أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا ، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلاّ ما نعرف(1) .
وقيل : إن كتاباً فيه قضاء عليّ اُتي إلى ابن عباس فمحاه إلاّ قدراً(2) .
وجاء في طبقات الفقهاء ، عن سعيد بن جبير ؛ قال : سألت عبدالله بن عمر عن الإيلاء ؟
قال : أتريد أن تقول : قال ابن عمر ، قال ابن عمر ؟
قلت : نعم ؛ ونرضى بقولك .
فقال ابن عمر : يقول في ذلك اُولو الأمر ، بل يقول في ذلك الله ورسوله .
ولا ندري كيف صارت صوافي الاُمراء ـ عند فقدان الحكم في الكتاب والسنة ـ حجة شرعية عند بعض المسلمين . . فهل هي حقاً حجة ؟
جاء في أعلام الموقعين ، عن المسيب بن رافع ؛ قال :
كان إذا جاء الشيء في القضاء وليس في الكتاب ولا في السنة فيدفع إلى الاُمراء ، فيجمع له أهل العلم ، فإذا اجتمع عليه رأيهم فهو الحق(3) .
ولماذا نرى ابن عمر يدل الناس على التمسك بفقه عبدالملك بن مروان من بعده ؛ إذ قيل له : من نسأل بعدكم ؟
قال : إن لمروان ابناً فقيهاً فسلوه(4) .
فمن هو مروان ؟ !
ألم يكن ذلك الطريد الذي أبعده رسول الله مع أبيه إلى خارج المدينة . . ثم صار عميد الاُسرة الحاكمة بعد يزيد ؟ !
____________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي 1 : 81 والمسترشد للطبري : 174 .
(2) صحيح مسلم بشرح النووي 1 : 83 .
(3) أعلام الموقعين 1 : 84 ، وقد أخرجه البخاري في صحيحه وابن سعد في طبقاته أيضاً .
(4) تهذيب التهذيب 6 : 422 ، تهذيب الكمال 18 : 410 ، تاريخ بغداد 10 : 389 ، المنتظم 6 : 39 .

(197)

أو لم يقل أبو سعيد الخدري ـ عندما اعترض عليه في تقديمه الخطبة على الصلاة : غيّرتم والله (1) ؟ !
وهل يمكن تصديق قول جرير بن حازم : سمعت نافعاً يقول : لقد رأيت المدينة وما بها أشد تشميراً ، ولا أفقه ، ولا أقرأ لكتاب الله من عبدالملك(2) !
مع علمنا بأن عبدالملك هذا هو ابن مروان بن الحكم ـ طريد رسول الله ـ وقد ولد من أبوين أمويين أبوه : مروان بن الحكم بن العاص (طريد رسول الله) . واُمه : عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن العاصّ ، الذي جدع أنف حمزة عم النبي يوم اُحد(3) ، والذي أمر رسول الله بضرب عنقه . ثم بأي منطق يمكن أن يعد عبدالملك أفقه وأقرأ الناس ، مع علمنا أن المدينة لم تخلو يوماً من الفقهاء والعلماء ، فهل كانت الساحة خالية حقاً حتى يتصدر الحاكم ريادة الفقه والقراءة ، لأنه الأفقه والأقرأ ؟ !
ولماذا يبكي أنس ، عندما كان في دمشق ؟ !
قال الزهري : دخلت على أنس بن مالك بدمشق ، وهو يبكي . . فقلت : ما يُبكيك ؟ ‍‍‍ !
قال : لا أعرف شيئاً مما أدركت إلاّ هذه الصلاة ، وهذه الصلاة قد ضيعت(4) ! !
وأخرج البخاري ، عن غيلان ؛ أنه قال : قال أنس : ما أعرف شيئاً مما كان على عهد النبي !
قيل : الصلاة !
____________
(1) صحيح البخاري 2 : 22 باب الخروج الى المصلى بغير منبر .
(2) تهذيب التهذيب 6 : 422 ، تهذيب الكمال 18 : 410 : تاريخ بغداد 10 : 389 ، المنتظم : 6 : 39 .
(3) انظر : البداية والنهاية 9 : 67 .
(4) البداية والنهاية 9 : 94 .

(198)

قال : أليس ضيعتم ما ضيعتم فيها(1) !
ولماذا نرى العبادة في هذا العهد جسداً بلا روح ، وقالباً بلا محتوى ؟ !
فقد أخرج البخاري ، عن الأعمش ؛ قال : سمعت سالماً قال : سمعت اُم الدرداء تقول : دخل عليّ أبو الدرداء ، وهو مغضب ؛ قلت : ما أغضبك ؟
فقال : والله ! ما أعرف من أُمة محمد (ص) إلا أنهم يصلون جميعاً (2) .
وهل تطمئن نفوسنا بعد هذا إلى احاديث أمثال هؤلاء الحكام واجتهادات الحجاج وفتاوى عبد الملك و . . بعد أن عرفنا مواقفهم من الشريعة ؟
عجباً لدوران الزمان ! . . إذ كيف صار هؤلاء حكاماً حتى يتصدروا للقضاء والإفتاء ، بعد أن جذبوا إليهم من وعاظ السلاطين ذلك العدد الذي تمكنوا من خلاله من أن يقولوا كل ما يريدون ! !
قال سعيد بن جبير : كان رجاء بن حيوة يعد من أفقه فقهاء الشام ، ولكن كنت إذا حركته ، وجدته شامياً يقول : قضى عبد الملك بن مراوان بكذا وكذا (3) .
وأحسبك ـ بعد هذا ـ قد عرفت عبد الملك ، وعرفت موقفه من الشريعة .
إذا كان هذا هو حال الحكام ، وهذه هي حال الشريعة . . فكيف بأُولئك الناس في وضوئهم ، بعد أن أحكم الحاكم قبضته ، وأعلن عن منهجه المخالف للنبي (ص) وسنته ؟ !
وتراه يؤكد لزوم الأخذ بفقه عثمان . قال عبد الملك فيما قال : . . . فالزموا ما في مصحفكم الذي حملكم عليه الامام المظلوم ، وعليكم بالفرائض التي جمعكم عليه إمامكم المظلوم رحمه الله ، فإنه قد استشار في ذلك زيد بن ثابت ، ونعم المشير كان للإسلام رحمه الله ، فأحكما ما أحكما ، واستقصيا ما شذ عنهما (4) .
____________
(1) صحيح البخاري 1 : 140 .
(2) صحيح البخاري 1 : 166 باب فضل صلاة الفجر في جماعة ، فتح الباري 2 : 109 .
(3) انظر : ترجمة رجاء بن حيوة في طبقات الفقهاء وتهذيب الكمال 9 : 154 .
(4) البداية والنهاية 9 : 68 .

