الحكّام والتطبيع الفقهيّ

أخرج الشافعيّ في كتاب «الاَُمّ»، من طريق عبيد بن رفاعة: أنّ معاوية قدِم المدينة فصلّى بهم، فلم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، ولم يكبّر إذا خفض وإذا رفع، فناداه المهاجرون حين سلّم والاَنصار: أنْ: يا معاوية! أسرقتَ صلاتك؟! أين «بسم الله الرحمن الرحيم»؟! وأين التكبير إذا خفضت وإذا رفعت؟!
فصلّى بهم صلاة أُخرى، فقال: ذلك فيها الذي عابوا عليه(1).
وأتى قبله بحديث عن أنس بن مالك، قال:
صلّى معاوية بالمدينة صلاة، فجهر فيها بالقراءة، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم لاَُمّ القرآن، ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها حتّى قضى تلك القراءة، ولميكبّر حين يهوي حتّى قضى تلك الصلاة، فلمّا سلّم ناداه مَن سمع ذلك من المهاجرين من كلّ مكان: يا معاوية! أسرقتَ الصلاة أم نسِيت؟
فلمّا صلّى بعد ذلك، قرأ بسم الله الرحمن الرحيم للسورة التي بعد أُمّ القرآن، وكبّر حين يهوي ساجداً(2).
وجاء عن الزهريّ: أوّل من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم سرّاً بالمدينة عمروبن سعيد بن العاص(3).
وعلّق الفخر الرازيّ في «أحكام البسملة» على كلام الزهريّ:

____________
(1) الاَُمّ 1 : 108 ، التدوين في أخبار قزوين 1 : 154 ، والدارقطنيّ 1 : 311 ، والحاكم 1:233، والبيهقيّ 2 : 50.
(2) الاَُمّ 1: 108. السنن الكبرى 2: 49، تاريخ الخلفاء: 200، نيل الاَوطار2: 266 عن سعيدبن المسيِّب أنّه قال: أوّل من نقّص التكبير معاوية!
(3) السنن الكبرى 2: 50.

( 284 )
(قلت: وولي عمرو المدينة في زمن يزيد بن معاوية، وتبعه من تبعه في ذلك، فلهذا قال يحيى بن جعدة: اختلس الشيطان من الاَئمّة آية البسملة، يعني بالاَئمّة: الولاة العلماء. وقال الزهريّ: في آية من كتاب الله تركها الناس. وقال مجاهد: نسِيَ الناس ما كان الاَمر عليه قبل ذلك، ولا خير فيما أُحدث بعد العصر الذي أنكر فيه على معاوية تركها، وإذا اشتهر واستفاض، فالحجّة فيما ينقل عن العلماء دون أفعال الولاة.
فإن قلت: لو لم يكن حقّاً لاَنكره العلماء.
قلت: قد أنكروه على معاوية فرجع، فلمّا أفضى الاَمر إلى غيره من الولاة الجبابرة من المدينة كالاَشدق والحجّاج وحُبيش بن دلجة ونظائرهم، ربّما تركوه خوفاً من سطوتهم، أو أنكر بعضهم فلم يقبل منهم، فتركه الباقون ورأوا الاَمر واسعاً. والكلّ جائز وإن كان فيه ترك للسنّة، فاغتفروا أمره خوفاً من الفتنة!)(1)
ثمّ نقل كلام ابن الزبير : ما يمنع أُمراؤكم أن يجهروا بها إلاّ الكبر، ولعلّ عمروبن سعيدبن الاَشدق ـ وهو أوّل من أسرّ بها بالمدينة ـ إنَّما فعل ذلك مخالفة لابن الزبير ، لاَنّها مذهب ابن الزبير ، حتّى في الجهر بالبسملة في الصلاة، واقتدى به من وليها من بعده لبني مروان ، وغير بعيد أن يقصد الاَشدق ذلك فهو الذي بعث إليه البعوث وحاصره بمكّة وهو الحصار الاَوّل ، وبه اقتدى الحجّاج وحاصره الحصار الثاني ، وقبله أخرب الكعبة ، وأخرج منها الحجر وغير ما كان فعله ابن الزبير فيها ، منهم كانوا حريصين على مخالفته ما وجدوا لذلك سبيلاً، فأمر المداومة على إخفاء البسملة لا يبعد أن يكون من ذلك، بل هو أقرب، فإنّها مسألة مختلف فيها ، قال بكر بن عبد الله المزنيّ : صليّت خلف عبدالله بن الزبير وكان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، وفي رواية أُخرى: كان يستفتح القراءة في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم ويقول : ما يمنعكم منها إلاّ الكبر(2).

____________
(1) أحكام البسملة: 76.
(2) أحكام البسملة ، للرازيّ : 76 ، والسنن الكبرى ، للبيهقيّ 2 : 49.

( 285 )
وقد أتى الفخر الرازيّ قبل ذلك بحديث عن محمّد بن إسحاق المسيبيّ قال: حدّثني أبي أنّه لمّا صلّى بالناس بالمدينة، جهر ببسم الله الرحمن الرحيم، قال: فأتاني الاَعشى ـ أبو بكر بن أُخت مالك بن أنس ـ أنّ أبا عبدالله (يعني مالكبن أنس) يقرأ عليك السلام ورحمة الله، ويقول لك: مَن خفْتُه على خلاف أهل المدينة فإنّك ممّن لم أخَف، وقد كان منك شيء!
قلت: وما هو؟
قال: الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
قلت: فأبلغه عنّي السلام كما أبلغني، وقل له: إنّ كثيراً ما سمعتك تقول: لاتأخذوا عن أهل العراق، فإنّي لم أدرك أحداً من أصحابنا يأخذ عنهم، وإنّما جئت في تركها عن حميد الطويل، فإن أحببت أخْذَنا عن أهل العراق أخذنا هذا وغيره من قولهم، وإلاّ تركنا حميداً مع غيره، فلم يكن لك عَلَيّ به حجّة، وقد سمعتك كثيراً ما تقول: خذوا كلّ علم من أهله. وعلم القرآن بالمدينة عن ابن أبي نعيم فسألته عن قراءة بسم الله الرحمن الرحيم، فأمرني بها وقال: أشهد إنّها من السبع المثاني، وإنّ الله أنزلها. وحدّثني نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر أنّه كان يبتدىَ بها ويفتتح كلّ سورة(1).
وقد اتّضح تأثير هذين الاتّجاهين على الفقهاء فيما بعد، فمالك فقيه الحكومة لايفتتح بالبسملة، أما أسحاق المسيّبيّ فيرى ثبوت ذلك عن رسول الله وعن بعض الصحابة.
والجدير ذكره هنا، هو أنّ غالب فقه أهل المدينة كان يخالف أهل البيت، أما فقه أهل العراق فغالبه كان يوافق أهل البيت. والمعروف عن مالك أنّه كتب موطّأه بطلب من الخليفة المنصور العبّاسيّ، فقال له المنصور: ياأباعبدالله! (يعني مالك)، ضع هذا العلم ودوّنه ودوّن منه كتباً وتجنّبْ فيه شواذّ عبداللهبن مسعود ورُخَص ابن عبّاس وشدائد ابن عمر، واقصد إلى أوسط الاَُمور، وما احتجّ عليه الاَئمّة والصحابة (رضي الله عنهم)، لنحمل الناس إن شاء الله على
____________
(1) أحكام البسملة للفخر الرازيّ: 74 ـ 75، والبيهقيّ في السنن2: 48.

