الباب الثاني

الوضوء في العهدين


* العهد الأمويّ 40 ـ 132 هـ
* العهد العباسيّ 132 ـ 232هـ

(156)


(157)

تنبيه :

قبل البحث في مواضيع الباب الثاني ، لا بُدّ من التنبيه إلى الأسباب الداعية لفصل العهدين ـ الأمويّ والعبّاسيّ ـ عن عهد الخلافة الراشدة . . .
والأسباب هي :
أولاً : اضمحلال قدسيّة الخلافة في هذين العهدين ، ولم تعد تضفى على الخليفة كما كانت في عهد الخلفاء الراشدين .
ثانياً : إن كثيراً من الصحابة الذين عاشوا في العهد الأمويّ ، كانوا من متأخري الصحبة ؛ وقد انخرط معظمهم في ركب الخلفاء السياسيّسن ! !
ثالثاً : كان الخليفة في الخلافة الراشدة يسعى لتحكيم الأحكام الدينيّة ، في حين لا نرى في العهدين التاليين سوى ما يدعم الحاكم ، وما الخلافة عندهما إلاّ منصب سياسيّ .
رابعاً : نتيجة لقلّة عدد الصحابة ، غدا احتمال التغيير في الدين غير مستبعد .

(158)

خامساً : تأصيل أمور لم تكن أصيلة في شريعة سيّد المرسلين في هذين العهدين .
إنّ هذه العوامل مجتمعة ، كوّنت مجتمعاَ وأفكاراً تختلف اختلافاً جوهريّاً ممّا كان في عهد الخلافة الراشدة ؛ لأجله عمدنا إلى فصل هذين العهدين عن العهود التي سبقتهما ، ليمكن دراستها بنحو أشمل .

(159)

العهد الأمويّ (40 ـ 132هـ)

تمهيد
المعروف عن بني أميّة تبنيهم لقضيّة عثمان ، والمطالبة بدمه ، ونشر فضائله ، والوقوف أمام مخالفيه والحطّ منهم ، ومن ثمّ الالتزام بفقهه ونشر آرائه ، رغم مخالفة بعضها لصريح القرآن المجيد والسنّة النبويّة ، وإليك بعضها .

الأمويّون وتبنيهم لرأي عثمان

1 ـ الصلاة بمنى :
أخرج أحمد بسنده إلى عباد بن عبدالله بن الزبير عن أبيه أنّه قال : لمّا قدم علينا معاوية حاجّاً ، قدمنا معه مكّة ، قال : فصلّى بنا الظهر ركعتين ثمّ انصرف إلى دار الندوة ؛ قال [ الراوي ] : وكان عثمان حين أتمّ الصلاة إذا قدم مكّة صلّى بها الظهر والعصر والعشاء الآخرة أربعاً أربعاً ، فإذا خرج إلى منى وعرفات قصّر الصلاة ، فإذا فرغ من الحجّ وأقام بمى أتمّ الصلاة حتّى يخرج من مكّة .

(160)

فلما صلّى [ معاوية ] بنا الظهر ركعتين ، نهض إليه مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان فقالا له : ما عاب أحد ابن عمّك بأقبح ما عبته به .
فقال لهما : وما ذاك ؟
قالا : ألم تعلم أنّه أتمّ الصلاة بمكّة ؟
قال ، فقال لهما : ويحكم ! وهل كان غير ما صنعت ، قد صلّيتهما مع رسول الله ؛ ومع أبي بكر ، وعمر (رضي الله عنهما) .
قالا : فإنّ ابن عمّك قد كان أتمّهما ، وإنّ خلافك إيّاه عيب !
قال : فخرج معاوية إلى منى فصلاّها بنا أربعاً (1) .
وقد أخرج المتقيّ الهنديّ في كنز العمال عن ابن عبّاس انّه قال : صلّى رسول الله وأبو بكر وعمر ركعتين ، ثمّ فعل ذلك عثمان ثلثي إمارته أو شطرها ثمّ صلاّها أربعاً ، ثمّ أخذ بها بنو أميّة (2) .
فمعاوية لم يكن جاهلاًَ بصلاة عثمان إلاّ أنه أراد ـ بدهائه ـ أن يعرف مدى تأثير رأي عثمان الصلاتي في الناس وخصوصاً عند أقاربه وحاشيته !
2 ـ الجمع بين الاُختين بالملك :
أخرج ابن المنذر ، عن القاسم بن محمّد : إنّ حيّاً سألوا معاوية عن الاُختين ممّا ملكت اليمين يكونان عند الرجل يطؤهما ؟
قال : ليس بذلك بأس .
فسمع بذلك النعمان بن بشير ؛ فقال : أفتيت بكذا وكذا ؟ !
قال : نعم .
قال : أرأيت لو كان عند الرجل أُخت مملوكته ، يجوز أن يطأها ؟
____________
(1) مسند أحمد 4 : 94 ، فتح الباري 2 : 457 ، نيل الأوطار 3 : 259 ، البدعة للسبحاني : 246 .
(2) كنز العمال 8 : 238 | 22720 .