(199)

فهل يمكن الاطمئنان بمرويات الحكام في الوضوء والحال هذه ؟ !
وماذا يعني إكراه الزهري على تدوين السنة الشريفة ؟ ولماذا يستحي أن يكتبها للسلطان ، ولا يكتبها للناس ؟
وما معنى كتاب عمر بن عبدالعزيز إلى الآفاق : عليكم بابن شهاب [ الزهري ] فإنكم لا تجدون أعلم بالسنة الماضية منه !
وكيف يستتر بعد هذا معنى ومقصود كلام الزهري : لو جمع علم عائشة إلى علم جميع النساء لكان علم عائشة أفضل ! !
وقول عطاء ـ فقيه الحكومة ـ : كانت عائشة أفقه الناس وأحسنهم رأياً في العامة ! !
وهل يصح قول ابن عمر : لا اُقاتل في الفتنة ، واُصلي وراء من غلب(1) ؟
فما معنى قوله تعالى : (فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله)(2) إذاً ؟
وهل أن الشرعية للأقوى من ضمن مفاهيم الشريعة الإلهية ، حتى يستمدوا من شريعة الغاب رؤاهم ؟ !
ولماذا تصدر أمثال هذه الرؤى عن : ابن عمر ، وابي هريرة ، وأشباههما ؟
وكيف يجرؤ البعض أن ينسب إلى ابن عمر الإقلال في الحديث ؟ ! في حين نراه يروي أكثر من 2000 حديثاً ، فهل هذا هو المقل ، أم المُقلّ ، أم المقل أم سلمة (زوجة الرسول) وأبوذر وعمار وغيرهم من المخالفين للحكام ؟ !
ولا ندري أنصدق الواقع ، أم نصدق ما قاله الشعبي : جالست ابن عمر سنة فما سمعته يحدث عن رسول الله(3) ؟
____________
(1) طبقات ابن سعد 4 : 149 .
(2) الحجرات : 9 .
(3) الإصابة 2 : 349 عن مجاهد .

(200)

وكيف نصدّق ما نقله ابن سعد والذهبيّ عن الإمام الباقر وأنّه قال في ابن عمر إنّه أحذر أصحاب النبيّ إذا سمع من رسول الله شيئاً إلاّ يزيد ولا ينقص (1) وأقوال عائشة والنصوص الأخرى تكذّب هذا الخبر !
وكيف صار أبو هريرة من الأدوات الفاعلة في المخطّط الامويّ ، حتّى أنّه ليعرف متى يأتي قطعان الشام ، ويدعو إلى إطاعتهم وعدم سبّ الظالمين ؟ ! !
قال العجّاج الراجز : قال لي أبو هريرة : من أين أنت ؟
قلت : من أهل العراق .
قال : يوشك أن يأتيك بقطعان الشام [ أي خدمهم وعمّال الزكاة ] فيأخذوا صدقتك ، فإذا أتوك فتلقّهم بها . فإذا دخلوها ، فكن في أقاصيها ، وخلّ عنهم عنها ؛ وإيّاك أن تشتمهم ، فإنّك إن سببتهم ذهب أجرك ، وأخذوا صدقتك ، وإن صبرت ·· جاءت في ميزان عملك يوم القيامة(2) .
وفي كتاب الأموال لأبي عبيد : انّ رجلأ جاء إلى أبي هريرة فقال : أأُخبّي منهم كريمة مالي ؟
قال : لا ، إذا أتوكم فلا تعصوهم ، وإذا أدبروا فلا تسبّوهم ، فتكون عاصياً خفّف عن ظالم ، ولكن قل : هذا مالي ، وهذا الحق ، فخذوا الحقّ وذر الباطل ، فإن أخذه فذلك ، وإن تعداه إلى غيره جمعا لك في الميزان يوم القيامة(3) .
نعم ؛ قد طرح الحكام هذه الرؤى لئلا يقف أحد أمام تصرفاتهم ، لترك ما لله لله ، وما لقيصر لقصير ، ولتخدير الأمّة ، وترويضها على الابتعاد عن التدخّل في أجواء الحكم والحاكم ، والاكتفاء بالخروج إلى الصلاة أيّام الجمع ، لتجريدهم من روح النصيحة ، وجعلهم أناساً بلا مسؤوليّة ؛ حتّى لا يقف
____________
(1) طبقات ابن سعد 4 : 144 ، سير أعلام النبلاء 3 : 213 .
(2) الشعر والشعراء لابن قتيبة : 392 .
(3) كتاب الأموال : 412 .

