الاِهداء



إلى روَّاد التدوين من السلف الصالح
إلى من يسير على هديهم فكراً ونهجاً ومعتقداً
إلى رجال الشريعة .. طلبة وأساتذة وباحثين
إلى كلّ متطلّع إلى الحقيقة ومتحرِّر من قيود التقليد والجمود
وإلى كلّ عقل حرّ ، وفطرة سليمة ، وفكر أصيل
أهدي دراستي هذه



المؤلّف


( 7 )

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمّد خاتم النبيّين وإمام المرسلين وعلى آله الطيّبين وصحبه المنتجبين إلى قيام يوم الدين، وبعد:
إنّ ممّا لا ريب فيه هو: أن الاَديان السماويّة جميعاً كانت تبتني علىأُسس فكريّة ومبانٍ تشريعيّة وأُصول محكمة في طرحها النظريّ والعمليّ لمسألة الدين وما فيه صلاح للبشر.
ولا يخفى أنّ الدين الاِسلاميّ الحنيف كان في طليعة الاَديان السماويّة، وأكثرها احتكاكاً بالحياة، وأنجحها تطبيقاً لمبادئه على الصعيد العمليّ، باعتبار تصدّيه لريادة وقيادة مختلف الاَُمم على مدى عصور متتالية.
فمن المنطقيّ إذاً أن يمتلك هذا الدين الرصيد الاَعلى من الاَُسس والمباني والاَُصول في تفكيره وطرحه، فكان الكتاب العزيز والسنّة النبويّة الشريفة هما أول وأكبر منهلين استُلهِمت منهما بيانات وأحكام الدينالاِسلاميّ.
وقد انفرد هذا الدين العظيم عن الاَديان السماويّة بأن تكفّل الله سبحانه وتعالى حفظ كتابه من الضياع والاندثار والتحريف، فقال سبحانه (إنا نحن نزّلنا الذكر وإنّا له لحافظون)(1) فلم يكن مصير القرآن المجيد مصير التوراة والاِنجيل وباقي الكتب السماويّة التي طالتها يدُ التحريف والتزييف والتبديل.
إلاّ أنّ المصدر التشريعيّ الثاني أعني سنّة رسول الله قد مُني بالوضع والتحريف من لدن عهده (ص). وقد نبّه (ص) على ذلك فقال: «مَن كذب عَلَيَّ متعمّداً فليتبوَّأ مقعده من النار» ولاَجله نراهم يقولون عن السنّة النبويّة: إنّها
____________
(1) الحجر : 9.