(161)

قال : أما والله لربّما وددتني اُدرك ، فقل لهم : اجتنبوا ذلك فإنّه لا ينبغي لهم ؟
فقال : إنّما الرحم من العتاقة وغيرها (1) .
إن معاوية بإفتائه هذا كان قد اتّبع فقه عثمان ؛ إذ إنّه كان قد أفتى بذلك .
فقد أخرج مالك في الموطأ عن ابن شهاب ، عن قبيصة بن ذؤيب : إنّ رجلاً سأل عثمان بن عفّان عن الاُختين من ملك اليمين ، هل يجمع بينهما ؟
فقال عثمان : أحلّتهما آية ، وحرّمتهما آية ، فأمّا أنا فلا أحبُّ أن أصنع ذلك .
قال : فخرج من عنده فلقي رجلاً من أصحاب رسول الله (ص) ؛ فسأله عن ذلك ، فقال : لو كان لي من الأمر شيء ، ثمّ وجدت أحداً فعل ذلك لجعلته نكالاً .
قال ابن شهاب : أراه عليّ بن أبي طالب (2) .
3 ـ ترك التكبير المسنون في الصلاة :
أخرج الطبرانيّ ، عن أبي هريرة ، وابن أبي شيبة ، عن سعيد بن المسيّب : إنّ أوّل من ترك التكبير معاوية (3) .
وجاء في الوسائل في مسامرة الأوائل : إنّ أوّل من نقص التكبير معاوية ، كان إذا قال : سمع الله لمن حمده ، انحطّ إلى السجود ولم يكبّر(4) .
وأخرج ابن أبي شيبة عن إبراهيم ، قال : أوّل من نقّص التكبير زياد (5) .
وقد جمع ابن حجر العسقلاني في فتح الباري بين الأقوال ؛ فقال : وهذا لا ينافي الذي قبله ، لأنّ زياداً تركه بترك معاوية ، وكان معاوية تركه بترك عثمان (6) .
____________
(1) الدرّ المنثور 2 : 137 .
(2) الموطّأ 2 : 538 | 34 .
(3) انظر : الوسائل في مسامرة الأوائل : 18 .
(4) الوسائل في مسامرة الأوائل : 18 ـ رقم 94 .
(5) الوسائل في مسامرة الأوائل : 19 ـ رقم 95 .
(6) فتح الباري 2 : 215 .

(162)

وقد جاء عن مطرف بن عبدالله ؛ قال : صلّيت خلف عليّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) أنا وعمران بن الحصين ، فكان إذا سجد كبّر ، وإذا رفع رأسه كبّر ، وإذا نهض من الركعتين كبّر ، فلمّا قضى الصلاة أخذ بيدي عمران بن حصين فقال : « قد ذكّرني هذا صلاة محمّد » ، أو قال : « لقد صلّى بنا محمّد » (1) .
وفي لفظ آخر عن مطرف بن عمران ؛ قال : صلّيت خلف عليّ صلاةً ذكّرني صلاة صلّيتها مع رسول الله والخليفتين ؛ قال : فانطلقت فصلّيت معه فإذا هو يكبّر كلّما سجد وكلّما رفع رأسه من الركوع ؛ فقلت : يا أبا نجيد من أوّل من تركه ؟
قال : عثمان بن عفّان (رض) حين كَبُرَ وضعف صوته تركه (2) .
وأخرج الشافعيّ في كتاب الاُم وكذا القزويني في التدوين من طريق أنس ابن مالك ؛ قال : صلى معاوية بالمدينة فجهر فيها بالقراءة ، فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم لأُمِّ القرآن ، ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها ، حتّى قضى تلك القراءة ولم يكبّر حين يهوي حتى قضى تلك الصلاة ، فلما سلّم ناداه من يسمع ذلك من الهاجرين من كل مكان : يا معاوية ! أسرقت الصلاة أم نسيت ؟ !
فلما صلى بعد ذلك قرأ : بسم الله الرحمن الرحيم للسورة التي بعد أُمَّ الكتاب وكبر حين يهوي ساجداً (3) .
وأخرج الشافعي الحديث كذلك عن طريق عبيد بن رفاعة (4) ، وصاحب الانتصار أخرجه عن طريق أنس بن مالك ، كما حكاه في البحر الزخار .
وبهذا عرفت بأن معاوية قد تبنّى فقه الخليفة في تركه للتكبير المسنون ،
____________
(1) أخرجه البخاري 1 : 209 ، مسلم 1 : 295 | 33 ، ابن أبي داود 1 : 221 | 835 ، النسائي 2 : 204 ، أحمد 4 : 428 ، 429 ، 444 .
(2) مسند أحمد 4 : 432 ، الوسائل في مسامرة الأوائل : 18 | 93 .
(3) الاُم 1 : 108 ، التدوين في أخبار قزوين 1 : 154 .
(4) الاُم 1 : 108 .