(201)

أحدهم أمام نهبهم لبيت مال المسلمين ، ولكي يطمئن الحكام ويصفو لهم الجوّ في تعدّيهم حدود الله وهم منغمسون في حياة اللهو والمجون في لياليهم الحمراء بين الغواني والقيان في قصورهم الباذخة·
والأدهى من كلّ ما تقدّم أن تصير ميتة الخارج على أمثال هؤلاء - في حساب دينهم - ميتة جاهليّة ! !
ومهما يكن فإنّ هذا الموضوع متشعّب طويل قد ألجأنا منهج البحث في الإشارة إلى شيء منه في هذا السياق لتوضيح طرق التمويه الحكوميّة ، حتّى يقف المطالع على الوجه الكريه للأمويين ، وكيف كانوا يتلاعبون بالأحكام ، ويحرّفون الفرائض عن جهات شرائعها ، فتصير الأحكام عندهم تابعة للأهواء ؛ حين تركوا السنّة من بغض عليّ ! فيقرّبون مناوئي عليّ ، ويجعلونهم مراجع للحديث والإفتاء ولزوم الجمود على آرائهم وعدم التخطّي إلى غيرها ! !
فترى معاوية يبذل أربعمائة ألف درهم لسمرة بن جندب لقاء نقله لـ (رواية) في أنّ الآية : (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله) قد نزلت في ابن ملجم (1) قاتل عليّ !
قال المدائني عن عصر معاوية : وظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر ، ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة ، وكان أعظم الناس في ذلك بليّة القرّاء المراؤون والمستضعفون الذين يظهرون الخشوع والنسك فيفتعلون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويقربوا من مجلسهم ، ويصيبوا به الأموال والضياع والمنازل ، حتى انتقلت تلك الأخبار والأحاديث إلى أيدي الديّانين الذين لا يستحلّون الكذب والبهتان فقبلوها ورووها وهم يظنّون أنّها حق ، ولو علموا أنّها باطلة لما رووها ولما تديّنوا بها(2) .
____________
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 : 73 .
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 : 59 .

(202)

وبعد هذا يتّضح لنا كلام جعفر بن محمد الصادق بكل دقة وجلاء ؛ حين قال : « أتدري لم أمرتم بالأخذ بخلاف ما تقول العامّة ؟
قلت : لا !
فقال : إنّ عليّاً لم يكن يدين الله إلاّ خالفته عليه الأمّة إلى غيره ؛ إرادة لإبطال أمره وكانوا يسألون أميرالمؤمنين عن الشيء لا يعلمونه ، فإذا أفتاهم جعلوا له ضدّاً من عندهم ليلبسوا على الناس (1) .

خلاصة وآراء

ونلخص ما مرّ في نقاط ثلاث :
الاُولى : إنّ الحكومة الأمويّة تبنّت تدوين السنّة النبويّة ، وقد اتّضح لك حالها وكيفيّة تحريفها للمفاهيم ، وإبدالها بأخرى··· وتبيّن لك أنّ ذلك في العهد المرواني ، وهو من أشدّ الأزمنة وطأةً على الشريعة ، وكان الفقه يؤخذ قبل ذلك من أمثال ابن عمر وعائشة وأبي هريرة ! وأنّ ابن عمر قد أرشد المسلمين للأخذ بفقه عبدالملك بن مروان من بعده ! !
الثانية : إنّ تدوين السنّة النبويّة جاء بإكراهٍ من السلطان ، وهذا ما يبرهن على أنّ للحكومة فيه مآرب وأهدافاً سياسيّة ، أشرنا إلى بعضها ، ابتداءً بتدوين ما ترتضيه وحذف ما لا ترتضيه ، وانتهاءً بتأصيل أصول هي بعيدة عن الشريعة وواقع النظرة الإنسانيّة ، وعرفنا أنّ فقه عليّ هو ممّا لا ترتضيه الحكّام ولا ينسجمون وإيّاه ·
الثالثة : إنّ فكرة التدوين من قبل الحكّام نشأت بعد ثوران الرأي العام ضدّ الأمويين بمقتل الحسين لما نتج عنها من انشداد المسلمين إلى أهل البيت
____________
(1) راجع بحث التعادل والتراجيح من أصول الإماميّة .

(203)

وإصرارهم على ضرورة العمل بالسنّة ؛ بالإضافة إلى وقوف بعض الصحابة أو التابعين أمام الحكّام التزاماً بالسيرة العمليّة لرسول الله ، ممّا حدى بالحكومة أن تفكّر بجدّيّة في مسألة تبنّي تدوين السنّة ، لمحاصرة ما عسى أن يستجدّ أمامهم من مشكلات في المستقبل·
وقد قلنا سابقاً إنّ اتّجاه الناس كان هو التحديث عن رسول الله ، لقول عثمان : (إنّ ناساً يتحدّثون عن رسول الله) ؛ أمّا نهج الخليفة والحكومة ، فقد كان الأخذ بالرأي ومعارضة الذين يتحدّثون وفق المدوّنات !
وكان النهجان على تضادّ ؛ فالحكّام لا يسمحون لهؤلاء في التحدّث بكلام الرسول ، لأنّ فيه توعية الناس ووقوفهم على الاجتهادات الخاطئة ، أمّا أولئك فقد كانوا يحدّثون الناس رغم كلّ الضغوط والملابسات !
فقد جاء في سنن الدارميّ :
إنّ رجلأ جاء إلى أبي ذرّ ؛ وقال له : ألم تنه عن الفتيا ؟
فرفع رأسه ؛ فقال : أرقيب [ أنت ] عليّ ؟ ··· لو وضعتم الصمصامة على هذه - وأشار إلى قفاه - ثمّ ظننت أنّي أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله (ص) قبل أن تجيزوه عليّ ، لأنفذتها (1) .
وقال معاوية : ما بال رجال يتحدّثون عن رسول الله (ص) أحاديث قد كنّا نشهده ، ونصحبه فلم نسمعها منه··· فقام عبادة بن الصامت وعارضه(2) .
لقد كان معاوية يريد التشكيك بججّيّة أحاديث هؤلاء الرجال - ليبقى هذا التشكيك على مدى الأجيال - إلاّ أنّ موقف عبادة بن الصامت ومعارضته إيّاه قد ذهبت بجهود معاوية سدى !
تبيّن وفق ما قلناه أنّ الحكّام لمّا رأوا منافسيهم يتسلّحون بسلاح الحديث ،
____________
(1) سنن الدارميّ 1 : 136 ، صحيح البخاري 1 : 27 ، حجّيّة السنّة : 3- 464 .
(2) صحيح مسلم 3 : 1210| 80 باب الصرف وبيع الذهب من كتاب المساقاة .

