المقدّمة الثانية
الثابت عند المسلمين هو لزوم امتلاك الخليفة قدرتين:
1 ـ قدرته السياسيّة وحنكته في إدارة شؤون الاَُمّة في الحرب والسلم،
وبراعته في تحصين ثغور المسلمين، ومجاهدته أعداءَ الدين حتّى يرضخوا
للدعوة الاِسلاميّة وأحكامها، وما إليها من أُمور الدولة، كجباية الفيء،
والصدقات، وتقدير العطاء، والخراج، وسدّ عوز المحتاجين، وسواها من
مستلزمات الاِدارة وشؤون الدولة.
2 ـ قدرته العلميّة لتصدّي أمر الاِفتاء بما نزل به القرآن، وجاء به الرسول
(ص)، إذ إنّ الناس قد ألِفوا في عهد رسول الله (ص) أخذ الاَحكام عنه (ص)
والرجوع إليه فيما يستجدّ من قضايا الحياة، أمّا اليوم فإنّهم يرجعون إلى
الخليفة، ليقفوا على الاَحكام الشرعيّة والاَُمور المستجدّة عندهم، وليقف من
بَعُد عن النبيّ (ص) على تفاصيل الاَحكام، لاَنّ الكثير منهم لم يتوطّن مكّة
والمدينة، وكذلك ليأخذ التابعون ـالذين لم يرَوا النبيّـ معالم الدِّين من
الصحابة، كلُّ أُولئك كانوا بحاجة إلى أخذ الاَحكام من الخليفة بالدرجة الاَُولى
ومن يحيط به بالدرجة الثانية، مع لحاظ الفارق بين الخليفة والنبيّ (ص).
فالناس كانوا ينظرون إلى رسول الله (ص) على أنّه مشرّع (
ما يَنْطِقُ عن
الهوى) فحكمه (ص) يكون نافذاً عندهم، لا يجوز مخالفته والتردّد فيه؛ لاَنّه
صدر عن الوحي.
وأمّا الخليفة اليوم فليست له هذه السمة التي كانت للنبيّ (ص)
ولميعطوه دوراً تشريعيّاً في الاَحكام
(1)، بل ينظرون إليه كمحدِّث عن الرَّسول
لاغير.
____________
(1) انظر الاِحكام في أُصول الاَحكام 1: 11 ، ومناهج الاجتهاد للدكتور مدكور. مثلاً.
( 114 )
وقد أدرك أبو بكر وعمر هذه الحقيقة، فأخذوا في بداية الاَمر ينقلون
حكم الشرع من خلال القرآن الحكيم أو السنّة المطهَّرة.
ولو خفي عليهم أمرٌ ما، خرجوا إلى وجوه الصحابة يستفتونهم فيما
يقضي به رسول الله (ص) في مثل هذا الاَمر، ليقفوا وليوقفوا السائل على حكم
الله ورسوله.
أ ـ روى ميمون في حديث، جاء فيه «...وكان أبو بكر إذا ورد عليه حكمٌ
نظرَ في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به، وإن لم يجد في كتاب الله
نظر في سنَّة رسول الله، فإنْ وجد فيها ما يقضي به فقضى به، فإن أعياه ذلك
سأل الناسَ: هل علمتم أن رسول الله (ص) قضى فيه بقضاء؟ فرُبّما قام إليه
القوم، فيقولون: قضى فيه بكذا وكذا.
فإنْ لم يجد سنّة سنّها النبي (ص) جمع رؤساء الناس فاستشارهم، فإذا
اجتمع رأيهم على شيء قضى به»
(1).
ب ـ أخرج مالك، وأبو داود، وابن ماجة والدارميّ وغيرهم: أنّ جدّة
جاءت إلى الصديق تسأله ميراثها، فقال لها أبو بكر: مالكِ في كتاب الله شيء،
وما علمتُ لك في سنّة رسول الله شيئاً، فارجعي حتّى أسأل الناس؟
فسأل الناس، فقال المغيرة: حَضَرَت رسول الله (ص) أعطاها السدس.
فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟
فقام محمّد بن مسلمة الاَنصاريّ، فقال مثل ما قاله المغيرة.
فأنفذه لها أبو بكر الصدّيق»
(2).
وقد كانت سيرة عمر مثل سيرة أبي بكر، فكان يسأل الصحابة عمّا
لايعرفه ليستثبته منهم كي يثبّته.
ج ـ روى البيهقيّ بسنده عن السلميّ، قال: «أُتي عمر بن الخطّاب بامرأة
____________
(1) أعلام الموقّعين لابن قيّم الجوزيّة 1: 62.
(2) الموطّأ 2: 513|4، سنن أبي داود 3: 121|2894، سنن ابن ماجة 2:
909|2724، وسنن الدارميّ 2: 359 بتفاوت يسير.
( 115 )
جَهِدها العطش، فمرّت على راع فاستسقت، فأبى أن يسقيها إلاّ أن تمكّنه من
نفسها ففعلت، فشاور الناس في رجمها.
فقال علي رضي الله عنه : هذه مضطرّة، أرى أنْ تخلّي سبيلها، ففعل»
(1).
د ـ سأل عمرُ بن الخطّاب أبا واقد الليثيّ: عمّا كان يقرؤه رسول الله في
صلاة العيدين؟
فقال: بـ «قاف» و «اقتربت»
(2).