(163)

والجمع بين الاُختين بالملك وعدم قراءة البسملة للسورة اقتداءً بعثمان !
4 ـ التلبية :
أخرج النسائي والبيهقي في سننهما عن سعيد بن جبير ؛ قال : كان ابن عباس بعرفة ؛ فقال : يا سعيد ، مالي لا أسمع الناس يلبّون ؟
فقلت : يخافون معاوية . .
فخرج ابن عباس من فسطاطه ؛ فقال : لبيك اللهم لبيك ، وإن رغم أنف معاوية ، اللهم العنهم ، فقد تركوا السنّة من بغض عليّ (1) .
قال السندي في تعليقته على النسائي : « من بغض عليّ » : أي لأجل بغضه ، أي : وهو كان يتقيّد بالسنن ، فهؤلاء تركوها بغضاً له (2) .
وأخرج ابن حزم في المحلى : أهل رسول الله حتى رمى الجمرة وأبو بكر وعمر (3) . . ولم يذكر عثمان .
وعن عبد الرحمن بن يزيد : إنّ عبدالله بن مسعود لبّى حين أفاض من جمع ؛ فقيل له : عن أي هذا ؟
وفي لفظ مسلم : فقيل : أعرابي هذا ؟ !
فقال : أنسي الناس أم ضلّوا ؟ . . سمعت الذي نزلت عليه سورة البقرة يقول في هذا المكان : « لبيك اللهم لبيك » (4) .
وفي النصين الأخيرين دلالة على أن الخليفة عثمان كان لا يرتضي التلبية ، وأنه كان قد طبّع الناس على تركها ، حتى كانوا يعدّونها ليست من الدين ، وأنّ معاوية قد سار على نهج الخليفة كما ظهر ذلك من النص الأول .
____________
(1) سنن النسائي 5 : 253 ، سنن البيهقي 5 : 113 ، الاعتصام بحبل الله المتين 1 : 360 .
(2) هامش سنن النسائي 5 : 253 .
(3) انظر المحلى 7 : 135 ـ 136 ، فتح الباري 3 : 419 ـ 420 .
(4) صحيح مسلم 2 : 932 | 270 .

(164)

وما كانت هذه الأمثلة إلا نموذجاً لكثير من النصوص المبثوثة في الكتب والدالة على التزام معاوية بنهج الخليفة وسعيه لتطبيق فقه عثمان ورأيه.
وبعد هذا . . نتساءل :
أيعقل أن يتخطى معاوية وضوء الخليفة ، مع ما عرفت عنه من تبنيه لآرائه الفقهية ؟ !
وماذا يجدي نقل كلّ تلك الفضائل لعثمان ، ألم تكن هي مقدمة للأخذ بفقهه والسير على نهجه ؟
وكيف يترك معاوية فقه عثمان ، وهو الخليفة الأموي المظلوم ! ! ويسمح بانتشار فقه الناس المخالفين له ولعثمان ؟ !
لسنا بصدد البحث في أنّ عثمان هل هو الذي أثر في الأمويّين ، ام هو المتأثر بهم ؟ بل الذي نود التأكيد عليه هو وجود الامتزاج والتلاقي في الأفكار ، وأنّ الخليفة والأمويّين يسيران على نهج ويتابعان هدفاً واحداً .
وبما أن الإمام عليّاً أحد الناس الذين يتحدثون عن رسول الله في الوضوء ، فمن الطبيعي أن تواجه الحكومة الأمويّة اُولئك الناس بالشدة ، إذ إنّ سياستها ـ كما قلنا ـ تعتمد على أمرين :
1 ـ تبنّي فقه عثمان بن عفان ونشر فضائله .
2 ـ مخالفة عليّ في نهجه وفقهه وآرائه .
وإنا قد فصلنا هذا البحث في كتابنا عن الحكّام ، وقلنا بأن بني اٌمية كانوا على طرفي نقيض مع بني هاشم حتى في صدر الاسلام ؛ حين التزم بنو اُمية جانب المشركين ، أما بنو هاشم فلم يفارقوا الرسول في جاهليّة ولا إسلام .
جاء في صحيح البخاري : إنّ رسول الله وضع سهم ذي القربى في بني هاشم وعبد المطلب ـ أيام غزوة خيبر ـ فاعترض عثمان وجبير بن مطعم على حكم
(165)

رسول الله ، فقال لهما (ص) : « إنّا بنو هاشم وبنو عبد المطلب شيء واحد » (1) .
وفي رواية النسائي : « إنّهم لم يفارقوني في جاهليّة ولا إسلام ، وإنّما نحن وهم شيء واحد » ، وشبك بين أصابعه (2) .
ففي الجمل السابقة تعريض ببني اٌمية ومدح لبني هاشم وعبد المطلب ؛ إذ إنهم تحمّلوا أعباء الدعوة وكانوا معه في شعب أبي طالب ودافعوا عنه بكل ما أوتوا من قوة ، ولم يكونوا كغيرهم حين دخلوا الإسلام مكرهين !