( 286 )
علمك وكتبك، ونبثّها في الاَمصار، ونعهد إليهم ألاّ يخالفوها، ولايقضوا بسواها.
فقال: مالك: أصلح الله الاَمير، إنّ أهل العراق لا يرضون علمنا ولايَرَون في علمهم رأينا.
وفي آخر: قال المنصور لمالك: اجعل يا أبا عبد الله علماً واحداً. فقال مالك: إنّ أصحاب رسول الله تفرّقوا في البلاد، فأفتى كلّ في مصره بما رأى، وإنّ لاَهل البلد ـ يعني مكّة ـ قولاً، ولاَهل المدينة قولاً، ولاَهل العراق قولاً تعدّوا في طورهم. فقال المنصور: أمّا أهل العراق فلا أقبل منهم صرْفاً ولا عدلاً، وأما العلم عند أهل المدينة، فضع للناس العلم(1).
إن فقه أهل المدينة ـ كما قلنا ـ يخالف في الغالب فقه أهل البيت، وفي كلمات الاَئمّة من آل الرسول ما يوضّح ذلك.
أمّا فقه أهل العراق فإنّهم وإن قالوا بالرأي وتأثّروا بالاَحاديث المطروحة من قبل السلطة، لكنّ أقوالهم في الاَعمّ الاَغلب تتّفق مع مدرسة أهل البيت، وما في كلام المنصور: (أمّا أهل العراق فلا أقبل منهم صرفاً ولا عدلاً) وقوله: (لنحمل الناس إن شاء الله على علمك وكتبك ونبثّها في الاَمصار ونعهد إليهم أن لايخالفوها ولايقضوا بسواها) ما يوضِّح هذه الحقيقة بلا ارتياب.
وجاء في كتاب مالك إلى ليث بن سعد ـ فقيه أهل مصر ـ: واعلم رحمكالله أنّه بلغني أنّك تفتي الناس بأشياء مختلفة لما عليه جماعة الناس عندنا وبلدنا الذي نحن فيه وأنت في أمانتك وفضلك(2)...
فالسياسة الحكوميّة سواء كانت أمويّة أو عبّاسيّة تسعى للمخالفة مع فقه أهل البيت، وهذه حقيقة لا يسع من له صدق وإنصاف أن يشكّ فيها، أو أن ينكرها.
إنّ هذه النصوص التي أوردناها هي التي تدلّ بنفسها على هذه المعاني.
____________
(1) انظر وضوء النبيّ: 354 عن الاِمام مالك ص133 ، وترتيب المدارك: 30 ـ 33.
(2) أثر الاَدلّة المختلف فيها للدكتور مصطفى البغا، عن ترتيب المدارك 1: 36.

( 287 )
بيد أنّنا لا نريد الجزم بأنّ موقف الاَمويّين أو العبّاسيّين في البسملة قد أُخذ من سيرة الشيخين؛ فبعضها جاء لتأييدهما، وبعضها جاء لتأييد معاوية أو عبدالملكبن مروان أو المنصور أو سواهم، وهذه الاَُمور ممّا ينبغي أن يتعرّف عليها الباحث ويقف عندها.
جاء في «أحكام البسملة» للرازيّ ، عن «الخلافيّات» للبيهقيّ، عن جعفرّبن محمّد أنّه قال: اجتمع آل محمّد على الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم. وقال أبو جعفر محمّد بن عليّ: لا ينبغي الصلاة خلف من لا يجهر(1).
وعن الرضا : اجتمع آل محمّد على الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم(2).
وفي الدعائم عن السجّاد قوله : اجتمعنا ولد فاطمة على ذلك(3).
وفي آخر : روينا عن رسول الله وعلى عليّ والحسن والحسين وعليّبن الحسين ومحمّد بن عليّ وجعفر بن محمّد أنّهم كانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم فيما يجهر بالقراءة من الصلوات في أوّل فاتحة الكتاب وأوّل السورة من كلّ ركعة(4).
وعن الصادق أنّه قال : التقيّة ديني ودين آبائي ولا أتّقي في ثلاث، وعدّ منها ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم.
وعن أبي هريرة: كان رسول الله يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ثمّ تركه الناس(5).
بهذا عرفنا أنّ معاوية لم يقتصر في تحريفه على المتعة وترك البسملة والتكبير لكلِّ رفعٍ وخفض، بل أخذ يعمل في أكثر من حقل لمحو سنّة رسول الله. ومن أجل ذلك نرى عليّ بن أبي طالب وأولاده يؤكّدون على هذه الحقائق المرّة، وإليك نصّاً آخر فيما كان يصنعه معاوية في هذا السياق:

____________
(1) أحكام البسملة للفخر الرازيّ: 40.
(2) تفسير أبي الفتوح الرازيّ 1 : 20 كما في مستدرك وسائل الشيعة 4:189 ح15.
(3) دعائم الاِسلام 1 : 160 .
(4) دعائم الاِسلام 1 : 160 .
(5) أحكام البسملة للفخر الرازيّ: 45 عن الدارقطنيّ 1: 307 ، والحاكم 1: 232 ـ 233.

( 288 )
أخرج الطبرانيّ وأحمد بسندهما إلى عبّاد بن عبد الله بن الزبير، قال: لمّا قِدم علينا معاوية حاجّاً، قدِمنا معه مكّة، قال: فصلّى بنا الظهر ركعتين، ثمّ انصرف إلى دار الندوة.
قال: وكان عثمان حين أتمّ الصلاة، فإذا قدِم مكّة صّلى بها الظهر والعصر والعشاء الآخر أربعاً أربعاً، فإذا خرج إلى منى وعرفات قصّر الصلاة، فإذا فرغ من الحجّ وأقام بمنى أتمّ الصلاة حتّى يخرج من مكّة.
فلما صلّى بنا الظهر ركعتين نهض إليه مروان بن الحكم وعمروبن عثمان فقالا: ما عابَ أحد ابنَ عمّك بأقبح ما عِبْتَه به.
فقال لهما: وما ذاك؟
قال، فقالا له: ألم تعلم أنّه (أي عثمان) أتمّ الصلاة بمكّة؟!
قال، قال لهما: ويحكما! وهل كان غير ما صنعت؟! قد صلّيتهما مع رسول الله ومع أبي بكر وعمر (رض). قالا: فإنّ ابن عمّك أتمّها وإنّ خلافك إيّاه عيب.
قال: فخرج معاوية إلى العصر فصلاّها بنا أربعاً(1).
كانت هذه هي سياسة الحكام دوماً، إذ تراهم يتراجعون عمّا عرفوه من أحكام عن رسول الله (وهل كان غير ما صنعت؟! قد صلّيتهما مع رسول الله ومع أبي بكر وعمر) ويتّبعون الهوى لعرقٍ يمسُّ من العصبيّة والقبليّة (فإنّ ابن عمّك قد أتمّها، وإنِ خلافك إيّاه عيب)!
وأخرج ابن عساكر في تاريخه من طريق الحسن قال: كان عبادةبن الصامت بالشام فرأى آنيّة من فضّة، يباع الاِناء بمثله مع ما فيه، أو نحو ذلك، فمشى إليهم عبادة فقال: أيّها الناس! من عرفني فقد عرفني، ومن لميعرفني فأنا عبادةبن الصامت، ألا وإنّي سمعت رسول الله في مجلس من مجالس الاَنصار ليلة الخميس في رمضان ولم يَصُم رمضانَ بعده، يقول: الذهب بالذهب مِثلاً بمثل، سواء بسواء وزناً بوزن، يداً بيد، فما زاد فهو ربا.

____________
(1) مسند أحمد 4: 94، فتح الباري 2: 457، نيل الاَوطار 3: 240 ـ 241.

( 289 )
قال: فتفرّق الناس عنه، فأُتي معاوية فأُخبر بذلك، فأرسل إلى عبادة فأتاه، فقال له معاوية: لئن كنت صحبت النبيّ (ص) وسمعت منه لقد صحبناه وسمعنا منه.
فقال له عبادة: لقد صحبته وسمعت منه.
فقال له معاوية: اسكت عن هذا الحديث ولا تذكره.
فقال له: بلى، وإن رغم أنف معاوية، ثمّ قام.
فقال له معاوية: ما نجد شيئاً أبلغ فيما بيني وبين أصحاب محمّد من الصفح عنهم(1).
وإذا تأمّلت الحديث اطّلعت على بعد النظر الذي كان يمتلكه عبادةبن الصامت، حيث إنّه عاصر وعرف تعليلات نهج الاجتهاد وادّعاءاتهم النسخ في كلّ حكم يريدون الاِفتاء به بخلاف الكتاب والسنّة، فلذلك أكّد على أنّه سمع النبيّ، وهو يؤكّد أنّ هذه المعاملة ربويّة في آخر رمضان من حياته المباركة، ليتضاءل بل يمتنع عادة ادّعاؤهم نسخ هذا الحكم بعد استقرار الاَحكام على ما هي عليه في آخر حياته المباركة، فلم يكن مجال لادّعاء النسخ، وكذلك نراه يذكر اليوم بالتحديد لكي لا يكذّبوه فيما يرويه عن النبيّ (ص).
وفي رواية البيهقيّ والقرطبيّ: فبلغ ذلك معاوية فقام خطيباً، فقال: ألا ما بالُ رجال يتحدّثون عن رسول الله أحاديث كنّا نشهده ونصحبه فلمنسمعها منه؟!
فقام عبادة بن الصامت، فأعاد القصّة، ثمّ قال: لنحدثنّ بما سمعنا من رسول الله وإن كره معاوية، أو قال: وإن رغم، ما أُبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء(2).
فمعاوية لم يستطع تكذيبه مباشرة، لاَنّه حدّد تاريخ ومكان السماع (في مجلس من مجالس الاَنصار ليلة الخميس من رمضان)، وإنّما ادّعى عدم سماعه
____________
(1) انظر تاريخ دمشق لابن عساكر.
(2) السنن الكبرى 5: 277، تفسير القرطبيّ 3: 350.

