وابن الأثير ، وأمثالهما ممّن ينقل الحدث مبتوراً لاسباب مخفيّة ، ولا يبالون بالبتر حتى وإن أوجب ذلك تحريفاً للواقع وتشويهاً لحقيقة !
قال أبو جعفر الطبري في تاريخه :
وفي هذه السنة أعني سنة ثلاثين ، كان ما ذكر من أمر أبي ذرّ ومعاوية وإشخاص معاوية إيّاه من الشام إلى
المدينة ، وقد ذكر في سبب إشخاصه إيّاه أمور كثيرة كرهت ذكر أكثرها .
فأمّا العاذرون معاوية في ذلك ، فإنّهم ذكروا في ذلك قصّة ، كتب بها إليّ السريّ ، يذكر أنّ شعيباً حدّثه سيف بن
عمر
(1) . . . الخبر .
وقال ابن الأثير : وقد ذكر في سبب ذلك أمور كثيرة من سبّ معاوية إيّاه ، وتهديده بالقتل ، وحمله إلى المدينة من
الشام بغير وطاء ، ونفيه من المدينة على الوجه الشنيع ، لايصحّ النقل به ولو صحّ لكان ينبغي أن يعتذر عن
عثمان ، فإنّ للإمام أن يؤدّب رعيته ، وغير ذلك من الأعذار ، لا أن يجعل ذلك سبباً للطعن عليه
(2) .
فما يعني نقل الطبريّ لكلام العاذرين معاوية وخبر سيف بن عمر دون الأسباب الكثيرة الأخرى ؟
وكيف لايرتضي ابن الأثير نقل خبر أبي ذرّ ، وسبّ معاوية وتهديده بالقتل ، وحمله إلى المدينة من الشام بغير
وطاء ، وقد تواتر نقله عن جميع المؤرخين .
ألم تكن تلك المواقف منهم في خدمة السلطان ، وإبعاد الأمّة من الوقوف على الحقيقة ؟
وماذا يستنتج القارئ لو قاس النصّين ـ ما جاء في مقتل عثمان وما جاء في
____________
(1) تاريخ الطبريّ 4 : 283 .
(2) الكامل لابن الأثير 3 : 113 ـ114 .
(77)
تسيير أبي ذرّ ـ في تاريخ الطبريّ وابن الأثير ، ألم يكن منحازاً إلى جهة دون أخرى ، إذ نراه لا يذكر بقيّة الأسباب
في مقتل عثمان خوفاً من العامّة ، أمّا هنا فلا يرتضي نقل أسباب تسيير أبي ذرّ لنفس العلّة ، لكنّ الطبريّ ذكر
أخبار العاذرين لمعاوية بحذافيرها ، كأنّه أراد ترجيح كفّتهم .
فلماذا فعل ذلك ؟
وهل يمكن بعد وقوفنا على هذه النصوص أن نطمئنّ بمبرّرات الطبريّ وغيره في عدم نقلهم لأسباب مقتل
عثمان ؟ ! !
نعم ، إنّ تعارض أهداف تلك النصوص جعلنا نشكّك في كلام الطبريّ وغيره ، وأثارت فينا روح الاستطاع
والبحث عن وجود أسباب أخر غير ما تناقله المؤرّخون .
إذا إنّ الثورة بنظرنا لم تكن ماليّة بحتة ـ وإن كان لها الدور الكبير ـ بل كانت تستبطن أمراً دينيّاً ، وحتى
قضيّة إيثاره لأقربائه وعشيرته لم تكن لأجل كونهم أقاربه بل لعدم نزاهة أولئك المقرّبين وتخوّف الصحابة من
وقوع مستقبل الشريعة بيد هؤلاء الطلقاء الفاسقين البعيدين عن روح الأسلام وأهدافه .
نعم ، إنّ تقريبه لأقاربه لم يكن لأجل كونهم أقاربه بل لعدم نزاهتهم ودعوتهم الناس إلى أمور لم ينزل الله بها
من سلطان ، وإليك اعتراضات بعض الصحابة ومنها يستشمّ موارد النقمة على عثمان وانّها لم تكن ماليّة بحتة .
وأخيراً سنذكر رأياً آخر في سبب مقتل عثمان لم يطرح لحدّ الآن .
والان مع بعض الإحداثات في عهد عثمان بن عفّان :
1ـ الوليد بن عقبة ، وشربه الخمر :
عزل الخليفة عثمان سعد بن أبي وقّاص وولىّ مكانه أخاه الوليد عليها ، والأخير شرب الخمر ودخل المسجد فصّلى بالناس ركعتين ثمّ قال : أزيدكم ؟
(78)
فقال له ابن مسعود
(1) : لا زادك الله خيراً ، ولا من بعثك إلينا ؛ وأخذ حفنة حصى فضرب بها وجه الوليد ، وحصبه الناس ، فدخل القصر والحصباء تأخذه وهو يترنّح .
فخرج رهط من أهل الكوفة في أمره إلى عثمان ، فأخبروا عثمان خبره . .
فقال ابن عوف : ما له ؟ أجنّ ؟
قالوا : لا ؛ ولكنه سكر .
فقال عثمان لجندب بن زهير : أنت رأيت أخي يشرب الخمر ؟
قال : معاذ الله ، ولكن أشهد أنّي رأيته سكران يقلسها من جوفه ، وأنيّ أخذت خاتمه من يده وهو لا يعقل .
فقال عثمان : لماذا يا أهل الكوفة تفسّقون من ولاكم ؟
ثم أوعدهم ، فخرجوا منه وأتوا عائشة ، فأخبروها بما جرى بينهم وبين عثمان ، وأنّ عثمان زجرهم ، فنادت عائشة : إنّ عثمان أبطل الحدود وتوعّد الشهود . . . !
وأجابها عثمان : أما يجد مرّاق أهل العراق وفسّاقهم ملجأً إلاّ بيت عائشة ؟
فرفعت عائشة نعل رسول الله وقالت : تركت سنّة رسول الله ؛ صاحب هذا النعل ؟
(2)
فتسامع الناس فجاؤوا حتى ملؤوا المسجد ، فمن قائل : أحسنت عائشة ؛ ومن قائل : ما للنساء ولهذا ؟ ! حتى تحاصبوا وتضاربوا بالنعال ، وكان أوّل قتال بين المسلمين بعد النبي (ص) .
كان هذا أحد موارد اعتراض الأُمّة على الخليفة ، وهي كما ترى ، تستبطن
____________
(1) جاء في أنساب الأشراف 5 : 32 أنّ عتاب بن علاق قال له ذلك وليس ابن مسعود .
(2) انظر : أنساب الأشراف 5 : 34 ، الامامه والسياسة 1 : 37 ، تاريخ الطبري 4 : 276 ، صحيح مسلم 3 : 1331| 38 .