خطوات أموية

1 ـ التشكيك في الأحاديث النبوية الواردة في حق عليّ ، ووضع أحاديث مشابهة في حق بعض الصحابة ! !
فقد جاء في كتاب معاوية إلى عماله :
(. . . أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل بيته والذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم وقرّبوهم وأكرموهم ، واكتبوا إليّ بكل ما يروي كل رجل منهم واسمه واسم أبيه وعشيرته) (3) .
ولما فشا ذلك ، وكثر الحديث في عثمان . . كتب إليهم :
فإذا جاءكم كتابي هذا . . فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين ، ولا تتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلاّ وتأتوني بمناقض له في الصحابة ، فإنّ هذا أحبُ إليّ ، وأقرّ لعيني ، وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته ، وأشد عليهم من مناقب عثمان وفضله (4) .
____________
(1) صحيح البخاري 5 : 174 ، هذا الخبر وما يليه في الأموال لأبي عبيدة : 341 .
(2) سنن النسائي 7 : 131 ، سنن أبي داود 3 : 146 | 2980 .
(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11 : 44 .
(4) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11 : 45 .

(166)

2 ـ السعي إلى طمس كلّ فضيلة وميزة لعليّ بن أبي طالب على غيره من الصحابة ، وجعله كأحد المسلمين .
. فقد رووا عن ابن عمر أنّه قال : « كنّا في زمن النبي لا نعدل بأبي بكر أحداً ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم نترك أصحاب النبي لا نفاضل بينهم » (1) .
وما روي عن محمد بن الحنفيّة (ابن الإمام عليّ) ؛ أنّه قال : « قلت لأبي : أيّ الناس خير بعد رسول الله ؟
فقال : أبو بكر .
قلت : ثم من ؟
قال : عمر .
وخشيت أن يقول عثمان . قلت : ثم أنت ؟
قال : أمّا أنا رجل من المسلمين » (2) .
إن ذكرنا لهذا لا يعني التشكيك أو التعريض بالشيخين ، بل أوردناه لمخالفته للثابت الصحيح في التاريخ ، فإن علياَ كان لا يرى أحداً أحق بالأمر منه لما نصبه الرسول (ص) في حجة الوداع ، وجعله وصياً له ، وهكذا الأمر بالنسبة لبقيّة المسلمين الأوائل ، فقد كانت لهم رؤى تخصهم في الخلافة والتفاضل !
ولو صحّ ذلك وعرفه الجميع ولم يكن بالمفتعل الطائفي ، فلماذا يقول أبو بكر لأبي عبيدة : « هلمّ أبايعك ، فإنّى سمعت رسول الله يقول إنّك أمين هذه الاُمة وقدّمه على نفسه وعلى عمر » ، أو قوله : « ولّيت عليكم ولست بخيركم » (3) . . .
ألم تكن هذه فضيلة لأبي عبيدة دالّة على رجحانه على أبي بكر ، أو دالّة على وجود من هو خير منه كما في النصّ الثاني !
____________
(1) البداية والنهاية 7 : 216 ، التاريخ الكبير للبخاري 1 : 49 .
(2) صحيح البخاري 5 : 9 .
(3) طبقات ابن سعد 3 : 182 ، وفيه : امركم بدل عليكم ؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 17 : 158 ، تاريخ الطبري 3 : 210 .

(167)

وماذا يعني كلام عمر ـ قبل الشورى ـ : لو كان أبو عبيدة بن الجرّاح حيّاً استخلفته ، فإن سألني ربّي قلت : سمعت نبيّك يقول : « إنّه أمين هذه الاُمة » .
ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً استخلفته ، فأن سألني ربّي قلت : سمعت نبيّك يقول : « إنّ سالماً شديد الحبّ لله » (1) ؛ وأقواله الاُخرى في عليّ وغيره . .
ألم تدل هذه النصوص على أن أبا عبيدة وسالماً و . . . هم أفضل من عثمان ؟ . . فلو كان كذلك ، فما معنى « كنا لا نعدل » ؟ !
وماذا يعني قول ابن عوف في الشورى : « أيّها الناس إنّي سألتكم سرّاً وجهراً بأمانيكم ، فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين : إمّا عليّ وإمّا عثمان » (2) . . ثمّ بدأ بعليّ للبيعة وقدّمه على عثمان .
وما يعني كلام عائشة عندما سُئلت عن رسول الله « لو استخلف » ؟ ! فذكرت أبا بكر وعمر ولم تذكر عثمان ، بل رجّحت أبا عبيدة عليه (3) .
ألم تكن هذه المواقف هي امتيازاً لعليّ وأبي عبيدة وسالم وأنّهم أفضل من عثمان ؟
وما معنى جملة لم (نعدل) ، أو (نفاضل) وفي القوم من عُدّ من العشرة المبشرة ومن جاء فيه نصّ صريح بعلوّ مكانته وجلالة قدره !
3 ـ وضع أحاديث في عدالة جميع الصحابة ، كقوله (ص) : « أصحابي كالنجوم ، بأيّهم اقتديتهم اهتديتم » و . . . ؛ ليجعلوا أبا سفيان ، ومروان بن الحكم ، والحكم بن العاص ، ومعاوية ، وعبدالله بن أبي سرح ، والوليد بن عقبة و . . . بمنزلة عليّ ، وفاطمة ، وابن عباس ، وأبي ذر و . . . !
وذلك بعدما عجزوا عن طمس الإسلام والوقوف أمام أبنائه ومعتقدات
____________
(1) تاريخ الطبري 4 : 227 .
(2) تاريخ الطبري 4 : 238 .
(3) صحيح مسلم 4 : 1856 | 9 ، مستدرك الحاكم 3 : 73 ، مسند أحمد 6 : 63 ، سنن الترمذي 5 : 317 | 3845 .

