السبب السادس
ما ذهب إليه بعض المستشرقين
قال المستشرق الاَلمانيّ شبرنجر: «إنّ الفاروق عمر لم يهدف إلى تعليم
العرب البدو فحسب، بل تمنّى أن يحافظ على شجاعتهم وإيمانهم الدينيّ
القويّ ليجعلهم حكّاماً للعالم. والكتابة واتّساع المعرفة لا تتناسب مع الهدف
الذي سعى من أجله»
(1).
ومن هذا النصّ نفهم أنّ «شبرنجر» يريد استغلال منع عمر التدوين
ليوحي بأنّ انتشار الاِسلام كان على أساس القوّة المفرّغة من المعرفة، وأنّ
الكتابة واتّساع المعرفة في نظره لا تناسب الشجاعة البدويّة، وروحيّة عمر
الحربيّة!
والحقّ إنّ هذا الكلام فيه ما فيه من أضاليل المستشرقين، ومن ادّعاءاتهم
التي يطلقونها في الهواء خلوّاً من أيّ برهان أو دليل. وهذا المستشرق الآخر
«ج، شاخت» يدّعي أن ليس بين الاَحاديث المرويّة عند المسلمين حديث
فقهيّ صحيح، بل إنّها وضعت بعدئذٍ في إطار المصالح المذهبيّة!
(2)
ويمضي «جولد تيسهر» أبعد من هذا، فيدّعي في صدور روايات
التدوين «أنّ جمعيها موضوعة، وأنّ الكتب المؤلَّفة الجامعة للحديث المنسوبة
إلى العصر الاَوّل مفتعلة»
(3)، وغيرها الكثير من الآراء الفارغة.
وقد ذهب بعض كتّاب المسلمين كإسماعيل بن أدهم في رسالته
المطبوعة سنة 1353هـ إلى أنَّ الاَحاديث الصحاح «ليست ثابتة الاَُصول
____________
(1) تدوين السنّة الشريفة: 530، عن دلائل التوثيق المبكّر: 230 231.
(2) انظر دراسـات في الحديـث النبـويّ وتاريخ تدوينـه للدكتـور الاَعظمـيّ (ي) وكتاب
(شاخت): The origins of Muhammadanjurispradenee
(3) من بحوثه : Muhammedanische Studiee باللغة الاَلمانيّة ـ نشر عام 1890م .
( 56 )
والدعائم، بل هي مشكوك فيها ويغلب عليها صفة الوضع»
(1).
ومن أراد التفصيل في آراء المستشرقين الموهومة وأجوبتها، فليراجع
كتاب الدكتور محمّد مصطفى الاَعظميّ «دراسات في الحديث النبويّ» فإنّه
خير مرجع للباحثين في هذا الموضوع. ونحن نرى أنّ الاِعراض عن إجابة مثل
هذه الافتراءات الواهية التي لا يعضدها دليل أولى بالمقام.
* * * * *
السبب السابع
ما ذهب إليه غالب كتّاب الشيعة
ويتلخّص ذلك: في أنّ النهي جاء للحدّ من نشر فضائل أهل البيت،
وتخوّفاً من اشتهار أحاديث الرسول في فضل عليّ وأبنائه
(1)، وما دلّ على
إمامتهم
(2). وقد اشتدّ هذا الاَمر على عهد معاوية الذي كان يأمر الناس بلعن
الاِمام عليّ في خطب الجمعة على منابر المسلمين
(3).
واستنتج هؤلاء رأيهم من واقع الاَُمّة بعد رسول الله، وهيكليّة نظام
الخلافة السياسيّ والاجتماعيّ، وأنّ العمل الثقافيّ ليس بأجنبيّ عن العمل
السياسيّ، وحيث إنّ الخليفة لا يرتضي إعطاء أهل اليبت مكاناً في النظام
الجديد، بل سعى ليسلب منهم كلّ مايتّكئون عليه، فلا يبعد إذاً أن تكون قرارات
عمربن الخطّاب الاَخيرة في منع التدوين قد شرّعت لهذا الغرض.
وقد وثّق بعض هؤلاء الكتّاب كلامه بما نقله الخطيب البغداديّ عن
عبدالرحمنبن الاَسود عن أبيه، قال: جاء علقمة بكتاب من مكّة أو اليمن،
صحيفة فيها أحاديث في أهل البيت بيت النبيّ «فاستأذنّا على عبدالله [ابن
مسعود]، فدخلنا عليه، قال: فدفعنا إليه الصحيفة، قال: فدعا الجارية، ثمّ دعا
بطست فيها ماء، فقلنا له: يا أبا عبد الرحمن انظر فيها؛ فإنّ فيها أحاديث حساناً.
قال: فجعل يميثها فيها، ويقول: (
نحن نقصّ عليك أحسن القصص
____________
(1) دراسات في الحديث والمحدِّثين: 22، تاريخ الفقه الجعفريّ: 134.
(2) تدوين السنّة الشريفة: 415، 421، 470، 534، 557، الشيعة الاِماميّة ونشأة العلوم،
للدكتور علاء القزوينيّ: 123 124، الصياغة المنطقيّة، للدكتور حسن عبّاس حسن:
233.
(3) معالم المدرستين 2: 57، الصحيح في سيرة النبيّ، لجعفر مرتضى 1: 177.
( 58 )
بما أوحينا إليك هذا القرآن)، القلوب أوعية فأشغلوها بالقرآن لاتشغلوها ما
سواه
(1).
ثمّ استنتج الذاهبون إلى هذا السبب، انحراف ابن مسعود عن مسار أهل
البيت؛ فقالوا: إنّه انحرف عن عليّ
(2)أو: إنّه لم يُعِر [الموضوع] اهتماماً وأباد
الصحيفة محاولاً أن يُوهِم أنّ القرآن يغني عمّا فيها
(3). وبذلك اعتبر محو أدلّة
الاِمامة هو الهدف الاَساس في المنع، ولم يكن هناك سبب صحيح آخر
(4).
ويمكن أن يؤخذ على هذا الرأي ما يلي:
الاَوّل: المُشاهَدُ في المصادر وجود نصوص عن ابن مسعود، تؤكّد أنّه
كان من دعاة التحديث والتدوين، ومن أجل موقفه هذا دُعي إلى المدينة أيّام
الخليفة عمربن الخطّاب وسجن حتّى آخر عهد الخليفة، وإليك بعض
النصوص المؤكدة على أنّه كان من دعاة التحديث والتدوين، منها:
روى عمرو بن ميمون، قال: ما أخطاني ابن مسعود عشيّة خميس إلاّ
أتيتَهُ فيه...»
(5).
وعن عبد الله بن الزبير قال : قلت لوالدي: ما لي لا أسمعك تحدّث عن
رسولالله (ص) كما أسمع ابن مسعود وفلاناً وفلاناً...»
(6).
وعن أبي قلابة قال: قال ابن مسعود: عليكم بالعلم قبل أن يقبض وقبضُهُ
ذهابُ أهله فإنّ أحدكم لا يدري متى يفتقر إليه، وستجدون أقواماً يزعمون أنّهم
يدعونكم إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم
(7).
____________
(1) تقييد العلم : 54 . والآية : 3 من سورة يوسف .
(2) دراسات في الكافي والصحيح: 19، دراسات في الحديث والمحدّثين: 22.
(3) تدوين السنّة الشريفة: 413.
(4) انظر تدوين السنّة الشريفة: 421، 470 مثلاً.
(5) سنن ابن ماجة 1: 10|23، مسند أحمد 1: 452، التمييز، للاِمام مسلم القشيريّ:
174.
(6) سنن ابن ماجة 1: 14|36.
(7) تذكرة الحفّاظ 1: 15، مجمع الزوائد 1: 126.
( 59 )
وجاء عن معن، قال: «أخرج عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود كتاباً،
وحلف له إنّه خطّ أبيه بيده»
(1).
وفي جزء القراءة من صحيح البخاريّ
(2)إشارة إلى وجود نسخة عنده أو
كتب عنها. وحكي عن أصحابه أنّهم كانوا يرحلون لطلب العلم وتدوينه.
وعن الشعبيّ: ما علمت أنّ أحداً من الناس كان أطلب للعلم في أُفق من
الآفاق من مسروق، وكان أصحاب عبد الله الذين يقرئون الناس ويعلّمونهم
السنّة: علقمة، ومسروق و...
(3).
وجاء عن ابن عيّاش، قال: سمعت المغيرة يقول: «لم يكن يصدق على
علِيّ في الحديث عنه، إلاّ من أصحاب عبد الله بن مسعود»
(4)، كأمثال علقمة
من الذين عرفوا بحبّ عليّ.
وقد جاء في تاريخ الفَسَويّ: أنّ حفيد ابن مسعود أحضرلـ (معن) كتاباً
بخطّ أبيه عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود كان يشتمل على الاَحاديث وفقه
ابن مسعود
(5)؟.
وروى الطبرانيّ، عن عامر بن عبد الله بن مسعود: أنّه كتب بعض
الاَحاديث النبويّة وفقه ابن مسعود وأرسل ذلك إلى يحيى بن أبي كثير
(6).