(79)
أُموراً دينيّة كثيرة منها :
1 ـ تولية فاسق لإمرة المسلمين .
2 ـ إيعاد الخليفة الشهود .
3 ـ عدم ارتضاء الخليفة إجراء الحدّ على من استحقّ حدّاً شرعيّاً .
4 ـ عدم ارتضاء عزل والٍ لا يصلح لهذا المنصب الجليل .
كلّ هذه الأُمور كانت حقوقاً إسلاميّة يحقّ للمسلمين المطالبة بها .
2 ـ نظرة الولاة في أموال المسلمين !
ولّى الخليفة عثمان سعيد بن العاص الكوفة مكان الوليد بن عقبة ، وحين قدومه إليها استخلص من أهلها قوماً يسمرون عنده ؛ فقال سعيد يوماً : إنّ السواد بستان لقريش وبني أُميّة . . فاعترض مالك الأشتر النخعي على هذه الرؤية الخاطئة فقال : أتزعم أنّ السواد الذي أفاءه الله على المسلمين بأسيافنا بستان لك ، ولقومك ؟ !
فقال صاحب شرطته : أتردّ على الأمير مقالته !
فهمّ النخعيّون بصاحب الشرطة بحضرة سعيد ، وجرّوا برجله ، فغلظ ذلك على سعيد ؛ فكتب إلى عثمان في أمر هؤلاء ، فأمر بتسييرهم إلى الشام
(1) .
وفي هذا الإحداث كذلك أُمور تخالف الشريعة الاسلامية لو تدبّر الباحث فيها لعرفها
3 ـ عثمان والنداء الثالث يوم الجمعة .
ذكر البلاذري في الأنساب ، عن السائب بن يزيد : كان رسول الله إذا خرج للصلاة أذّن المؤذن ، ثمّ يقيم ، وكذلك الأمر على عهد أبي بكر وعمر وفي صدر من أيّام عثمان ، ثمّ إنّ عثمان نادى النداء الثالث في السنة السابعة ، فعاب الناس
____________
(1) الأنساب للبلاذريّ 5 : 40 ، 25 ، 28 ، تاريخ الطبريّ 4 : 322 ـ 323 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 : 21 ، 35 ، الكامل في التاريخ 3 : 137ـ 141 .
(80)
ذلك ، وقالوا : بدعة
(1) .
وقد جاء في اعتراضات الصحابة عليه أنّه قد أتى بأُمور لم تكن على عهد الرسول الله الأكرم (ص) والشيخين .
فقد روى ابن أبي شيبة من طريق ابن عمر ، أنّه قال : الأذان الأوّل يوم الجمعة بدعة
(2) .
وروى الزهريّ قوله : إنّ أوّل من أحدث الأذان الأوّل عثمان ، يؤذّن لأهل السوق
(3) .
يستشمّ ممّا سبق ومن اعتراضات الصحابة على الخليفة توجّههم إلى أمر شرعي ، وأنّة قد أحدث أمراً لم يكن متعارفاً في عهد رسول الله والشيخين . وهذا يوضح ما ادّعيناه بأنّ الثورة عليه كانت تستبطن أمراً دينيّاً .
4 ـ عثمان والصلاة بمنى .
ومن إحداثاته أيضاً ، أنّه أتمّ الصلاة بمنى ، فاعترض عليه جمع من الصحابة ، منهم : عبد الرحمن بن عوف . . فقد أخرج الطبري وابن كثير وابن الأثير وغيرهم . . عن عبد الملك بن عمرو بن أبي سفيان الثقفيّ ، عن عمّه ؛ قال : صلّى عثمان بالناس بمنى أربعاً ، فأتى آتٍ عبد الرحمن بن عوف فقال : هل لك في أخيك ؟ قد صلّى بالناس أربعاً !
فصلّى عبدالرحمن بأصحابه ركعتين ، ثمّ خرج حتّى دخل علىعثمان ؛ فقال له : ألم تصلّ في هذا المكان مع رسول الله (ص) ركعتين ؟
قال : بلى .
قال : ألم تصلّ مع أبي بكر ركعتين ؟
____________
(1) الأنساب للبلاذريّ 5 : 39 ، المنتظم 5 : 7 ـ 8 .
(2) المصنّف لابن أبي شيبة 2 : 48 | 3 .
(3) المصنّف لابن أبي شيبة 2 : 48 | 4 .
(81)
قال : بلى .
قال : ألم تصلّ مع عمر ركعتين ؟
قال : بلى .
قال : ألم تصلّ صدراً من خلافتك ركعتين ؟
قال : بلى .
قال [ عثمان ] : فاسمع منّي يا أبا محمّد ، إنّي أُخبرت أنّ بعض من حجّ من أهل اليمن وجفاة الناس قد قالوا في عامنا الماضي : إنّ الصلاة للمقيم ركعتان ، هذا إمامكم عثمان يصلّي ركعتين ، وقد اتخذت بمكّة أهلاً ، فرأيت أن أصلّي أربعاً لخوف ما أخاف على الناس ، وأخرى قد اتخذت بها زوجة ، ولي بالطائف مال فربّما أطلعته فأقمت فيه بعد الصدر .
فقال عبد الرحمن بن عوف : ما من هذا شيء لك فيه عذر . . أمّا قولك : أتّخذت أهلاً ؛ فزوجتك بالمدينة ، تخرج بها إذا شئت ، وتقدم بها إذا شئت ، إنّما تسكن بسكناك .
وأمّا قولك ، ولي مال بالطائف ؛ فإنّ بينك وبين الطائف مسيرة ثلاث ليال ، وأنت لست من أهل الطائف .
وأمّا قولك : يرجع من حجّ من أهل اليمن وغيرهم ، فيقولون : هذا إمامكم عثمان يصلّي ركعتين ، وهو مقيم ؛ فقد كان رسول الله (ص) ينزل عليه الوحي والناس يومئذٍ الإسلام فيهم قليل ، ثمّ أبوبكر مثل ذلك ، ثمّ عمر ، فضرب الإسلام بجرانه ، فصلّى بهم عمر حتّى مات ركعتين .
فقال عثمان : هذا رأي رأيته
(1) .
وجاء في أنساب الأشراف : حدّثني محمّد بن سعد عن الواقديّ عن محمّد ابن عبد الله عن الزهريّ عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال : صلّيت مع رسول
____________
(1) أنساب الأشراف 5 : 39 ، تاريخ الطبريّ 4 : 268 .
(82)
الله بمنى ركعتين ومع أبي بكر وعمر ومع عثمان صدراً من خلافته ثمّ أتّمها أربعاً
، فتكلّم الناس في ذلك فأكثروا وسئل أن يرجع عن ذلك فلم يرجع
(1) .
وروى الطبريّ في تاريخه .