( 8 )
ظنّيّة الصدور!
وقد أثّرت تلك الاختلافات التي ابتُليت بها السنّة النبويّة على باقي مصادر التشريع، فصار كلّ فريق يفسّر ويُؤَوِّل الآيات بما يطابق مرويّاته، ويدّعي أنّ ذلك هو المراد منها، وربّما نحى بعض آخر منحىً سلبيّاً حين ظنّ أنّ ما يقنّنه من أُصول وقواعد وكليّات يغني عن المرويّات ويحلّ محلّ اختلافاتها، وبذلك تشعّب الخلاف وامتدت جذوره في أغلب الاَُصول والفروع.
وانشعبت الاَُمّة الاِسلاميّة إلى مذاهب وفرق، كلّ تدّعي أنّها تسير على هدى القرآن ونهج الرسول، وأنّ الحقّ بجانبها، وأنّ السنّة بأنقى صورها عندها.
فهل يمكن تصديق الجميع والقول بأنّ اتّجاهات جميع الطوائف صحيحة وإنَّ الله ورسوله مَنَحاها الحجّيّة، أم أنّ الحقّ واحد يجب العثور عليه؟!
وهل يصحّ ما قالته كلّ فرقة عن الاَُخرى أم لا؟
وهكذا ظلّ النزاع يدور في حلقة مفرغة من الاَخذ والردّ عند الاتّجاهات المختلفة، والعقل السليم لا يمكنه أمام مثل هذه النزعات إلاّ أن يرجّح أحدها أو يميل إليه، إذ من غير المعقول أن تصحَّح جميعاً، ولا أن تُغلَّط جميعاً، لاَنّ الحقّ واحد، وأنّ الفرقة الناجية ما هي إلاّ واحدة فقط، وعليه فلا مفرّ للمسلم من وجوب البحث للعثور على السنّة الصحيحة الموصلة إلى الواقع الذي جاء به النبيّ(ص).
وهنا يكون مدارُ البحث لا عن حجّيّة السنّة النبويّة، لاَنّ حجّيّتها لايختلف فيه اثنان من المسلمين، وإنّما البحث عن «ما هو الحجّة» أي البحث في طرق الاِثبات لا الحجّيّة، و بتعبير آخر: أيّ نقل من النقول النبويّة هو الحجّة؟!
ربّما يقال في الاِجابة: إنّ ما صحّ من الاَحاديث الواردة في شتّى الموضوعات طبقاً للقواعد الرجاليّة، هو الصحيح، وما لم يصحّ فهو غير ذلك، ولاسبيل سوى طرحه وعدم العمل به.
وهذا الكلام قد يبدو صحيحاً لاَوّل وهلة، لكنّ البصير بأُمور الشريعة يعلم بأنّ الاَُصول المرسومة في معرفة الحديث لم تقتصر على الاِسناد، فهناك
( 9 )
ضوابط ومعايير يلزم مراعاتها في المتن كذلك.
على أنّ بعض الاَُصول والمقاييس الرجاليّة قد قنّن طبق موازين خاصّة وأنّ المعايير العلميّة والاَُصول القرآنيّة لم تكن الحاكمة فيه، بل نجد الاختلاف والتضارب واضحاً في توثيق أو تجريح الراوي الواحد بل جرحهم لاَئمّة المذاهب ادّعاءً(1) وبعد هذا فلا يقف الباحث إلاّ على ركام هائل وضباب كثيف من الموازين والمقاييس يغلب عليها الحسّ المذهبيّ السياسيّ، فكم من راوٍ وثّقوه وعدّلوه فلم يكن كما قالوا فيه، طبقاً لما دلّت عليه نصوص أُخرى.
وكم من راوٍ جرحوه فلم يُصيبوا الغرض، وكم من رواية صحّحت سنداً لكنّها دلّت متناً على خلاف الواقع، وأُخرى أُسقطت سنداً لكنّها بلحاظ الواقع دلّت على أكبر رصيد من الصحّة.
وعلى هذا، وبملاحظة ما مرّ من أدوار وجدنا أنّه لا بُدّ من دراسة السنّة النبويّة دراسة تمحيصيّة، طبق منهج أكثر جدّة وجدّيّة، انطلاقاً من الاَُصول الثابتة في الشريعة والتاريخ والعقل والفطرة، عبر دراسة أطراف الحدث المرتبط بالحديث والاَجواء الحاكمة وما أُريد لها من أهداف.
وهذا لا يعني، أنّا نريد إلغاء دور السند في معرفة الحديث، بل الذي نريده هو الاستعانة بشواهد وقرائن أُخرى لتصحيح منحى بعض الاَخبار التي لمتُعطَ حقّها من قبل بعض المسلمين.
وعلى كلّ حال فقد آل الاَمر اليوم إلى أن نرى مجموعة من المسانيد
____________
(1) إذ خدش ابن معين وأحمد بن صالح في الاِمام الشافعيّ (انظر هامش تهذيب الكمال 24:380)، وذكر الخطيب البغداديّ أسماء الذين ردّوا على الاِمام أبي حنيفة (تاريخ بغداد 13:370 وفيه اسم 35 رجلاً) وقال الرازي في رسالة ترجيح مذهب الشافعيّ ما يظهر أنّ البخاريّ عدّ أبا حنيفة من الضعفاء في حين لم يذكر الشافعيّ هناك ، وقال السبكيّ في طبقاته: إنّ أبا على الكرابيسيّ كان يقدح في الاِمام أحمد (طبقات الشافعيّة 1:251)، وقد قدح العراقيّ (شيخ ابن حجر) في ابن حنبل ومسنده (انظر فيض القدير 1:26)، وذكر الخطيب في تاريخه عدّة أسماء قد خدشوا في الاِمام مالك (تاريخ بغداد 1:224، تهذيب الكمال 24:415، طبقات الشافعيّة 1 : 189)، وقد خدشوا في الاِمام البخاريّ والنسائيّ وغيرهم.