فلو أضفت هذه النصوص إلى ما قيل عن ابن مسعود وكونه من الصحابة
الستّة الاَوائل المسارعين للاِسلام، وأنّ رسول الله قال له (إنَّك لَغلام معلّم)
(7)
و(من أحبّ أنْ يسمع القرآن غضّاً فليسمعه من ابن أُمّ عبد)
(8)، وأنَّ عمربن
____________
(1) جامع بيان العلم 1: 72.
(2) كما في الدراسات للدكتور الاَعظميّ: 127، عنه.
(3) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البرّ 1: 94، تهذيب الكمال 27: 454.
(4) صحيح مسلم 1: 14 ب4 ح7.
(5) تاريخ الفسويّ 3: 215 كما في الدراسات: 154.
(6) المعجم الكبير للطبرانيّ 5: 97 كما في الدراسات: 154.
(7) الاِصابة 2: 369، حلية الاولياء 1: 125، سير أعلام النبلاء 1: 465، أُسد الغابة 3:
256، المنتظم، 5: 30.
(8) الاستيعاب 2: 319 المطبوع بهامش الاِصابة.
( 60 )
الخطّاب قد أرسله إلى الكوفة لتعليمهم أُمور الدين، لعلمتَ أنّها تدلّ على
امتلاك ابن مسعود الرؤية الواضحة والثقافة الاِسلاميّة، فهو يصرّ على إقراء
الناس القراءةَ التي سمعها من رسول الله، حتّى كسر ضلعه من قبل الخليفة
عثمانبن عفّان. فمن كان هذا حاله لزم التوقّف فيما نُقل عنه واجتناب البتّ
فيما قيل من ذهابه إلى منع التحديث والتدوين، ودراسة ذلك برويّة وحذر.
الثاني: لم نجد ذيل خبر علقمة ـالذي ذكره الخطيبـ في غريب
الحديث لابن سلاّم، إذ ليس فيه أنّ الاَحاديث كانت في أهل البيت، بيت
النبيّ
(1)
؟، مضافاً إلى أنّ المنقول هنا يخالف ما نُقل عن ابن مسعود وكونه من
الاثني عشر الذين أنكروا على أبي بكر أمر الخلافة، وقوله: «يا معشر قريش!
قد عَلِمتم وعَلِم خياركم أنّ أهل بيت نبيّكم أقرب إلى رسول الله منكم. وإن كنتم
إنّما تدّعون هذا الاَمر بقرابة رسول الله، وتقولون إنّ السابقة لنا، فأهل بيت نبيّكم
أقرب إلى رسول الله منكم، وأقدم سابقة... ولا ترتدّوا على أعقابكم، فتنقلبوا
خاسرين»
(2)8؟.
وقد اشتهر عنه أنّه نقل فضائل الخمسة أصحاب الكساء
وخصوصاً الحسن والحسين
(3).
وفي الاِصابة وغيره، عن أبي موسى قال: قَدِمتُ أنا وأخي من اليمن، وما
نرى ابن مسعود إلاّ أنّه رجلٌ من أهل بيت النبيّ (ص)؛ لما نرى من دخوله
ودخول أُمّه على النبيّ (ص)
(4).
وروى عن الرسول (ص): «أنّ الخلفاء بعده اثنا عشر خليفة بعدد نقباء
بني إسرائيل»
(5).
____________
(1) غريب الحديث لابن سلاّم 2: 189، حجّيّة السنّة: 396.
(2) الخصال 2: 464 في أبواب الاثني عشر.
(3) انظر مجمع الزوائد 9: 179، كامل الزيارات: 51 ب14 ح4 ـ 8.
(4) انظر الاِصابة 2 : 369 وشرح النوويّ لصحيح مسلم 15 ـ 16 : 247 ـ 22 ح2460،
وأخرجه البخاريّ في التاريخ الكبير، والترمذيّ في سننه.
(5) انظر باب الخلفاء والاَئمّة بعد النبيّ، الاَحاديث 6 ـ 11، تنقيح المقال 2: 215.
( 61 )
وروى الخزّاز في «كفاية الاَثر» مسنداً إلى ابن مسعود، أنّه قال: «سمعت
رسولالله (ص) يقول: الاَئمّة بعدي اثنا عشر، تسعة من صُلب الحسين،
والتاسع مَهْدِيّهم»
(1).
وروى أحمد بإسناده عن مسروق، قال: «كنّا مع عبد الله بن مسعود
جلوساً في المسجد يُقرئنا، فأتاه رجل فقال: يا ابن مسعود؛ هل حدّثكم نبيّكم
كم يكون من بعده خليفة؟
قال: نعم، كعدّة نقباء بني إسرائيل»
(2).
وفي البداية والنهاية عنه: «إنّ رسول الله قال: يكون بعدي من الخلفاء
عدّة أصحاب موسى»
(3).
وقد أخرج الحاكم بسنده عن ابن مسعود «رضي الله عنه»، قال: «أتينا
رسولالله (ص) فخرج إلينا مستبشراً يُعرَف السرور في وجهه، فما سألناه عن
شيء إلاّ أخبرنا به، ولا سَكَتْنا إلاّ ابتدأنا، حتّى مرّت فتية من بني هاشم فيهم
الحسن والحسين، فلمّا رآهم التزمهم وانهملت عيناه، فقلنا: يارسولالله! ما
نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه.
فقال: إنّا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا، وإنّه سيلقى أهل بيتي
من بعدي تطريداً وتشريداً في البلاد حتّى ترتفع رايات سود من المشرق
فيسألون الحقّ فلا يُعْطونَه، ثمّ يُسألونه فلا يُعطونه، فيقاتلون فيُنصرون...»
(4).
وقد روى عن رسول الله (ص) كما في الحاكم أنّ: رسول الله (ص) قال:
إنّ فاطمة أحصنت فرجها، فحرّم اللهُ ذريّتها على النار»
(5). و«النظر إلى وجه
عليّ عبادة»
(6)»7.
____________
(1) كفاية الاَثر 2: 19.
(2) مسند أحمد 1: 406.
(3) البداية والنهاية 6: 248.
(4) المستدرك على الصحيحين في الحديث للحاكم النيسابوريّ 4: 464.
(5) المستدرك على الصحيحين في الحديث للحاكم النيسابوريّ 3: 152.
(6) مستدرك الحاكم 3: 142، ابن عساكر 2: 394.
( 62 )
كما روى قوله (ص) لعليّ لمّا برز لقتال ابن عبد ودّ: «برز الاِيمان كلّه إلى
الشرك كلّه»
(1).
وقوله (ص): «من زعم أنّه آمَنَ بي وبما جئت به وهو يُبغض عليّاً، فهو
كاذب ليس بمؤمن»
(2).
وروى: «أنّ رسول الله (ص) دفع لعليّ لواء المهاجرين يوم أحد»
(3).
وسئل النبيّ (ص): «ما منزلة عليّ منك؟ قال: منزلتي من الله»
(4).
وغيرها من الاَحاديث المادحة لعليّ وفاطمة والحسن والحسين.
كقوله: «ما كنّا نعرف المنافقين على عهد رسول الله إلاّ ببغضهم عليّبن
أبي طالب»
(5).
و: «قُسِّمَت الحكمة عشرة أجزاء فأُعطيَ عليّ تسعة أجزاء، والناس
جزءاً واحداً، وعليّ أعلم بالواحد منهم»
(6).
وفي آخر: إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف ما منها حرف إلاّ له ظهر
وبطن وإنّ عليّ بن أبي طالب عنده علم الظاهر والباطن
(7).
وقال: «قرأتُ على رسول الله سبعين سورة، وختمت القرآن على خير
الناس عليّبن أبي طالب»
(8). وروى الاَعمش عن أبي عمرو الشيبانيّ، عن أبي
موسى قال: والله لقد رأيت عبد الله وما أراه إلاّ عبد آل محمّد
(9).
ومن المشهور عن ابن مسعود أنّه كان يذهب إلى وجوب الصلاة على
____________
(1) انظر قادتنا كيف نعرفهم 2: 107، عن ينابيع المودّة: 94. وغيره.
(2) مناقب الخوارزميّ: 35.
(3) الاِرشاد للمفيد 1 : 80 ، وتاريخ الطبريّ وسيرة ابن هشام.
(4) ميزان الاعتدال 3: 540 رقم 7501.
(5) الدرّ المنثور 6: 566.
(6) حلية الاَولياء 1: 65.
(7) حلية الاَولياء 1: 65 ، ينابيع المودّة: 448 باب (65) ما الاجتهاد في الشريعة الاِسلاميّة
للوافي المهدي : 135.
(8) المسترشد للطبريّ: 278، قادتنا كيف نعرفهم 3: 5 عن عدّة مصادر.
(9) سير أعلام النبلاء 1: 468 والمعرفة والتاريخ للفسويّ 2: 541 542.