عن الواقديّ عن عمر بن صالح بن نافع ، عن صالح ـ مولى التوءمة ـ ؛ قال : سمعت ابن عباس يقول : إنّ أوّل ما تكلّم الناس في عثمان ظاهراً . . أنّه صلّى بالناس بمنى في ولايته ركعتين ، حتّى إذا كانت السنة السادسة أتّمها ، فعاب ذلك غير واحد من أصحاب النبيّ (ص) ، وتكلّم في ذلك من يريد أن يكثر عليه ، حتّى جاءه عليّ فيمن جاءه ؛ فقال : والله ما حدث أمر ولا قدم عهد ، ولقد عهدت نبيّك (ص) يصلّي ركعتين ، ثمّ أبابكر ، ثمّ عمر ، وأنت صدراً من ولايتك ، فما أدري ما ترجع اليه ؟ !
فقال : رأي رأيته
(2) .
5 ـ إعطاء الخليفة فدكاً وخمس إفريفية لمروان بن الحكم :
عدّ ابن قتيبة في المعارف
(3) والبلاذريّ في الأنساب
(4) ممّا نقم على عثمان إقطاعه فدكاً لمروان ، وقد اعتبر المسلمون هذا الإحداث مخالفاً لعمل الشيخين والأدلّة الثابتة ، إذ إنّ فدكاً لو كانت فيئاً للمسلمين ـ كما ادّعاه أبوبكر ـ فما وجه تخصيصها بمروان ؟ وإن كانت ميراثاً لآل الرسول ـ كما احتجّت به الزهراء في خطبتها ـ فكيف يمنعون بني الزهراء عنها ؟ ! !
وكذا الأمر بالنسبة لخمس إفريقية ، فما هو وجه تمليكه إيّاها ؟
ولهذا الاعتراض وجهاً دينيّاً ؛ إذا نرى الناس يعترضون على الخليفة وكذا على ولاته لما أحدثوا من أفكار وأصول ونفيهم لأخرى ، وهي ممّا لم يسنّ في
____________
(1) أنساب الأشراف 5 : 39 .
(2) تاريخ الطبري 4 : 267 .
(3) المعارف : 112 .
(4) انظر أنساب الأشراف 5 : 25 ، الإمامة والسياسة 1 : 35 .
(83)
شريعة الرسول ولم يعمل به الشيخان .
كانت هذه بعض الأمور ، نقلناها ليتّضح للقارئ وجه آخر ، تتجلّى فيه معالم نقمة المسلمين على الخليفة الثالث عثمان بن عفّان والتي استبطنت أموراً دينيّة . . ومن يستقري مواقف الصحابة من سياسة عثمان وإحداثاته يقطع بنقمتهم عليه واستيائهم من خلافته ، وإليك بعض ما ورد عنهم في المقام :
مواقف الصحابة من سياسة عثمان وإحداثاته :
1 ـ طلحة بن عبد الله :
ذكر البلاذريّ : إنّ طلحة قال لعثمان : إنّك أحدثت أحداثاً لم يكن الناس يعهدونها
(1) .
وأخرج الثقفيّ في تاريخه ، وابن الأعثم في فتوحه : إنّ طلحة قام إلى عثمان ؛ فقال له : إنّ الناس قد جمعوا لك ، وكرهوا البدع التي أحدثت ولم يكونوا يرونها ولا يعهدونها ، فإن تستقم فهو خير لك ، وإن أبيت لم يكن أحد أضرّ بذلك منك في دنيا ولا آخرة
(2) .
وروي أنّ طلحة قال لمالك بن أوس : يا مالك ؛ إنيّ نصحت عثمان فلم يقبل نصيحتي ، وأحدث أحداثاً ، وفعل أموراً ، ولم يجد بدّاً من أن يغيّرها
(3) .
2 ـ الزبير بن العوّام :
جاء في شرح النهج : إنّ الزبير كان يقول : اقتلوه فقد بدّل دينكم .
فقالوا : إنّ ابنك يحامي عنه بالباب .
____________
(1) أنساب الأشراف 5 : 29 .
(2) انظر : الفتوح لابن أعثم 1 : 35 ، وبحارالأنوار ـ قسم الملاحم والفتن .
(3) المصدر السابق ، وفي الأمامة والسياسة 1 : 40 أنّ طلحة أجاب عثمان فيما أشهده : لأنّك بدّلت وغيّرت .
(84)
فقال : ما أكره أن يقتل عثمان ولو بدئ بابني . . .
(1) .
3 ـ عبد الله بن مسعود :
جاء في أنساب الأشراف
(2) : إنّ ابن مسعود لمّا ألقى مفاتيح بيت المال إلى الوليد بن عقبة ؛ قال : من غيّر غيّر الله ما به ومن بدّل أسخط الله عليه ، وما أرى صاحبكم إلاّ وقد غيّر وبدّل ، أيعزل سعد بن أبي وقّاص ويولّى الوليد بن عقبة ؟
وكان يتكلّم بكلام لا يدعه ، وهو (إنّ أصدق القول كتاب الله ، وأحسن الهدى هدى محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وكلّ محدث بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة في النار)
(3) .
4 ـ عمّار بن ياسر :
ذكر المؤرخين أنّ عمّاراً خطب يوم صفين ، فقال : . . . أنهضوا معي عباد الله إلى قوم يطلبون ـ فيما يزعمون ـ بدم الظالم لنفسه الحاكم على عباد الله بغير ما في كتاب الله ، إنّما قتله الصالحون ، المنكرون للعدوان ، الآمرون بالإحسان ، فقال هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت ديناهم ولو درس هذا الدين : لم قتلتموه ؟ فقلنا : لإحداثه . . .
(4) .
وجاء في كتاب صفين ما داربين عمرو بن العاص وعمّار ، وفيه : قال عمرو : فلم قتلتموه ؟
قال عمّار : أراد أن يغيّر ديننا فقتلناه .
فقال عمرو : ألا تسمعون ، قد اعترف بقتل عثمان .
____________
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9 : 36 .
(2) أنساب الأشراف 5 : 36 .
(3) أنساب الأشراف 5 : 36 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3 : 42 ، حلية
الأولياء 1 : 138 بتفاوت يسير .
(4) كتاب صفّين : 319 .
(85)
قال عمّار : وقد قالها فرعون قبلك ؛ لقوله . . . ألا تسمعون
(1) .
5 ـ عمرو بن العاص :
أمّا ابن العاص فإنّه على الرغم من استنصاره لعثمان بعد مقتله فكان ينتقده ، وقد صدر عنه هذا النصّ لمّا ضرب عثمان عمّاراً : هذا منبر نبيّكم ، وهذه ثيابه ، وهذا شعره لم يبل وقد بدّلتم وغيرّتم ؛ فغضب عثمان حتّى لم يدر ما يقول
(2) .
