
(2) .
ويقعد عثمان في المقاعد
(3) ويتوضّأ ويذيّل وضوءه بأحاديث عن إسباغ الوضوء وإحسانه ، ويكرّر ذات الفعل في باب الدرب ، ويشهد على ذلك من
____________
(1) كنز العمال 9 : 424| 26800 .
(2) كنز العمال 9 : 424| 26802 .
(3) انظر كنز العمّال 9 : 442| 26885 ، 26887 .
(66)
يرى رأيه وفقهه ، وبذلك ليقنع المشاهد بأنّ وضوءه هو الإحسان أو الإسباغ الذي أمر به الرسول (ص) .
وأنّما تدلّ تلكم المؤشّرات على أنّ عثمان بن عفّان هو المخترع للفهم الجديد وأنّ الأدلّة الشرعية التي طرقت فهمه وجعلته يعطي للوضوء أبعاداً جديدة ما كانت في ذهن المسلمين من قبل !
وراحت فكرة عثمان وأطروحته الوضوئيّة تتحرك بين أوساط المسلمين ، فلاقت قبولاً من البعض وذلك لما فيها من ظاهر (النظافة) ومن مبالغة في (القدسيّة) ومن عناية زائدة في الوضوء وغسلاته ومسحاته !
ولا يكشف ستار السرّعن سبب ضحك الخليفة الثالث وتبسّمه قبل وبعد وضوءاته الثلاثيّة المسبغة غاية الإسباغ ، ولا في استدعائه الحاظرين ليسألوه عن سبب ضحكه ، والحال أنّهم لا يرون له مبرّراً لا من قريب ولا من بعيد . . نعم ؛ لا يكشف الستار إلاّ إذا فهمنا أنّ الخليفة الثالث كان يريد استغلال الفرص ليلفت أنظار الحاضرين إلى وضوئه ، حتّى يسألوه عن مدى صحّة ما يرتئيه في ذلك . . ومن ثم يأتي دور إجاباته التي يروم بها كسب أكبر عدد ممكن من المؤيدين لمدرسته الوضوئيّة .
فعن حمران ؛ قال : دعا عثمان بماء فتوضّأ ، ثمّ ضحك . . فقال : ألاتسألوني ممّ أضحك ؟
قالوا : يا أمير المؤمنين ، ما أضحكك ؟ !
قال : رأيت رسول الله توضأ كما توضّأت ، فمضمض ، واستنشق ، وغسل وجهه ثلاثاً ، ويديه ثلاثاً ، ومسح برأسه وظهر قدميه
(1) .
وعن حمران ، قال : كنت عند عثمان ، فدعا بوضوء فتوضّأ ، فلمّا فرغ قال :
____________
(1) كنز العمّال 9 : 436| 26863 .
(67)
توضّأ رسول الله (ص) كما توضّأت ، ثمّ تبسّم ؛ وقال : أتدرون ممّ ضحكت ؟
قلنا : الله ورسوله أعلم !
قال : إن العبد المسلم إذا توضّأ فأتمّ وضوءه ، ثمّ دخل في صلاته فأتمّ صلاته خرج من الذنوب كما خرج من بطن أمّه
(1) .
وعن حمران ، قال : رأيت عثمان دعا بماء ، فغسل كفيه ثلاثاً ، ومضمض ، واستنشق ، وغسل وجهه ثلاثاً وذراعيه ثلاثاً ، ومسح برأسه وظهر قدميه ، ثمّ ضحك .
فقال : ألاتسألوني ما أضحكني ؟
قلنا : ما أضحكك يا أمير المؤمنين ؟ !
قال : أضحكني ، أنّ العبد إذا غسل وجهه حطّ الله عنه بكلّ خطيئة أصابها بوجهه ، فإذاغسل ذراعيه كان كذلك ، وإذامسح رأسه كان كذلك ، وإذا طهّر قدميه كان كذلك
(2) .
تدلّ هذه النصوص على أنّ الخليفة ولحدّ صدور هذه الأخبار عنه أنّه كان يمسح برأسه وظهر قدميه ، وسنعضد هذا المدعى بروايات أخرى لاحقاً إن شاء الله تعالى .