( 63 )
محمّد وعلى آله في التشهّد، فجاء في (الشفاء) للقاضي عياض، عن ابن
مسعود، عن النبيّ (ص) أنّه قال: من صلّى صلاةً ولم يصلّ فيها عَلَيَّ وعلى أهل
بيتي لم تقبل منه
(1). وغيرها الكثير ممّا لا نريد الاِطالة فيه، وما ذكرناه يكفي لمن
نظر.
هذا وقد عُرف عنه أنّه خالف عثمان في أكثر من موقف وقضيّة، وكان
يُحدّث بما سمعه عن رسول الله (ص)، رغم السياسات الضاغطة عليه، فلو
صحّت هذه الاَقوال عنه، فهل يطمئن القلب بعد هذا إلى ما حكاه الخطيب عن
علقمة فيه؟
وإذا قبلنا ما حكاه الخطيب فيه، فماذا نفعل بما روي عنه من أنّه شهد
الصلاة على فاطمة سيّدة النساء ودفنها؟
ألم تكن هذه خصوصيّة امتاز بها خلصاء الشيعة وأصفياء مُحبّي عليّ؟
ولو كان من مُحبّي أهل البيت فكيف يمحو الاَحاديث التي «هي في
أهل البيت، بيت النبيّ»؟
روى الصدوق في خصاله وأماليه مسنداً عن عليّ، أنّه قال: «خُلقت
الاَرض لسبعة بهم يرزقون، ويُمْطَرون، وبهم يُنصرون، وعدّ منهم عبداللهبن
مسعود. قال: وهم الذين شهدوا الصلاة على فاطمة عليها السلام»
(2).
وممّا يجب التنبيه عليه هنا هو وجود دراسة مفصّلة لنا عن ابن مسعود
أثبتنا فيها أنّ فقهه قريب من فقه أهل البيت، وهذا يضعّف مانقله الخطيب عنه،
بل إنّه شهد الصلاة على أبي ذرّ وغسله، وتكفينه، ودفنه.
إنّ كلّ ما نُقل في شأنه هو امتياز له، إذ صحّ عن النبيّ (ص)، أنّه قال في
وفاة أبي ذرّ: «تشهده عصابة من المؤمنين»
(3)وفي رواية الكشيّ: «رجال من
أُمّتي صالحون»
(4).
____________
(1) انظر أضواء على السنّة المحمّديّة: 86 عن الشفاء.
(2) الخصال 2: 361 باب السبعة، تنقيح المقال 2: 215وكشف الغمّة.
(3) كنز العمال 11: 668|33233، المستدرك على الصحيحين 3: 345.
(4) اختيار معرفه الرجال، للطوسيّ: 65 ترجمة مالك الاَشتر، ح117.
( 64 )
وفي هذه الجمل إشارة واضحة إلى جلالة قدره. قال السيّد المرتضى في
كتابه الشافي: «لا خلاف بين الاَُمّه في طهارة ابن مسعود وفضله وإيمانه ومدح
رسولالله (ص)، وثنائه عليه، وأنّه مات على الحالة المحمودة منه»
(1).
فمن المحتمل بعد هذا أن يكون نهي ابن مسعود ـعلى فرض صحّة
صدوره عنهـ قد جاء لما في تلك الاَحاديث من قصص، لقول الراوي: «فجعل
يمحوها بيده، ويقول: نحن نقصّ عليك أحسن القصص»
(2).
وجاء في خبر آخر ما يؤيّد ذلك: «أنّ رجلاً من أهل الشام جاء إلى
عبداللهبن مسعود ومعه صحيفة فيها كلام من كلام أبي الدرداء وقصص من
قصصه، فقال: «يا أبا عبد الرحمن، ألا تنظر في هذه الصحيفة من كلام أخيك
أبي الدرداء»؟! فأخذ الصحيفة، فجعل يقرأ فيها وينظر، حتّى أتى منزله، فقال:
«يا جارية، ائتيني بالاِجانة مملوءة ماءً»، فجاءت بها، فجعل يدلكها، ويقول:
(
الَر * تلكَ آياتُ الكتابِ المُبين * إنّا أنزَلْناهُ قُرآناً عَرَبيّاً لعلّكم تَعْقِلُون*
نَحنُ نَـقُصُّ عَلَيكَ أحسَنَ القَصَص) أقصصاً أحسنَ من قصص الله تريدون!
أو حديثاً أحسنَ من حديث الله تريدون»
(3)!
إنّ خبر ابن مسعود يحتمل فيه:
أ ـ أن يكون المحو لاَجل ما في الاَحاديث من [فضائل] لاَهل البيت،
بيت النبيّ (ص)، كما ذهب إليه الاَعلام في السبب السابع.
ب ـ أن يكون لاَجل ما فيها من القصص، لما عرف عن أبي الدرداء
وكعب الاَحبار من تسامحهم في سرد قصص الاَُمم الماضية المتعلّقه بالعقيدة
الاِسلاميّة وغير ذلك... ولتعليل ابن مسعود: (
نحن نقصّ عليك أحسن
القصص). وقد عَدَّ الباحثون القصص والوعظ إحدى الاَسباب الاثني عشر أو
الستّة عشر الداعية إلى الوضع في الحديث
(4).
____________
(1) انظر تنقيح المقال 2: 215، عن كتاب الشافي.
(2) تقييد العلم: 54.
(3) تقييد العلم: 54 55 والآيات 1 ـ 3 من سورة يوسف.
(4) أنظر تأويل مختلف الحديث: 357. وأضواء على السنّة المحمّديّة.
( 65 )
فيحتمل أن يكون ابن مسعود قد وقف على قصص كهذه في أهل البيت،
ممّا لا يرتضيه، فجعل يُميثها كما في الخبر.
وعليه، فإنّ حصر التعليل بالاَوّل، واعتباره السبب الاَساسيّ في ذلك، فيه
من المسامحة ما لا خفاء فيه.
هذا، ولابُدّ من الاِشارة إلى قول مَن خَدَش في ابن مسعود من أنّه استقلّ
بالرأي كبعض الصحابة، فهذا ممّا لا يستبعد، إذ إنّه كان مرجعاً للناس، وأنّ ما
أفتى به قد يكون عن خبر صحّ عنده، أو إعمال رأي واستنباط. ونلاحظ هذا
الموقف عند بعض التابعين، أو تابعي التابعين كذلك، مثل: إفتاءات أبي حنيفة،
وسفيان الثوريّ، والحسن البصريّ، وغيرهم.
فإنَّ مواقف هؤلاء واستقلالهم بالرأي لا يعني مجاراتهم للدولة. فما
ذهبوا إليه يوافق السلطان تارة، ويماثل ما أُصِّل عندهم من أُصول تارة أُخرى.
إنَّ ما ذهبوا إليه إذَنْ لم يكن تأثّراً بهم أو موالاة لهم. وقد بسطنا هذا القول
سابقاً في كتابنا (وضوء النبيّ).
نعم، إنّ هؤلاء لم يكونوا كمقداد، وعمّار، وأبي ذرّ من الصحابة أو
التابعين، المعتقدين بفقه «عليّ» ونهجه وإنّ ذلك هو سنّة رسول الله لاغير، بل
كانوا يعتقدون بأُصول ويذهبون إلى مبانٍ دعت إلى الاختلاف في أقوالهم.
وعليه، فإنّ ابن مسعود لم يكن خلّط ووالى القوم أو مال معهم، وقال
بقولهم خلافاً لما نقل عن ابن شاذان
(1).
وقد نقلت كتب الصحاح والسنن عن عليّ أنّه قال لمن سأله عن ابن
مسعود: «علم الكتاب والسنّة ثمّ انتهى وكفى بذلك علماً»
(2). أو قوله: قرأ
القرآن، وأحَلَّ حلاله وحَرّمَ حرامه، فقيه في الدين، عالمٌ بالسنّة
(3).
____________
(1) انظر معجم رجال الحديث 10: 322.
(2) انظر حلية الاَولياء 1: 129 والمستدرك على الصحيحين 3: 318، مناهل العرفان 1:
483.
(3) انظر سير أعلام النبلاء 1: 492، المستدرك للحاكم 3: 315، حلية الاَولياء 1: 299،
وشرح الاَزهار للاِمام المرتضى الزيديّ 1: 26.
( 66 )
نعم، إنّ فضائل ابن مسعود في الكتب الاَُخرى أكثر ممّا عند الشيعة،
والكلّ يشهد بجلالة قدره، وعظيم منزلته.
فما نقله الخطيب البغداديّ، وما استدلّ به السادة الاَعلام فيما سبق،
لايكون إذَن دليلاً لما ذهبوا إليه، إذ إنّ جملة «أحاديث في أهل البيت، بيت
النبيّ(ص)» ليس فيها تصريح بأنّ الاَحاديث كانت في فضائل أهل البيت، بل
يحتمل أن تكون الاَحاديث في ذمّ أهل البيت أو الغلوّ فيهم، والاَخير يتطابق مع
ما نقلناه عن سيرة ابن مسعود وما رواه من فضائل فيهم. هذا أوّلاً.