6 ـ سعد بن أبي وقّاص :
روى ابن قتيبة ما أجاب به سعد بن أبي وقّاص حول دوافع قتل عثمان ؛ قال سعد : . . . وأمسكنا نحن ، ولو شئنا دفعناه عنه ، ولكّن عثمان غيّر وتغيّر ، وأحسن وأساء ، فإن كنّا أحسنّا فقد أحسنّا ، وإن كنّا أسأنا فنستغفر الله
(3) . . . .
7 ـ هاشم المرقال :
قال لشاب شاميّ : وما أنت وابن عفّان ؟ إنّما قتله أصحاب محمّد وأبناء أصحابه وقرّاء الناس حيث أحدث وخالف حكم الكتاب ، وأصحاب محمّد هم أهل الدين وأولى بالنظر في أُمور المسلمين منك ومن أصحابك ، وما أظنّ أنّ أمر هذه الأُمّة ولا أمر الدين عناك طرفة عين قط
(4) .
8 ـ مالك الأشتر :
جاء في كتاب من الأشتر إلى عثمان : من مالك بن الحارث ، إلى الخليفة المبتلى الخاطئ ، الحائد عن سنّة نبيّه ، النابذ لحكم القرآن وراء ظهره . .
أمّا بعد . . .
(5) .
____________
(1) كتاب صفين : 338 ، شرح نهج البلاغة لا بن أبي الحديد 8 : 22 .
(2) أنساب الأشراف 5 : 89 .
(3) الإمامة والسياسة 1 : 48 .
(4) تاريخ الطبريّ 5 : 43 عن كتاب صفيّن .
(5) أنساب الأشراف 5 : 46 ، الفتوح لابن أعثم 1 : 40 .
(86)
وقوله : إنّ عثمان قد غيّر وبدّل
(1) .
9 ـ عائشة :
اشتهر قولها بعدما صنع بعمّار ما صنع : ما أسرع ما تركتم سنّة نبيّكم ، وهذا شعره ونعله لم يبل بعد ؟ !
(2) .
وقولها ، بعدما جاءها وفد أهل العراق : تركت سنّة رسول الله صاحب هذا النعل ؟ !
(3) .
وقال أبو الفداء : كانت عائشة تنكر على عثمان مع من ينكر عليه ؛ وكانت تخرج قميص رسول الله وتقول : هذا قميصه وشعره لم يبل وقد بلي دينه . .
(4) وفيما أخرجه ابن أبي الحديد : هذا ثوب رسول الله لم يبل وعثمان قد أبلى سنّته !
(5) .
وعائشة أوّل من سمّى عثمان نعثلاً [ رجل يهودي طويل اللحية كان بالمدينة ] وحكمت بقتله
(6) .
10 ـ محمّد بن أبي بكر :
ذكر ابن سعد ، وابن عساكر ، وابن كثير ، والبلاذريّ ، وغيرهم : قال محمّد بن أبي بكر لعثمان : على أيّ دين أنت يا نعثل ؟
قال : على دين الإسلام ، ولست بنعثل ولكنّي أمير المؤمنين .
قال : غيّرت كتاب الله !
فقال : كتاب الله بيني وبينكم .
فتقدّم إليه ، وأخذ بلحيته وقال : إنّا لا يقبل منّا يوم القيامة أن نقول : ربّنا إنّا
____________
(1) أنساب الأشراف 5 : 45 ، الإمامة والسياسة 1 : 38 .
(2) أنساب الأشراف 5 : 48 ، شرح ابن أبي الحديد 3 : 49 ، الفتوح لابن أعثم 1 : 64 .
(3) أنساب الأشراف 5 : 48 .
(4) المختصر في أخبار البشر 1 : 172 .
(5) شرح ابن أبي الحديد 3 : 9 .
(6) بقولها : اقتلوا نعثلاً فقد كفر ، الفتوح لا بن أعثم 1 : 64 .
(87)
أطعنا ساداتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل . . وشحطه بيده من البيت إلى الدار ، وعثمان يقول : يا ابن أخي ! ما كان أبوك ليأخذ بلحيتي . . .
(1) .
11 ـ كعب بن عبدة :
حينما ادّعى عثمان أنّه أعرف بكتاب الله منه ؛ قال له : يا عثمان ! إنّ كتاب الله لمن بلغه وقرأه ، وقد شركناك في قراءته ، ومتى لم يعمل القارئ بما فيه كان حجّة عليه
(2) .
12 ـ أبو ذرّ الغفاريّ :
نقل عنه أنّه قال : والله ؛ لقد حدثت أعمال ما أعرفها ! والله ما هي في كتاب الله ، ولا سنّة نبيّه ! والله إنّي لأرى حقّاً يطفأ ، وباطلاً يحيى ، وصادقاً يكذّب ! وأثرةً بغير تقى ، وصالحاً مستأثراً به
(3) .
13 ـ عبد الرحمن بن عوف :
قال لعثمان مرّة : لقد صدّقنا عليك ما كنّا نكذّب فيك
(4) ، إشارة إلى إخبار الإمام عليّ في يوم الشورى وقوله : أما إنّي أعلم أنّهم سيولّون عثمان ، وليحدثنّ البدع والأحداث ، ولئن بقي لأذكرنّك وإن قتل أومات ليتداولنها بنو أميّة بينهم ، وإن كنت حيّاً لتجدني حيث تكرهون
(5) .
وقوله لعلّي : إذا شئت فخذ سيفك ، وآخذ سيفي ، إنّه [ عثمان ] قد خالف ما أعطاني
(6) .
____________
(1) طبقات ابن سعد 3 : 73 ، البداية والنهاية 7 : 193 ، الكامل 3 : 178 ، أنساب الأشراف 5 : 82 ، 92 و98 ، شرح النهج 2 : 157 ، الإمامة والسياسة 1 : 44 قريب منه .
(2) أنساب الأشراف 5 : 42 .
(3) أنساب الأشراف 5 : 53 ، شرح النهج 3 : 55 .
(4) شرح النهج لا بن أبي الحديد 1 : 196 .
(5) تاريخ الطبريّ 4 : 230 .
(6) أنساب الأشراف 5 : 57 ، الفتوح لا بن الأعثم 1 : 6 .
(88)
استنتاج
اتّضح بجلاء من النصوص الآنفة الذكر أنّ الصحابة غير راضين عن عثمان وسلوكه العمليّ ، كما أنّهم على خلاف رؤاه الفكريّة وآرائه التشريعيّة ، ولذلك رموه بالإبداع والإحداث في الدين وإتيانه بأشياء ليست هي في كتاب الله ولا سنّة نبيّة أوسيرة الشيخين ، والصحابة هم أهل الفقه واللغة ، وهم أعلم من غيرهم باصطلاحات الرسالة وعباراتها ومنقولاتها الشرعيّة .