(168)

الناس ، فإنّهم بطرحهم هذه الفكرة وغيرها قد أرادوا نفي ما قيل في بني اُميّة وما جاء في شأنهم من اللعن على لسان الرسول والقرآن المجيد ، بل جعل أقوالهم من مصادر التشريع الإسلامي ليضاهي كلام المقرّبين من أصحاب الرسول وينافسهم في أخذ المسلمين معالم دينهم عنهم .
وقد ثبت عنه (ص) أنّه كان يلعن أقطاب بني اُميّة ويدعو عليهم في قنوته ؛ ويقول : « اللهم العن أبا سفيان ، اللهم العن الحارث بن هشام ، اللهم العن سهيل ابن عمرو ، اللهم العن صفوان بن اُميّة » (1) . .
وتواتر عنه (ص) أنّه قال ـ لما أقبل أبو سفيان ومعه معاوية ـ : « اللهم العن التابع والمتبوع » (2) .
وفي آخر : « اللهم العن القائد والسائق والراكب » (3) . . وكان يزيد بن أبي سفيان منهم .
وقد اشتهرت مقولة رسول الله (ص) في مروان بن الحكم وأبيه ـ طريد رسول الله ـ : « اللهم العن الوزغ بن الوزغ » (4) .
فالأمويون سعوا لتغيير مفهوم بعض الأحاديث النبويّة الشريفة ـ ومنها أحاديث اللعن ـ ، ليجعلوا للملعونين منزلة لا ينالها إلاّ ذو حظّ عظيم ، ليشكّكوا فيما صدر عن رسول الله وأن لعنه قد صدر عن عصبيّة قبليّة كأنّه لم يكن يلتزم بأصل ثابت في الحياة ـ والعياذ بالله !
فقد روت عائشة عنه (ص) أنّه قال : « اللهم أنا بشر ، فأيّ المسلمين لعنته أو سببته . . فاجعله زكاة وأجراً » (5) .
____________
(1) الفردوس 1 : 503 | 2060 ، الإصابة 2 : 93 .
(2) وقعة صفين : 217 .
(3) وقعة صفين : 220 .
(4) مستدرك الحاكم 4 : 479 .
(5) صحيح مسلم 4 : 2007 | 88 ، مسند أحمد 3 : 400 .

(169)

وروى أبو هريرة أيضاً : « إنّما أنا بشر ، فأيّ المؤمنين آذيته ، شتمته ، لعنته ، جلدته . . فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقرّبه بها إليك يوم القيامة » (1) .
ونحن لا نريد أن نناقش هذين الحديثين وأمثالهما ـ وهي كثير ـ بل نريد أن يقف القارئ على دور الأمويين وكيف كانوا يريدون مسخ شخصيّة الرسول (ص) بترسيمهم شخصيّة له (ص) لا تراعي القيم والأعراف ، بل تتعدى على حقوق المسلمين ، ثم يطلب الرحمة من الله لأُولئك ! !
كيف يلعن رسول الله من لا يستحق اللعنة ! أو نراه يلعن المؤمنين ، كما جاء في حديث أبي هريرة !
أم كيف يمكن أن نوفّق بين هذا الحديث وما رواه عنه (ص) : « إنّي لم اُبعث لعّاناً وإنّما بعثت رحمة » (2) .
وهل حقاً أنّه (ص) يطلب الرحمة لمن لعنه ؟ !
وكيف يؤكدون إذاً على عدالة جميع الصحابة ، وما يعني ذلك ؟
أليس بين الصحابة مؤمنون ومنافقون ، وأليس بينهم من يحبّه الله ورسوله وهناك من يلعنه الله ورسوله ؟ ! ، وكيف يصحّ لنا أن نساوي بينهم ، وما الهدف من ذلك ، ومن هو المستفيد ، ولِمَ قالوا بهذا ؟
قالوا بذلك ليساووا المجاهد بالقاعد ، والطليق بالمهاجر ، والمحاصر بالمحاصر ، والمشرك بالمؤمن . . وليجعلوا قول ابن أبي سرح والوليد ومروان يضاهي كلام عليّ وفاطمة وغيرهما ممن يمكن الاطمئنان إليهم والأخذ بقولهم ، وقد تنبّه الإمام عليّ لمخططهم ، فجاء في رسالته إلى معاوية :
« . . . ولكن ليس اٌمية كهاشم ، ولا حرب كعبد المطلب ، ولا أبو سفيان كأبي طالب ، ولا المهاجر كالطليق ، ولا الصريح كاللصيق ، ولا المحق كالمبطل ،
____________
(1) صحيح مسلم 4 : 2008 | 90 ، مسند أحمد 2 : 316 ـ 317 ، 449 .
(2) صحيح مسلم 4 : 2006 | 87 .