وثانياً: فإنّ ما قاله المدّعي من «أنّ المنع من التدوين جاء لمحو الفضائل
وأدلّة الاِمامة» لا يتطابق والنهي العامّ الصادر عن عمر، إذ الدليل أخصّ من
المدّعى، فعمر بن الخطّاب نهى نهياً عامّاً، وطلب ممّن عنده الاَحاديث أن يأتوه
بها: «ليرى أعدلها وأقومها».
فلو كان يريد محو الفضائل وأدلّة الاِمامة فقط وكان هدفه هذا لاغير
لاَمكنه، حينما أُتي بالمدوّنات إليه، أن يمحوها ويجعل ما بقي في كتاب، ثمّ
يأمرهم بأخذ الفرائض منه، أمّا أحاديث: التفسير، والاَخلاق، والفضائل،
والوعظ، والاِرشاد، وما شابه ذلك فكان يحيله على من يتصدّون للوعظ
والاِرشاد، ومن يثق به الخليفة، وكان بذلك قد عُمّي الاَمر على المسلمين
وخفي عليهم، والتبس الحقّ بالباطل.
ثمّ إنّ تعليل منع التدوين بطمس الفضائل يلزم منه القول بأنّ عمر كان
لايجرؤ أن يمنع من التحديث بفضائل عليّ وأهل البيت خصوصاً، فالتجأ إلى
أُسلوب المنع العامّ تخلّصاً من تبعات المنع من التحديث بالفضائل حسب.
إلاّ أنّ المتتبّع لسيرة عمر يعلم أنّ الخليفة كان شديداً غليظاً، لايهاب
أحداً. وثبت في التاريخ هجومه على المتحصّنين في بيت فاطمة من الذين لم
يرتضوا مبايعة الخليفة أبي بكر، وفيهم: عليّ، والعبّاس، والفضلبن العبّاس،
والزبير، وخالد بن سعيد، والمقداد، وسلمان، وأبو ذرّ، وعمّار، والبراءبن
عازب، وأُبيبن كعب
(1)، وسعد بن أبي وقّاص، وطلحة بن عبيد الله... فأقبل
____________
(1) انظر تاريخ اليعقوبيّ 2: 103.
( 67 )
عمر بقبس من نار على أن يُضرم عليهم النار، فلقيتهم فاطمة فقالت: يا ابن
الخطّاب! أجئت لتُحرق دارنا؟!
قال: نعم، أو تدخلوا في ما دَخَلتْ فيه الاَُمّة
(1).
وفي كنز العمّال: «إنّ عمر قال لفاطمة: وما أحد أحبّ إلى أبيك منك، وما
ذلك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك أن أمَرْتهم أن يحرقوا عليك
الباب»
(2).
وفي رواية الاِمامة والسياسة: «إن عمر جاء فناداهم وهم في دار عليّ
فأبوا أن يخرجوا، فدعا بالحطب وقال: والذي نفس عمر بيده لتخرجُنَّ أو
لاَحرقنّها على مَن فيها، فقيل له: يا أبا حفص! إنّ فيها فاطمة، فقال: وإن»
(3).
وفي أنساب الاَشراف: «إنّ أبا بكر أرسل إلى عليّ يريد البيعة، فلم يبايع،
فجاء عمر ومعه فتيلة، فتلقّته فاطمة على الباب، فقالت فاطمة: يا ابن الخطّاب
أتراك مُحرقاً عَلَيّ بابي؟!
قال: نعم، وذلك أقوى فيما جاء به أبوك»
(4).
هذه وغيرها من النصوص الدالّة على غلظة الخليفة، وشدّته في طرح
آرائه لتدلّ على أنّ مَن كانت هذه سيرته فإنّه يُستبعد أن يكون قد نهى عن
تدوين جميع الاَحاديث من أجل محو الفضائل وأدلّة الاِمامة فقط.
لو كان عمر بن الخطّاب يريد ذلك لما هاب أحداً، ولما تخوّف من
تشكيك الصحابة، ولما توقّف فيما يصير إليه.
وعليه فإنّ مسألة الخلافة والتعدّي على الزهراء، وسلبها فدكاً وجلب
عليّبن أبي طالب لمبايعة أبي بكر قسراً وغيرها شيء، والمنع من التدوين
لغرضٍ ما شيء آخر.
____________
(1) العقد الفريد 5: 13، أبو الفداء 1: 156، أنساب الاَشراف 1: 278 وفي طبعة 586،
شرح النهج 2: 45.
(2) كنز العمّال 3: 140 كما في عبد الله بن سبا 1: 133.
(3) الاِمامة والسياسة 1: 19.
(4) أنساب الاَشراف 1: 586. كما في عبد الله بن سبا 1: 133.
( 68 )
وثالثاً: فقد ثبت فيالتاريخ أنّ الشيخين قد رويا في فضائل عليّبن أبي
طالب وأهل بيت الرسول (ص) الكثير. وقد عقد محبّ الدين الطبريّ باباً
بعنوان: «ذكر ما رواه أبو بكر في فضائل عليّ»... ومنه حديث النظر إليه عبادة،
وحديث استواء كفّه وكفّ النبيّ، وحديث أنّه خيّم عليه وعلى بنيه خيمة،
وحديث أنّه من النبيّ (ص) بمنزلة النبيّ من ربّه، وحديث لا يجوز أحد
الصراط إلاّ بجواز يكتبه عليّ، وقوله: «مَن سرّه أن ينظر إلى أقرب الناس
قرابة»، وإحالته على عليّ لما سئل عن وصف رسول الله (ص)
(1).
وجاء في المستدرك على الصحيحين أنّ عمر بن الخطّاب قال: «لقد
أُعطي عليّ بن أبي طالب ثلاث خصال، لئن تكون لي خصلة منها أحبّ إليّ من
أن أُعطى حُمْر النَّعَم، قيل: وما هنّ يا أمير المؤمنين؟
قال: تزوّجه فاطمة بنت رسول الله (ص)، وسكناه المسجد مع رسولالله
(ص) يحلّ له فيه ما يحلّ له، والراية يوم خيبر». قال الحاكم: هذا الحديث
صحيح الاِسناد
(2).
وفي مفتاح النجاء، أنّ عمر بن الخطّاب قال: «إنّ رسول الله (ص) قال
لعليّ: يا عليّ! لك سبع خصال لا يحاجّك فيها أحد يوماً، أنت أوّل المؤمنين
بالله إيماناً، وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم بأمر الله، وأرأفهم بالرعيّة، وأقسمهم
بالسويّة، وأعلمهم بالقضيّة، وأعظمهم مزيّة يوم القيامة»
(3).
وثبت أنّ عمر بن الخطّاب كان يسأل عليّاً، ويأخذ عنه الاَحكام أيّام
خلافته، جاء في المناقب للخوارزميّ: «جاء رجلان إلى عمر فقالا له: ما ترى
في طلاق الاََمَة؟ فقام إلى حَلْقة فيها رجل أصلع، فقال له: ما ترى في طلاق
الاََمَة؟ فقال: اثنتان بيده، فالتفت عمر إليهما، فقال: اثنتان، فقال له أحدهما:
جئناك وأنت الخليفة، فسألناك عن طلاق الاََمَة، فجئت إلى رجل فسألته، فوالله
ما كلّمك، فقال له عمر: ويلك أتدري من هذا؟ هذا عليّ بن أبي طالب، إنّي
____________
(1) الرياض النضرة 3: 232.
(2) المستدرك على الصحيحين في الحديث، للحاكم النيسابوريّ 3: 125.
(3) قادتنا كيف نعرفهم 5: 60، عن مفتاح النجاء: 37.
( 69 )
سمعت رسولالله (ص) يقول: لو أنّ السماوات والاَرض وُضعت في كفّة
ميزان، وَوُزِن إيمان عليّ لرجح إيمان عليّ على السماوات والاَرض»
(1).
وروي عنه: «عليّ أقضانا»
(2)، و«لولا عليّ لهلك عمر»
(3)، و«لاأبقاني
الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن»
(4).
وفي تاريخ دمشق، أنّ عمر روى عن رسول الله (ص): «إنّما عليّ منّي
بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنَّه لا نبيّ بعدي»
(5).
وقولَه: «أنت أوّل الناس إسلاماً، وأوّل الناس إيماناً»
(6).
وجاء في البخاريّ، باب مناقب عليّ، عن عمر، أنّه قال: «توفّي
رسولالله وهو عنه راضٍ»
(7).
كما عقد محبّ الدين الطبريّ باباً (في ذكر ما رواه عمر في علي): «منه:
حديث الراية يوم خيبر، وحديث في عليّ ثلاث خصال لوددت أنّ لي واحدة
منهنَّ، وحديث أنّه منّي بمنزلة هارون من موسى، وحديث رجحان إيمانه على
السماوات والاَرضين، وحديث من كنت مولاه فعليّ مولاه، وقوله: ما أحببت
الاِمارة إلاّ يومئذٍ لمّا قال النبي(ص) لعليّ لاَبعثنه إلى كذا وكذا، وقوله: أصبحت
مولى كلّ مؤمن ومؤمنة، وقوله: عليّ مولى مَنِ النبيّ(ص) مولاه، وقوله في
عليّ: إنّه مولاي، وإحالته في المسألة عليه غير مرّة في القضاء، وقوله: أقضانا
____________
(1) المناقب للخوارزميّ، الفصل الثالث عشر: 77، ابن المغازليّ في مناقب عليّ: 289 رقم
330، الرياض النضرة 2 4: 167.