( 290 )
هو لهذا الحديث وأمثاله، فأبدى نوعاً من التجاهل بعد أن عجز عن ادّعاء النسخ، ولم يجرؤ على تكذيبه في روايته.
ومن ذلك ما قاله الوافي المهدي في مروان من أنّه كان يقضي في الذي يطلق امرأته (البتّة) أنّها ثلاث تطليقات، كما في «الموطّأ»، ونقل الزرقانيّ عن الموازنة: «أنّ النبيّ ألزم البتّة من طلّق بها وألزم الثلاث من بتّ بها، وقضى عمر فيها بالثلاث»(1).
وجاء عن مروان أنّه أرسل إلى ابن عبّاس ، فقال : أتفتي في الاَصابع عشر عشر، وقد بلغك عن عمر أنّه يفتي في الاِبهام بخمسة عشر أو ثلاثة عشر، وفي التي تليها اثنتي عشر ـ وفي آخر عشر ـ وفي الوسطى بعشرة ، وفي التي تليها بتسع، وفي الخنصر بستّ.
قال ابن عبّاس : رحم الله عمر ، قول رسول الله أحقّ من أن يتّبع من قول عمر رضي الله عنه(2).
وترى مروان قد اتّبع الخليفة عمر بن الخطّاب في الطلاق ثلاثاً ودية الاَصابع، ومثله المرويّ عن معاوية في الصلاة بعد العصر.
جاء في «مسند أحمد» عن أبي النتاج، قال: سمعت حمران بن أبان يحدّث عن معاوية أنّه رأى ناساً يصلّون بعد العصر، فقال: إنّكم تصلّون صلاة قد صحبنا النبيّ فما رأيناه يصلّيها ولقد نهى عنها، يعني الركعتين بعد العصر(3). وقد وقفت على نهي عمر من الصلاة بعد العصر سابقاً.
نعم، إنّه فقه النهج الحاكم، وغالب مرويّاتهم عن رسول الله جاءت لتصحّح ما ذهب إليه الخلفاء، وخصوصاً ما كان يذهب إليه أبو بكر وعمر، وأنّها لاتقتصر على الطلاق ثلاثاً والصلاة بعد العصرو...!
فهي سياسة عامّة في الحياة الاجتماعيّة والنظام الاِداريّ للخلافة
____________
(1) الاجتهاد في الشريعة الاِسلاميّة للوافي المهدي المغربيّ: 191.
(2) الاَُمّ 1 : 58 ، 134 ، واختلاف الحديث للشافعيّ (المطبوع بهامش الاَُمّ)، والرسالة له:113، والسنن الكبرى 8 : 93 .
(3) مسند أحمد 4: 100.

( 291 )
الاِسلاميّة، بدءاً من صلاة التراويح إلى غيرها من الاجتهادات.
قالت الدكتورة نادية شريف العمريّ ـ في «اجتهاد الرسول» في معرض حديثها عن صلاة التراويح ـ: (وتذكر الروايات أن ذلك كان في سنة14هـ، وأنّه (أي عمر) كتب إلى الاَمصار يأمر المسلمين بذلك، وجعل للناس إمامين: أحدهما يصلّي بالرجال والآخر يصلي بالنساء)(1).
وقد نقل الدكتور الاَعظميّ كلام بعض منكري السنّة في الباكستان، جاء فيه: (وقالوا: والخطأ الاَساسيّ الذي وقع فيه المسلمون من بعد الخلافة الراشدة حتّى الآن أنّهم لم يفهموا الاِسلام وروحه، إذ الاِسلام نظام اجتماعيّ مبنيّ على الشورى ، فالقرآن يأمرنا بالاَُمور الكلّيّة ويترك تفصيلها لمجلس الشورى للمسلمين الذي يقرّر طريقة الصلاة ونسبة الزكاة حسب الزمان والمكان. وهذا مافهمه أبو بكر وعمر والخلفاء الراشدون، فكانوا يستشيرون الصحابة، وحيث شعروا بالحاجة إلى الاِضافة أضافوها، وإن لم يجدوا ضرورة للتغيير أبقوها. ولو كانت سنّة النبيّ (ص) شيئاً دائماً لاَعطانا الرسول شيئاً مكتوباً جاهزاً.
وليس معنى (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول): أطيعوا سنّة الرسول بعد وفاته، لاَنّ سنّته لا تحمل في طياتها عنصر الديمومة والبقاء. بل معنى أطيعوا الرسول: أطيعوا النظام الذي أرشد إليه القرآن والذي كان يمثّله الرسول في حياته، والذي يعني إقامة الخلافة على منهاج النبوّة.
وبما أنّ هذا النظام قد استمرّ إلى عهد الخلفاء الراشدين، ثمّ بعد مجيء الاَمويّين على مسرح السياسة اختلف الوضع، وأصبح هناك حدّ فاصل بين الدين والسياسة، ولم يفهم الناس معنى طاعة الرسول، فاتّجهوا إلى الاَحاديث؛ لاَنّ الاَحكام في القرآن قليلة وضرورات الحياة أكثر فأكثر. وكان من واجبات الخلافة على منهاج النبوّة أن تسدّ ضرورات المجتمع في القضايا المتجدّدة، لكنّ عدموجود الدولة بهذا المفهوم دفع الناس إلى الاَخذ بالحديث، وعند عدم كفاية المجموعة الحديثيّة ازداد الوضع أكثر فأكثر)(2).

____________
(1) اجتهاد الرسول: 285.
(2) دراسات في الحديث النبويّ: 33 ـ 34.

( 292 )
من المحتمل أن يكون صدور هذا الكلام من أمثال هؤلاء قد جاء على أثر منع التدوين من قبل الشيخين، ثمّ دعوتهم إلى الاجتهاد والاكتفاء بالقرآن (حسبنا كتاب الله). ولا أريد الاِطالة في أمثال ذلك؛ لاَنّه يخرجنا عن أصل البحث، فالخلفاء الحكّام لو تركوا أمر التشريع وانصرفوا إلى إدارة شؤون الاَُمّة لاَغناهم ذلك عمّا وقع فيه المسلمون من الاختلاف في الحديث والاَحكام، ولما احتاجو إلى تشريع الرأي والقياس وما يماثلهما ممّا يؤدّي أحياناً إلى تحريم الحلال وتحليل الحرام، ولاستقرّ الدين، ولما تعدّدت الآراء فيه.
نعم، إنّهم كانوا لا يريدون أن يتصدّر أهل البيت أمر التشريع وتبيين أحكام الله؛ لاَنّ ذلك باعتقادهم سيمهّد لاِبعادهم عمّا هم فيه. وإذا تجاهل بعض المسلمين أحاديث الخلافة والوصيّة لمصالح سياسيّة، فليسبوسعهم أن يتجاهلوا قول الرسول في عليّ: أنا مدينة العلم وعليّ بابها، ولابوسعهم أن ينكروا مكانته من رسول الله، وعلمه الغزير الواسع، وصدقه في الحديث، وهو القائل: علّمني رسول الله ألفَ باب من العلم، ينفتح لي من كلّ باب ألف باب.
بلى، كان على المسلمين أن يرجعوا إلى عليّ وأمثاله من عيون الصحابة الذين حفظوا سنّة رسول الله ودوّنوها في مجاميعهم ليأخذوا دينهم منه، وقد ثبت عند الجميع أنّ عليّ بن أبي طالب انصرف بعد رسول الله إلى العلم، فدوّن القرآن وحديث رسول الله، وكانت له ألواح يكتب فيها ما نزل على رسول الله، وما قاله (ص) في بيان التنزيل.