(170)

ولا المؤمن كالمدغل . . . » (1) .
وفي قوله لمعاوية :
« فسبحان الله ! ما أشد لزومك للأهواء المبتدعة والحيرة المتبعة مع تضييع الحقائق وآطراح الوثائق التي هي لله طلبة وعلى عباده حجّة . . . » إلى آخره .
وقد قال الجاحظ وهو في معرض إشارته للذين يعتقدون برأي الأمويين : وقد أربت عليهم نابتة عصرنا ومبتدعة دهرنا فقالت : لا تسبّوه [ أي معاوية ] فإنّ له صحبة ، وسبُّ معاوية بدعة (2) ، ومن يبغضه فقد خالف السنّة ، فزعمت أنّ من السنة ترك البراءة ممن جحد السُنة .
ولا نريد التفصيل في هذا البحث ، بل نكتفي بالإشارة إلى أنّ هذه الفكرة كغيرها إنما هي دسيسة حكومية تُخفي وراءها أهدافاً سياسيّة !
4 ـ إثارة مسألة عدم اجتماع الخلافة والنبوة في بني هاشم ، والتي اُثيرت من قبل في اجتماع السقيفة (3) ، مع العلم بأنّهم مسلمون وجميع الناس سواسية أمام حكم الله ، وصريح قوله (ص) : « خلفائي اثنا عشر كلهم من قريش » (4) ، ودلالة القرآن باجتماع ذلك بقوله تعالى : ( وورث سليمان داود) (5) .
كانت هذه بعض خيوط المخطط الأموي ضدّ عليّ وبني هاشم ، وهناك الكثير لا يمكننا حصره ، وقد ثبت أنّهم كانوا يأمرون الناس بلعن عليّ في صلواتهم وعلى المنابر (6) حتى قيل : بأنّ مجالس الوعّاظ بالشام كانت تختم بشتم عليّ (7) ، وأنهم كانوا لا يقبلون لأحد من شيعة عليّ وأهل بيته شهادة ،
____________
(1) نهج البلاغة 3 : 18 | 17 .
(2) أما سبُ عليّ بن أبي طالب فلا ! يُنظر كلام الجاحظ في رسالته المطبوعة في آخر النزاع والتخاصم للمقريزي : 94 .
(3) في هذا حوار لابن عباس مع عمر . . راجع الطبري 4 : 223 ـ 224 وغيره من كتب التاريخ .
(4) صحيح مسلم 3 : 1453 | 10 ، سنن الترمذي 3 : 340 | 2323 .
(5) النمل : 16 .
(6) النصائح الكافية : 86 ـ 88 .
(7) النصائح الكافية : 87 ، وابن عساكر في تاريخه .

(171)

وقد أمر معاوية بمحو أسمائهم من الديوان (1) . .
وقيل : إنّ حجر بن عدي صاح بالمغيرة في المسجد قائلاً : مر لنا أيّها الانسان بأرزاقنا ، فقد حبستها عنّا وليس ذلك لك ، وقد أصبحت مولعاً بذم أمير المؤمنين . فقام أكثر من ثلثي الناس يقولون : صدق حجر وبرّ (2) .

وقد نقلت كتب السير أنّ عمر كان قد قال للمغيرة بن شعبة ـ وكان أعور ـ : أما والله ليعورنّ بنو أميّة هذا الدين ، كما أعورت عينك ، ثمّ لتعمينه حتى لا يدري أين يذهب ولا أين يجيء (3) ! !
قال الدهلويّ في رسالة الإنصاف :
(ولمّا انقرض عهد الخلفاء الراشدين أفضت الخلافة إلى قوم تولّوها بغير استحقاق ، ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام ، فاضطرّوا إلى الاستعانة بالفقهاء ، وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم ، وكان بقي من العلماء من الطراز الأول ، فكانوا إذا طلبوا هربوا وأعرضوا ، فرأى أهل تلك الأعصارـ غير العلماء ـ إقبال الاُمّة عليهم مع إعراضهم ، فاشتروا طلب العلم توصّلاً إلى نيل العزّ ، فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين ، وبعد أن كانوا أعزّة بالإعراض عن السلاطين أذلة بالإقبال عليهم ، إلاّ من وفقه الله . . .) .
فإذا كانت هذه هي السياسة الحكومية تجاه عليّ وشيعته ، فهل يعقل أن تطبّق السنة النبوية كما هي واقعاً في مثل هذا العهد (4) ؟ !
وكيف باُولئك الناس الذين كانوا يحدثون عن رسول الله ، وهل بقي من الصحابة من له جرأة الإقدام والاعتراض ؟ ! !
وماذا سيكون اتجاه الحكومة وموقفها في الوضوء ؟
____________
(1) النصائح الكافية : 88 .
(2) تاريخ الطبري 5 : 254 .
(3) شرح النهج عن الموفقيّات للزبير بن بكار .
(4) سنوضح للقاري في الجانب الروائي من هذه الدارسة أن نهج عليّ هو السنة الشريفة .