(2) مستدرك الحاكم 3: 305، الاستيعاب، 3: 38 المطبوع بهامش الاِصابة، وتاريخ ابن
عساكر وغيره.
(3) الغدير 6: 101 و105 106، عن الكفاية للكنجيّ: 96.
(4) الغدير 6: 106، عن نور الاَبصار للشبلنجيّ: 79، وبتفاوت يسير في مستدرك الحاكم
1: 457 458. والرياض النضرة 3 ـ 4: 166.
(5) تاريخ دمشق 1: 321، ترجمة الاِمام عليّ، رقم 400 و401.
(6) قادتنا كيف نعرفهم 2: 412 413، عن أسنى المطالب، الباب السادس: 29، رقم 21
وغيره.
(7) صحيح البخاريّ 5: 22.
( 70 )
عليّ، ورجوعه إلى قوله في مسائل كثيرة»
(1).
كانت هذه نبذة يسيرة ممّا ورد عن الشيخين في فضائل عليّبن أبي
طالب.
وقد ثبت أنّ الصحابة كانوا ينقلون فضائل عليّ في عهدهما، ولم يختصّ
نقلهم بأيّام الرسول، روى الحاكم بإسناده عن عقاب بن ثعلبة، حدّثني أبو
أيّوب الاَنصاريّ في خلافة عمر بن الخطّاب، قال أمر رسول الله(ص)
عليّبن أبي طالب بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين
(2).
فلو صحّ التعليل وانحصر في كون الشيخين منعا تدوين الحديث من
أجل محو فضائل أهل البيت أو ما يدلّ على إمامتهم وصحّ ما قيل بإنّ نقل
الفضائل «كانت تضرّ السلطة الحاكمة وتنافي سياستها القائمة»، لما صحّ قول
أبي أيّوب ولما وصلت إلينا الاَحاديث الكثيرة المبثوثة في كتب الصحاح
والسنن، الدالة على إمامتهم كقوله (ص): «عليّ مع القرآن، والقرآن مع عليّ»
(3)،
و«إنّي مخلِّف فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي»
(4)، و«مثل أهل بيتي
كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلَّف عنها هوى وغرق»
(5)، و«من كنت
مولاه فهذا عليّ مولاه»
(6)وقول عمر: (ما أحببت الاِمارة إلاّ يومئذٍ قال لعليّ...)
وغيرها الكثير.
لكنّ الاِنصاف يقتضي أن نقول بأنّ أبا بكر وعمر وإن حدّثا بفضائل آل
البيت وما يدل على إمامتهم، لكنّهم كانوا على غاية الحذر من التوضيحات
والمناقشات التي تبيّن موضوع استخلاف الاِمام عليّ، أو التي تكشف عن
وجود صحابة مؤيّدين للتعبّد المحض ومخالفين للرأي والاجتهاد، فهم وإن
____________
(1) الرياض النضرة 3: 295.
(2) المستدرك على الصحيحين في الحديث للحاكم النيسابوريّ 3: 139.
(3) الجامع الصغير للسيوطيّ 2: 177|5594.
(4) مستدرك الحاكم 3: 148. بلفظ: إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي.
(5) الجامع الصغير 2: 533|8162، مستدرك الحاكم 3: 150 151.
(6) مستدرك الحاكم 3: 134، قارن كلامنا مع ما جاء في تدوين السنّة النبويّة: 413 ـ 418.
( 71 )
لم يضيّقوا الخناق في هذا المجال، لكنّهم لم يعجبهم أن ينتشر بين الناس ما
يمسّ بخلافتهم، ولذلك نرى أنّ عمر كان يكثر من التعريض والتهديد
لعبداللهبن عبّاس الذي كان يدافع وبإخلاص عن خلافة عليّ (ع)، فبعد أن
ناقشه ابن عبّاس عن موضوع الخلافة وأحقّيّة الاِمام عليّ (ع) بها، قال له عمر:
أمّا أنت يا ابن عبّاس فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به فتزول منزلتك
عندي، قال: وما هو؟...
قال: بلغني أنّك لا تزال تقول: أُخِذَ هذا الاَمر منّا حسداً وظلماً.
بعدها دافع ابن عبّاس عن أحقّيّة رأيه ولم يتنازل لعمر. فقال له عندما
ذهب: إني على ما كان منك لراعٍ حقّك...
(1)
وفي احتجاج آخر لابن عبّاس على عمر، انزعج عمر من ابن عبّاس، قال
ابن عباس: فأعرض [أي عمر] عنّي وأسرع. ورجعتُ عنه
(2).
وفي نصّ آخر يتّضح أكثر فأكثر منع عمر من بيان الخلافة وأحقّيّة أهل
البيت بها حيث إنّه بعد أن أفحمه ابن عبّاس في احتجاجه، قال له عمر: امسِكْ
عَلَيَّ واكتم، فإن سمعتها من غيرك لم أنم بين لابَتَيْها
(3). وفي نسخة «لمتنم»
وعلى كليهما، ففيهما وضوح تخوّف عمر من أن يسمع هذا الحديث من
شخص ثالث، إذ ذلك يعني تأليب الناس ضدّ الحكومة، وهدم قواعد مشروعيّة
حكم نهج الاجتهاد والرأي.
فمن هذا التشديد، ومن تحديثهم هم، نفهم أنّ في الاَمر التفاتة ذكيّة
منهم، وهي التحديث بالفضائل والاستماع لبعضها من جهة، لكي لاتتّضح
معالم سياستهم بشكل واضح، والمنع من تجاوز الحدود المرسومة للتحديث
والمُحَدَّث به من جهة أُخرى، وبذلك يتّضح أنّ التعتيم على فضائل أهل البيت
لميكن هو السبب الاَوّل والاَخير في قضيّة منع التدوين والتحديث، ولاننكر أن
يكون له مدخليّة في المنع بنحو العلَّة الجزئيّة التي تنضوي تحت إطار منع
____________
(1) شرح النهج 12: 52 ـ 55.
(2) شرح النهج 12: 46.
(3) فرائد السمطين 1: 153.
( 72 )
أشمل لمقصود أوسع وأعم وأشمل.
فتلخّص إذاً :
إنّ ما نقله الخطيب البغداديّ المتوفى سنة 463 في (تقييد العلم)
لايمكن أن يكون دليلاً تامّاً على الرأي المتقدّم، إذ قد عرفت أنّ لفظة أهل
البيت لم ترِد في رواية القاسم بن سلاّم المتوفى 224، وعليه فالمنع لمينحصر
بهذا التعليل فقط، حتّى يجعل السبب الاَساسيّ فيه.
ابن مسعود وروايات المنع
الروايات الواردة في المنع عن ابن مسعود في تقييد العلم لمتنحصر بما
رووه عن صحيفة علقمة، بل هناك مجموعة أُخرى، تبلغ بمجموعها سبع
روايات، وهي:
1 ـ ... عن ابن فضيل، عن حصين بن عبد الرحمن بن مرّة، قال: بينما
نحن عند عبد الله إذ جاء ابن قرّة بكتاب، قال: «وجدته بالشام، فأعجبني
فجئتك به»، قال: فنظر فيه عبد الله، ثمّ قال: «إنّما هلك من كان قبلكم باتّباعهم
الكتب، وتركهم كتابهم» قال: ثمّ دعا بطست فيه ماء فماثه فيه ثمّ محاه
(1).
2 ـ ... عن عبد الرحمن بن الاَسود، عن أبيه قال: أصبت أنا وعلقمة
صحيفة فانطلقنا بها إلى عبد الله، فجلسنا بالباب، وقد زالت الشمس أو كادت
تزول، فاستيقظ فأرسل جارية، فقال «انظري مَن بالباب» فرجعت إليه، فقالت
علقمة والاَسود فقال: إئذني لهما، فدخلنا، قال، كأنّكم قد أطلتم الجلوس في
الباب؟ قالا: أجل، قال: فما منعكما أن تستأذنا، قالا: خشينا أن تكون نائماً.
قال: ما أحبّ أن تظنّوا بي هذا، إنّ هذه ساعة كنّا نقيسها بصلاة الليل، قلنا: هذه
صحيفة فيها حديث عجيب، فقال: هاتها. يا جارية! هاتي الطست، اسكُبي
فيه ماء فجعل يمحوها بيده ويقول: (
نحن نَقُصُّ عليك أحسنَ القَصص
)،
قلنا: انظر إليها، فإنَّ فيها حديثاً حسناً فجعل يمحوها ثمّ قال: (إنّما هذه القلوب
____________
(1) تقييد العلم: 53. مثله بالمعنى في سنن الدارميّ.