أمّا موضوع تبسّم الخليفة وضحكه فهو لا ينبئ فيما ترى عن فرحه بما للوضوء من أخبر عند الله ـ كما ادّعاه ويفهم من سياق الحديث وقول الخليفة ـ بل انّ في كلامه إشارة إلى أمر خفي أراد أن يختبر به أولئك الصحابة ، وذلك بإحداثه بعض الشيء في الوضوء . . فرأى منهم السكوت !
وسؤاله يحمل عامل إثارة . . فما هو ذلك ؟
____________
(1) كنز العمّال 9 : 439| 26872 (كر) .
(2) كنز العمّال 9 : 442| 26886 (حم والبزّاز حل ع وصحح) .
(68)
ربّما تكون النصوص السابقة ، وما جاء في صدر الدراسة « إنّ ناساً » هي المنعطف في تاريخ الوضوء ، وبمثابة المقدمة للإحداث الكلّي فيه ، فالخليفة أراد أن يختبر أثر ما رآه ورواه عن رسول الله ، باختراعه الغسلة الثالثة في غسل الأعضاء وجعلها جزءاً من وضوء رسول الله لما في ذلك من تعمّق وزيادة في الوضوء .
نعم ؛ أراد أن يتعرّف على تأثير هذا الإحداث ومدى تقبّل الصحابة له ، فهل سيواجه بانتقادهم له أم لا ؟ ؟ وإذا ما كانت الإمور مهيّأة له فسيلحقه بغسل الأرجل وغيرها ! !
إنّ المطالع في مصنّف ابن أبي شيبة ـ السالف الذكر ـ يتأكّد بأنّ ضحك الخليفة لم يكن لأجل ما للمؤمن من أجر ، إذا ما جاء فيها لم يذيّل بذلك . . . ولذا ، فلا يمكننا الحكم جزماً بأنّ سبب ضحك الخليفة هو من حطّ الذنوب عن المتوضئ وذلك لماعرفنا من ملابسات الأمور ! !
ولا ندري ما هو جواب عثمان عيما لو سئل عن سبب وسرّ ضحكه ، وعن علاقة الربط فيما بين الضحك والوضوء ؟ !
ثمّ لماذا لا يذيّل باقي الصحابة الناقلين لصفة وضوء رسول الله رواياتهم بألفاظ (الإسباغ) و (الإحسان) و . . . ؟
و لماذا لا نراهم يشهدون أحداً على وضوءاتهم ؟ !
وكيف بهم لا يتبسمون ـ ناهيك عن الضحك ـ قبل وبعد الوضوء ؟ !
ولم يختّص عثمان بنقل ضحك رسول الله دون غيره في أحاديث الوضوء ؟
هذا ، وقد أورد أحمد في مسنده ـ وكما قلنا ـ روايتين عن عثمان ، نسب عثمان فيهما ضحكه إلى أنّه قد رأى النبيّ (ص) ضحك بعد وضوئه وقال لأصحابه : « ألا تسألوني ما أضحكني » مبرراً بذلك ضحكه ودافعاً لكلّ إيهام قد يرد في
(69)
ذهن السامع ، وإنّا نعلم بأنّ نقل عبارة « إنّ العبد إذا دعابوضوء فغسل وجهه حطّ الله عنه كلّ خطيئة أصابها ، فإذا غسل ذراعيه كان كذلك ، وإن مسح برأسه كان كذلك ، وإذا طهّر قدميه كان كذلك » . . . لا يستوجب الضحك ، وأنّ تعليل ضحك الخليفة بأنه رأى النبيّ(ص) قد ضحك في البقعة التي توضّأ فيها ، مبالغة في التأكيد على شرعيّة الغسل الثلاثيّ وتبريراً لضحكاته وتبسّماته وتذييلاته اللاتي تنبئ المشاهد الذكيّ بأنّه بصدد إحداث شيء في الوضوء وجرّ الأنظار إلى فكرته الوضوئيّة .