( 293 )

بعض الامثله التطبيقية
على مخالفة الصحابي لحديث رسول الله(ص)

اورد الدكتور عبدالكريم بن علي بن محمد النّملة في كتابة (مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف دراسة نظرية تطبيقية) المطبوع في الرياض سنة 1415 هـ مكتبة الرشد، بعض الاَمثلة التطبيقية لذلك، وذلك بعد ان عرّف المخالفة لغة و أنّها تعني المضادة، والعصيان، و عدم الاتفاق، والتغيير(1) والمقصود من الصحابي لغة واصطلاحاً(2) اورد آراء علماء الاسلام في ذلك وانقسامهم فيه إلى مذهبين:
المذهب الاَول: تعتقد أنّ الحديث يبقى على حجيته و لا تؤثر عليه مخالفة الصحابي له، لا من قريب و لا من بعيد، فلا يترك العمل من أجل تلك المخالفة(3).
المذهب الثاني: يرى لزوم الاَخذ بقول الصحابي و سقوط الاحتجاج بالحديث النبوي(4)
ثمّ ذكر الدكتور (الاَمثلة التطبيقية على مخالفة الصحابي للحديث الذي رواه مخالفة كلية و بيان أثر الاختلاف في ذلك) فقال:
بعد أن عرفنا مذهبي العلماء في هذه المسألة الاَصولية و أدلة أصحاب كل مذهب لابدّ من ذكر بعض الاَمثلة التطبيقية التي خالف فيها الصحابي الحديث الذي رواه مخالفة كلية و ذلك زيادة في إيضاح المسألة، و لكي يتصور القاريء تلك المسألة في ذهنه أكثر تصويراً فأقول ـ و باللّه التوفيق: ـ

____________
(1) انظر مخالفة الصحابي : 22 ـ 29.
(2) انظر مخالفة الصحابي : 30 ـ 86.
(3) انظر مخالفة الصحابي : 87 ـ 105.
(4) انظر مخالفة الصحابي : 106 ـ 123.

( 294 )
المثال الاَول:
ما أخرجه البخاري في صحيحه، و مسلم في صحيحه، وأبو داود في سننه، والترمذى في سننه، و النسائى في سننه، وابن ماجه في سننه، والدارمي في سننه، والاِمام مالك في الموطأ و الاِمام أحمد في المسند عن أبي هريرة ـ رضي اللّه عنه ـ أن النبي(ص) ـ قال: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً أولاهنّ بالتراب).
هذا الحديث رواه عن النبي(ص) أبو هريره ـ كما رأيت ـ ولم يعمل به، بل خالفه و غسل الاِناء من ولوغ الكلب ثلاث مرات، فقد أخرج الطحاوي في شرح معاني الآثار، و الدار قطني في سننه، و ابن الجوزي في العلل المتناهية أن أبا هريرة كان يغسل الاِناء ثلاث مرات.
فهنا خالف الصحابي ـ و هو أبو هريرة ـ الحديث الذي رواه.
فذهب أصحاب المذهب الاَول ـ و هم الجمهور ـ إلى أنه يجب غسل الاِناء من ولوغ الكلب سبع مرات و احتجوا بالحديث، ولم يلتفتوا إلى مخالفة أبي هريرة له ـ تبعاً لقاعدتهم.
أما أصحاب المذهب الثاني فإنهم لما رأوا أن أبا هريرة قد خالف ما رواه تمسكوا بقاعدتهم ـ وهي: أنه إذا خالف الصحابي ما رواه فيوَخذ بتلك المخالفة دون الحديث ـ لذلك ذهبوا إلى أنه يكفي غسل الاِناء من ولوغ الكلب ثلاث مرات. ولم يعملوا بالحديث الذى رواه.
واختلف بعض أصحاب المذهب الثاني في الحديث هل يكون منسوخاً أم يحمل على أن التسبيع ندب؟ على أقوال ثلاثة:
القول الاَول: أن الحديث منسوخ و هو رأي الكمال بن الهمام في «التحرير»، و وافقه على ذلك أمير بادشاه في « تيسير التحرير »، و ابن أمير الحاج في «التقرير و التحبير».
القول الثاني: أن الحديث لم ينسخ، ولكن يحمل على الاستحباب، أي: أنّ الغسل ثلاث مرات واجب، و الغسل سبع مرات مستحب، ذهب إلى ذلك السمرقندى في «بذل النظر»، و السمرقندي في «الميزان».

( 295 )
القول الثالث: أن الحديث يحتمل أنه منسوخ، و أنه على الندب ذهب إلى ذلك السرخسي في «أصوله»، و النسفي في «كشف الاَسرار».
ثم قال الدكتور: الراجح في هذه المسألة ـ هو ما ذهب إليه أصحاب المذهب الاَول ـ و هو أنه يغسل الاِناء من ولوغ الكلب سبع مرات ـ لوجوه:
الوجه الاَول: ثبوت حديث أبي هريرة السابي (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً) و صحته، ولم يثبت شيء يصلح لمعارضته.
الوجه الثانى: أن غسل الاِناء سبعاً ثبت عن رسول اللّه(ص) عن طريق آخر فقد أخرج مسلم في «صحيحه»، و أبو داود في «سننه»، و النسائي في «سننه» وابن ماجه في «سننه» ، والدارمي في «سننه»، و أحمد في «المسند» عن عبد اللّه بن مغفل أنّ رسول اللّه(ص) قال: (إذا ولغ الكلب في الاِناء فاغسلوه سبع مرات، و عفروه الثامنة بالتراب).
فإذا فرضنا ـ مع الفرض الممتنع ـ أن مخالفة الصحابي تؤثر في الحديث الذي رواه، فإنها لا يمكن أن تؤثر في مروي غيره.
الوجه الثالث: أن ما قاله أصحاب المذهب الثاني ـ أو بعضهم و هو: أنه يغسل الاِناء ثلاث مرات؛ استناداً إلى ما روى عن أبي هريرة من أنه كان يغسل الاِناء ثلاث مرات، و في ذلك مخالفة للحديث الذي رواه هذا لا يصلح أن يكون مستنداً يعتمد عليه؛ و ذلك لاَن الرواية اختلفت عن أبي هريرة: فقد روى عنه أنه أفتى بغسل الاِناء سبع مرات، و روى عنه أنه أفتى بغسله ثلاث مرات.... إلى أن يقول الدكتور:
المثال الثانى:
ما أخرجه أبو داود في «سننه»، و الترمذي في «سننه»، و الدارمي في «سننه»، والدار قطني في «سننه»، و الحاكم في «المستدرك»، و الاِمام أحمد في «المسند» والطحاوي في «شرح معاني الآثار» عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ أن النبي(ص) قال: (أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل).
فهذا الحديث قد روته عن رسول اللّه(ص) ـ عائشة كما رأيت ـ و لكنها لم تعمل به، بل خالفته، حيث إنها ـ رضي اللّه عنها ـ زوجت بنت أخيها حفصة
( 296 )
بنت عبد الرحمن بن أبي بكر على ابن اختها: المنذر بن الزبير، و كان أخوها ـ عبد الرحمن ـ غائباً في الشام.
فهنا: اختلف العلماء تجاه ذلك:
فذهب أصحاب المذهب الاَول ـ و هم الذين يأخذون بالرواية، دون مخالفة الصحابي له ـ إلى العمل بمقتصى الحديث و هو أنه لا يجوز أن تزوج المرأة نفسها، فلا يجوز النكاح بغير ولم يلتفتوا إلى مخالفة عائشة لهذا الحديث الذي روته و هم الجمهور.
أما أصحاب المذهب الثاني فقد ذهبوا إلى الاَخذ بمخالفة عائشة و العمل بذلك، و ترك الاحتجاج بالحديث؛ لذلك يقولون: يجوز أن تزوج المرأة نفسها.
قال عبد العزيز البخاري في «كشف الاَسرار» ـ مبيناً وجهة نظر الحنفية في ذلك ـ: «فلمّا رأت عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ أن تزويجها بنت أخيها غير أمره جائز و رأت ذلك العقد مستقيماً حتى أجازت فيه التمليك الذي لا يكون إلا عن صحة النكاح و ثبوته استحال أن يكون ترى ذلك مع صحة ما روت».
ثم ذكر وجه دلالة آخر لذلك قائلاً: «فلما أنكحت فقد جوزت نكاح المرأة نفسها دلالة؛ لاَن العقد لما انعقد بعبارة غير المتزوجة من النساء فلاَن ينعقد بعبارتها أولى فيكون فيه عمل بخلاف ما روت».
و ذكر وجه دلالة ثالث من ذلك إذ قال: «لما أنكحت فقد اعتقدت جواز نكاحها بغير إذن وليها بالطريق الاَولى، لاَن من لا يملك النكاح لا يملك إلا نكاح بالطريق الاَولى و من ملك الاِنكاح ملك النكاح بالطريق الاَولى».
و ذكر بعض الحنفية كالسرخسي في «أصوله»، والنسفي في «كشف الاَسرار» بأن الحديث منسوخ، و ذلك؛ لكون الراوية له ـ و هي عائشة ـ قد عملت بخلافه؛ تبعاً لقاعدتهم.
و قد نص على ذلك الاِمام أحمد في رواية حرب بن إسماعيل، فقال: «لا يصح الحديث عن عائشة؛ لاَنها زوجت بنات أختها، والحديث عنها».
و قال ـ أيضاً ـ في رواية المروذي: «لا يصح الحديث؛ لاَنها فعلت بخلافه».