هـ ـ أخرج الحاكم عن سعيد بن المسيّب: «أنّ عمر بن الخطّاب أتى على
هذه الآية (
الذين آمنوا ولم يَلبِسوا إيمانَهم بُِظلْم)
(3)فأتى أُبيّبن كعب
فسأله: أيّنا لم يظلم؟
فقال له: يا أمير المؤمنين إنّما ذاك الشرك، أما سمعت قول لقمان لابنه:
(
يا بنيّ لا تُشرك بالله إنّ الشِّرك لظلم عظيم)
(4).
و ـ «أُتي برجل من المهاجرين الاَوّلين وقد كان شرب، فأمر به أن يُجلد
فقال: لِمَ تجلدني، بيني وبينك كتاب الله عزّ وجلّ.
فقال عمر: في أيّ كتاب الله تجدُ أنّي لا أجلدك؟
فقال: إنّ الله تعالى يقول في كتابه (
لَيْسَ على الذين آمنوا وعَمِلوا
الصالحات جُناحٌ فيما طَعِمُوا)
(5)... الآية، فأنا من الذين آمنوا وعَمِلوا
الصالحات ثمّ اتّقوا وآمنوا ثمّ اتّقوا وأحسَنوا، شهدتُ مع رسول الله بدراً
والحُديبيّة والخندق والمشاهد.
____________
(1) السنن الكبرى للبيهقيّ 8: 236، الرياض النضرة 3 ـ 4: 163 ـ 164، وذخائر العقبى
والطرق الحكميّة لابن قيّم الجوزيّة.
(2) الموطّأ 1: 180|8، صحيح مسلم 2: 607|14، سنن أبي داود 1: 30|1154، سنن
الترمذيّ 2: 23|532، السنن الكبرى 3: 294 ، وسنن ابن ماجة 1: 408|1282،
وسنن النسائيّ 3: 183|184 بتفاوت يسير.
(3) الاَنعام : 82 .
(4) المستدرك على الصحيحين للحاكم 3: 305. والآية : 13 من سورة لقمان .
(5) المائدة : 93 .
( 116 )
فقال عمر: ألا تردّون عليه ما يقول؟
فقال ابن عبّاس: إنّ هذه الآيات أُنزلت عُذراً للماضين، وحجّةً للباقين؛
لاَنّ الله عزّ وجلّ يقول: (
يا أيُّها الذين آمنوا إنَّما الخمرُ والَمْيسِرُ والاَنصابُ
والاَزلامُ رِجْسٌ من عَمِلِ الشيطان)
(1)ثمّ قرأ حتّى أنفذ الآية الاَُخرى: (
إذا
ما اتَّقَوا وآمنوا وعَمِلوا الصالحات ثمّ اتَّقَوْا وآمَنوا ثُمِّ اتَّقوا وأحْسَنوا)
(2)
فإنَّ الله عزّ وجلّ قد نَهى أن يُشرب الخمر.
فقال عمر: صدقت، فماذا ترون؟
فقال عليُّ رضي الله عنه : نرى أنّه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى
افترى ، وعلى المفتري ثمانون جلدةً.
فأمر عمر فَجُلِدَ ثمانين»
(3).
اتّضح لنا من خلال هذه النصوص وغيرها ـممّا تركنا سرده مخافة
الاِطالة ـ أنّ الشيخين لم يدّعيا في بادىَ الاَمر أنّهما يعرفان جميع الاَحكام
الصادرة عن رسول الله (ص)، أو أنَّهما قد اختصّا بأحاديثه (ص) دون غيرهما،
إنّما مَثَلهم مَثَل كثير من الصحابة الذين خَفِيت عليهم الكثير من مسائل التشريع.
وأمّا ما بُولغ فيه من إحاطتهم بجميع الاَحكام والعلوم وأنّهما كانا أخصّ
من غيرهما بالرسول (ص) فقد صدر عن موقف عاطفيّ متطرِّف، بعيد عن
الواقع التاريخيّ. ذلك لاَنّ أغلب المنقولات في هذا السياق عرضةٌ للشكّ
والتّرديد، ومن هذه النقول ما نسب فيها إلى عليّ بن أبي طالب أنّه قال: كنّا
نتحدّث أنّ مَلَكاً ينطق على لسان عمر
(4)!
ومنها: ما روي عن ابن مسعود أنّه قال: لو وُضِعَ علم عمر في كفّة ميزان
وعلم أهل الاَرض في كفّةٍ لَرَجَحَ علم عمر
(5)!
____________
(1) المائدة : 90 .
(2) المائدة : 93 .
(3) المستدرك على الصحيحين 4: 376 ، وقد صحّحه الحاكم ، وكذا الذهبيّ في تلخيصه.
(4) حلية الاَولياء لاَبي نعيم 1: 24.
(5) أعلام الموقّعين 1: 20 ، وانظر مقدّمة فقه عبد الله بن مسعود للدكتور رواس قلعةچي.
( 117 )
ومنها ما نُسب إلى رسول الله أنّه قال: لو كان نبيّ بعدي لكان عمربن
الخطّاب
(1)8!
أو: قد كان في الاَُمم محدَّثون، فإن يكن في أُمّتي أحد فهو عمر
(2)!
وما سواها الكثير من المبالغات التي كانت وراءها شتّى الدوافع
والاَسباب.
ومن بيّنات المسائل ـفي هذا الصددـ أنّ الشيخين لو كانا قد اختصّا
بشيء لبادرا إلى بيان الاَحكام، ولما سألا الصحابة عمّا خفي عليهما، ولما
حدث الاختلاف بين منقولاتهما وآرائهما، ولما رجعا عن فتاواهما إزاء نقولات
وآراء الصحابة الآخرين ولما وصل الاَمر بالخليفة عمر بن الخطّاب أن يقول
«كلّ الناس أعلم من عمر»
(3)وفي آخر: «حتّى ربّات الحجال»
(4).