فلفظ « البدعة » ولفظ « الإحداث » يدلاّن على إيجاد شيء لم يكن من قبل ولم يعهده المسلمون من الشريعة المحمّديّة ، وكذا الحال بالنسبة لتعبيرهم : إنّه أتى بأمور ليست في كتاب الله ولا سنّة نبيّه .
فسوء التقسيم المالي من قبل عثمان ، وإيثاره لأقربائه ، وأخطاؤه السلوكيّة الأخرى ـ كما قلنا ـ لا تسمّى « بدعاً » ولا « إحداثاً » في الاصطلاح ، وإنّما تسمّى مخالفات ، أو عدم التزام دينيّ ، أو إعراضاً عن السيرة ، أو ما شاكل ذلك من الألفاظ والتعابير .
وإذا سلّمنا صحّة إطلاق لفظ « البدعة » و « الإحداث » على تلك التصرّفات ، فمن باب أولى أن يشمل اللفظ المذكور تلك الآراء العثمانيّة الجديدة وأطروحاته الفقهيّة التي أتى بها ، مثل : إتمام الصلاة بمنى ، وتقديم خطبة صلاة العيدين على الصلاة ، وغيرها من الآراء الفقهيّة التي ما كانت معهودة من قبله ولا ممّن عايَشَه من الصحابة !
إنّ شدّة عبارات الصحابة في عثمان ، برميهم إيّاه بالابتداع والإحداث في الدين ؛ بالإضافة إلى فتح باب الفتنة على مصراعيه ، وأخيراً قتله . . لتدلّ بما لا يقبل الشكّ والترديد على اقتناع الرأي العالم بضرورة عزل عثمان عن الخلافة وعدم قناعتهم باجتهاداته ، ولمّا لم يرضخ لإرادة الأمّة والتخلّي عن الخلافة قائلاً (لن أنزع قميصاً كسانيه الله) جوّزت الأمّة قتله ورأت نفسها في
(89)
حلّ من دمه ، وفي عصمة من خطابات الشارع المقدّس ، مثل : (
ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ . . . )
(1) ، (
. . . من قتل نفساً بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنّما قتل الناس جميعاً . . . )
(2) ، (
ومن يقتل مؤمناً متعمّداً فجزاؤه جهنّم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذاباً عظيماً )
(3) . . .
بل وإصرارهم على عدم دفنه ، كقول أحدهم : لا والله لا تدفنوه في بقيع رسول الله على الرغم من علمهم بتأكيد النبيّ (ص) على دفن موتى المؤمنين وتغسيلهم وتكفينهم والصلاة عليهم ، وعلى أنّ حرمة الميّت كحرمة الحيّ !
ونحن أمام ما جرى ، لا يسعنا إلاّ أن نقول إمّا بعدول جميع الصحابة عن جادة الصواب وتهاونهم بالأمور ، لأنّهم لم يعملوا بأوامر القرآن ووصايا الرسول (ص) أو أن نذهب إلى انحراف الخليفة وخروجه عن رأي الجماعة ، ولا ثالث .
فإذا قلنا بعدالة الصحابة وعدم اجتماعهم على الخطأ ، لزم القول بالرأي الثاني ، خصوصاً إذا ما شاهدنا بين المعارضين رجالاً قيل عنهم إنّهم من العشرة المبشرة ، أمثال : سعد بن أبي وقّاص ، طلحة ، الزبير ، و غيرهم من كبار الصحابة الذين ورد فيهم نصّ صريح بجلالة قدرهم وعظيم منزلتهم ، أمثال : ابن مسعود ، أبي ذرّ ، عمّار .
أمّا لو قلنا بطهارة ساحة الخليفة الثالث . . فهذا القول يستلزم فسق الصحابة ، وهذا ما لا يقبل به المحققون قطعاً ، إذ من المعقول أن تخطّئ فرداً مع الجزم بأنّه غير معصوم ، ولكنّ اتهام الكثيرين من الصحابة بالفسق والضلالة بعيد عن المنطق والوجدان ، خصوصاً وثمّة أفراد بين أُولئك ممّن ورد بحقّه نصّ
____________
(1) الأنعام : 151 .
(2) المائدة : 32 .
(3) النساء : 93 .
(90)
يشير إلى أنه مع الحقّ ، وممّن بشّر بالجنّة كعمار وأبي ذرّ و . . . .
وجاء في تاريخ الطبريّ (حوادث 34) « لمّا كانت سنة اربع وثلاثين كتب أصحاب رسول الله بعضهم إلى بعض ، أن أقدموا ، فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد .
وكثر الناس على عثمان ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد ، وأصحاب رسول الله (ص) يرون ويسمعون ، ليس فيهم أحد ينهى ولايذبّ إلاّ نفير ، منهم : زيد ابن ثابت ، (الذي جمع عثمان الصحابة على قراءته) ، أبو أسيد الساعديّ ، كعب ابن مالك ، وحسّان بن ثابت ، فاجتمع الناس وكلّمواعليّ بن أبي طالب ، فدخل على عثمان فقال : الناس ورائي وقد كلّموني فيك ، والله ما أدري ما أقول لك ، وما أعرف شيئاً تجهله ولاأدلّك على أمر لا تعرفه ، انّك لتعلم ما نعلم . . . » إلى آخر كلامه الذى مرّ عليك قبل عدّة صفحات .
إذاً ، المعترضون على عثمان كانوا « الناس » ، وإنّهم كانوا يطلبون الجهاد ضدّه فأخذ يكتب البعض منهم إلى الآخر بذلك ، وليسوا بنفر قلائل جاؤوا من مصر والبصرة والكوفة ـ كما يدّعيه البعض ـ ، وعلى فرض كونهم كذلك . . فهل من المعقول أن يسكت جميع الصحابة ـ وأغلبهم يدري ـ عن مواجهتهم وهم يرون خليفة المسلمين في خطر ، وليس منهم أحد ينهى ويذبّ عنه ؟
وألم يكن ذلك ازدراء بالصحابة ، الذين أبلوا بلاءً حسناً مع الرسول في حروبه ؟
وكيف يهابون ذلك الجمع القليل مع ما لهم من صفحات ومواقف مشرّفة في الجهاد عبر تاريخهم الإسلامي ؟ ! !
أن وراء ترك نصرة الخليفة شيئاً خطيراً ، وهو تركه العمل بكتاب الله وسنّة نبيّه وسيرة الشيخين !