( 297 )
ثم علق الدكتور على الكلام السابق بقوله: الراجح هو ما ذهب إليه الجمهور؛ لاَمرين: ـ
الاَمر الاَول: ما أخرجه البخاري في «صحيحه»، و أبوداود في «سننه»، والترمذي في «سننه»، وابن ماجه في «سننه» والاِمام أحمد في «المسند» عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي(ص) قال: (لا نكاح إلا بولي) ورواه ـ أيضاً ابن عباس، وأبو موسى الاَشعري، و هو صحيح قال المروذي: «سألت أحمد ويحيى عن هذا الحديث فقالا: صحيح» وهذا نص في المسألة.
الاَمر الثاني: أن مخالفة عائشة لحديث (أيما امرأة...) ليس صريحاً المخالفة.
ولو سلمنا صراحة المخالفة، فإن فعل عائشة أو غيرها لا يمكن ـ بأي حال من الاَحوال ـ أن يقوى على اسقاط حديث قد ثبت ولم يشك فيه أي إمام من أئمة الحديث الذين يعتمد على أقوالهم. والله أعلم.
المثال الثالث:
ما أخرجه البخاري في «صحيحه»، ومسلم في «صحيحه»، و أبو داود في «سننه»، والترمذي في «سننه» ، والنسائي في «سننه»، وابن ماجه في «سننه»، والاِمام مالك في «الموطأ»، والاِمام أحمد في «المسند»، عن الزهري عن سالم عن أبيه ـ عبدالله بن عمر ـ قال: «رأيت رسول الله(ص) إذا استفتح الصلاة رفع يديه حتى يحاذي منكبيه، و إذا أراد أن يركع وبعد ما يرفع رأسه من الركوع، ولا يفعل ذلك في السجود».
فهذا الحديث قد رواه عبدالله بن عمر ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله(ص) و لم يعمل به؛ بل خالفه، و لا يرفع يديه إلا عند افتتاح الصلاة فقط، فقد أخرج بن أبيشيبة، في «المصنف»: أن مجاهداً قال: «ما رأيت ابن عمر يرفع يديه إلا في أول ما يفتتح»، وأخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار»، بسند صحيح.
فهنا: هذا الصحابي ـ و هو ابن عمر ـ خالف حديثاً قد رواه، فاختلف العلماء في ذلك:

( 298 )
فذهب أصحاب المذهب الاَول ـ و هم القائلون بأن مخالفة الصحابي لما رواه لا يسقط الاحتجاج به ـ إلى الاَخذ بمقتضى الحديث و هو: رفع اليدين عند الافتتاح وعند الركوع، وعند الرفع من الركوع و هذا مذهب الجمهور.
أما أصحاب المذهب الثاني ـ و هم القائلون بأن مخالفة الصحابي لما رواه يسقط الاحتجاج به، ومن ثم نعمل بعمل الصحابي ونترك الحديث ـ فإنهم عملوا بفعل عبدالله بن عمر وهو: رفع اليدين عند الافتتاح ـ فقط ـ وتركوا العمل بالحديث ، وهم أكثر الحنفية.
قال الجصاص في «الفصول»: «فدل تركه الرفع بعد روايته عن النبي(ص) ـ على أنه عرف نسخ الحديث؛ إذ لولا ذلك لما تركه؛ لاَنه غير جائز أن يظن بصحابي مثله مخالفة سنة النبي(ص) رواها عنه مما لا احتمال فيه للتأويل».
وجزم أكثر الحنفية بمثل ما قاله أبو بكر الجصاص ـ وهو: أنه بمخالفة ابن عمر له علم أن الحديث الذي تركه ـ و هو من روايته ـ قد ثبت نسخه ـ من هؤلاء: أبو زيد الدبوسي في «الاَسرار في الاَصول والفروع، والسجستاني في «الغنية في الاَصول»، والسرخسي في «أصوله»، والكمال بن الهمام في «التحرير»، وعبدالعزيز البخاري في «كشف الاَسرار»، وأمير بادشاه في «تيسير التحرير»، وابن أمير الحاج في «التقرير والتحبير»، والنسفي في «كشف الاَسرار»، وملاجيون في «نور الاَنوار شرح المنار».
و بعض الحنفية قالوا بأن الحديث الذي رواه ابن عمر قد سقط الاحتجاج به لما خالفه راويه، ولم يذكروا أنه منسوخ كالبزدوي في «أصوله»، والخبازي في «المغني».
ثم قال الدكتور عبدالكريم بن نملة: الراجح هو ما ذهب إليه جمهور العلماء وهو: أن رفع اليدين عند تكبيرة الاِحرام، وعند الركوع وعند الرفع منه وذلك لاَمور: ـ
الاَمر الاَول: أن الحجة فيما فعله النبي(ص) وليست في فعل واحد من الصحابة: ابن عمر أو غيره ـ كما قلنا أثناء تقريرنا للقاعدة الاَصولية هناك ـ .
الاَمر الثاني: أن الحديث قد عمل بمقتضاه أصحاب النبي(ص) قال
( 299 )
الحسن: «رأيت أصحاب النبي(ص) يرفعون أيديهم إذا كبروا، وإذا ركعوا، وإذا رفعوا رؤوسهم كأنها المراوح».
وقال البخاري: قال ابن المديني ـ وكان أعلم أهل زمانه ـ : «حق على المسلمين أن يرفعوا أيديهم لهذا الحديث».
الاَمر الثالث: أن قول مجاهد ـ و هو : أنه لم ير ابن عمر يرفع يديه الا في أوّل ما يفتتح ـ معارض بما ذكر طاووس أنه رأى ابن عمر يفعل ما يوافق ما روى عنه عن النبي(ص).
ومعارض بما قاله الاِمام أحمد ـ و قد سئل عن الرفع ـ : «إي لعمري، و من يشك في هذا! كان ابن عمر إذا رأى من لم يرفع حصبه، و أمره أن يرفع».
و نرجح رواية طاووس و الاِمام أحمد على رواية مجاهد؛ لاَنه يوافق الحديث الذي رواه ابن عمر، وكون الراوي يوافق ما رواه هو الذي يؤيده العقل والنظر والله أعلم.
و لا تلتفت إلى ما قاله عبد العزيز البخاري في «كشف الاَسرار» من أن ابن عمر كان يرفع يديه في الافتتاح والركوع والرفع منه قبل العلم بنسخ الحديث الذي رواه، فلما علم به ترك الحديث، وفعل ما ذكر عنه من أنه لا يرفع إلا في الافتتاح وذلك لاَن هذا الكلام ـ أعني كلام عبد العزيز البخاري ـ مجرد احتمال يحتاج إلى دليل وبرهان، وما دام أنه لا دليل على احتماله فنتوقف فيه، ونعمل بما لا يحتمل شيئاً وهو ما ثبت عن رسول الله(ص) وعمل به جل الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ وهو رفع اليدين في الجميع، والله أعلم.
هذه بعض الاَمثلة التطبيقية على تلك القاعدة الاَصولية، ومن أراد الاستزادة والتفصيل في تلك الاَمثلة السابقة، أو أمثلة أخرى فليراجع كتب الفقه إن شاء(1).

____________
(1) انظر مخالفة الصحابي للحديث النبوي: 124 ـ 145

( 300 )

استخلاص واستنتاج
جئنا بهذه النماذج للتأكيد على أنّ الحكّام يهمّهم في الغالب منح رأيهم الشرعيّة، أكثر من التقييد بما قاله الله والتعبّد بنصوص الوحي. ولو تبصّر الباحث في فقه عثمان ومعاوية ومن سار على نهجهما لوجده ـ في آرائه المستجدّة ـ امتداداً لنهج الخليفة عمر بن الخطّاب. وإذا حَدَث أن شذّوا في بعض الاَحيان عن سنّة الشيخين ـ كما في إتمام الصلاة بمنى وتقديم الخطبة عند عثمان، وإحداث الاَذان وتقديم الخطبة في العيدين، عند معاوية ـ فلايعني هذا تخالف رأيهم مع رأي عمر وأبي بكر في كلّ شيء، بل يدلّ على تبنّيهم رأياً جديداً مبتنياً على قاعدة أنّ للخليفة حقّ التشريع بما يراه مصحلة ورجحاناً، ومن الطبيعيّ أن تكون قناعتهم هي الراجحة على نظر من سبقهم. فالخليفة عثمانبن عفّان ومعاوية بن أبي سفيان يسيران ـ بنحو عامّ ـ على نهج من سبقهما، وأنّ أخذهما بالرأي والاجتهاد جاء امتداداً لرأي الشيخين اللذين سنّا هذا في الشريعة.
وبذلك تبلور عند المسلمين اتّجاهان، أحدهما يأخذ بالنصوص الشرعيّة ولا يرتضي رأي أحد بديلاً عن حكم الله ورسوله، حتّى رسول الله فإنّه كان عبده ورسوله ولا يقول في الاَحكام برأي ولا قياس ولكنّه (بِمَا أراك الله)(1)‌و(ما يَنْطِقُ عَنِ الهَوى * إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يُوحَى)(2). ومعنى هذا أنّه كان متعبّداً بما ينزل عليه من الوحي ولا يفتي برأيه. وهذا المفهوم التعبّديّ قد ورد في كلمات الاَئمّة من ولده ؛ إذ كلّهم يؤكّدون أنّ قولهم لميكن عن رأي، وإنّما هو حكمٌ توارَثوه كابراً عن كابر عن رسول الله (ص).
وفي مقابل هذا الاتّجاه برز بأخَرَةٍ اتّجاه آخر هو ما سمّيناه: اتّجاه الاجتهاد والرأي، أو المصلحة، أو غيرها.