إذاً كان التعبّد بحكم الله ورسوله هو الضابطُ في معرفة الاَحكام في الصدر
الاَوّل، والجميع كانوا يعرفون ذلك ولم يَخْفَ هذا على أحد في تلك الفترة من
تاريخ الاِسلام، ولم يكن للشيخين ولا لغيرهما حقّ الاجتهاد قبال النصّ. وإن
كانا قد تخطَّيا في بعض الاَُمور أوامر الرسول (ص) واجتهدا قبال النصّ.
ونحن نعلم بالضرورة «أنّ النبيّ لم يكن إذا أفتى بالفتيا، أو إذا حكم
بالحكم جمع لذلك جميع من بالمدينة، ولكنّه عليه السلام كان يقتصر على من
بحضرته، ويرى أن الحجّة بمن يحضره قائمة على من غاب. وهذا ما لايقدر
على دفعه ذو حسٍّ سليم»
(5).
وأضاف ابن حزم بعد قوله السابق: ووجدنا الصاحب من الصحابة
____________
(1) سنن الترمذيّ 5: 281|3769، المستدرك على الصحيحين 3: 85، الرياض النضرة 1
2:287.
(2) صحيح البخاريّ 5:15، صحيح مسلم 4:1864|23، سنن الترمذي 5 : 285 | 3776 ،
المستدرك على الصحيحين 3: 86، الرياض النضرة 1 ـ 2: 287.
(3) تفسير الكشاف 3: 573، شرح النهج 1: 182، الجامع لاَحكام القرآن 14: 277، الدرّ
المنثور 5: 229 الاِحكام في أُصول الاَحكام 2: 253.
(4) شرح نهج البلاغة: 1: 182.
(5) الاِحكام في أُصول الاَحكام 1: 111.
( 118 )
رضيالله عنهم يبلغه الحديث فيتأَوَّل فيه تأويلاً يخرجه به عن ظاهره،
ووجدناهم رضي الله عنهم يقرُّون ويعترفون بأنّهم لم يَبْلُغْهم كثير من السنن،
وهكذا الحديث المشهور عن أبي هريرة: إنّ إخواني من المهاجرين كان
يشغلهم الصفق بالاَسواق، وإنّ إخواني من الاَنصار كان يشغلهم القيام على
أموالهم
(1).
ومن هنا يتجلّى أنّ رسم صورة للخليفة تَهَبُه تلك المنزلة الخاصّة في
علوّها وغلوّها إنَّما هي نتاج عاطفة مغالية لا يرتضيها الخليفة نفسه، ويبرأ منها،
وإليك نصوص بعض الصحابة التي تزيد الاَمر جلاءً.
بعض الصحابة والخليفة الثاني
1 ـ معاذ بن جبل:
أ ) جاء رجل إلى عمر بن الخطّاب، فقال: يا أمير المؤمنين ! إني غِبْتُ عن
امرأتي سنتين، فجئت وهي حبلى.
فشاور عمر ناساً في رجمها.
فقال معاذ بن جبل: يا أمير المؤمنين! إنْ كان لك عليها سبيل فليس لك
على ما في بطنها سبيل، فاتركها حتّى تضع.
فتركها، فولدت غلاماً قد خرجت ثناياه، فعرف الرجل الشبه فيه.
فقال: ابني وربّ الكعبة.
فقال عمر: عجزت النساء أن يلِدْن مثل معاذ، لولا معاذ لهلك عمر
(2).
ب ) إنّ رجلاً شجّ رجلاً من أهل الذِّمّة ، فهمّ عمر بن الخطّاب أن يقيّده
منه.
فقال معاذ بن جبل: قد علمت أن ليس ذلك لك، وأُثر ذلك عن النبيّ
____________
(1) الاِحكام في أُصول الاَحكام 1: 153.
(2) السنن الكبرى 7|443، شرح النهج 12: 202 ط قديم، فتح الباري 12: 120، الاِصابة
3:427 واللفظ للاَخير.
( 119 )
(ص)، فأعطاهُ عمر بن الخطّاب في شجّته ديناراً، فرضي به
(1).
2 ـ زيد بن ثابت:
أ ) عن مجاهد قال: قدم عمر بن الخطّاب الشام، فوجد رجلاً من
المسلمين قتل رجلاً من أهل الذِّمّة، فهمّ أن يقيّده، فقال له زيد بن ثابت: أتقيّدُ
عبدك من أخيك؟!
فجعله عمر دية
(2).
ب ) عن مكحول: أنّ عبادة بن الصامت دعا نبطيّاً يمسكُ له دابّتة عند
بيت المقدس، فأبى، فضربه فشجّه، فاستعدى عليه عمر بن الخطّاب فقال له:
ما دعاك إلى ما صنعت بهذا؟
فقال: يا أمير المؤمنين ! أمرته أن يمسك دابّتي فأبى، وأنا رجل فيَّ حدّة
فضربته.
فقال: اجلس للقصاص.
فقال زيد بن ثابت: أتُقيّدُ عبدكَ من أخيك؟!
فترك عمر عنه القَوَد، وقضى عليه بالدية
(3).
ج ) عن زيد بن ثابت: أنّ عمر بن الخطّاب استأذن عليه يوماً، فأذن له
ورأسه في يد جارية له تُرَجِّلَُهُ، فنزع رأسه.