وهناك نقطة أخرى ينبغي الإشارة اليها ، وهي اختصاص أغلب الروايات المنقولة عن الخليفة ـ والصحاح منها بطبيعة الحال ـ بحمران بن أبان ، كما لم يكن الناقلون عن حمران من المحدّثين الكبار ، ولم تنقل عنهم بطرق متعددة وأسانيد قويّة معتمدة ، كما هو الشأن في غالب الضروريات الدينيّة المنقولة عن الخلفاء وكبار الصحابة والتابعين ، وهذا إنّما يؤكّد ويدعم الرأي الذاهب إلى أنّ عثمان هو المؤسس لفكرة الوضوء الجديدة ، وإنّ الملتفّين حوله من متأخّري الصحبة وصغارهم ، ممّن لا حول لهم ولا قوّة
، كحمران وابن دارة و . . . ، قد أخذوا على عاتقهم التزام الفكرة ومحاولة بثّها بين صفوف المحدّثين ، بإخبارهم هذا وذاك بما شاهدوا عن عثمان ، ونقلهم لصفة وضوء رسول الله !
فقد ثبت ولحد الآن : أنّ عثمان بن عفّان هو صاحب المدرسة الوضوئيّة الجديدة ، وأنّ « الناس » لم يكونوا البادئين بالخلاف ، وإنّما كانوا يظهرون غير ما يريده الخليفة ، فاندفع الخليفة بكلّ قواه الفكريّة والدعائيّة لكسب قاعدة تؤيّده فيما رآه أو سمعه عن رسول الله ! !
ما هو السرّ ؟
بقي شيء ، وهو : ما السرّ في تخصيص عثمان حمران بقوله : « إنّ ناساً
(70)
يتحدّثون . . » في حين لا نرى الأخير يشكّك أو يسأل الخليفة عن مشروعيّة
الوضوء الجديد ، أو نراه يطرح أو يستنصر لوضوء الناس ، وهم الخطّ المخالف للخليفة في الوضوء !
بل كلّ ما في الأمر أنّ حمران أتى بماء لعثمان ، فتوضّأ ثمّ قال (إنّ ناساً يتحدّثون . . .) فما هو السبب في إثارة الخليفة هذا الخبر دون سابق إنذار ؟ !
أشرنا من خلال البحوث السابقة إلى أنّ الخليفة عثمان كان يمسح ظهر قدميه
(1) ، وقد مرّ عليك بعض النصوص الدالّة على ذلك ممّا هو مذكور في السنن والمسانيد ، وأغلبها عن طريق حمران ؛ وقلنا بأنّ الخليفة أراد بضحكه أن يتعرّف على موقف الصحابة في غسله للأعضاء وهل انّهم سيعارضونه أم لا ؟ ودلّلنا كذلك بأنّه كان يشهد الصحابة على وضوئه ويذيّل أحاديثه بما سمعه أو رآه من رسول الله . . وغيرها ، وأنّ هذه المواقف كغيرها كانت تؤذي بعض الصحابة ، لأنّهم ما كانوا قد رأوا ولاسمعوا بذلك من رسول الله .
فالمسلمون قد اضطرّوا لموافقه الخليفة في تلك المواقف إمّا خوفاً أو حفاظاً على وحدة الصفّ الإسلاميّ ، وحتىإنّ الناس قد طلبوا من عليّ بن أبي طالب
أن يكلّم الخليفة في إحداثاته المتكررة والكثيرة ، فدخل عليه وقال له :
« إنّ الناس ورائي ، وقد استسفروني بينك وبينهم ، ووالله ما أدري ما أقول لك ؟ ما أعرف شيئاً تجهله ، ولا أدلك على شيء تعرفه .
إنّك لتعلم ما نعلم ، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ، ولا خلونا بشيء فنبلغكه ، وقد رأيت كما رأينا ، وسمعت كما سمعنا ، وصحبت رسول الله كما صحبنا ، وما ابن أبي قحافة ولا ابن الخطّاب أولى بعمل الحقّ منك ، وأنت أقرب إلى رسول الله (ص) وشيجة رحم منهما ، وقد نلت من صهره ما لم ينالا ، فالله الله في نفسك فإنّك والله ما تبصّر من عمى ، ولا تعلم من جهل ، وإنّ الطرق
____________
(1) كما في خبر كنز العمال 9 : 436| 26863 و 9 : 442| 26886 والذي مرّ ذكرهما في كتابنا هذا .