(91)
عثمان ومبرّرات تغيير سياسته في الستّ الأواخر
من يتابع سيرة الخليفة عثمان بن عفّان بتجرّد يمكنه أن يصل إلى ما توصلنا إليه ، وهو : أنّ الخليفة وخصوصاً في الستّ الأواخر من خلافته أخذ يرى أنّ الناس ينتقصونه ولا يعطونه تلك المنزلة والهالة التي منحوها للشيخين ، بل ينظرون إليه بمنظار المتّبع لنهج الشيخين والمطبّق لما سنّ في عهدهما وليس له العمل إلاّ بما عمل في عهدهما ، وقد طلب الخليفة بالفعل ـ في بدء خلافته ـ من المحدّثين أن لا يحدّثوا إلاّ بما عمل به الشيخان ، لأنّ ذلك كان في ضمن ما عاهد عليه ابن عوف في الشورى .
بيد أنّ الخليفة وبعد مرور الأعوام الستّة من خلافته بدأ يتساءل مع نفسه : كيف يحقّ لعمر أن يشرّع أو ينهى لمصلحة كان يقدّرها ـ كما في صلاة التراويح ومتعة النساء ـ ولا يحقّ لي ذلك ؟ !
وكيف يقبل الناس اجتهادات عمر وسيرته ولا يرتضون أفعالي ؟ !
وما الذي كان لهما واختصّا به دوني ؟ !
ولماذا يجب أن أكون تابعاً لسياسة واجتهاد الشيخين ولا يحقّ لي رسم بعض الأصول ؟ !
هل كانوا في سابقتهم في الإسلام ودرايتهم بالأمور ومكانتهم من رسول الله أخصّ منّي وأقرب ؟ !
أم إنّ ما بذلوه من مال ووفقوه من مواقف لنصره الدين كانت أكثر ممّا فعلت ؟ !
فإن كان الشيخان قد حظيا وشرّفا برابط من نور مع رسول الله وذلك بإعطاء كلّ منهما بنتاً لرسول الله ، فعثمان قد ارتبط برسول الله من جهتين وتزوّج بنتين ، وهو ذو النورين ؟ !
(92)
بعد هذا كيف يتحتّم عليه أن يكون تابعاً لنهج الشيخين ولا تكون له تلك الشخصيّة المستقلة ؟ !
وقد أكّد عثمان على هذا الأمر وأشار إلى أنّه أعزّ نفراً بل هو أقرب ناصراً وأكثر عدداً من عمر ، لقربه من بني أميّة !
فقال مخاطباً المعترضين : ألا فقد والله عبتم عليّ بما أقررتم لا بن الخطّاب بمثلة ، ولكنّه وطئكم برجله ، وضربكم بيده ، وقمعكم بلسانه ، فدنتم له على ما أحببتم أوكرهتم ، ولنت لكم ، وأوطأت لكم كتفي وكففت يدي ولساني عنكم ، فاجترأتم عليّ ، أما والله لأنا أعزّ نفراً وأقرب ناصراً وأكثر عدداً وأقمن إن قلت هلم اُتي إلي ، ولقد أعددت لكم أقرانكم ، وأفضلت ، وأفضلت عليكم فضولاً وكشّرت لكم عم نابي وأخرجتم منّي خلقاً لم أكن أحسنه ، ومنطقاً لم أنطق به
(1) .
نعم ، كانت هذه التساؤلات تراود الخليفة ، إذ يرى الناس قد أطاعوا عمر في كلّ شيء وتعبّدوا بسيرة الشيخين وارتضوا بنهجهم ، فلم لا يقبلون بأفعاله وتوليته لولاته ولماذا يعتبرونها بدعاً وإحداثات ، مع أنّه قد وسّع المسجد الحرام
(2) والمسجد النبويّ
(3) واتّخذ للأضياف منازل
(4) وزاد في أعطية الناس
(5) ورّد على كلّ مملوك بالكوفة من فضول الأموال ثلاثة كلّ شهر ، يتسعون بها من غير أن ينقص مواليهم من أرزاقهم
(6) ، وغيرها من المواقف التي جاءت لنفع الناس .
وقد جاء في تاريخ الطبريّ وغيره أنّه قال ـ للذين هدم بيوتهم ولم يقبلوا
____________
(1) تاريخ الطبريّ 4 : 339 .
(2) تاريخ الطبريّ 4 : 267 .
(3) تاريخ الطبريّ 4 : 273 .
(4) تاريخ الطبريّ 4 : 274 .
(5) تاريخ الطبريّ 4 : 245 .
(6) تاريخ الطبريّ 4 : 274 .
(93)
ثمنها عند توسعته للمسجد الحرام ـ : أتدرون ؟ ! ما جرّأكم عليّ إلاّ حلمي ، قد فعل هذا بكم عمر فلم تصيحوا به
(1) .
فالناس المعترضون على سياسة عثمان ، مضافاً إلى ارتيابهم وعدم قناعتهم بأفعال الخليفة كانوا يتّهمونه بتغيير سنّة رسول الله .
فقد جاء عن عثمان أنّ الناس قالوا له عندما أراد توسعة المسجد النبويّ الشريف (يوسّع مسجد رسول الله ويغيّر سنّته)
(2) .
إنّ الخليفة ـ وكماقلنا ـ كان يعيش حالة نفسيّة متأزّمة ، فإنّه من جهة كان يسمع اعتراضات الناس عليه في حين قد شاهدهم بالأمس قد سكتوا عن اجتهادات عمر ، بل أنّهم قد أرتضوها وجعلوها منهج الحياة رغم كون بعضها أشدّ ممّا شرّعه وأجرأ .
ومن جهة أخرى كان لا يمكنه تخطّي سيرة الشيخين لأنّه كان قد عاهد ابن عوف والمسلمين في الشورى على أن يسير بنهج الشيخين ، أمّا اليوم فإنّه غير مستعدّ نفسيّاً لتطبيق ذلك ، حيث إنّ الاعتراض أخذ يرد عليه الواحد تلو الأخر ، فسعى الخليفة ـ وفي السنوات الستّ الأخيرة من عهده ـ إلى تغيير سياسته واتّباع نهج معيّن ، وأخذ يطرح آراء فيها ما يخالف سيرة الشيخين وسنّة رسول الله مواصلاً سياسة العنف السابقة ، معتقداً بأنّ طرحه لهذه الإحداثات سيلهي الناس عن الخوض في ذكر سوء سياسة وتوليته خاصّته وأقاربه ، واختصاصهم بالحكم والمال دون المسلمين ؟ وسيشغل المسلمين في مناقشة اجتهاداته ، وسيحصل على رصيد عند بسطائهم لأنّه قد أخذ جانب القدسيّة والزهد والتعمّق في إحداثاته ، فكان الطابع الغالب على تلك الإحداثات هو الزيادة ، فالصلاة بمنى والنداء الثالث يوم الجمعة والوضوء
____________
(1) تاريخ الطبريّ 4 : 251 ، الكامل في التاريخ 3 : 87 ، المنتظم 4 : 360 .
(2) راجع : المجلّد الخامس من أنساب الأشراف للبلاذريّ .