(204)

ناوروهم بالدخول إليهم من تلك الزاوية ومن تلك المنفذ حتى وصل الامر بالزهري المكره على التدوين أن يقول : حضور المجلس بلا نسخه ذل ، وكان يامر بنشر الكتب (1) نعم ان السياسة جدّت لتطبيق ما رسم بحذافيره ، وقد نجحوا في ذلك إلى حدّ بعيد··· ! فأدخلوا في الحديث ما لا يحصى من الموضوعات ؛ وقرّبوا القصّاصين ليرووا ما يحلوا لهم·
فقد ذكر ابن حجر : أنّ معاوية بن أبي سفيان كلّف كعب الأخبار لأن يقصّ بالشام·
قال الشيخ أبو جعفر الاسكافيّ : إنّ معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين على رواية أخبار قبيحة في عليّ تقتضي الطعن فيه والبراءة منه ، وجعل على ذلك جعلأ يرغب في مثله فاختلقوا ما أرضاه ، منهم : أبو هريرة ، وعمرو بن العاصّ والمغيرة بن شعبة ، ومن التابعين : عروة بن الزبير (2) .
وقال ابن عرفة ، المعروف بنفطويه : إنّ أكثر الأحاديث الموضوعة في فضائل الصحابة افتعلت في أيّام بني أميّة ، تقرّباً إليهم بما يظنّون أنّهم يرغمون به أنوف بني هاشم(3) .
وقال الإمام محمد عبدة :
إنّ عموم البلوى بالأكاذيب حقّ على الناس في دولة الأمويين ! فكثر الناقلون وقل الصادقون ، وامتنع كثير من أجلة الصحابة عن الحديث إلاّ لمن يثقون بحفظه (4)·
وقال الأستاذ أحمد أمين :
··· ومن الغريب ، أنّنا لو اتّخذنا رسماً بيانيّاً للحديث لكان شكل هرم ، طرفه
____________
(1) انظر حليه الاولياء 3 : 366 ، البداية والنهاية 9 : 345.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 : 63 ، المعرفة والرجال للبسيوي (ت 277 هـ) ترجمة أبي هريرة .
(3) النصائح الكافية : 89 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 11 : 46.
(4) شيخ المضيرة : 202 ، عن تاريخ الإمام محمد عبده 2 : 347 .

(205)

المدبّب هو عهد الرسول(ص) ، ثمّ يأخذ في السعة على مرّ الزمان ، حتّى نصل إلى القاعدة ، فهي أبعد ما تكون عن عهد الرسول ، مع أنّ المعقول كان العكس ، فصحابة الرسول أعرف الناس بحديثه ، ثمّ يقلّ الحديث بموت بعضهم مع عدم الراوي عنه وهكذا .
ولكنّا نرى أنّ أحاديث العهد الأمويّ أكثر من أحاديث عهد الخلفاء الراشدين ، وأحاديث العصر العبّاسيّ أكثر من أحاديث العهد الأمويّ(1) .
ثمّ يعلّل ذلك بسبب نشاط حركة الهجرة في طلب الحديث ، ثمّ يضيف إليه عامل سعي اليهود والنصارى في محاولة مسخ الشريعة ، متناسياً دور السلطة وأهدافها في إبعاد الخطّ الإسلاميّ وتحريف مجراه .
والذي يؤسفنا حقّاً أن نرى كتّاباً قد وصلوا إلى الحقيقة ، لكنّهم يعزون الإسرائيليّات إلى كيد اليهود ، ودورهم في تحريف الإسلام ولم يذكروا الأيدي الأمويّة !
وهنا نتساءل :
هل يقوى اليهود - الذين كانوا يعطون الجزية ، وهم صاغرون - على ممارسة دورهم الهدّام بعيداً عن أيّ دعم من قبل السلطة الحاكمة ؟
وكيف نرى ابن حجر قد حصر الوضع في الحديث في : الخوارج والروافض وغيرهم من المبتدعة ! ! ·· حيث قال في مقدمة فتح الباري : ثمّ حدث في أواخر التابعين تدوين الآثار ، وتبويب الأخبار ، لمّا انتشر العلماء في الأمصار ، وكثر الابتداع من الخوارج والرافضة(2) !
فهل يمكن للروافض أن يضعوا الأحاديث وينشروها بين المسلمين ، في الوقت الذي كانوا فيه يعانون من الاضطهاد والتشريد والتقتيل ؟ !
____________
(1) ضحى الإسلام 2 : 128 - 129 .
(2) فتح الباري (المقدّمة) : 4 .