( 10 )
الحديثيّة تسمّى: بـ(الصحاح الستّة) يعمل بها فريق ضخم من المسلمين ولايرتضون سواها ولو كان إكسيراً مجرّباً، ونرى في جانب آخر مسانيد أُخرىتسمّى بـ(الكتب الاَربعة) يعمل بها فريق آخر من المسلمين ويذهبون إلى أنّها من أصحّ الاَحاديث وأنّها أبعد شيء عن الوضع والتحريف والتأثّر بالمؤثّرات الخارجيّة، فما هو الصحيح؟ واين هو؟
وهل جميع أحاديث الصحاح الستّة صحيحة حقّاً؟ أم أنّ بينها ما هو الضعيف والمرسل وو... ممّا يجب التوقّف عنده؟
وكيف نرى النقل عن أهل البيت، هل جميعه صحيح؟ أم أنّ بينه المدسوس والضعيف؟
من الضروري الاِجابة عن هذه التساؤلات، وذلك بعد عرض جذور القضيّة المبحوث عنها في النصوص التاريخيّة والحديثيّة.
ولعلّ أهمّ وأبرز حدث أثَّر في السنّة النبويّة ـ نصاً ومعنىـ هو منع الشيخين التدوين والتحديث عن رسول الله ودورهما في تطبيق هذه الرؤية واستمراره في عهد الخليفة عثمان بن عفان ومعاوية بن أبي سفيان، ثمّ اتّخذه الخلفاء من بعدُ منهجاً يُعمل به عليه حتّى أوقفه الخليفة عمربن عبدالعزيز وأمر بتدوين الحديث.
على أنّ هناك جماعة من كبار الصحابة والتابعين قد اتّخذوا التدوين مسلكاً ومنهجاً حتّى على عهد الخليفة عمر بن الخطّاب الذي عُرف بشدّته وقسوته على من يخالفه في آرائه، ومن أُولئك: عليّ بن أبي طالب، ومعاذبن جبل، وأُبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وأنس بن مالك وأبو سعيد الخدريّ، وفاطمة الزهراء، وأبو ذرّ وغيرهم.
فترى هؤلاء يدوّنون ويحدّثون ولا يرون مبرّراً للمنع، ولا يعيرون لرأي الشيخين ـ ومن مَنَع تبعاً لهماـ القدسيّة التي لا يمكن معها من مناقشتهما. كما أنّهم لم يخشوا ما خشيه آخرون، ومن هنا حدث التخالف في الرأي بين النهجين، هذا يُحَدِّث ويدوّن، وذلك يقول بالاِقلال أو منع التحديث وعدمالتدوين، وارتسمت أُصول الطرفين الفكريّة.

( 11 )
فلابدّ إذاً من إمعان النظر في المدرستين الحديثيّتين للتعرّف على أيّهما ألصق بالواقع وأبعد عن الدوافع، ولا ينبغي أن يكون هذا الاِمعان والتقييم لمناهج المدرستين تخرّصاً وتقوّلاً بقدر ما يكون دراسة للظروف الحاكمة آنذاك، وتجسيماً لنفسيّة الرجال المعنيّين في الدراسة على مختلف أصعدة حياتهم، فنحن لانذهبُ إلى كفاية الاقتصار على مجرد إطلاق لفظ العدالة والوثاقة و... أو معاكساتها دون إلمام بكلّ ما يتعلّق بهذا الشأن؛ لاَنَّ الكثير من الصحابة ـ كما صرّحواـ كانوا يروون الرواية مع عدم العلم بأنّ مفادها منسوخ أم لا؟
أو أنَّ النصّ الذي قاله النبيّ هو من القرآن، أم من كلامه(ص)؟
أو أنَّ الحكم الوارد مخصوص به (ص) أو بشخص معيّن أم هو حكم عامّ لجميع المسلمين؟
ومثل ذلك إفتاؤهم ببعض الآراء مع تصريحهم بأنَّ ما يقولونه لا مستند له من الشرع! فإن أصابوا فمن الله وإن أخطأوا فمنهم ومن الشيطان.
فبسبب كلّ هذا رأينا من الضروريّ القيام بدراسة شموليّة نوضّح فيها المجمل والمبهم من الاَُمور التي لابَسَت السنّة النبويّة ومنقولاتها، وندرسه وفق المنهجيّة العلميّة الجديدة للوقوف على الواقع، لاَنّ القيام بدراسة مثلها يمكن أن يوقفنا على حقائق كثيرة.
وسيتّضح من خلال الدراسة تخالفُ مرويّات المانعين، مع مرويّات المدوّنين المحدّثين عن رسول الله، كما تتّضح أُمور كثيرة في التشريع، وفقه الصحابة، والاتّجاهات الفقهيّة التي كانت آنذاك، والدوافع التي تكمن وراء هذا الاتّجاه أو ذاك، كما تبيّن «ما هو الحجّة» من المرويّات في الصحاح الستّة والكتب الاَربعة وباقي المسانيد الحديثيّة.
وهنا نسير سويّة لنرى أثر منع التدوين على السنّة النبويّة وفي طيّاته أثر بل آثار منع التحديث أيضاً وما آلت إليه أُمور المسلمين الفقهيّة من خلال السنّة النبويّة المباركة.