____________
(1) النساء : 105 .
(2) النجم : 3 ـ 4 .

( 301 )
وقد تبنّى هذا الاتّجاه في جذوره الاَساسيّة بعض الصحابة على عهد رسول الله، إذ اتّضح لك موقف أبا بكر وعمر في قضيّة المتنسّك وأنّهما لميقتلاه لصلاته وخشوعه ، وغيرهم من الصحابة الذين صاموا الدهر مع وجود نهي عن رسول الله فيه و... فهؤلاء قد دعوا إلى مشروعيّة الرأي والخليفة عمربن الخطّاب حكَّم فكرتهم لما أحسّه من العوز إلى النصوص، فالسماح بالقياس والاجتهاد ثمّ صعود عمر المنبر واعتراضه على الصحابة لاختلافهم في الآراء يعني أنّهما كانا يريدان حصر الرأي وحجّيّته بهما، دون غيرهما، ويُلزمان الصحابة بالتعبّد بما يقولانه، بيد أنّهما لم يوفَّقا في ذلك، لاَنّ القول بمشروعيّة الرأي والاجتهاد له اتّساع ومطّاطيّة وانسياب، ولا يمكن لاَحد حكره على نفسه.
إنّ القول بمشروعيّة تعدّديّة الرأي هو ما أوقع الاَُمّة في الاختلاف. وقد وضّح أبوبكر هذه الحقيقة بقوله: (والناس أشدّ اختلافاً من بعدكم)، ومثله ما قاله الخليفة لعمر كما في رواية البيهقيّ ـ آنفة الذكر ـ : (شكا إليه الحكم بين الناس...).
أمّا الاِمام عليّ بن أبي طالب فقد وضّح الاَمر بأجلى صوره في الخطبة الشِّقشقيّة حيث يقول : (... يَكْثُرُ العثارُ فيها والاعتذار منها، فصاحِبُها كراكبِ الصَّعْبة: إنْ أشْنَقَ لها خَرَم، وإن أسْلَسَ لها تَقَحّم، فَمُنِيَ الناس لعمرُ الله بخبطٍ وشماس...).
ولو تدبّرنا كلام رسول الله (ص) يوم الخميس: (أئتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً) وقوله (ص) في حديث الثقلين: (ما إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً) مع الاَحاديث الواردة عن أهل البيت ونهيهم عن الاَخذ بالرأي، وكون الرأي بنظرهم ابتعاداً عن السنّة، لعرفنا أنّ أمر التدوين ومنعه كانا أمرين مرتبطينِ بالشريعة، لكن سخّرهما الخلفاء لخدمة مصالحهم وآرائهم، فمنعوا التدوين والتحديث حينما رأوا ضرورة في ذلك، وفتحوه أيضاً عندما أرادوا ذلك.
فالاَُمّة الممتحنة كلّما ابتعدت عن أهل البيت زادت بُعداً عن الحقّ
( 302 )
وضياعاً عن جادّة الصواب ، وهذا ما كان يتخوّف منه رسول الله على أُمّته لاَنّ الابتعاد عنهم سياسيّاً وعدم إشراكهم في أمر الولاية والخلافة سيبعد الاَُمّة عن سنّة رسول الله، وهو ممّا يؤدّي إلى الانحراف عن الجادّة، لاَنّ عدمترشيحهم للخلافة وتنصيبهم لها لا يُسقط أمر الرسول وإخباره (إنّي مخلّف فيكم الثقلين)؛ لاَنّ المأمور به هو الاَخذ منهم، أي أنّكم لو لم تأخذوا بأقوال هؤلاء الاَئمّة في الشريعة لضللتم عن الدرب وابتعدتم عن السنّة.
وقد أكّد رسول الله على هذا الاَمر موضّحاً كونهم هُداة الاَُمّة والمبيّنين لما اختلف فيه الناس من بعده.
وذلك في مثل قوله (ص): أنا المنذر وعليّ الهادي وبك ياعليّ يهتدي المهتدون من بعدي»(1).
وقوله: «من أراد أن يحيا حياتي ويموت ميتتي ويسكن جنّة الخُلد التي وعدني ربّي، فليتولَّ عليَّ بن أبي طالب، فإنّه لن يُخرجكم من هدى، ولنيُدخلكم في ضلالة»(2).
وفي نصوص أُخرى عنه (ص) تؤكّد لزوم أخذ الاَحكام عنهم لاغير، فجاء عنه (ص) قوله : إنَّما هلك من كان قبلكم بهذا ، ضربوا كتاب الله بعضه بعضاً، وإنَّما نزل كتاب الله يصدّق بعضه بعضاً ولا يكذّب بعضه بعضاً، ما علمتم فيه فقولوا ، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه(3).
وفي آخر : مهلاً يا قوم ! بهذا هلكت الاَُمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض ، إنَّ القرآن لم ينزل يكذّب بعضه بعضاً، بل يصدّق بعضه بعضاً ، فما عرفتم فاعملوا ، وما جهلتم منه فردّوه إلى
____________
(1) المستدرك على الصحيحين 3: 130، لسان الميزان 2: 199 رقم 904، حلية الاَولياء1: 64، تاريخ دمشق2: 417 رقم 915 ـ 916، كنز العمّال11: 612، الاستيعاب|القسم الثالث: 1114 رقم 1855.
(2) كنز العمّال 11: 611|32960، الكافي 1: 209.
(3) كنز العمّال 1 : 192 ح 970 .

( 303 )
عالمه(1)‌.
وعن أُبيّ بن كعب أنّه قال لمّا سئل ما المخرج من هذا ؟ ـ حينما وقع الناس في عثمان ـ قال : كتاب الله وسنّة نبيّه ، ما استبان لكم فاعملوا به، وما أشكل عليكم فكلوه إلى عالمه(2).
وقد جاء ما مرَّ في ذيل حديث الصادق ـ المنقول عن تفسير العيّاشيّ ـ آنف الذكر.
إنّ المنع من الاِتيان بالدواة إلى رسول الله، ثمّ المنع من تدوين السنّة والتحديث بأحاديث النبيّ (ص)، والقول بـ (حسبنا كتاب الله) وأخيراً الذهاب إلى مشروعيّة الرأي والقياس وجواز تعدّد الآراء في الشريعة وكون كلام الصحابيّ يخصّص القرآن والسنّة.. كلّها مراحل مرّت بها الاَُمّة فابتعدت بها عن الجادّة وعمّا رسمه الوحي في شريعته.
كان هذا مجمل محنة النصّ النبويّ وسلطة الرأي على الشريعة. ولو أردنا التوسّع في مثله لخرجنا عمّا نريد الاِشارة إليه.
إنّ الحكومة كانت تصحّح جميع الآراء، وتأخذ بأقوال جميع الصحابة.. إلاّ فقه عليّ بن ابي طالب وأتباعه المتعبّدين المدوّنين؛ فإنّه بزعمها أجنبيّ عن الاِسلام ومنفيّ من فقه المسلمين!
ولو تطلّعنا إلى تراثنا الفقهيّ الحديثيّ لرأينا غلبة روح العصبيّة عليه، فأحاديث عليّ لا تتجاوز العشرات في المجاميع الحديثيّة ولم يبنوا عليها الاَحكام إلاّ عند اضطرارهم لذلك، بل إنّهم ليخافون ويقصرون في نقل جميع مرويّات عليّ (ع) وأحكامه التي استلمها فَمَاً لِفَمٍ عن رسول الله (ص)، وأمّا أحاديث أبي هريرة وابن عمر وعائشة فتدور عليها رحى الشريعة، وهي بالاَلوف!
ترى.. لِمَ أُريد لهذا الاختلال أن يكون؟! ألاَِنّ أبا هريرة وابن عمر
____________
(1) كنز العمّال 1 : 193 ح 978 .
(2) حجّيّة السنّة : 358 .