(206)

وهل إنّ بدايات وضع الحديث قد جاءت على يد هؤلاء حقّاً ؟ !
وكيف يتهجّم ابن حجر على طوائف من المسلمين ، ويترك الكلام عن تأثيرات الحكّام في الأحكام الشرعيّة ورغبتهم الجامحة في وضع الحديث ، خصوصاً في العهد العبّاسيّ ؟ !
لا ندري كيف نسب ابن حجر الوضع إلى الخوارج والرافضة - مع علمنا بأنّهم من المخالفين للحكّام دوماً - ولم يعز ذلك إلى بني أميّة الذين أسلموا تحت أسنّة الحراب ، وما انفكّوا عن محاربة الإسلام حتّى آخر لحظة قبل دخولهم فيه مكرهين ! !
وهل بإمكان الرافضة أن يضعوا الحديث ، فيتمكنوا من تفريق وحدة الاُمة ، بكل تلك السعة وذلك الشمول ، وهم المضطهدون الملاحقون من قبل عيون الحاكم المتسلط على الرقاب بقوة السلاح ، وفي عصر التدوين الحكومي بالذات ؟ !
وإذا كان الرافضة يرفضون فقه الحاكم القائل : (لو قال برأسه كذا ، قلنا بسيفنا كذا) . . فهل من المعقول أن يسمح ذلك الحاكم بانتشار فقه وحديث رافضيهم ؟ !
نعم ؛ إن الرافضة ما كانوا يقوون على مواجهة شدة هيجان تيار الحكومة جهرة ، وما كانوا يمارسون عباداتهم على سنة النبي (ص) إلاّ خفية . . وإليك هذا الخبر لتزداد وضوحاً :

العبادة عند الرافضة !

أخرج أحمد وبسنده إلى أبي مالك الأشعري ؛ إنه قال لقومه :
اجتمعوا أُصلي بكم صلاة رسول الله ؛ فلما اجتمعوا
قال : هل فيكم أحد غيركم ؟
قالوا : لا ؛ إلاّ ابن اُخت لنا .

(207)

قال : ابن اُخت القوم منهم .
فدعا بجفنة فيها ماء فتوضأ ، ومضمض واستنشق ، وغسل وجهه ثلاثاً ، وذراعيه ثلاثاً(1) ، ومسح رأسه وظهر قدميه .
ثم صلى بهم ، فكبر ثنتين وعشرين تكبيرة(2) .
فأبو مالك الأشعري كان يريد تعليم قومه وضوء وصلاة رسول الله ؛ لكنه كان يتخوف من الحكام وبطشهم فتساءل ليطمئن « هل فيكم أحد غيركم ؟ » ، وهذا دليل على أن المسلمين لم يكنونوا مختارين في ممارسة عباداتهم ، بل كانوا يجبرون على إيتان ما يريده الحكام ، وأن المتخلف في أخذ الأحكام عنهم يعد في قاموس هؤلاء (رافضياً) من الرافضة !

أعلام المسلكين في العهد الأموي

تتوصلنا فيما مضى إلى أن هناك من كانوا يمثلون الامتداد لنهج الناس ـ الذين يتحدثون عن رسول الله (ص) ـ في هذا العهد ؛ وهم :
1 ـ عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق .
2 ـ عبدالله بن عباس (حبر الاُمة) .
3 ـ أنس بن مالك (خادم الرسول)
وأما الذين مثلوا الامتداد لنهج الخليفة عثمان وناصروا مسلك الحكومة ؛ فهم :
1 ـ عائشة بنت أبي بكر .
____________
(1) وسنوضح كيفية الغسل الثالث عند مدرسة المسح وأتباع السنة النبوية في الجانب الروائي من هذه الدراسة .
(2) مسند أحمد 5 : 342 ومن وقاحة المتعصبة واتباع السلطان أنهم غيروا هذا النص في المصنف لعبد الرزاق 2 : 63 وجعلوا الوضوء فيه غسلي ، لكن الحقيقة لا تخفى على الباحث ، لان الوضوء الغسلي لا موجب للخوف فيه ! !

(208)

2 ـ الربيع بنت معوذ بن عفراء .
3 ـ الحجاج بن يوسف الثقفي .
مع علمنا ، بأن عائشة ـ كما أسلفنا ـ نراها تدعو إلى لزوم غسل الرجلين في هذا العهد رغم مخالفتها لرأي عثمان ؛ لا لأنها رأت رسول الله فعل ذلك ، بل لأنه قال : (ويل للأعقاب من النار !) . . . فإنها لو كانت تريد دعوة أخيها عبدالرحمن إلى غسل رجليه ، للزمها أن تستدل بفعل النبي (ص) لا بقوله ، إذ يتعسر الاستدلال بهذه الجملة على المطلوب .
ولنا في الفصل الثاني من هذه الدراسة « الوضوء في الكتاب واللغة » وقفة مع أحاديث (أسبغوا الوضوء) و(أحسنوا الوضوء) و (ويل للأعقاب) ، ومدى دلالتها على لزوم غسل الرجلين وتثليث الغسلات وسندرس قيمة التحسينيات التي عدت من أقسام المصالح ، وكيفية استغلال الحكام لهذه المفاهيم لترسيخ وضوء الخليفة الثالث .
ومن المؤسف أن نرى الفقهاء قد عدوا الأحاديث السابقة دليلاً ثالثاً ـ بعد الكتاب والسنة ـ على لزوم غسل الرجلين ؛ وهو مما يعضد كون المدرسة العثمانية في الوضوء قد أخذت طابعاً فقهيّاً ، وأن العلماء جاؤوا ليدعموها بالدليل وينفوا الضعيف عنها بالتأويل ، بغية إشاعتها ، ومحاولة لتطبيع العامة عليها .
فاتضح ولحد الآن أن الناس في الوضوء هم :
1 ـ علي بن أبي طالب .
2 ـ عبدالله بن عباس .
3 ـ طلحة بن عبيدالله .
4 ـ الزبير بن العوام .
5 ـ سعد بن أبي وقاص .