(172)

هل ستسمح للناس بممارسة وضوئهم المنقول عن رسول الله (ص) أم ستواجههم بالعنف وطرق التضليل الأخرى ؟ !
من الواضح ـ كما قلنا ـ أنّ الحكومة الأموية قد اتبعت فقه الخليفة عثمان وجعلته دستور الدولة ، وأمرت الولاة والقضاة باتّباعه ، ودعت إلى نشره ، فلا يعقل أن تحيد عن سياستها الكليّة في الوضوء بالذات ، بالرغم من وجود عليّ ابن أبي طالب ـ وهو من الذين لهم معه حساب خاصّ ـ في الجناح المقابل .
وعلى رأس المحافظين على سنة النبي في الوضوء . . هذا أولاً .
وثانياً : المعروف أن الأمويين ـ وبعد قتل الحسين ـ قد ازدادوا تنكيلاً بشيعة عليّ ، حتى وصل الحال بفقهاء الشيعة أن توقّفوا عن الإفتاء في مستجدات المسائل ؛ لصعوبة الاتصال بأئمتهم ، وتفشي سياسة العنف في البلاد ، وقد حدّ ذلك من ارتباط القيادة مع القاعدة ، وعليه ، نرى عمل الناس في الوضوء ـ بعد مقتل الحسين الشهيد ـ أخذ يتدرج بالضعف أمام دعاة نهج الخليفة ، حتى انحصر ببعض التابعين وأهل بيت رسول الله ، وإنك ستقف على أسمائهم عن قريب .
وإنا قد رجونا بطرحنا لما سبق اعطاء صورة للمطالع عن تلك الفترة من تأريخ وتجسيم واقع الامة بل الشريعة فيه ، إذ إن الفقه الاصيل والتاريخ الصحيح قد ضاع بين ثنايا الدس والتحريف الاموي ، فكان علينا ان نستخدم طريق (الم) ـ كما يقول علماء المعقول للوصول الى الحقيقة ، وذلك بالاستعانة من القرائن والمؤشرات لا الاكتفاء بالادلة الظاهرة ، أي علينا استخدام المعلول للوقوف على العلة ، وذلك لضياع كثير من النصوص أو تحريفهم لمفاهيمها .

حال « الناس » في العهد الأموي

أشار الإمام علي بن الحسين إلى حال المؤمنين في مثل هذا العهد وكيف يرون كتاب الله منبوذاً وسنة نبيّه متروكة وحكمه مبدلاً ، فقال في دعائه :
« اللهم إن هذا المقام لخلفائك وأصفيائك . . . » .
إلى أن يقول :
« . . . حتى عاد صفوتك وخلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزين ، يرون حكمك مبدلاً ، وكتابك منبوذاً ، وفرائضك محرفة عن جهات أشراعك ، وسنن نبيك
(173)

متروكة و . . . » (1) .
وقال أيضاً وهو يشرح اختلاف الاُمة :
« وكيف بهم ؟
وقد خالفوا الآمرين ، وسبقهم زمان الهادين ، ووكلوا إلى أنفسهم ، يتنسكون في الضلالات في دياجير الظلمات .
وقد انتحلت طوائف من هذه الاُمة مفارقة أئمة الدين والشجرة النبوية أخلاص الديانة ، وأخذوا أنفسهم في مخاتل الرهبانية ، وتغالوا في العلوم ، ووصفوا الإسلام بأحسن صفاته ، وتحلوا بأحسن السنة ، حتى اذا طال عليهم الأمد ، وبعدت عليهم الشقة ، وامتحنوا بمحن الصادقين : رجعوا على أعقابهم ناكصين سبيل الهدى ، وعلم النجاة .
وذهب آخرون إلى التقصير في أمرنا ، واحتجوا بمتشابه القرآن ، فتأولوه بآرائهم ، واتهموا مأثور الخبر مما استحسنوا ، يقتحمون في أغمار الشبهات ، ودياجير الظلمات ، بغير قبس نور من الكتاب ، ولا أثرة علم من مظان العلم ، زعموا أنهم على الرشد من غيّهم .
وإلى من يفزع خلف هذه الاُمة ؟ !
وقد درست أعلام الملة والدين بالفرقة والاختلاف ، يكفر بعضهم بعضاً ، الله تعالى يقول :
(ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البيّنات) (2) .
فمن الموثوق به على إبلاغ الحجة ؟ وتأويل الحكمة ؟ إلاّ إلى أهل الكتاب ، وأبناء أئمة الهدى ، ومصابيح الدجى ، الذين احتج الله بهم على عباده ، ولم يدع
____________
(1) الصحيفة السجادية : 293 ـ الدعاء 48 .
(2) آل عمران : 105 .