فقال له عمر: دعها ترجّلك.
فقال: يا أمير المؤمنين! لو أرسلت إليّ جئتك.
فقال عمر: إنَّما الحاجة لي، إنّي جئتك لتنظر في أمر الجَدّ.
فقال زيد: لا، والله ما يقولُ فيه.
فقال عمر: ليس هو بوحي حتّى نزيد فيه وننقص منه، إنّما هو شيء نراه،
فإن رأيته وافقني تبعته، وإلاّ لم يكن عليك فيه شيء.
فأبى زيد، فخرج مغضباً، قال:قد جئتك وأنا أظنّك ستفرغ من حاجتي.
____________
(1) كنز العمّال 15: 97.
(2) كنز العمّال 15: 97|40242.
(3) السنن الكبرى 8: 32، كنز العمّال 15: 94|40232.
( 120 )
ثمّ أتاه مرّة أُخرى في الساعة التي أتاه في المرّة الاَُولى، فلم يزل به حتّى
قال:
فسأكتب لك فيه، فكتبه في قطعة قتب وضرب له مثلاً: إنَّما مَثَله مثل
شجرة نبتت على ساق واحد فخرج فيها غُصن، ثمّ خرج في الغُصن غُصن
آخر، فالساق يسقي الغُصن، فإن قطع الغصن الاَوّل رجع الماء إلى الغصن
[يعني الثاني] وإنْ قطعت الثاني رجع الماء إلى الاَوّل.
فأتى به فخطب الناس عمر، ثمّ قرأ قطعة القتب عليهم، ثمّ قال: إنّ
زيدبن ثابت قد قال في الجدّ قولاً وقد أمضيته.
قال: وقد كان أوّل جدّ كان، فأراد أن يأخذ المال كلّه ابن ابنه دون إخوته،
فقسّمه بعد ذلك عمر بن الخطّاب
(1).
3 ـ أبو عبيدة بن الجرّاح:
عن عمر بن عبد العزيز: إنّ رجلاً من أهل الذمّة قُتِلَ بالشام عمداً،
وعمربن الخطّاب إذ ذاك بالشام، فلمّا بلغه ذلك، قال عمر: قد وقعتم بأهل
الذمّة؟! لاَقتلنّه به!
فقال أبو عبيدة بن الجرّاح: ليس ذلك لك.
فصلّى، ثمّ دعا أبا عبيدة فقال: لمَ زعمت لا أقتله به؟
فقال أبو عبيدة: أرأيت لو قتل عبداً له، أكنت قاتله به؟!
فصمت عمر، ثمّ قضى عليه بألف دينارٍ مغلّظاً عليه
(2).
4 ـ حُذيفة بن اليمان:
عن حذيفة بن اليمان: إنّه لقي عمر بن الخطّاب، فقال له عمر: كيف
أصبحت يابن اليمان؟
فقال: كيف تريدني أُصبي؟! أصبحت والله أكره الحقّ، وأُحبّ الفتنة،
وأشهد بما لم أرَه، وأحفظ غير المخلوق، وأُصلّي على غير وضوء، ولي في
الاَرض ما ليس لله في السماء.
____________
(1) السنن الكبرى 6: 247.
(2) السنن الكبرى 8: 32، كنز العمّال 15: 94.
( 121 )
فغضب عمر لقوله وانصرف من فوره، وقد أعجله أمر، وعزم على أذى
حذيفة بقوله ذلك، فبينا هو في الطريق إذ مرّ بعليّ بن أبي طالب، فرأى الغضب
في وجهه فقال:
ما أغضبك يا عمر؟
فقال: لقيت حذيفة بن اليمان، فسألته: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت
أكرهُ الحقّ؟
فقال: صدق، يكره الموت وهو حقُّ.
فقال، يقول: وأُحبُّ الفتنة!
قال: صدق، يُحبّ المال، والولد، وقد قال الله تعالى (
إنّما أموالُكم
وأولادكم فتنة)
(1).
فقال: يا عليّ! يقول: وأشهدُ بما لم أره؟!
فقال: صدق، يشهد لله بالوحدانيّة، والموت، والبعث، والقيامة، والجنّة،
والنار، والصِّراط، ولم يرَ ذلك كلّه.
فقال: يا عليّ! وقد قال: إنّي أحفظ غير المخلوق!
قال: صدق، يحفظ كتاب الله تعالى؛ القرآن، وهو غير مخلوق.
قال: ويقول: أُصلّي على غير وضوء.
قال: صدق، يُصلّي على ابن عمّي رسول الله (ص) على غير وضوء،
والصلاة عليه جائزة.
فقال: يا أبا الحسن! قد قال أكبرَ من ذلك.
فقال: وما هو؟
قال: قال إنّ لي في الاَرض ما ليس لله في السماء!
قال: صدق، له زوجة وولد، وتعالى الله عن الزوجة والولد.
قال عمر: كاد يهلكُ ابن الخطّاب، لولا عليّ بن أبي طالب
(2).
____________
(1) التغابن : 15 ، الاَنفال : 28 .
(2) الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالكيّ: 35 ، وكفاية الطالب للكنجيّ الشافعيّ
ص:218ـ219.
( 122 )
5 ـ عبد الله بن مسعود:
أ ) عن إبراهيم النخعيّ: أنّ عمر بن الخطّاب أفتى برجل قد قَتل عمداً،
فأمر بقتله، فعفا بعض الاَولياء، فأمر بقتله.