(94)
وغيرها لحظ فيها الزيادة ، وأنّ عامة الناس يرتاحون إلى الأعمال التي فيها زيادة معتقدين بأنّ ذلك زيادة في القدسّة وخصوصاً لو دعم بآراء استحسانيّة مقبوله في ظاهرها عند العقلاء .
إنّ المسلم العادي لا ينظر إلى أصول المسألة ومشروعيّتها في الكتاب والسنّة بقدر ما ينظر إلى الوجوه الاستحسانيّة فيها ، فإذا كان الوضوء هو الإنقاء فالإنقاء يحصل بالغسل أكثر من المسح ، أو ما قالوه عن الغسل لأنّه مسح وزيادة وما شابه ذلك من الوجوه الاستحسانيّة .
وقد وقفت على قول عثمان في منى هذا رأي رأيته
(1) .
مع علمه بأنّ رسول الله والشيخين قد قصّرا بمنى ، وكان قد قصّر هو شطراً من خلافته فيه ؟ !
اشارة إلى أنّه كان يريد تشكيل اتّجاه في الإسلام له معالم خاصّة به ، فتراه يجتهد قبال النصّ مع علمه بأنّ رسول الله والشيخين قد فعلا خلاف فعله ؟ !
كانت هذه بعض إحداثات الخليفة عثمان ين عفّان المخالفة لسنّة رسول الله وسيرة الشيخين وإنّه قد أتى بها معتقداً بأنها ستنجيه ممّا هو فيه من اعتراضات القوم ، ولكنّ إحداثاته ـ بنظرنا ـ كانت هي السبب الأهم في قتله
(2) ، وأنّ قول نائلة الكلبيّة ـ زوجة عثمان ـ حين طافت المهاجمون على عثمان يريدون قتله : إن تقتلوه أو تتركوه ، فإنّه كان يحيي الليل كلّه يجمع القرآن
(3) ، أو قولها : انّه ليحيي الليلة بالقرآن في ركعة ، لتؤكّد على أنّ هجوم المنتفضين عليه كان له بعد ديني وهو التشكيك في صلاحيّته ولياقته في إدارة الأمّة الإسلاميّة ، وأنّ قول نائلة جاء لنفي هذا الشكّ ، فأكّدت بأنّه كان يجمع القرآن ويحي الليل كلّه في ركعة !
____________
(1) تاريح الطبريّ 4 : 268 .
(2) لقول علي بن أبي طالب في الخطبة الشقشقية : (. . . واجهز عليه عمله . . .) .
(3) حلية الأولياء 1 : 57 .
(95)
تأكيد عثمان على وضوئه
والآن لنذكر دور عثمان البنائيّ في الوضوء .
فقد صدرت عنه روايات حكاها عن رسول الله وفي أغلبها إشارة إلى ترسيخه لفكرة الوضوء الجديدة ، وإليك بعض الروايات :
1 ـ عن حمران بن أبان ـ مولى عثمان ـ إنّ عثمان توضّأ فمضمض واستنشق وغسل وجهه ثلاثاً ويديه ثلاثاً ومسح برأسه وغسل رجله ثلاثاً ، ثمّ قال : من توضّأ وضوئي هذا ثمّ صلّى ركعتين لا يحدّث نفسه فيهما غفر له ما تقدّم من ذنبه
(1) .
2 ـ وفي البخاريّ بعد إخراجه لحديث السابق وذكره غسل رجله ثلاثاً : رأيت النبيّ يتوضّأ نحو وضوئي هذا ، وقال : من يتوضّأ نحو وضوئي هذا ثمّ صلّى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه ، غفر الله له ما تقدّم من ذنبه
(3) .
3 ـ أخرج أبو داود والبيهقيّ والنسائيّ في سننهم ، عن حمران قال : رأيت عثمان بن عفّان توضّأ فأفرغ على يديه ثلاثاً فغسلهما ، ثمّ تمضمض واستنشق ، ثمّ غسل وجهه ثلاثاً ، وغسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثاً ، ثم اليسرى مثل ذلك ، ثم مسح رأسه ، ثم غسل قدمه اليمنى ثلاثاً ، ثمّ اليسرى مثل ذلك ، ثمّ قال : رأيت
رسول الله توضّأ مثل
(4) وضوئي هذا ، ثمّ قال : من توضّأ مثل
(5) وضوئي هذا ثمّ صلّى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه ، غفر الله ما تقدّم من ذنبه
(5)
____________
(1) سنن الدارميّ 1 : 176 ، سنن البيهقيّ 1 : 53 و56 و58 .
(2) صحيح البخاريّ 1 : 51 .
(3) في صحيح البخاريّ 1 : 51 بدل مثل (نحو)
(4) في صحيح البخاريّ 1 : 51 بدل مثل (نحو) أيضاً .
(5) سنن أبي داود 1 : 106 ، سنن البيهقيّ 1 : 48 ، سنن النسائيّ 1 : 64 .
(96)
4 ـ وفي نصّ آخر : رأيت رسول الله توضّأ وضوئي هذا ، ثمّ قال : من توضّأ مثل وضوئي هذا ثمّ قام فصلّى ركعتين لا يحدثّ نفسه بشيء ، غفر الله له ما تقدّم من ذنبه
(1) .
5 ـ وفي البيهقيّ : رأيت رسول الله توضّأ مثل ما رأيتموني توضّأت
(2) .
6 ـ وأخرج مسلم والدارقطنيّ بسندهما عن عطاء بن يزيد الليثيّ عن حمران [ واللفظ للدارقطنيّ ] : انّ عثمان دعا يوماً بوضوء فتوضّأ ، فغسل كفّيه ثلاث مرّات ، ثمّ غسل يده اليسرى مثل ذلك .
وفي مسلم والبيهقيّ زيادة [ ثمّ مسح رأسه ، ثمّ غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرّات ، ثمّ غسل اليسرى مثل ذلك ]
(3) .
ثمّ قال : رأيت رسول الله توضّأ نحو وضوئي هذا ، ثمّ قال رسول الله : من توضّأ نحو وضوئي هذا ثمّ قام فركع ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه ، غفر الله له ما تقدّم من ذنبه
(4) .
7 ـ قد نقلنا في (عهد عثمان) ما أخرجه مسلم من كلام عثمان عن وضوء الناس المغاير له ، وقوله : إلاّ أنيّ رأيت رسول الله توضّأ مثل وضوئي هذا ، ثمّ قال : من توضّأ هكذا غفر له ما تقدّم من ذنبه ، وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة
(5) .
في النصوص السابقة عدّة نقاط يمكن الاستفادة منها لتأييد ما ادّعيناه من أنّ الخليفة كان يريد تشكيل مدرسة وضوئيّة جديدة ضمن مخططه الكلّي في الشريعة .
____________
(1) سنن النسائي 1 : 65 ، سنن البيهقيّ 1 : 48 .