(209)

6 ـ عبدالله بن عمر (قبل مقتل عثمان) .
7 ـ عائشة بن أبي بكر (قبل مقتل عثمان) .
8 ـ محمد بن أبي بكر (كما في كتاب عليّ إليه لما ولاّه مصر) .
9 ـ عبدالرحمن بن أبي بكر .
10 ـ أنس بن مالك .
مع العلم أن المروي عن أبن عمر كان هو المسح ، فقد أخرج الطحاوي بسنده ، عن نافع ، عن ابن عمر ، إنه كان إذا توضأ ونعلاه في قدميه مسح ظهور قدميه بيديه ؛ ويقول : كان رسول الله يصنع هكذا(1) !
إلاّ أنه غير موقفه في العهد الأموي ، ونقلت عنه أحاديث في غسله الثلاثي للأعضاء ولا ننفي أن تكون تلك الأقوال المنسوبة إليه قد وضعت من قبل الأمويين ، وأنه لم يقل بها أصلا مع تأكيدنا لتعاونه مع الدولة .
وعليه . . فإن وضوء الناس في العهد الأموي لم يكن ضعيفاً أمام أنصار الخليفة والحكومة ، لكنه أخذ في الضعف شيئاً فشيئاً حتى انحصر ببعض التابعين وأهل بيت رسول الله ، إذ إن الحكومة بما لها من قوة إعلامية وقدرة تنفيذية كانت وراء ترسيخ فقه عثمان . وقد مر عليك أن عبدالرحمن بن أبي بكر وأخاه محمداً ، وكذا ابن عمر كان وضوؤهم هو المسح ، وذلك يدلل ويؤكد على أن سيرة المسلمين كانت هي المسح منذ عهد النبي الأكرم (ص) حتى عهد الشيخين(2) ، لما أتضح لك من قبل من عدم وجود الخلاف في عهدهما ، وترى الآن فعل أبنائهما في الوضوء .
بل ذكر العيني في عمدة القارئ أحاديث المسح وعده منها : حديث رضي الله عنه اخرجه ابن شاهين في كتاب الناسخ والمنسوخ(3) .
وإن مواقف الصحابة وأبنائهم من أمثال أنس بن مالك وعبدالله بن عباس وعبد الرحمن بن أبي بكر ، كانت ذات بُعد توجيهي ، وهي تومئ إلى ديمومة
____________
(1) شرح معاني الآثار 1 : 35 | 160 .
(2) أما ما نسب إلى الخليفة عمر بن الخطاب من أنه كان يغسل رجليه ، فهو مما نبحثه في الجانب الروائي من هذه الدراسة إن شاء الله تعالى .
(3) عمدة القارئ 2 : 240 باب موجب الوضوء وانظر تفسير الطبري كذلك .

(210)

خط السنة النبوية ، رغم مخالفة الحكام له .
لقد أوصلنا البحث إذاً إلى أن البعض من العشرة المبشرة ، وزوجات النبيّ ، وخدمه ، وبعض كبار الصحابة من أمثال ابن عباس وعلي بن أبي طالب و . . . قد نقلوا لنا الوضوء الثنائي المسحي وعدوه سنة نبويّة يجب العمل بها .
بهذا . . فقد وقفنا على بعض خلفيات المسألة ، واتضح لنا جهل من يقول : هذا هو وضوء الرافضة أو الشيعة فقط ، بل عرفت بأنه وضوء رسول الله ، ووضوء كبار الصحابة .

لماذا إذن ؟ !

بعد هذا نتساءل : لماذا لا نرى قائلاً بالمسح في المذاهب الأربعة اليوم رغم مشروعيته منذ زمن الرسول إلى هذا العهد ورغم تناقل الفقهاء والمحدثين ذلك في كتبهم ؟ وكيف صار المسلمون لا يقبلون ذلك الوضوء وينظرون إليه بارتياب واستنكار ؟ ! ولماذا يتهم القائل بالمسح بالزندقة والابتداع والخروج من الدين ، رغم ثبوته والتزام كبار الصحابة به وفعلهم له ؟ !
وكيف يقول ابن كثير : ومن أوجب من الشيعة مسحها كما يمسح الخف ، فقد ضل وأضل(1) ، في حين نراه بعد أسطر من كلامه هذا ينقل عن جملة من الصحابة ـ يزيدون على العشرة ـ أنهم قد كانوا يقولون بالمسح !
وكذا الحال بالنسبة للشهاب الخفاجي في قوله : ومن أهل البدع ، من جوّز المسح على الأرجل بدون الخف ، مستدلاً بظاهر الآية(2) .
وقال الآلوسي : لا يخفى أن بحث الغسل والمسح ، مما كثر فيه الخصام ، وطالما زلت الأقدام . . .
____________
(1) تفسير القرآن العظيم لابن كثير 2 : 45 .
(2) حاشية الشهاب على البيضاوي 3 : 221 .