( 73 )
أوعية، فأشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره)
(1).
3 ـ ... عن عبد الرحمن بن الاَسود، عن أبيه: قال جاء علقمة بكتاب من
مكّة أو اليمن، صحيفة فيها أحاديث في أهل البيت بيت النبيّ6 فاستأذنا
على عبدالله، فدخلنا عليه، قال: فدفعنا إليه الصحيفة، قال: فدعا الجارية ثمّ دعا
بطست فيه ماء فقلنا له: يا أبا عبد الرحمن انظر فيها فإنّ فيها أحاديث حساناً.
قال فجعل يميثها فيها، ويقول (
نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا
إليك هذا القرآن)، القلوب أوعية، فأشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها ما سواه)
(2)
4 ـ ... عن سليم بن أسود، قال: كنت أنا وعبد الله بن مرداس، فرأينا
صحيفة، فيها قصص وقرآن، مع رجل من النَّخع، قال: فواعدنا في المسجد،
قال: فقال عبد الله بن مرداس: أشتري صحفاً بدرهم، إنّا لقعود في المسجد
ننتظر صاحبنا، إذا رجل، فقال: أجيبوا، عبد الله يدعوكم، قال: فتقوّضت
الحلقة، فانتهينا إلى عبد الله بن مسعود فإذا الصحيفة في يده، فقال: إنّ أحسن
الهدى هدى محمّد (ص) وإنّ أحسن الحديث كتاب الله، وإنّ شرّ الاَُمور
محدّثاتها، وإنّكم تحدِّثون ويُحَدَّثّ لكم، فإذا رأيتم محدّثة فعليكم بالهدى
الاَول، فإنما أهلك أهل الكتابين قبلكم مثل هذه الصحيفة وأشباهها، توارثوها
قرناً بعد قرن حتّى جعلوا كتاب الله خلف ظهورهم، كأنّهم لا يعلمون،
فأَنْشدُالله رجلاً علم مكان صحيفة إلاّ أتاني، فوالله لو علمتها بدير هند لانتقلت
إليها
(3).
5 ـ ... عن أشعث بن سليم، عن أبيه، قال: كنت أُجالس أُناساً في
المسجد، فأتيتهم ذات يوم فإذا عندهم صحيفة يقرأونها فيها ذكر وحمد وثناء
على الله، فأعجبتني، فقلت لصاحبها: أَعطِنيها فأنسخها، قال: فإنّي وعدت بها
رجلاً فأعد صحفك، فإذا فرغ منها، دفعتها إليك، فأعددت صحفي، فدخلت
المسجد ذات يوم، فإذا غلام يتخطّى الخلق، يقول: أجيبوا عبداللهبن مسعود
____________
(1) تقييد العلم: 53 54. ومثله في جامع بيان العلم وفضله 1: 66.
(2) تقييد العلم: 54 55.
(3) تقييد العلم: 55 والآيات 1 ـ 3 من سورة يوسف.
( 74 )
في داره، فانطلق الناس: فذهبت معهم، فإذا تلك الصحيفة بيده، وقال: ألا إنّ ما
في هذه الصحيفة فتنة وضلالة وبدعة، وإنّما هلك من كان قبلكم من أهل
الكتب باتّباعهم الكتب، وتركهم كتاب الله، وإنّي أُحَرِّجُ على رجل يعلم منها
شيئاً إلاّ دلّني عليه، فوالذي نفس عبد الله بيده، لو أعلم منها بصحيفة بدير هند
لاَتيتها، ولو مشياً على رِجلي، فدعا بماء فغسل تلك الصحيفة
(1).
6 ـ ... قال: بلغ بن مسعود أنَّ عند ناس كتاباً، فلم يزل بهم حتّى أتوه به،
فما أتوه به محاه، ثمّ قال: «إنّما هلك أهل الكتاب قبلكم أنّهم أقبلوا على كتب
علمائهم، وأساقفتهم، وتركوا كتاب ربّهم، أو قال: تركوا التوراة والاِنجيل حتّى
درسا، وذهب ما فيها من الفرائض والاَحكام
(2)».
7 ـ عن عبد الرحمن بن الاَسود، عن أبيه، قال: جاء رجل من أهل
الشام إلى عبد الله بن مسعود ومعه صحيفة فيها كلام من كلام أبي الدرداء
وقصص من قصصه، فقال: يا أبا عبد الرحمن ! ألا تنظر ما في هذه الصحيفة من
كلام أخيك أبي الدرداء؟ فأخذ الصحيفة، فجعل يقرأ فيها وينظر، حتّى أتى
منزله، فقال: يا جارية ائتيني بالاَجانة مملوءة ماء، فجاءت بها، فجعل يدلكها،
ويقول: (
الَر، تلك آيات الكتاب المبين* إنّا أنزلناه قرآناً عربيّاً لعلّكم
تعقلون* نحن نقصّ عليك أحسن القصص) أقصصاً أحسن من قصصالله
تريدون أو حديثاً أحسن من حديث الله تريدون
(3)؟!
فلو نظرنا إليها جميعاً وضممنا الواحدة منها إلى الاَُخرى لاَوصلتنا إلى
نتائج تخالف ما توصّل إليه أصحاب الرأي المتقدِّم، ولنوضِّح ذلك في نقاط:
أ ـ يظهر من مرويّات تقييد العلم وغيره أنّ تلك الصحف والكتب ـأو
الكثير منهاـ كانت تحتوي على مواضيع مدهشة لم يسمعها المسلمون من قبل،
ولاهي ممّا ينسجم مع طبيعة التشريع. فلذلك كانت مبعث الدهشة ومثار
____________
(1) تقييد العلم: 55 ـ 56، مثله بالمعنى عن الاَشعث في سنن الدارميّ وجامع بيان العلم
1:65.
(2) تقييد العلم: 56.
(3) تقييد العلم: 54 ـ 55.
( 75 )
التعجّب. ولو كانت محتوياتها على نسق وغرار ما ألفوه ووعوه لما استغربوا
وتعجّبوا منها، فقد وردت في تلك المرويّات العبارات الآتية: «وجدته بالشام
فأعجبني» و«هذه صحيفة فيها حديث عجيب» و«عندهم صحيفة...
فأعجبتني» و«إنّ عند ناس كتاباً يعجبون به»، فيظهر جليّاً أنّ ما في تلك
الصحف لم يكن من كتاب الله ولا من سنّة نبيّه (ص)، وإلاّ لما تُعُجِّبَ منها
وأُعجب بها، ولكانت كسائر ما ورد عن النبيّ (ص).
ب ـ أنّ تلك الصحف ـسوى التي تحتوي على كلام أبي الدرداء
وقصص من قصصهـ لم تضمّ كلام صحابيّ بعينه، ولا مَن نقل عن النبيّ (ص)
أو الصحابيّ، إذ لم يذكر في المرويّات أسماء المحدِّثين بتلك الاَحاديث
ولاالمُحَدَّثين بها، فهي ـناهيك عن كونها ليست مسانيدـ ليست معلومة القائل
كذلك، بل هي مجهولة بكلّ ما للكلمة من معنى، بل صُرّح في تلك الروايات
ضمناً بجهالة كاتبها ومن روي عنه محتواها؛ فقد عُبّر عن تلك الصحف بمثل
قولهم «كتاباً وجدته» و«أَصبتُ... صحيفة» و«جاء علقمة بكتاب» و«جاء
رجل من أهل الشام... ومعه صحيفة» و«فرأينا صحيفة مع رجل من النخع»
و«كنت أُجالس أُناساً... فإذا عندهم صحيفة» و«إنّ عند ناس كتاباً» و«رأيت مع
رجل صحيفة»، فهذه كلّها تدلّ على أنّ تلك الصحف كانت مجهولة المصدر،
وعلى هذا فلا يمكن الاعتماد عليها بحالٍ من الاَحوال.
وأمّا صحيفة أبي الدرداء، فإنّها لم تكن حاوية إلاّ لكلامه دون كلام النبيّ
(ص)، ولقصصٍ استقاها من مصادر لا تمتلك رصيداً من الحجّيّة والاعتبار.