(174)

الخلق سدى من غير حجة .
هل تعرفونهم ؟
أو تجدونهم إلاّ من فروع الشجرة المباركة ، وبقايا صفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس ، وطهرهم تطهيراً ، وبرّأهم من الآفات ، وافترض مودتهم في الكتاب » (1) ؟ !
وقال عليه السلام لرجل شاجره في مسألة شرعية فقهية :
« يا هذا ! لو صرت إلى منازلنا ، لأريناك آثار جبرئيل في رحالنا ، أفيكون أحد أعلم بالسنة منا » (2) .
وقال أيضاً :
« إن دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة ، والآراء الباطلة ، والمقاييس الفاسدة ، لا يصاب إلاّ بالتسليم .
فمن سلم لنا سلم ، ومن أقتدى بنا هدي ، ومن كان يعمل بالقياس والرأي هلك ، ومن وجد في نفسه ـ مما نقوله ، أو نقضي به ـ حرجاً ، كفر بالذي أنزل السبع المثاني والقرآن العظيم ، وهو لا يعلم » (3) .
وبين الإمام الباقرسبب تأكيدهم وسر إرجاع المسلمين إليهم ، بأنهم مكلفون ببيان الأحكام للناس ، لكن السياسة الظالمة والأهواء الباطلة تمنع الأخذ منهم ، أو تمنعهم من بيانها ، فقد قال : « بليّة الناس علينا عظيمة ، إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا ، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا (4) » .
وبهذا فقد عرفت أن الطابع السياسي أخذ يتفشى في الشريعة شيئاً فشيئاً ،
____________
(1) كشف الغمة للأربلي 2 : 98 ـ 99 .
(2) نزهة الناظر للحلواني : 45 .
(3) اكمال الدين : 324 ب 31 ح 9 .
(4) الإرشاد 2 : 167 ، مناقب آل أبي طالب 4 : 206 ، وعنه في البحار 46 : 288 ح 11 .

(175)

وأن الأحكام صارت تخضع لأهواء الحكام ، وأن الفرائض الشرعية صارت محرفة عما شرعت ، وأن الحكام صاروا يفتون الناس بالدين الذي يريدونه أو يستخدمون من له نفوذ وعلم لأن يفتي لهم بما يريدون ، وقد مر عليك سابقاً كلام ابن عباس ، وأنه كان يلعن معاوية وأتباعه لتركهم سنة رسول الله بغضاً لعليّ « اللهم العنهم فقد تركوا السنة من بغض عليّ » (1) .
أو أنه قال : « لعن الله فلاناً ، إنه كان ينهى عن التلبية في هذا اليوم ـ يعني يوم عرفة ـ لأن عليّاً كان يلبي فيه » (2) .
ونقل الشيخ أبو زهرة ما جاء عن الحكم الأموي ، منها :
لابدّ أن يكون للحكم الأموي أثر في اختفاء كثير من آثار عليّ في القضاء والإفتاء ؛ لأنه ليس من المعقول أن يلعنوا عليّاً فوق المنابر ، وأن يتركوا العلماء يتحدثون بعلمه ، وينقلوا فتاواه وأقواله ، وخصوصاً ما يتصل بأساس الحكم الإسلامي (3) .
ونحن نقول هنا بما مر ، كيف بالحكومة تترك الناس يمارسون دورهم ، وهم من مخالفي عثمان ، في حين يتصدر عليّ ـ الذي يلعنونه ـ مدرستهم ؟ !
وبهذا فقد عرفنا بأن لكلا الاتجاهين ـ الناس والخليفة ـ أنصاراً وأتباعاً في الوضوء ، يذودون عما يرتؤونه ، وبما أن السلطة قد تبنت فقه عثمان ودعت إلى فضائله ونشرت آراءه ، فمن الطبيعي أن ينساق السواد الأعظم ـ تبعاً للدولة ـ إلى وضوء الخليفة عن طيب نيّة وحسن سريرة .
وهناك مؤشرات تدلل على أن الخلاف في الوضوء كان قائماً ـ في هذا العهد ـ على قدم وساق ، وبذكرنا بعض النصوص لخلاف الناس مع الدولة
____________
(1) سنن النسائي 5 : 253 ، سنن البيهقي 5 : 113 .
(2) انظر : النصائح الكافية : 11 عنهما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس .
(3) انظر : تاريخ المذاهب الإسلامية لأبي زهرة : 285 ـ 286 .