(71)
لواضحة ، وإنّ علام الدين لقائمة·
فاعلم أنّ أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هدي وهدى ، فأقام سنّة
معلومة ، وأمات بدعة مجهولة ، وأنّ السنن لنيّرة لها أعلام ، وأنّ البدع لظاهرة لها أعلام ·· وأنّ شرّ الناس عند
الله إمام جائر ضلّ وضلّ به ، فأمات سنّة مأخوذة ، وأحيا بدعة متروكة ، وإنّي
سمعت رسول الله (ص) يقول : يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر ، يلقى في نار
جهنّم فيدور فيها كما تدور الرحى ، ثمّ ترتبط في قعرها »
(1) .
وهناك نصوص أُخرى تدّل على هذه الحقيقة وأنّ أصحاب رسول الله أقدموا على قتل عثمان ابتغاءً لمرضاة
الله وجزاءً لما أحدثه في الدين ، وقد ذكر الطبريّ كتاب أصحاب رسول الله إلى بعضهم . . أن أقدموا ، فإن كنتم
تريدون الجهاد فعندنا الجهاد ، كثر الناس على عثمان ، ونالوا منه أقبح ما ينال من أحد ، وأصحاب رسول الله
يرون ويسمعون وليس فيهم أحد ينهى ولا يذبّ
(2) .
وبهذا يمكننا أن نرجح صدور أخبار المسح الصادرة عن الخليفة في السنوات الست الأوائل من خلافته والتي لم
يذكر فيها شيء عن إحداثه الدينيّ ، أمّا أخبار الغسل فإنها صدرت في الأعوام الستة الأخيرة التي رماه
الأصحاب فيها بالإحداث والإبداع ، وإنّا سنشير لاحقاً إلى أسباب تغيير سياسة الخليفة في النصف الثاني من
خلافته ودواعي إحداثه للوضوء الجديد .
وعلى ضوء ما تقدم ؛ نحتمل أن يكون الخليفة إنّما أراد من توجيه الخطاب إلى حمران أن يدفع الدخل المقدّر
في ذهنه ـ حسبما يقوله الأُصولين ـ أي : يرفع التساؤل الذي من المحتمل أن يطرح في مخيلته ويختمر في
ذهنه وهو : كيف يصحّ للخليفة أن يخسل رجليه اليوم وقد عهدناه حتّى الأمس القريب
____________
(1) نهج البلاغة 2 : 84خ159 ، البداية والنهاية 7 : 175 ، انساب الاشراف 5 : 60 ، الكامل في التاريخ 3 :
151 ، المنتظم 5 : 45 .
(2) تاريخ الطبريّ 4 : 336 .
(72)
يمسحهما ؟ ! . . فالخليفة أراد أن يدفع الاحتمال المقدّر والمكنون في نفس حمران بقوله : « إنّ ناساً يتحدّثون في
الوضوء لأحاديث لا أدري ما هي ، إلاّ أنيّ رأيت رسول الله يتوضأ نحو وضوئي هذا » فإنّ جملة « إلاّ أنيّ
رأيت رسول الله يتوضّأ نحو وضوئي هذا » إشارة إلى أنّه يطلب أمراً لمشروعيّة عمله الجديد والذي أقدم عليه
خلافاً لسيرة الصحابة ، وما كان يعمله في السنوات الست الأوائل من خلافته !
ومما يؤيد كلامنا اختصاص
احاديث الوضوء بحمران بن ابان وهو من اسرى عن التمر ومن الذين اسلموا في السنة الثلاثة من خلافته
عثمان ومعنى هذا ان حمران كان قد راى مسح عثمان وغسله أيّ أنّه راه بين الثالثة إلى السادسة ، يمسح ، وبعد
السادسة أنّه يغسل .
بعد كلّ ما تقدّم . . يمكننا الجزم بأنّ منشأ الخلاف ومسوّغات استفحاله إنّما تعود بالكامل إلى الخليفة الثالث
عثمان بن عفّان ، فهو الذي راح يعرّض ويصرّح بمخالفيه ، وأجهد نفسه في شتّى المناسبات لبيان أدلّته على
صحّة وضوئه ـ بعد نسبته ألى النبيّ الأكرم (ص) ـ كقوله : سمعت رسول الله يقول : . . .