فقال ابن مسعود: كانت النفس لهم جميعاً، فلمّا عفا هذا أحيى النفس،
فلايستطيع أن يأخذ حقَّه حتّى يأخذ غيره. قال: فما ترى؟
قال: أرى أنْ تجعل الدية عليه في ماله، وترفع حصّة الذي عفا، قال عمر:
وأنا أرى ذلك
(1).
6 ـ أُبيّ بن كعب:
عن الحسن: أنّ عمر بن الخطّاب قال: لقد هممتُ أن لا أدع في الكعبة
صفراء ولا بيضاء إلاّ قسمتها!
فقال له أُبيّ بن كعب: والله، ما ذاك لك.
فقال عمر: ولِمَ؟!
قال: إنّ الله قد بيّن موضع كلّ مال وأقرّه عن رسول الله (ص).
قال عمر: صدقت
(2).
ذكر ابن قيّم الجوزيّة: أنّ عمر أراد أنْ يأخذ مال الكعبة، وقال: الكعبة
غنيّة عن ذلك المال. وأراد أن ينهى أهل اليمن أن يصبغوا بالبول
(3)، وأراد أن
ينهي عن متعة الحجّ.
فقال أُبيّ بن كعب: قد رأى رسول الله (ص) وأصحابه هذا المال به
وبأصحابه الحاجة إليه فلم يأخذه، وأنت فلا تأخذه.
وقد كان رسول الله (ص) وأصحابه يلبسون الثياب اليمانيّة، فلميَنْهَ عنها،
وقد علم أنّها تُصبغ بالبول.
وقد تمتّعنا مع رسول الله (ص) فلم يَنه عنها، ولم يُنزل الله تعالى فيها
____________
(1) السنن الكبرى 8: 60، الاَُمّ للشافعيّ 7: 329. وله قضيّة أُخرى راجع كنز العمّال
11 : 33 | 30513 ، وعن ابن القيّم : إنَّ ابن مسعود خالف عمر في أكثر من مائة قضيّة.
(2) السنن الكبرى 5: 159، الرياض النضرة 1 ـ 2: 339.
(3) المراد بالبول هو بول الاِبل لا بول الاِنسان.
( 123 )
نهياً
(1).
7 ـ الضَّحّاك بن سفيان الكلابيّ:
عن سعيد بن المُسيّب: أنّ عمر بن الخطّاب كان يقول «الدية للعاقلة
ولاترث المرأه من دية زوجها شيئاً».
حتّى أخْبَرَه الضحّاك بن سفيان أنّ النبيّ (ص) كتب إليه أن يُورِّث امرأة
أشيم الضبابيّ من ديته، فرجع إليه عمر
(2).
8 ـ شَيْبة بن عثمان:
عن شقيق، عن شيبة بن عثمان، قال: قعَد عمر بن الخطّاب في مقعدك
الذي أنت فيه، فقال: لا أخرج حتّى أُقسم مال الكعبة بين فقراء المسلمين.
قال: قلت: ما أنت بفاعل!
قال: بلى لاَفعلنَّ!
قال: قلت: ما أنت بفاعل!
قال: لِمَ؟
قلت: لاَنّ رسول الله (ص) قد رأى مكانه، وأبو بكر، وهما أحوج منك
إلى المال فلم يُخرجاه.
فقام فخرج
(3).
9 ـ عبد الله بن عبّاس:
عن نافع بن جبير: أن ابن عبّاس أخبره قال: إنّي لَصاحب المرأة التي أُتي
بها عمر وضعت لستّة أشهر، فأنْكر الناس ذلك، فقلت لعمر: لا تظلم، قال:
كيف؟ قلت: اقرأ: (
وحملُه وفِصاله ثلاثون شهراً)
(4)، (
والوالداتُ
____________
(1) زاد المعاد، لابن قيم الجوزيّة 1: 213.
(2) الاَُمّ 6: 88، سنن أبي داود 3: 129 | 2927، مسند أحمد 3: 452، سنن ابن ماجة
2: 883 | 2642، سنن الترمذيّ: 434، السنن الكبرى 8: 134، تاريخ بغداد 8: 343.
(3) سنن أبي داود 2: 215|2031، سنن ابن ماجة 2: 104|3116، الرياض النضرة
1ـ2:339.
(4) الاَحقاف : 15 .
( 124 )
يُرضعْنَ أولادَهُنّ حَوْلَين كامِلَين)
(1).
كم الحَوْل؟
قال: سنة.
قلت: كم السنة؟
قال: اثنا عشر شهراً.
قلت: فأربعة وعشرون حولان كاملان، ويؤخِّرُ الله من الحمل ما شاء،
ويُقدِّمُ. قال: فاستراح عمر إلى قولي
(2).
10 ـ عليّ بن أبي طالب:
أ ) عن ابن عبّاس، قال: أُتي عمر بمجنونة قد زنت، فاستشار فيها أُناساً،
فأمر بها أن ترجم، فمرّ علي رضي الله عنه فقال: ما شأن هذه؟
فقالوا: مجنونة بني فلان زنت، فأمر بها عمر أن ترجم!
فقال: ارجعوا بها.
ثمّ أتاه، فقال: يا أمير المؤمنين! أما علمت أنّ رسول الله قال: رُفع القلم
عن ثلاث: عن الصبيّ حتّى يبلغ، والنائم حتّى يستيقط، والمعتوه حتّى يبرأ؟!
وإنّ هذه معتوهة بني فلان، لعلّ الذي أتاها أتاها وهي في بلائها، فخلّى سبيلها،
وجعل عمر يكبِّر
(3).