(211)

إلى أن يقول : . . . فلنبسط الكلام في تحقيق ذلك ، رغماً لاُنوف الشيعة السالكين من كل سبل حالك(1) .
كيف يتحامل هؤلاء على الشيعة ، والصحاح المعروفة مليئة بما يدل على مشرعية المسح ؟ !
وهل إن أتباع رأي فقهي لا يرتضيه الآخرون ، يُعدّ في قاموس ابن كثير والخفاجي وأضرابهما ضلالة ؟
ألم يكن معنى الضلالة ، هو الابتعاد عن الطريق ، وهل إن الشيعة الإمامية قد ابتعدوا حقاً عن وضوء رسول الله (ص) ، أم إنهم قد ثبتوا عليه رغم سياسات الحكام الضاغطة ؟
وهل أن المسح على الأرجل هو وضوء المبتدعة ، أم إنها سنة رسول الله وما نزل به القرآن ؟
وهل أن أُولئك الصحابة ـ الذين رووا المسح ـ كذبوا على رسول الله ، أم إنه (ص) فعل ما يوقع الناس في الالتباس ـ والعياذ بالله ـ أم إن السياسة بوسائلها الإعلامية هي التي شوهت هذه السنة خلال العصور ، لدواعٍ لها ؟ !
ألم يكن وضوء الشيعة هو وضوء الناس الذين مثلوا الامتداد لوضوء النبيّ الأكرم (ص) ، بعد أن عارضوا عثمان ، وتمسكوا بوضوء رسول الله (ص) وكانوا يتحدثون عنه ؟
أو لم تكن معارضتهم لعثمان ، من أجل الثبات على السنة النبوية المباركة وتخطئتهم لاجتهاداته ؟
فكيف يصح إذاً أن يُرمى الشيعة بالابتعاد عن خط السنة ، وهم الثابتون عليه رغم كيد وقساوة الحاكم العامل بالرأي التارك للسنة النبوية ؟ !
____________
(1) روح المعاني 6 : 74 .

(212)

إن نقل الأخبار الحوارية والعينية لخلاف الناس مع الحكومة ، نحسبه كافياً لرسم معلم الخلاف بين الاُمة ، وأنهم لا يستقرون ولحد العهد الأموي على وضوء واحد ، بل كان لكلا الوضوءين أنصار وأتباع يذودون عما رووه وارتأوه .
وإضاءةً لهذه المسألة نذكر نصوصاً اُخرى لصحابة آخرين لم ترد أسماؤهم لحد الآن ، لكي نقف على ضعف وضحالة تلك النسب المكذوبة إلى مدرسة المسح ، ولإثبات أن المسح هو حقيقة فعل رسول الله وكبار الصحابة وهو ما نزل به الوحي من عند الله (عز وجل) .

أسماء بعض الصحابة الذين قالوا المازني بالمسح

عباد بن تميم بن عاصم المازني (1)

أخرج الطحاوي بسنده ، عن عباد بن تميم ، عن عمه [ عبدالله ] : إن النبي توضأ ، ومسح على القدمين ؛ وأن عروة كان يفعل ذلك(2) .
وأخرج ابن الأثير بسنده ، عن عباد بن تميم ، عن أبيه ؛ قال : رأيت رسول الله توضأ ، ومسح على رجليه(3) .
وجاء في الإصابة ، عن عباد بن تميم المازني ، عن أبيه ؛ قال : رأيت رسول الله يتوضأ ، ويمسح على رجليه .
قال : ورجاله ثقات(4) .
وقال الشوكاني : أخرج الطبراني ، عن عبادة بن تميم ، عن أبيه ؛ قال : رأيت
____________
(1) هو ابن أخ عبدالله بن زيد بن عاصم المازني الأنصاري صاحب حديث الوضوء .
(2) شرح معاني الآثار 1 : 35 | 162 ، وعروة هنا هو ابن الزبير الذي سيأتي ذكره بعد قليل .
(3) اُسد الغابة 1 : 217 .
(4) الإصابة 1 : 185 .

(213)

رسول الله يتوضأ ، ويمسح على رجليه(1) .
قال ابن حجر : روى البخاري في تاريخه ، وأحمد في مسنده ، وابن أبي شيبة ، وابن أبي عمر ، والبغوي ، والباوردي . . وغيره ، كلهم من طريق أبي الأسود .
وجاء في كنز العمال : مسند تميم بن زيد ، عن عبادة بن تميم ، عن أبيه ؛ قال : رأيت رسول الله توضأ ، ومسح بالماء على لحيته ورجليه .
(ش ، حم ، خ في تاريخه ، والعدني ، والبغوي ، والباوردي ، وأبو نعيم قال في الإصابة : رجاله ثقات)(2) .
وهكذا رأينا أن عباداً هذا ، قد روى الوضوء المسحي عن رسول الله بطريقين :
الاول : عن أبيه ، تميم بن زيد المازني ، وقد جاءت أسانيده في أغلب المصادر .
الثاني : عن عمه عبدالله بن زيد بن عاصم وهو ما أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار .
ولم ترد عنه عن عمه رواية في الوضوء الثلاثي الغسلي ، وهذا ما يعضد ويرجح أن يكون المروي عن عبدالله بن زيد بن عاصم المازني ـ عم عباد ـ في الثنائي المسحي هو الصحيح عنه ، وبه يضعف المنسوب إليه من الوضوء الثلاثي الغسلي ، وهذا ما سنبحثه في الفصل الأول من هذا الكتاب بإذن الله تعالى .

أوس بن أبي أوس الثقفيّ

أخرج المتقي بسنده إلى أوس بن أبي أوس الثقفي ، أنه رأى النبي أتى كظامة
____________
(1) نيل الأوطار 1 : 210 .
(2) كنز العمال 9 : 429 | 26822 .