أسبغوا الوضوء . . . ، و . . . أحسنوا الوضوء . . . وما شابهها من العبارات التي من الممكن تسخيرها في دعم فكرة
تكرار الغسل ثلاث مرّات ، باعتبار أنّ تكرار الغسل هو غاية الإسباغ ومن إحسان الوضوء ، وهكذا الأمر في
ابدال مسح الرجلين بغسلهما لأنه يرى أنّ الوضوء هو النظافة ، والإسباغ هو المبالغة في النظافة ، وأنّ غسل
الرجلين يكفي عن المسح ؛ لأنّه مسح وزيادة !
ومحصلة المقال : أنّ نزاعاً قد وقع بين عثمان والصحابة في قضيّة الوضوء ؛ وأنّ الذي وضع لبنة ذلك النزاع
هو عثمان نفسه .
لم الإحداث في الوضوء ؟
والآن فلنعد ما طرحناه سابقاً :
كيف يتخطّى الخليفة سيرة رسول الله ويأتي بوضوء يغاير وضوء المسلمين ؟ وما هو السبب الداعي لاتخاذه هذا
القرار مع علمه بأنّ ذلك يسبب معارضة الصحابة له ، وربّما أدّى إلى أمور لا تحمد عقاباها ؟
(73)
للإجابة عن هذا السؤال لابدّ من التمهيد للموضوع بمقدّمة ـ ولو إجمالاً ـ إلى دواعي اختلاف المسلمين في عهد
عثمان وأسباب مقتل الخليفة .
فقد أجمع المؤرّخون على أنّ مقتل عثمان جاء لإحداثاته ، ثمّ فسّروا تلك الإحداثات بإيثاره لأقربائه وإعطائهم
الحكم والمال
(1) :
لكن هل أن هذه الاحداثات هي وحدها كانت السبب في مقتله ؟
أم إنّ هناك عوامل أخرى لم يذكرها المؤرّخون ؟
قال ابن أبي الحديد في شرحه للنهج ، وهو في معرض حديثه عن إحداثات عثمان : إنّها وإن كانت إحداثاً ، إلاّ
أنها ، لم تبلغ الحدّ الذي يستباح به دمه ، وقد كان الواجب عليهم أن يخلعوه من الخلافة ، حيث لم يستصلحوه لها ،
ولا يعجّلوا بقتله
(2) ، فإذا ثبت ذلك ، فما هو السبب إذاً ؟
نحن في الوقت الذي لا ننكر فيه ما للدوافع الماليّة والسياسيّة من أثر في توسيع رقعة الخلاف وإثارة الأمة ضدّ
الخليفة ، إلاّ أنّنا ـ ومع ذلك ـ نحتمل وجود سبب آخر ـ ومن وراء الكواليس ـ لم يبحثه الباحثون ولم يحقّقوا
فيه .
إذا إنّ سوء سيرة الخليفة الماليّة ـ وكما قلنا ـ لا تستوجب القتل ، وقد ثبت عن عثمان أنّه كان يغدق الأموال
بشكل وفير على الجميع ، حتى احتمل البعض بأنّ لينه ، وسماحة طبعه وكرمه هما اللذان أدّيا إلى مقتله ، وأنّ
إغداقه على أعدائه ليس بأقلّ ممّا خصّ به أقرباءه ، فقد روي بأنّ طلحة قد اقترض منه خمسين ألفاً ؛ فقال
لعثمان ذات يوم : قد تهيّأ مالك فأرسل من يقبضه ، فوهبه له
(3) .
وفي مكان آخر : وصل عثمان طلحة بمائتي ألف ، وكثرت مواشيه وعبيده ،
____________
(1) أنظر انساب الاشراف 5 : 30 ، 35 ، شرح ابن أبي الحديد 3 : 17 ، الطبقات الكبرى 3 : 64 .
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1 : 199 ـ 200 .
(3) تاريخ الطبريّ 4 : 405 .
(74)
وقد بلغت غلّته من العراق وحدها ألف دينار يوميّاً .
يقول ابن سعد في طبقاته : لمّا مات طلحة كانت تركته ثلاثين مليوناً من ادراهم ، وكان النقد منها مليونين ومائتي
ألف درهم ومائتي ألف دينار .