( 304 )
وعائشة كانوا أقدم إسلاماً وأكثر علماً، وأقرب إلى رسول الله من عليّ؟!
ولِمَ لا يروي مالك في موطّئه عن عليّ الاَحاديث؟!
ولماذا لا نرى في فقه المسلمين ما يشير إلى أحكام أهل البيت في حين نرى هؤلاء الفقهاء يذكرون شواذّ آراء المذاهب الفقهيّة البائدة.
فما يعني كلّ هذا؟! ولماذا نجد بقايا فكر العصبيّة موجوداً في تراثنا، ومن أجله يُمنع الباحثون من التعرّف على أُمور فيها إيضاح للحقائق، ولو أقدم أحد على أمر كهذا لرمي ببثّ الفرقة بين المسلمين؟!
إنّا لنعجب كلّ العجب ويحقّ لنا أن نتساءل: متى كان تبيين الحقائق وتوضيح المجهولات يعني الفرقة والفتنة؟!

مفردات مُهمّة
وإليك هذا النصّ كي تقف على منهج الحكّام في الاَحكام، فقد جاء في مقدّمة «تحفة الاَحوذيّ» عن شعيب بن جرير أنّه طلب من سفيان الثوريّ أن يحدّثه بحديث السنّة، فقال:
اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، القرآن كلام غير مخلوق ـ إلى أن يقول ـ : ياشعيب! لا ينفعك ما كتبت حتّى ترى المسح على الخفّين، وحتّى ترى أنّ إخفاء بسم الله الرحمن الرحيم أفضل من الجهر، وحتّى تؤمن بالقَدَر، وحتّى ترى الصلاة خلف كلّ بَرّ وفاجر، والصبر تحت لواء السلطان جائراً أو عادلاً.
فقلت: يا أبا عبد الله ! الصلاة كلّها؟
قال: لا، ولكن صلاة الجمعة والعيدين، صلِّ خلف من أدركت، أمّا سائر ذلك فأنت مخيّر، لا تصلّي إلاّ من تثق به وتعلم أنّه من أهل السنّة(1).
وها أنت ترى أنّ إخفاء «بسم الله الرحمن الرحيم»، والمسح على الخفّين والصلاة خلف كلّ بَرّ وفاجر.. كلّها ممّا وضعته السياسة الحكوميّة، وأنت تعرف أنّ مدرسة أهل البيت ترى الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم من
____________
(1) تحفة الاَحوذيّ في شرح جامع الترمذيّ (المقدّمة): 352.

( 305 )
علامات المؤمن، وقد أيّد موقفهم هذا عدد كبير من الصحابة، ولو لمنحذر الخروج عن صُلب البحث لاَشرنا إلى أسمائهم ونصوصهم. لكنّ المهمّ هو أنْ تعرف أنّ كلّ المفردات المذكورة مخالفة لفقه عليّ وابن عبّاس وأعيان الصحابة، وموافقة لفقهاء السلطة والحكومة، وكفى بهذا دليلاً ومؤشّراً.
كانت هذه بعض أُصول السياسة، والآن لنوضّح سرّ التأكيد على سيرة الخليفة عمربن الخطّاب وكونه قد أخاف الناس في الحديث عن النبيّ!
جاء في بعض النصوص المنسوبة إلى النبيّ (ص): (اقتدوا بالذين من بعدي: أبا بكر وعمر). وفي هذا النصّ مؤشّرات تدلّ على أنّه قد جُعِل في أوائل خلافة عثمان، لاَنّا قد عرفنا أنّ عمر بن الخطّاب وعبدالرحمنبن عوف كانا يتخوّفان من أمرين.
الاَوّل: تصدّر من لا يرتضي اجتهاد (الشيخين).
الثاني: سريان الاجتهاد بحيث لا يمكن حدّه، إذ إنّ تعدّد مراكز الاِفتاء والقول بحجّيّة رأي الجميع لو أُطلق له العنان وخصوصاً في تلك البرهة من تاريخ الاِسلام لما أمكن لاَحد الوقوف بوجهه ومن أجله نرى ابن عوف يعترض على عثمان لاِتيانه بأُمور لم تكن على عهد الشيخين، ويطلب منه أن يقف عند اجتهاداتهما ولايتعدّاها إلى غيرها!!
لكنّ عثمان لم يستجب لطلبه ولم يرتضِ قوله؛ لاَنّه كان لا يرى نفسه أقلّ شأناً منهما ليكون متّبعاً لهما مقتفياً أثرهما في الاجتهاد، ولم يكن هناك ما يرجّح رأيهما على رأيه، فإذا كان كلّ من أبي بكر وعمر قد ارتبط برسول الله (ص) عن طريق المصاهرة، فزوّج كلّ منهما ابنته لرسول الله.. فإنّ عثمان قد ارتبط برسول الله برباطين، وتزوّج ابنتيه، وهو «ذو النورين»!
بلى، إنّ عثمان كان يتساءل مع نفسه: لو كان الاجتهاد مشروعاً فلمَ لاأجتهد أنا في الاَحكام كذلك؟ وكيف يحقّ لهم أن يلزموني بأن أتّبع رأي الشيخين وأقتفي آثارهما وأراهم لم يتعبّدوا بقول الرسول ويجتهدان أمامه؟! وإذا لم يكن الاجتهاد جائزاً فلم يُبيحون لاَُولئك الاجتهاد ويحضرونه عليّ؟
وهذه الموازنة أيضاً كانت محلّ اختلاف الاَنظار، فابن عوف ومن على
( 306 )
طرازه الفكريّ كانوا يتصوّرون إمكان حصر دائرة الاجتهاد والرأي بسيرة الشيخين، فألزموا عثمان بها وطالبوه بالوفاء بما التزم به، في حين كان موقف عليبن أبي طالب (ع) خلاف ذلك، فإنّه أدرك خطأ الموازنة المتوخّاة، وأنّ الاجتهاد باب مفتوح لا ينحصر بواحد دون آخر، ولذلك قال لابن عوف «دقّ الله بينكما عطر منشم»، فقد أخبر باختلافهما. وأخرجه مخرج الدعاء، لعلمه بثاقب بصيرته لما سيؤول إليه الاَمر، وقد حدث ذلك بالفعل.
غير أنّ الاَمويّين أضافوا اسم عثمان إلى قائمة من يجب طاعته واتّباع سيرته من الخلفاء، لما رأيت من النصوص الكثيرة التي فيها أسماء الخلفاء الثلاثة: (أبي بكر، وعمر، وعثمان) دون عليّ بن ابي طالب، ولميدرج اسم علي (ع) رابعاً إلاّ في أواخر العهد العبّاسيّ الاَوّل، فقد أدرجوا اسمه ضمن قائمة الخلفاء؛ لاَنّهم رأوا أنّه لا محيص عن إدراج اسمه ضمن من سبق خصوصاً في أوائل الحكومة العبّاسيّة وحاجتها إلى معارضة كلّ ما يمتّ للاَمويّين بصلة، وعليّ من بني هاشم، فاتّخذوه ذريعة لهم. وكذلك صدور روايات (الخلفاء الراشدين من بعدي) كانت من آثار هذه الفترة من تاريخ الاِسلام. فالاختصاص بالثلاثة (أبي بكر، وعمر، وعثمان) كان من إبداعات العهد الاَمويّ! وأمّا: (اقتدوا بالذين من بعدي) وأمثاله فقد صدرت بعد الشورى، وأيّام التأكيد على سيرة الشيخين!

( 307 )

ما رجّحه ابن عبد العزيز في التدوين
نعم، إنّ السياسة كان لها الاَثر الاَكبر في هذه النصوص وفي غيرها، من أمثال (العشرة المبشّرة) أو (عدالة الصحابة). كلّ هذه النصوص توضّح مسلك تعدّديّة الرأي الذي بذر بذرته الخليفتان (أبو بكر وعمر) عند منعهما للحديث والتدوين.
إنّ شيوع ظاهرة الاَخذ بالاَحاديث عند بعض الصحابة، والرأي عند الآخر واختلاطهما عند فريق ثالث.. كلّ ذلك جعل سنّة النبيّ (ص) تختلط بالاَثر عن الصحابيّ، فتداخلت الاَُمور، واختلط الحابل بالنابل، والصحيح بالسقيم،والسنّة بالسيرة العامّة. ثمّ جاء عمربن عبد العزيز ليحكّم سيرة الشيخين لتكون شريعة ماضية للمسلمين.
جاء فيما كتبه عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن عمرو بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله أو سنّة ماضية أو حديث عمرة. فاكتبه؛ فإنّي خشيت دروس العلم وذهاب العلماء(1).
وفي حديث آخر: وحديث عمر(2).
وفي ثالث: أن يكتب له العلم من عند عمرة بنت عبدالرحمن والقاسمبن محمّد فكتبه له(3).
وجاء في «تاريخ الخلفاء» عن حاطب بن خليفة البُرْجُميّ: شهدتُ عمربن عبدالعزيز يخطُب وهو خليفة، فقال في خُطبته: ألا وإنّ ما سنّ رسول الله وصاحباه فهو دِين نأخذ به وننتهي إليه، وما سنّ سواهما فإنّا نُرجئه(4))؟!