جـ ـ أنّ عدّة من الصحف جيء بها من الشام، وبعضها «من مكّة أو
اليمن»، وبعضها لا نعرف من اين جاءت، فلم تكن تلك الصحف من مدوّنات
الصحابة، ولا قد أتي بها من مهبط الوحي ودار النبوّة ومقرّ الصحابة، فقد ورد
في بعضها «كتاباً وجدته بالشام» و«جاء رجل من أهل الشام ومعه صحيفة»،
وبعضها «من مكّة أو اليمن» مع أنّ الظاهر هو وقوع الترديد في نفس الاَمر
والواقع لا من الراوي، فهذه العبارات تدلّ على جهالة الصحابيّ والراوي
الكاتب عنه. هذا من جهة، ومن جهة أُخرى فإنّه يظهر أنّ العامل الاجتماعيّ
( 76 )
والجغرافيّ كان له أثر كبير في هذه المرويّات؛ وذلك لقرب الشام من الروم
المسيحيّة الديانة ولوجود الثقل المسيحيّ فيها آنذاك، فيمكن أنّ تكون تلك
المرويّات «صحف تبشيرية» ـلو صحّ التعبيرـ حاولوا من خلالها اختراق الفكر
الاِسلاميّ، فلم تكن تحتوي على ما قاله النبيّ (ص) حقّاً، ولسقوط مثل هذه
الصحف المجهولة المصدر والكاتب والمُملي ـأي المحدِّثـ نرى أنَّ أهل
البيت (ع) يلتفتون إلى هذه النكتة، ويعلمون أنّها مُسقطة لمثل تلك الاَحاديث
عن الاعتبار، لذلك نراهم يؤكِّدون على الصحف التي عندهم، فيبيِّنون مصدرها
وكاتبها وممليها فيقول الصادق (ع) لمن وسمه بإنّه صحفي: «أنا رجل صحفيّ،
وقد صدق ـ أبو حنيفة ـ قراتُ صحف آبائي وإبراهيم وموسى»
(1). ويقول أئمّة
أهل البيت(ع) في وصف كتاب عليّ (ع) بأنّه «إملاء عليّ من فلق في
رسولالله»، فهم (ع) يوضِّحون: أنّ صحفهم متوارثة كابراً عن كابر عن
رسولالله، وأنّ حَفَظَتَها وكُتَّابَها هم الاَئمّة (ع). وأنّ فيها أحكام الله من لدن
موسى وإبراهيم (ع) حتّى نبيّنا محمّد (ص). وقد جاء في الكامل، لابن عديّ:
ولجعفربن محمّد حديث كثير عن أبيه عن جابر، وعن أبيه عن آبائه، ونسخ لآل
البيت يرويها جعفر بن محمّد...
(2).
د ـ أنّ تلك الصحف ـأو الكثير منهاـ لم تكن تجمع في طيّاتها الفرائض
والاَحكام، ولا شيئاً من التفسير وشرح الآيات، وإنّما كانت تضمّ غيرذلك،
ففيها على ما يبدو قصص وأخبار، وأحاديث وأذكار لم ينزل الله بها من سلطان،
وهذا النوع غالباً ما تكون فيه يدٌ للقصّاصين والاَخباريّين، من تضخيم لبعض
الحقائق، وتعتيم على حقائق أُخرى، تبعاً للظروف والمُيول والاَهواء
والعصبيّات القبليّة، وغيرها من عوامل الزيادة والنقصان، وتغيير أو تبديل
الاَُمور، فقد ورد في المرويّات قولهم: «صحيفة فيها كلام من كلام أبي الدرداء
وقصص من قصصه»، وقولهم: «فرأينا صحيفة فيها قصص وقرآن» وقولهم:
____________
(1) انظر روضات الجنّات 8 : 169، قاموس الرجال ترجمة محمّد بن عبد الله بن الحسن
8:243، ورياض السالكين 1:100.
(2) الكامل لابن عديّ 2 : 558 وعنه في التهذيب 2 : 104 والسنّة قبل التدوين:358.
( 77 )
«فيها ذكر وحمد وثناء على الله»، ويظهر أنّ ما في تلك الصحف من كلام أبي
الدرداء وما فيها من قصص و«أحاديث حسان»، هي من قبيل ما نجده حتّى
الآن مبثوثاً في تفاسير المسلمين ومؤلّفاتهم في سرد تفاصيل قصص القرآن، من
مثل ما ورد في قضيّة النبيّ يوسف(ع) وأنّه قعد من امرأة العزيز مقعد الرجل من
المرأة، وما ورد في قضيّة داود وأنّه أرسل أحد جنده إلى الحرب ليُقتل فيتزوّج
بامرأته من بعده، وما ورد من أنّ الناس بعد الطوفان قد هلكوا، فاتّفقت ابنتا
شعيب(ع) على إسكار والدهما ـوالعياذ باللهـ ففعلاً ووقع عليهما فحملتا،
واستمرّ النسل من ذلك، بل ما روي من أنّ أُمّ المؤمنين خديجة تآمرت
فأسكرت والدها ثمّ أمرت النبيّ (ص) بخطبتها منه، فرضي بذلك وهو سكران،
ثمّ أفاق فقيل له في ذلك فاستسلم للاَمر الواقع، وإنّما فعلت ذلك لاَنّ خويلداً
كان لايرتضي زواجها من النبيّ محمّد (ص) ووو.... وهل ترى أنّ مثل هذه
الموضوعات قد جاءت إلاّ من أبي الدرداء وكعب الاَحبار وأضرابهما من
المتأثّرين بالمسيحيّة واليهوديّة!!
ويزداد هذا وضوحاً من تلاوة ابن مسعود لقوله تعالى: (
نحن نقصّ
عليك أحسن القصص)، ويقول: «أقصصاً أحسن من قصص الله تريدون، أو
حديثاً أحسن من حديث الله تريدون»؟!، ويقول: «إنّ أحسن الهدى هدى
محمّد (ص) وإنّ أحسن الحديث كتاب الله وإنّ شرّ الاَُمور محدثاتها»، فهذه
الكلمات كلّها ناظرة إلى ما تضمّنته بطون تلك الصحف.
حتّى أنّ ابن مسعود زاد تصريحه وضوحاً بقوله في عدّة مرويات «ألا إنّ
ما في هذه الصحيفة فتنة وضلالة وبدعة»، وبقوله في مقام آخر: «إنّما أُهلِك
أهل الكتاب قبلكم أنّهم أقبلوا على كتب علمائهم وأساقفتهم وتركوا التوراة
والاِنجيل حتّى درسا وذهب ما فيهما من الفرائض والاَحكام». فقد وضُحَ أنّ
الصحائف المأتي بها إلى ابن مسعود لم تكن تتعلّق بالفرائض والاَحكام، وإنّما
كانت تدوّن القصص والحكايات وبعض الاَذكار المتعلّقة بهذه الحكايات
المنسوبة في تلك الاَساطير والخرافات والزيادات.
وبهذا يحتمل أن يكون في هذه الصحيفة قصص تميم الداري
( 78 )
ـالراهب النصرانيّ الذي استأذن عمر أن يقصّ فأذن له
(1)ويحتمل أن تكون
صحفاً مشابهة لها.
ويتبيّن الاَمر أكثر وضوحاً وجلاءً في قول ابن مسعود: «فأُنشِد الله رجلاً
عَلِم مكان صحيفة إلاّ أتاني، فوالله لو علمتها بدير هند لانتقلتُ إليها»، وفي
قوله: «فوالذي نفس عبد الله بيده لو أعلم منها صحيفة بدير هند لاَتيتها ولو مشياً
على رِجلي» وقوله ـ كما نقله الراوي ـ «وأُقسِمُ بالله لو أنّها كانت بدار الهند
(2)
أراه ـيعني مكاناً بالكوفة بعيداًـ إلاّ أتيته ولو مشياً»، فهذا الجدّ والاِصرار منه
على محو مثل تلك الصحف كان لنكتةٍ، ألا وهي اختلاط تلك الاَحاديث
واستقاؤها من أحاديث أهل الكتاب، فكان ابن مسعود يرى أنّها من صنع
الاَديرة، ومن قصص وأساطير أهل الكتاب التي غذّوا بها عقول الضعفاء من
المسلمين والمغفّلين، ومن يتعاطف معهم فكريّاً، بالاِضافة إلى ميل النفوس
إلى أُسلوب السرد القصصيّ وسماع الغرائب والعجائب، وكأنّ نشر تلك
القصص كان أمراً متعمّداً مدروساً من النصارى، فلذا كان ابن مسعود يمحوها
أحياناً بمجرد إلقاء النظرة عليها، أو حتّى دون إلقاء النظرة الفاحصة لعلمه سلفاً
بما تحويه تلك الصحائف والكتب.
فلذلك وقف ابن مسعود من تلك المدوّنات الموقف الحازم، الذي قد
بدا سلبيّاً بسبب معاصرته للحملة التي قادها عمر بن الخطّاب ضدّ التحديث
والتدوين، وبين المنعيَن فرق لا يخفى على ذي لبّ وبصر!!
وبعد الوصول إلى هذه النتيجة المتمخّضة عن النظر الشامل لروايات
____________
(1) كنز العمّال 10 : 280|29445 و 29446 .
(2) دير الهند: من قرى دمشق. ودير هند الصغرى: بالحيرة، كانت تنزله هند بنت النعمانبن
المنذر، ودير هند الكبرى: بالحيرة أيضاً، بَنَته هند بنت الحارث بن عمرو بن حُجر آكل
المرار. [معجم البلدان 2:542 ـ 543]. وقد يطلق دير هند ويراد به دير هند الصغرى
[انظر الاَغاني 2:131]. وعلى كلّ التقادير فالظاهر أنّ المراد «بدار الهند» «دير هند».
ونحن نرجّح أنّ يكون مراد ابن مسعود هو الدير الذي بالشام، لما في ذلك من ارتباط
بالصحف المأتي بها من الشام، ولاَنّه أبلغ في البُعد، لاَنّ الظاهر هو صدور هذه الاَقوال من
ابن مسعود في الكوفة، إذ الرواة كوفيّون.