( 12 )


( 13 )


أسباب
منع تدوين السنّة الشريفة




( 14 )


( 15 )

إنَّ موضوع نهي الشيخين عن تدوين حديث رسول الله ، وأمر عمربن الخطّاب الصحابة بالاِقلال من حديث رسول الله ـ كما في حديث قرضةبن كعب الاَنصاريّ(1) لحريّ بالبحث والدراسة ، لاَنّه يرتبط بتاريخ ثاني مصدر من مصادر التشريع الاِسلاميّ ، وإنّ دراستنا هذه وإن كانت دراسة تخصّصيّة تهمّ الباحثين، لكنّها في الوقت نفسه تعطي للمطالع صورة واضحة عن أهمّ قضيّة في تاريخ التشريع ، وإنَّ توضيح مسألة كهذه كفيلة بأن تحلّ لنا كثيراً من القضايا والاَُمور المطروحة في مسائل الخلاف وتساعدنا على تفهّم واقع الاختلاف وجذوره.
وأهمّ الاَسباب المذكورة في ذلك هي :
السبب الاَوّل: هو ما نُقل عن الخليفة أبي بكر.
السبب الثاني: هو ما نُقل عن الخليفة عمر بن الخطّاب.
السبب الثالث: ما ذهب إليه ابن قتيبة وابن حجر.
السبب الرابع: ما نقله الاَُستاذ أبو زهو والشيخ عبد الخالق عبدالغني.
السبب الخامس: ما ذهب إليه الخطيب البغداديّ وابن عبد البرّ.
السبب السادس: ما ذهب إليه بعض المستشرقين.
السبب السابع: ما ذهب إليه غالب كتّاب الشيعة.
السبب الاَخير: ما توصّلنا إليه.

____________
(1) الطبقات الكبرى 6 : 7 ، جامع بيان العلم وفضله 2 : 120 ، تذكرة الحفّاظ 1:7، كنز العمّال2 : 284|4017، سنن الدارمي 1 : 85 .

( 16 )
هذا، وإنّ مناقشتنا لهذه الاَسباب جاءت لتفهّم واقع التشريع الاِسلاميّ وملابساته، ولم نقصد به التعريض بمكانة أحد، إذ الميدان ميدان بحث ومناقشة، والعصر عصر منطق ودليل، فطرح رأي أحدٍ لا يعني التجاوز على حدود ذلك والمساس بكرامته، بل الاَقوال كلّها قيد البحث والمناقشة حتّى أنّنا لانرى قولنا يبتعد عن هذا الاَصل، لاَنَّ الوصول إلى الحقائق ـ والحقائق الدينيّة على نحوٍ خاصـ يظل هو الهدف السامي للاِنسان الذي يهمّه أمر المعرفة الصالحة، ويهمّه كذلك أمرُ تديّنه والاستعداد للقاء الله تعالى على بصيرة ويقين.
إنّ عالم الحضور بين يدي الله عزّ وجلّ في الآخرة يقوم على الحقّ والصدق. ومن هنا كان على من يفكِّر جادَّاً في ذالكم الحضور الجليل المهيب أن يسعى للخروج من موازين دار الوهم والاشتباه إلى موازين دار الفضل والحقّ، والله جلّ جلاله المستعان، وهو الهادي إلى سواء السبيل.