ب ) أُتي عمر بن الخطاب بامرأة قد تعلّقت بشابّ من الاَنصار، وكانت
تهواه، فلمّا لم يساعدها احتالت عليه، فأخذت بيضة فألقت صُفرتها، وصبّت
البياض على ثوبها وبين فخذيها، ثمّ جاءت إلى عمر صارخة، فقالت: هذا
الرجل غلبني على نفسي وفضحني في أهلي وهذا أثر فعاله!
فسأل عمر النساء فقلن له: إنّ ببدنها وثوبها أثر المنيّ، فهمّ بعقوبة
الشابّ، فجعل يستغيث ويقول: يا أمير المؤمنين! تثبّت في أمري فوالله ما أتيت
____________
(1) البقرة : 233 .
(2) الدرّ المنثور 6: 40.
(3) سنن أبي داود 4: 140|4399، المستدرك على الصحيحين 2: 59 و4: 389، السنن
الكبرى 8:264.
( 125 )
فاحشة وما هممت بها، فلقد راودتْني عن نفسي فاعتصمت.
فقال عمر: يا أبا الحسن ما ترى في أمرهما؟
فنظر عليٌّ إلى ما على الثوب، ثمّ دعا بماء حارّ شديد الغليان، فصبّ على
الثوب، فجمد ذلك البياض، ثمّ أخذه وشمّه وذاقه، فعرف طعم البيض، وزجر
المرأة، فاعترفت
(1).
11 ـ عبد الرحمن بن عوف:
أ ) عن ابن عبّاس، أنّه قال له عمر: يا غلام! هل سمعت من رسولالله
(ص) أو من أحد من الصحابة إذا شكّ الرجل في صلاته ماذا يصنع؟
قال: فبينما هو كذلك، إذ أقبل عبد الرحمن بن عوف.
فقال: فيم أنتما؟
فقال عمر: سألت هذا الغلام: هل سمعت من رسول الله (ص) أو أحد
من أصحابه إذا شكّ الرجل في صلاته ماذا يصنع؟ قال عبدالرحمن: سمعت
من رسول الله (ص) يقول: إذا شكّ أحدكم... إلى آخر الحديث
(2).
ب ) عن قتادة، قال: سئل عمر بن الخطّاب عن رجل طَلَّقَ امرأته في
الجاهليّة تطليقتين وفي الاِسلام تطليقة.
قال: لا آمرك ولا أنهاك.
فقال عبد الرحمن: لكنّي آمرك، ليس طلاقك في الشرك بشيء
(3).
12 ـ وامرأة خطَّأتهُ فيما ذهب إليه من عدم جواز الغلاء في
المهور
(4).
كانت هذه نصوص نقلناها عن أكثر من عشرة من الصحابة والتابعين، من
بينهم كبار الصحابة، أمثال.
1 ـ معاذ بن جبل.
____________
(1) الطرق الحكميّة لابن قيّم الجوزيّة: 47 كما في الغدير : 6.
(2) مسند أحمد 1: 190، السنن الكبرى 2: 332.
(3) مسند أحمد 3: 482.
(4) تفسير الكشّاف 1: 491، تفسير القرآن العظيم 1: 736، الدرّ المنثور 2:133.
( 126 )
2 ـ زيد بن ثابت.
3 ـ أبو عبيدة بن الجرّاح.
4 ـ حذيفة بن اليمان.
5 ـ عبد الله بن مسعود.
6 ـ أُبيّ بن كعب.
7 ـ الضحّاك بن سفيان الكلابيّ.
8 ـ شيبة بن عثمان.
9 ـ عبد الله بن عبّاس.
10 ـ عليّ بن أبي طالب.
11 ـ عبد الرحمن بن عوف.
12 ـ امرأة من نساء المسلمين.
وفي ما تقدّم صراحة في أنَّ المنهج الصحيح هو الانصياع لما حكم به الله
ورسوله وأنَّه لابدَّ للخليفة من الرجوع إلى الكتاب والسنّة في تبيين الاَحكلام،
وهذه الحالة كانت مستقرّة في نفوس الصحابة لما رأيت من تصحيحهم للخليفة
مستدلّين تارة بالقرآن العزيز وأُخرى بالسنّة المطهّرة. وهذه الوقائع تؤكّد أنّ
الخليفة لايدّعي أنّه قد اختصّ بمعرفة الاَحكام جميعاً أو «أنّه كان يتفرّد بتكوين
عقليّ خاصّ به، وبلغ من النضج حدّ العبقريّة بدليل موافقات الوحي له،
وشهادة رسول الله بأنّ الحقّ يدور مع عمر حيث دار»
(1).
امتداد النهجين بعد الرسول (ص)
من الطبيعيّ أنّ استمرار ظاهرة تخطئة الخليفة ممّا يؤدّي إلى تضعيف
مركزه ويقلّل من مكانته الاجتماعيّة عند المسلمين، وسيؤثّر مآلاً على قوام
الخلافة الاِسلاميّة، لاَنَّ الخليفة قد رأى الصحابة ـ وخصوصاً المحدّثين منهم ـ
قد جدّوا في تخطئته مرّة بعد مرّة، وأنّ المواقف المخطِّئة في بعض الاَحيان،
والمشكّكة في أحيان أُخرى لو كتب لها أن تستمرّ لاَسفرت عن تجرّؤ الصحابة
على الوقوف أمام شخصيّة الخليفة نفسه.