____________
(1) تقييد العلم: 105 و106، سنن الدارميّ 1: 126، صحيح البخاريّ 1: 36، التاريخ الصغير: 105.
(2) سنن الدارميّ 1: 126.
(3) الجرح والتعديل 1: 21.
(4) تاريخ الخلفاء للسيوطيّ: 241، كنز العمّال 1 : 332 ، وعنه في الصحيح للسيّد جعفر مرتضى 8:11.

( 308 )
وفي «تقييد العلم»: كتب عمر بن عبد العزيز إلى المدينة انظروا، في حديث عفّان إلى أهل المدينة: أن انظروا ما كان في حديث رسول الله فاكتبوه فإنّي خفت. وفي حديث عفّان: فإنّي قد خفت دروس العلم وذهاب العلماء(1)
وجاء فيما كتبه عمر بن عبد العزيز لبعض ولاته (...فإنَّ السنّة إنَّما سنّها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمّق ، فارض لنفسك ما رضى به القوم لاَنفسهم ، فإنَّهم على علم وقفوا ، وببصر نافذ كفوا ، وهم على كشف الاَُمور كانوا أقوى ، وتفضيل ما كانوا فيه أولى ، فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه ، ولاَن قلتم «إنّما حدث بعدهم» ما أحدثه إلاّ من اتّبع غيرسبيلهم، ورغب بنفسه عنهم ، فإنَّهم هم السابقون ، فقد تكلّموا فيه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي ، فما دونهم من مقصّر وما فوقهم من محسر، وقد قصّر قوم دونهم فجفوا ، وطمح عنهم قوم فغلوا ، وإنَّهم بين ذلك على هدى مستقم...)(2). وفي كلام آخر له : سنّ رسول الله وولاة الاَمر بعده سنناً ، الاَخذ بها تصديق بكتاب الله واستعمال لطاعة الله ، وقوّة على دين الله ، ليس لاَحد تغييرها ولاتبديلها ولا النظر في رأي من خالفها ، ومن اقتدى بها مهتد ، ومن انتصر بها منصور، ومن خالفها واتّبع غير سبيل المؤمنين...(3).
ثمّ إنّ الخليفة عمر بن عبد العزيز جعل ما دوّنه ابن حزم سنّة للاَمصار، وقد علمت أنّ ما دوّنه كان يضمّ في مطاويه اجتهادات الخلفاء، وما روته عمرة والقاسمبن محمّد عن عائشة وغيرهما، وهو ما أرادته السلطة من تثبيت فقه هؤلاء!

____________
(1) تقييد العلم: 106، تاريخ دمشق 3: 175.
(2) حقيقة البدعة وأحكامها ، للغامديّ 1 : 74 عن سنن أبي داود ، كتاب السنّة ، باب لزوم السنّة، وبنحوه في البدع لابن وضّاح : 30 .
(3) أخرجه الآجريّ في الشريعة : 48 ، وعبد الله بن أحمد في كتاب السنّة 1 : 357 كما في حقيقة البدعة 1 : 397 .

( 309 )
وفي هذا الصدد ورد عن ابن شهاب الزهريّ قولُه: أمرنا عمربن عبدالعزيز بجمع السُّنَن، فكتبناها دفتراً دفتراً، فبعث إلى كلّ أرض له عليها سلطان دفتراً(1).
وقد مرّت عليك نصوص عنه بأنّ تدوين العلم كان من أجل طلب الاَُمراء. مع الوقوف على دور السلطة في العهد العبّاسيّ في تأصيل المذاهب الاَربعة، وبهذا عرفنا أنّ عمل عمر بن عبد العزيز في السنّة لم يكن لجمع سنّة رسول الله فقط، بل لتأصيل ما صدر عن الخلفاء من اجتهادات وآراء كذلك، أي أنّه قد أصّل مدرسة الخلفاء (الاجتهاد والرأي) بعد أن انفصل فقههم عن منابعه وأُصوله وضاع العلم عن الاَُمّة مدّة قرن أو أزيد!
والمعلوم أنّ التدوين في ظروف تغلب عليها العصبيّة والقَبَليّة ـ خصوصاً بعدما شاع الوضع على لسان رسول الله ـ ليس ممّا يمكن الاطمئنان إليه.
هذا، ولا يخفى أنّ وجود بعض الاَحاديث ممّا لا يرتضيه الاتّجاه الحكوميّ العامّ لا يعني خلوص نيّة من تصدّى لاَمر التدوين وطموحهم إلى حفظ الشريعة، بل هو مؤشّر على امتداد النهجين في عهدهم، ووجود من يدافع عن سنّة رسول الله؛ لاَنّ التحريف الحكوميّ لا يُمكنه الصمود أمام التيّار الفكريّ الضخم الاَصيل، ذلك أنّ تعثّر النهج الحاكم ، وخلطه بين الاَوراق هو ما تكشفه الروايات الاَُخرى والقرآن الكريم، ويقف أمامه أتقياء الصحابة والمنطق السليم.
ولذلك نرى ضخامة وأصالة نهج التعبّد في الصحاح والمسانيد التي دوّنها أتباع الرأي والاجتهاد، وقد اتّخذت تلك المرويّات طريقها في فقه المسلمين على رغم كلّ الظروف والملابسات. وأنّ شمولها واتّساعها لاَغلب أبواب الفقه ينبىَ عن وجود نهجين فكريّين: أحدهما يدعو إلى الرأي ويفتي طبق اجتهاد الصحابة، والآخر: يعمل بالنصوص وما جاء في كتاب الله وسنّة نبيّه لاغير.

____________
(1) جامع بيان العلم وفضله 1: 76.

( 310 )
جاء في «تقييد العلم»: أخبرنا صالح بن كيسان، قال: اجتمعت أنا والزهريّ، ونحن نطلب العلم، فقلنا: نكتب السنن، فكتبنا ما جاء عن النبيّ (ص). ثمّ قال: نكتب ما جاء عن أصحابه، فإنّه سنّة.
فقلت أنا: ليس بسنّة فلا نكتبه.
قال: فكتب ولم أكتب، فأنجح وضيّعت(1).
قال أبو زهرة : وجدنا مالكاً يأخذ بفتواهم كما أنّها من السنّة(2).
وقال موسى جار الله : ونحن فقهاء أهل السنّة والجماعة، نعتبر سيرة الشيخين: الصدّيق والفاروق أُصولاً تعادل سنن النبيّ الشارع في إثبات الاَحكام الشرعيّة في حياة الاَُمّة وإدارة الدولة . ونقول إنَّ الخلافة الراشدة معصومة عصمة الرسالة المعصومة(3).
كيف لا يكون ذلك والحكومة وراء نهج الخلفاء، تثبّت ما يريدون، وتترك جانباً ما لا يرغبون فيه؟! وإليك هذا النصّ:
نقل أبو بكر الصنعانيّ: أتينا مالك بن أنس، فحدّثَنا عن ربيعة الرأي ـ وهو أُستاذ مالك ومعلّمه ـ فكنّا نستزيده، فقال لنا ذات يوم: ما تصنعون بربيعة وهو نائم في ذاك الطاق؟
فأتينا ربيعة، فقلنا: كيف يُحيط بك مالك ولم تُحِط أنت بنفسك؟!
فقال: أما علمتم أنّ مثقالاً من دولة خير من حِمل علم(4).
وهذا يكشف عن مواقف النهجين وامتدادهما في العصر الاَمويّ والعبّاسيّ، واختلاط النصوص بحيث يعسر تمييز صحيح الحديث من سقيمه، وهو ما أراده هؤلاء الخلفاء للعصور اللاحقة!

____________
(1) جامع بيان العلم وفضله 1: 76 ـ 77، تقييد العلم: 106 ـ 107.
(2) ابن حنبل : 251 ، ومالك : 290 .
(3) الوشيعة : 77 .
(4) انظر طبقات الفقهاء لاَبي إسحاق: 67، تاريخ بغداد 8: 424 وللمزيد انظر: الاِحكام لابن حزم 1: 246 وما بعده.