(2) سنن البيهقي 1 : 47 .
(3) صحيح مسلم 1 : 205 ، سنن البيهقيّ 1 : 68 .
(4) سنن الدارقطنيّ 1 : 83 | 14 ، صحيح مسلم 1 : 205 .
(5) صحيح مسلم 1 : 207 .
(97)
الاُولى :
إنّ جملة عثمان (رأيت رسول الله توضّأ نحو وضوئي هذا) أوقوله (مثل وضوئي هذا) والمتكررة في عدّة أحاديث ، فيها دلالة على أنّ عثمان قد أحدث وضوءاً جديداً ، وأنّه قد جعل عمله هو المقياس والضابط في الوضوء حتّى تراه يقول (رأيت رسول الله توضّأ نحو وضوئي هذا) ولم يقل توضّأت كما رأيت رسول الله توضّأ !
فلو كانت المسألة عاديّة ، ولم يكن في التشريع عناية لقال الخليفة : توضّأت كما رأيت رسول الله يتوضّأ ، وما شابه ذلك من العبارات .
إنّ طرح عبارات كهذه على لسان الخليفة فيها إشارة نفسيّة خفيّة إلى أنّه يريد التأكيد على وضوئه ، فتراه يرجع فعل الرسول الى فعله ! ! !
الثانية :
ما نقله من كلام عن رسول الله ، وقوله (من توضّأ مثل وضوئي هذا) أو (نحو وضوئيّ هذا) تعني أنّ له (ص) أكثر من وضوء واحد ، فنتساءل : هل كان النبيّ (ص) يتوضّأ بأكثر من طريقة في الوضوء ؟ ولماذا نرى تأكيده (ص) على الوضوء الثلاثيّ بالذات حتّى يجعله ممّا تغفر به الذنوب دون غيره ؟
في حين نعلم أنّ ابن عمر قد روى عن رسول الله ، أنّه قال عن وضوء المرّتين : (من توضّأ مرّتين أعطاه الله كفلين) ثمّ أعقبه ببيان الوضوء الثلاثيّ (هو وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي) ، ومعنى ذلك أنّ الفعل الثلاثيّ ليس له تعميم لجميع المؤمنين ، بل يختصّ بالرسول والأنبياء من قبله ، وقد يحتمل أن يكون من مختصّات النبوّة ، وعليه فإنّ توقّف الغفران على الوضوء الثلاثيّ دون غيره فيه تأمّل ، كما هو واضح .
الثالثة :
في جملة (لايحدث فيهما نفسه بشيء) تحمل تزكية للخليفة وصيانة له ، فهو يريد إلزام المؤمن المسلم بقبول وضوئه المقترح والأخذ به دون تحديث النفس بشيء أو التشكيك في مشروعيّته ، وأنّ مثل هذا التعبّد يوجب غفران الذنوب ! !
(98)
هذا وقد أكّد أتباع الخليفة عثمان بن عفّان على الوضوء الثلاثيّ الغسليّ بكلّ الوسائل ، ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص :
روى عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جدّه ، عن النبيّ ، أنّه قال بعد أن توضّا الوضوء الثلاثيّ الغسليّ قوله (ص) : (فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم ، أو ظلم وأساء)
(1) .
وفي ابن ماجة : (فقد أساء أو تعدّى أوظلم)
(2) .
ففي هذا النصّ كغيره من النصوص السابقة إشارة إلى دور المحدّثين وأنصار الخليفة في التأكيد على وضوء عثمان ، فلو قبلنا بأنّ الزيادة على الغسلة الثالثة في الوضوء هي تعدّ وظلم ، فما معنى قوله : أو نقص ؟ !
ألم يتواتر عنه (ص) وروى صحابة أمثال ابن عبّاس ، وعمر ، وجابر ، وبريدة ، وأبي رافع ، وابن الفاكه : أنّه (ص) توضّأ مرّة مرّة ؟
وألم يرو أبو هريرة ، وجابر ، وعبد الله بن زيد ، وابن عبّاس وغيرهم : أنّ رسول الله توضّأ مرّتين مرّتين ؟
وما معنى ما وراه ابن عمر عن رسول الله ، بأنّه قال عن المتوضّئ مرّة : (هذا وضوء من لا تقبل له صلاة إلاّ به) ، وعن المرّتين : (هذا وضوء من يضاعف له الأجر مرّتين) .
أو قوله (ص) في حديث آخر عن الوضوء الثلاثيّ : (ومن توضّأ دون هذا كفاه) .
فما معنى (أو نقص فقد أساء وظلم) إذاً ؟ ! !
فمن جهة نراه (ص) يقول عن المرّة : (لا تقبل الصلاة إلاّ به) ، وعن المرّتين :
____________
(1) سنن البيهقيّ 1 : 79 ، سنن أبي داود 1 : 33 | 135 .
(2) سنن ابن ماجة 1 : 146 | 422 .
(99)
(يضاعف له الأجر مرّتين) وفي آخر : (كفلين) ، ومن جهة أخرى نرى عمر وبن شعيب يروي عن أبيه عن جدّه عبد الله بن عمرو بن العاصّ عن النبيّ أنّه قال : (أونقص فقد أساء أو ظلم) .
فكيف يمكن الجمع بين هذه الروايات ؟
ألم يتوضّأ رسول الله بعض وضوئه مرّتين وبعضه الآخر ثلاثاً ـ كما في حديث عبد الله بن زيد ين عاصم ـ ، وألم يرو أهل العلم عدم البأس في ذلك ؟
فكيف تتطابق هذه الأحاديث مع قوله : أو نقص ؟ وهل إنّ رسول الله ـ والعياذ بالله ـ قد أساء وظلم ؟ !
نعم ؛ إنّ الذي نحتمله هو : إنّ هذه الأحاديث وضعت من قبل أنصار الخليفة لترسيخ وضوء عثمان بن عفّان والأخذ به دون زيادة أو نقيصة وعدم تحديث النفس بشيء أو التشكيك في مشروعيته .
ومن يطالع أحاديث الوضوء يتساءل مع نفسه : لماذا تذيّل حكايات عثمان لصفة وضوء رسول الله بالذات بذيل مرويّ عنه (ص) ولا نلاحظ ذلك فيما حكاه غيره من الصحابة عن وضوء رسول الله ؟ ! !
ولماذا لا تذيّل أحاديث عثمان بهذا الذيل فيما حكاه عنه (ص) في الوضوء المسحيّ
؟ ! !
إنّ ما طرحناه من الشواهد لو قرن بعضها إلى بعض لدلّ على ما نريد الإشارة إليه ، وهو أنّ الخليفة ومن معه كانوا يسعون لبناء مدرسة وضوئيّة جديدة ، بل الأحرى بناء مدرسة فقهيّة جديدة .