(214)

قوم بالطائف فتوضأ ، ومسح على قدميه(1) .
وأخرج الحازمي بسنده إلى أوس ، أنه رأى النبي أتى كظامة قوم بالطائف فتوضأ ، ومسح على قدميه(2) .
وأخرج الطبري بسنده عن أوس ؛ قال : رأيت رسول الله أتى سباطة قوم فتوضأ ، ومسح على قدميه(3) .
قال الشوكاني : أخرج أبو داود ، عن حديث أوس بن أبي أوس الثقفي ، أنه رأى رسول الله أتى كظامة قوم (بالطائف) فتوضأ ، ومسح على نعليه وقدميه(4) .
وأخرج ابن الاثير في اُسد الغابة ، وأحمد في مسنده ، والمتقي في الكنز وغيرهم ، بسندهم عن أوس بن أبي أوس ، أنه قال : رأيت رسول الله توضأ ، ومسح على نعليه ، ثم قال إلى الصلاة(5) .
يوقفنا اختلاف الروايات عن أوس ـ بورود المسح على القدمين تارة ، وعلى النعلين اُخرى ـ على واحد من اُمور ثلاثة :
الاول : عدم عناية الرواة في ضبط الحديث عنه ، ويحتمل أن يكون نقلهم عنه أنه مسح على النعلين ، هو تسامح منهم ، باعتقادهم أن كلا اللفظين يدلان على حقيقة واحدة في حين أن المسح على النعلين غير المسح على القدمين .
الثاني : التأكيد في المسح على النعل ، هو من صنع الحكام ، فقد عرفنا أنهم قد قاموا بتدوين السنة الشريفة ، وليس من البعيد اختلاقهم هذا الحديث عنه (ص) وغيره .
____________
(1) كنز العمال 9 : 476 | 27042 .
(2) الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار 1 : 61 .
(3) تفسير الطبري 6 : 86 .
(4) نيل الأوطار 1 : 209 ، سنن أبي داود 1 : 41 | 160 .
(5) اُسد الغابة 1 : 140 : مسند أحمد 4 : 8 و9 و 10 ، كنز العمال 9 : 476 ح 27041 .

(215)

الثالث : القول بما ذهب إليه أحمد بن محمد المغربي ، في كتابه (فتح المتعال في أوصاف النعال) ، والشيخ الطوسي في التهذيب : بأن الوضوء في النعال العربية لا تمنع المتوضي من المسح على قدميه حال لبسه وتنعله(1) .
وعليه : فإن صدور المسح عنه ـ كما بيناه سابقاً ـ ثابت ؛ أما القول بزيادة لفظ (نعليه) في هذه الرواية ، كما حكاه ابن أبي داود والشوكاني ، أو تبديل لفظ (قدميه) بـ (نعليه) كما جاء في خبر ابن الأثير . . فلا يمنعان من إثبات المطلوب ، ولا يخدشان في حجية الخبر .
وقد وجدنا لدى ابن عبدربه في الاستيعاب تأيداً لما ذهبنا إليه ، يقول : ولأوس بن حذيفة ـ وهو اسم أبي أوس ـ أحاديث منها : المسح على القدمين (2) . وإن قال : في إسناده ضعف ! !

رفاعة بن رافع

أخرج ابن ماجة ، بسنده إلى رفاعة بن رافع ، أنه كان جالساً عند النبي ؛ فقال : « إنها لا تتم صلاة لإحد حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى ، يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين(3) » .
وأخرج الطحاوي في شرح معاني الآثار ، خبر رفاعة مسنداً كذلك(4) .
قال السيوطي : أخرج البيهقي في سننه ، عن رفاعة بن رافع : إن رسول الله قال للمسيء صلاته : « إنها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله ، يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ، ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين » (5) .
____________
(1) تهذيب الأحكام 1 : 65 ، من لا يحضره الفقيه 1 : 30 .
(2) الاستيعاب 1 : 120 .
(3) سنن ابن ماجة 1 : 156 | 460 ، ومثله في تفسيرالطبري .
(4) شرح معاني الآثار1 : 35 | 161 .
(5) الدر المنثور 2 : 262 .

(216)

وقد أخرج هذا الحديث كل من : ابن أبي داود في سننه(1) ، والنسائي(2) ، والحاكم (3) .
وقال الحاكم : إنه صحيح على شرط الشيخين . . ووافقه على ذلك الذهبي في تلخيصه .
وقال العيني : حسنه أبو عليّ الطوسي ، وأبو عيسى الترمذي ، وأبو بكر البزاز وصححه : الحافظ ابن حبان ، وابن حزم(4) .
نرى في جميع هذه النصوص جملة : (حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله) التي تشير إلى مسلك الرأي ، وأنهم سيؤولون ويجتهدون في معنى الإسباغ ـ وسيقف القارئ على ذلك في الفصل الثاني من هذه الدراسة ـ وقد وقفت سابقاً على كلام الحجاج وتعليله بأنه : (أقرب إلى الخبث) ؛ أو قول عائشة لعبد الرحمن : (إن رسول الله قال ويل للأعقاب من النار) أو أنه (ص) قال : (أسبغوا الوضوء) وأن عائشة وابن عمر وأبا هريرة وعبدالله بن عمرو بن العاص قد أدرجوا هاتين الجملتين معاً للدلالة على الغسل ؛ وقد مثل علماء الحديث للإدراج بها .
فيحتمل أن يكون رسول الله (ص) قد أراد بقوله : « أن يسبغ كما أمره الله به » الإشارة إلى أن الإسباغ يتحقق بغسلتين لا أزيد ، لما تواتر عنه (ص) وثبت عند الفريقين ، اما تحقق الإسباغ بثلاث مرات فهذا ما لا تقبله مدرسة المسح وأتباع أهل البيت ، وسنتعرض إلى ذلك مفصلاً في الفصلين الأول والثاني .
ومن الظريف هنا أن نذكر عبارة لمحشي سنن ابن ماجة ، حيث يقول ؛ إن قوله : « يمسح برأسه ورجليه » يجب حمله على الغسل بأدلة خارجية ، كما حمل القرآن عليه !
____________
(1) سنن أبي داود 1 : 227 | 858 ، وكذا سنن الدارمي 1 : 305 .
(2) سنن النسائي 2 : 225 ، وكذا في سنن ابن ماجة 1 : 156 | 460 .
(3) مستدرك الحاكم 1 : 241 .
(4) عمدة القاري 2 : 240 .