( 79 )
المنع المنسوب إلى ابن مسعود، يحقّ لنا أن نقول إنّ رواية الدارميّ التي تنصّ
على أنّ محتوى الكتاب «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر»،
لمتكن وافية، إذ لم تكن هذه الجمل فقط هي محتوى الكتاب، بل هناك أشياء
أُخرى من قبيل ما مرّ ذكره في سائر الروايات. وبقرينة قول ابن مسعود في
الرواية الاَُخرى: «إنّ ما في هذا الكتاب بدعة وفتنة وضلالة»، إذ لا يعقل توجيهه
هذا الكلام لمجرّد التسبيحة والتحميدة والتهليلة والتكبيرة، مع أنّه كان يقولها
صباحاً ومساءً في صلواته الخمس، ولا يعقل صدور هذا الردع لهذه الكلمات
الطيّبات من مسلم عاديّ، فضلاً عن صحابيّ من كبار صحابة النبيّ (ص).
والقول: بأنّ الردع في كلامه موجّهٌ إلى نفس الكتابة والتقييد، وأنّها ضلالة
بغض النظر عن المكتوب، لا تساعده العبارة المذكورة ولا تدلّ عليه، لاَنّ قوله:
«إنّ ما في هذا الكتاب» يدلّ على أنّ المقصود هو محتوى الكتاب، لامجرّد
ومحض التقييد والتدوين، وإلاّ لقال مثلاً: «إنّ الكتابة بدعة وفتنة وضلالة».
ومثل هذا الكلام نقوله في الرواية اليتيمة التي ادّعت أنّ في الصحيفة
فضائل أهل بيت النبيّ (ص)، فإنّ جملة هذه القرائن تدلّ ـإن صحّت هذه
الروايةـ على وجود أكاذيب ومختلقات وربّما شيء من سيرة أهل البيت
وفضائلهم ممّا لا يمتّ إلى الواقع بصلة، أو ممّا بولغ فيه، ومهما يكن من شيء
فإنّ الاِذعان لمحو ابن مسعود لفضائل أهل البيت محالٌ، خصوصاً بعد الفراغ
من أنّ ابن مسعود كان من أكبر المحدّثين بفضائلهم والناشرين لمآثرهم.
هذا، ونرى أنّ ابن مسعود لم يكن كأبي بكر وعمر في أُسلوب المحو،
لاَنّه لم يلجأ إلى أُسلوب الحرق والاِبادة الشاملة للمدوّنات، وإنّما اتّخذ أُسلوب
الاِماثة بالماء، وهو الاَُسلوب الشرعيّ لمحو كتب الضلال، التي فيها اسم من
أسماء الله أو الاَنبياء أو الاَوصياء والاَئمّة (ع)، إذ يحرم الحرق، وينحصر
الاِتلاف بالميث بالماء أو الدفن في الاَرض.
ويعضّد ما استنتجناه هنا ما صرّح به بعض الاَعلام، إذ قال أبو عبيد: إنّه
[أي ابن مسعود] يرى أنّ هذه الصحيفة أُخذت من أهل الكتاب، فلذا كره
عبدالله النظر فيها. وقال مرّة: أما انّه لو كان من القرآن أو السنّة لم يمحُهُ، ولكن
( 80 )
كان من كتب أهل الكتاب.
(1)
وبهذا يمكن أن يكون نهي ابن مسعود جاء لما فصّلناه عنه سابقاً، وهناك
احتمال آخر؛ وهو صدورها عنه تقيّةً أو مصلحة أو تخوّفاً من درّة عمر إذ عرف
عن عمر أنّه أمر بإتلاف الصحف والاِقلال في التحديث، وقد ضرب بعض
الصحابة على ذلك، وسجن آخرين كان من بينهم ابن مسعود، فلا يستبعد إذاً أن
يكون ما فعله ابن مسعود مع الصحيفة جاء مماشاةً مع الوضع العامّ في الدولة
الاِسلاميّة وكي لا يتخطّى أمر الخليفة عمر بن الخطّاب، إمّا تخوّفاً من بطشه أو
مداراة ومصلحة، فعن الحارث بن سويد قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول
«ما من ذي سلطان يريد أن يكلّفني كلاماً يدرأ عني سوطاً أو سوطين إلاّ كنت
متكلّماً به».
وقال ابن حزم معقباً: «ولا يعرف له من الصحابة رضي الله عنهم
مخالف»
(2).
وجاء عنه أنّه صلّى خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط ـوالي عثمان على
الكوفةـ تقيّة، وأنّ الوليد كان قد صلّى الصبح بهم أربعاً ثمّ قال: أزيدكم؟
فقال له ابن مسعود: مازلنا معك منذ اليوم في زيادة
(3)!
وبهذا يصحّ القول في نهي ابن مسعود ـلو صحّ عنهـ أن يكون اتّقاءً من
درّة عمر وحفظاً لكيان الاِسلام، إذ اشتهر عنه أنّه صلّى مع عثمان بمنى أربعاً
رغم خلافه معه اتّقاءً للفتنة والشرّ.
فقيل له: ألم تحدّثنا أنّ النبيّ صلّى ركعتين، وأبا بكر صلّى ركعتين؟
قال: بلى، وأنا أحدّثكموه الآن، ولكنّ عثمان كان إماماً فما أُخالفه،
والخلاف شرّ
(4).
____________
(1) جامع بيان العلم وفضله .
(2) المحلّى لابن حزم 8 : 336 مسألة (1409).
(3) شرح العقيدة الطحاويّة، للقاضي الدمشقيّ 2:532 كما في واقع التقيّة عند المذاهب
والفرق الاِسلاميّة:106.
(4) السنن الكبرى 3 : 144، البداية والنهاية 7 : 228.
( 81 )
وجاء عن ابن عوف أنّه لقي ابن مسعود يوم اعتراضه على عثمان
وإتمامه الصلاة بمنى، فقال له ابن مسعود: الخلاف شرّ، قد بلغني أنّه [أي
عثمان] صلّى أربعاً فصلّيت بأصحابي أربعاً.
فقال ابن عوف: قد بلغني أنّه صلّى أربعاً، فصلّيت بأصحابي ركعتين، أمّا
الآن فسوف يكون الاَمر الذي تقول: يعني نصلّي معه أربعاً
(1).
وعليه فقد استبان لك خطّة الصحابة في الصدر الاَوّل وأنّهم كانوا يريدون
الحفاظ على كيان الاِسلام رغم احتفاظهم بما يعتقدون به باطناً. وهذا الكلام
لاينافي ما ذهبنا إليه من كون ابن مسعود من دعاة التحديث والتدوين ومن
الذين رووا في فضائل أهل البيت، إذ عرفت أنّ الاِنسان قد يكتم ما يعتقده
ولايبيح به مصلحةً أو خوفاً، وترى هذا واضحاً في سيرة ابن مسعود؛
فالنصوص المنقولة عنه في عليّ والزهراء والحسن والحسين وكونه في السبعة
الذين شهدوا دفن الزهراء والاثني عشر الذين أنكروا على أبي بكر غصبه
الخلافة وتقارب فقهه معهم، كلّها تخالف ما جاء في تعليل كتّاب الشيعة.
إذ الشخص الذي يعدّ من أهل البيت لكثرة دخوله وخروجه عليهم
حتّى قالوا عنه: ما نراه إلاّ عبد آل محمّد، واعتقاده بلزوم الصلاة على آل محمّد
في الصلاة، وغيرها، لا يتّفق مع ما علّل سابقاً. وعليه فيلزم حمل الخبر على ما
قلناه سابقاً من التقيّة والمصلحة وما شابه ذلك.
وعليه، فإنّا لا ننكر الرأي السابع برمّته وإن كنّا لا نعتقد في الوقت نفسه
بصحّته على نحو الاِطلاق وانحصار السبب الاَساسيّ فيه، وعليه فالسبب السابع
حسب ما فصّلناه رأي قريب للصحّة وأنّه جزء العلّة لاتمامها.
والآن لنواصل البحث عن السبب الواقعيّ في منع الشيخين لتدوين
حديث رسول الله (ص)، ولنتعرّف على سبب صرف الخلفاء الناسَ إلى القرآن،
كما لوحظ في مرسلة ابن أبي مُليكة، وقول الخليفة أبي بكر: (بيننا وبينكم
كتاب الله)
(2) وقول عمر وعائشة: (حسبنا كتاب الله) و(ليس بعد كتاب الله
____________
(1) الكامل لابن الاَثير 3 : 104، البداية والنهاية 7 : 228.
(2) تذكرة الحفّاظ 1 : 32، حجّيّة السنّة : 394.
( 82 )
شيء) وغيرها.
كانت هذه مبرّرات ذكرها الشيخان وبعض الكتّاب، مستشرقين
ومسلمين، شيعةً وسنّةً، قديماً وحديثاً، وإليك السبب الاَخير عسى أن تقف فيه
على الحلّ المطلوب.