فكان من المحتّم عليه ـ والحالة هذه ـ أن يطرح نهجاً جديداً يتلافى فيه
ظاهرة التخطئة والتصحيح التي يقوم بها الصحابة، ويغلق أمامها المنافذ،
ولتكون من بعدُ المبرّر لاَعماله، والمصحِّح لاجتهاداته، إذ إنّ مقايسة فتاوى
الخليفة بما في القرآن وأحاديث رسول الله (ص)، ثمّ بيان وجوه الخلاف بينهما
وبين أُصول التشريع سيسوق الناس للتعريض به، والوقوف أمام آرائه وما
يشرِّعه من رأي، وهو يعني تضعيف مكانته عندهم، ويجعله في موضع
المستسلم لقبول ما سيطرحه المخالفون له، فرأى من الضرورة تقوية ما كان
يذهب إليه من تعرّف المصلحة على عهد الرسول، وتقوية فكرة الاجتهاد
وتعميمها للصحابة، كي يُعذر في فتاواه، ومن هنا ظهرت رؤيتان عند الخليفة،
ومن ثمّ عند بعض المسلمين.
الاَُولى: القول بالمصلحة.
الثانية: القول بحجّيّة اجتهاد الصحابيّ.
وستقف لاحقاً على السير التاريخيّ لهاتين الرؤيتين ومدى قربهما أو
بعدهما عن الواقع . وقبل ذلك ننقل كلام الاِمام محمّد عبده عن المصلحة عند
الصحابة وأنّهم «كانوا إذا رأوا المصلحة في شيء يحكمون به وإن خالف السنّة،
( 128 )
كأنّهم يرون أنّ الاَصل هو الاَخذ بما فيه المصلحة لابجزئيّات الاَحكام
وفروعها»
(1).
وقال الشيخ عبد الوهاب خلاّف: وكانوا إذا لم يجدوا نصّاً في القرآن أو
السنّة يدلُّ على حكم ما عرض لهم من الوقائع استنبطوا حكمه، وكانوا في
اجتهادهم يعتمدون على مَلَكتهم التشريعيّة التي تكوّنت لهم من مشافهة
الرسول، ووقوفهم على أسرار التشريع ومبادئه العامّة.
فتارة كانوا يقيسون ما لا نصّ فيه على ما فيه نصّ، وتارة كانوا يشرِّعون ما
تقضي به المصلحة أو دفع المفسدة ولم يتقيَّدوا بقيدٍ في المصلحة الواجب
مراعاتها، وبهذا كان اجتهادهم فيما لا نصَّ فيه فسيحاً مجاله، وفيه متّسعٌ
لحاجات الناس ومصالحهم
(2).
وممّا يدلّ على صحّة قول عبده وخلاّف هو فتاوى عمر نفسه والتي مرّ
قسم منها، والقارىَ يعرف مدى نسبة اجتهاد الخليفة التي اصطدمت مع واقع
التشريع.
فمن المحتمل أن تكون هذه المواقف المخطِّئة للخليفة من قبل الصحابة
سبباً آخر من أسباب منع عمر بن الخطّاب من التحديث عن رسول الله وتدوين
سنّته.
وعلى كلّ حال ، فإنَّ المحصّل الذي لا ريب فيه هو امتداد الاتّجاهين في
الشريعة عند المسلمين حتّى بعد وفاة رسول الله:
الاَوّل: يأخذ بالنصوص ويتعبّد بها، والذي سمّيناه (التعبُّد المحض).
والثاني: يأخذ بقول الرجال ويذهب إلى حجّيّة اجتهادات الصحابة
المدركين لروح التشريع ، حتّى توسّعت خطواتهم ولم تقف عند حدود بعد
وفاة النبيّ الذي كان يكبح من جماح هذا الاتّجاه . ولم تختصّ اجتهاداتهم فيما
لانصّ فيه بل تعدّتها إلى ما فيه نصّ صريح ، وقد سمّينا هذا النهج نهج
____________
(1) تفسير المنار 4: 31 لمحمّد رشيد رضا.
(2) خلاصة تاريخ التشريع الاِسلاميّ:40.
( 129 )
«الاجتهاد والرأي».
قال الدكتور محمّد سلاّم مدكور : ... وهكذا من تتبّع تصرّفات الصحابة
وعلى رأسهم الخليفة عمر الذي طالما بدّل بعض الاَحكام إلى ما يرى أنّه
مصلحة، مع تفسيره للنصوص تفسيراً يتّفق مع المصلحة، وقد درج التابعون
على ذلك فأفتَوا بجواز تسعير السلع مع نهي الرسول عن ذلك، وقالوا: إنّ الناس
قد فَجَروا بما أصابهم من الجشع
(1).
وقال الشيخ عبد الوهاب خلاّف: ... «في عهد الصحابة» لما تعدّد رجال
التشريع منهم، وقع بينهم اختلاف في بعض الاَحكام وصدرت عنهم فيالواقعة
الواحدة فتاوى مختلفة، وإنّ هذا الاختلاف كان لابُدّ أن يقع بينهم، لاَنّ فهم
المراد من النصوص يختلف باختلاف العقول ووجهات النظر، ولاَنّ السنّة
لميكن علمهم بها وحفظهم لها على السواء، وربّما وقف بعضهم على ما
لايقف عليه الآخر، لاَنّ المصالح التي تستنبط لاَجلها الاَحكام يختلف تقديرها
باختلاف البيئات التي يعيش فيها رجال التشريع، فلهذه الاَسباب اختلفت
فتاواهم وأحكامهم في بعض الوقائع والقضايا.