فمن البعيد أن يكون طلحة ـ ذلك المنتفع ـ من المخالفين لسياسة عثمان
المالية ، فما هو السبب للمخالفة يا يرى ؟ هل هو الطمع في الحكم ، أم الغيرة على الدين ؟
أنا لست من أنصار الشقّ الثاني من السؤال ، بل أرى أنّ الطمع في كرسي الحكم هو وراء موقف طلحة ، وهذا
ما كانت تتوقعه عائشة كذلك .
أمّا بخصوص عبد الرحمن بن عوف ، فقد حاول عثمان استمالته بأن وعده بالحكم ؛ وقد أشار الإمام عليّ في
كلام له مع ابن عوف ألى هذه الحقيقة ، هذا من جهة .
ومن جهة أخرى . . فالمعروف عن ابن عوف أنّه كان صاحب ثروة هائلة وأموال وفيرة بلغت : ألف بعير ، ومائة
فرس ، وعشرة آلاف شاة ، وأرضاً كانت تزرع على عشرين ناضحاً ، وخرجت كل واحدة من الأربع بنصيبها
من المال الذي تركه ، فكان أربعة وثمانين ألفا
(1) .
أمّا حال الزبير بن العوّام وأمواله فحدّث ولا حرج
(2) .
وعليه . . لايمكن حمل انتقاد ابن عوف لعثمان على طمعه في الحكم والمال ، وإن كنّا لا نستبعد طمع الشيخين
طلحة والزبير في الحكم !
فالمال مبذول بما يرضي الكثير ، وعثمان هو أوّل من أقطع الأرضين ، فقد أقطع لعبد الله بن مسعود ، وسعد بن
أبي وقّاص ، وطلحة ، والزبير ، وخبّاب بن الارتّ ، وخارجة ، وعدي بن حاتم ، وسعيد بن زيد ، وخالد بن
عرفطة
____________
(1) مروج الذهب 2 : 333 .
(2) انظر مثلاً الفتنة الكبرى 1 : 147 .
(75)
وغيرهم ، حتى نقل عن ابن سيرين قوله : لم تكن الدراهم في زمانٍ أرخص منها من زمان عثمان ، وإنّ الجارية
كانت تباع بوزنها ، وقد بلغ ثمن الفرس خمسين ألفاً
(1) .
فلو صحّ ذلك . . فما دافع المنتفضين يا ترى ؟
إن قيل : الطمع في الحكم ؛ فيعقل تصوّره في البعض ، أمّا طمع الكل فمحال يقيناً ، مضافاً ألى أنّ الطامعين يلزم
أن يستندوا على أمور لإثارة الرأي العام ، فالإحداثات الماليّة وتقريب بني أعمامه لا توجب الارتداد والقتل ،
فما هي الركائز التي استند عليها المعارضون له يا ترى ؟ !
يظهر لنا أنّ ثمّة أمور جعلت الطبري وغيره يتخوّف من بيانها (رعاية) لحال العامّة !
قال الطبري : قد ذكرنا كثيراً من الأسباب التي ذكر قاتلوه أنّهم جعلوها ذريعة إلى قتله ، فأعرضنا عن ذكر كثير
منها لعلل دعت إلى الإعراض عنها
(2) .
وقال في مكان آخر : إنّ محمّد بن أبي بكر كتب إلى معاوية لمّا ولّي ، فذكر مكاتبات جرت بينهما ، كرهت ذكرها
لما فيه ما لا يتحمل سماعها العامّة
(3) .
وقال ابن الأثير ـ عن أسباب مقتل عثمان ـ : قد تركنا كثيراً من الأسباب التي جعلها الناس ذريعة إلى قتله لعلل
دعت إلى ذلك
(4) .
والآن . . نعاود السؤال ، ولا نريد به إثارة رأي العامّة ـ كما ادّعاه الطبريّ ـ أو نقل ما يكرهونه . . بل للوقوف
على الحقيقة ومعرفتها ، بعيداً عن الأحاسيس والعواطف ، إذ يلزم أن تدرس الأحداث التاريخيّة كما هي ، ولا
ينبغي أن يكون دور للأهواء والعواطف فيها ، وأحببنا أن لا نكون كالطبريّ
____________
(1) تاريخ المدينة 3 : 1019 ـ 1023 .
(2) تاريخ الطبري 4 : 365 .
(3) تاريخ الطبري 4 : 557 .
(4) الكامل في التاريخ 3 : 167 .