ولمّا آلت السلطة التشريعيّة في القرن الثاني الهجريّ إلى طبقة الاَئمّة
المجتهدين اتّسعت مسافة الخلاف بين رجال التشريع، ولم تقف أسباب
اختلافهم عند الاَسباب الثلاثة التي بني عليها اختلاف الصحابة، بل جاوزتها إلى
أسباب تتّصل بمصادر التشريع وبالنزعة التشريعيّة وبالمبادىَ اللغويّة التيتطبّقُ
في فهم النصوص.
وبهذا لم يكن اختلافهم في الفتاوى والفروع فقط، بل كان «الاختلاف
أيضاً في أُسس التشريع وخُططه، وصار لكلّ فريق منهم مذهب خاصّ يتكوّن
من أحكام فرعيّة استنبطت بخطّةٍ تشريعيّة خاصّة»
(2).
وهذا يدلّ على أنّ تعدّد مراكز الاِفتاء قد أدّى ويؤدّي إلى الاختلاف في
الرأي والاجتهاد، وقد يكون هذا الاختلاف عند الصحابة، فيما بينهم، أو بينهم
____________
(1) مناهج الاجتهاد في الاِسلام: 303.
(2) خلاصة تاريخ التشريع الاِسلامىي، لخلاّف: 72.
( 130 )
وبين الخليفة.
وقد وضَّح الدكتور مدكور هذه الحقيقة بعبارة أُخرى فقال: ...واجتهاد
الصحابة لم يقف عند القياس وإنَّما شمل كلّ وجوه الرأي؛ عمدتهم في ذلك
البديهة والفطرة وما لمسوه من روح التشريع، مع وعي كامل للاَساس العقليّ
الذي يقوم عليه الرأي، والدور الذي يؤدّيه في إظهار الاَحكام الشرعيّة،
فاجتهدوا وهم على بيّنة من أمرهم.
وكانت اجتهاداتهم متنوّعة، فمنها ما يعتمد على القياس، ومنها ما يعتمد
على المصلحة، وهكذا بالنسبة للمصادر العقليّة التي عرفت فيما بعد بأسماء
اصطلاحيّة.
ثمّ يقول: ... ومن الطبيعيّ أنّ الاجتهاد بالرأي يترتّب عليه اختلاف وجهة
النظر، والتفاوت في الفتاوى والاَحكام، ولمّا تفرّق الفقهاء مع هذا في الاَقاليم
كانوا نواة الاتّجاهات المختلفة التي نشأت عنها مدرسة الحديث ومدرسة
الرأي
(1).
وقال الدكتور ديب البغا في معرض بيانه لوجوه أدلّة النافين لحجّيّة قول
الصحابيّ:
إنّ الصحابة قد اختلفوا في مسائل، وذهب كلُّ واحد خلاف مذهب
الآخر، كما في مسائل (الجدّ مع الاِخوة) وقول القائل (أنتِ عَلَيّ حرام) وغيرها،
فلو كان مذهب الصحابيّ حجّة على التابعين، لكانت حجج الله متناقضة مختلفة
ولميكن اتّباعُ التابعيِّ للبعض أولى من البعض الآخر
(2).
فالذهاب إلى مشروعيّة الاجتهاد، يعني شرعيّة تعدّد الآراء، وكذا
اختلافها!!
فعمربن الخطّاب حينما رأى ضرورة استخدام الاجتهاد كمنطلق ومبرّر
في فهم الشريعة ، كان عليه أن يسمح للآخرين في الاِفتاء كذلك، حتّى يصحّ
____________
(1) مناهج الاجتهاد في الاسلام: 79 ـ 80.
(2) أثر الاَدلة المختلف فيها في الفقه الاِسلاميّ، للدكتور مصطفى ديب البغا:247.
( 131 )
اجتهاده، وكي يجد في كلام الآخرين ما يؤيّد كلامه ويفسّره، أو أن يُحترم رأيه
ويسكت عنه على أقلّ تقدير.
إنّ أمره قرظةَ بالاِقلال في الحديث ثمّ تجويز الاجتهاد للصحابة، ممّا
يبرهن على أنّ الخليفة كان يريد نقل مدار التشريع وتعديته من النصوص
الشرعيّة إلى الاَخذ بآراء الرجال وقد أشار بعض الصحابة إلى خطأ هذه الفكرة
وإلى أنّ الحقّ لا يُعرف بالرجال، فجاء عن الاِمام عليّ: أنّك لملبوس عليك، إنَّ
الحقّ والباطل لا يعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحقّ تعرف أهله.
فالخليفة ـ وبتوسيع وتحكيم دائرة الاجتهاد ـ كان يريد أن يعطي لنفسه
مكانة فيالتشريع ، من خلال السماح بالاجتهاد لغيره.
فالمدبّر السياسيّ في عهد الخلافة الراشدة ليعلم أنّه لا يمكنه أن يطبّق ما
يريده لو جرّد عن الدور التشريعيّ، وممّا لا محيص عنه أن يجعل الحقّ لنفسه
أكثر من غيره، لاَنّه الاَجدر بمزاولة التشريع لكونه متصدّياً لمنصب الخلافة.
وقد تدرّج الخليفة وانفرد بسلّم الفتيا فعلاً ، فصار بعد برهة من الزمان
يطلق العنان لنفسه ـ خاصّة في الاِفتاء ـ بالرأي والاجتهاد وتعرّف المصلحة
ويحكرها على نفسه ويحظره على باقي المسلمين أو يحدّ منه ، أو يجعل رأيه
ونظره هو الراجح المطلق أو الاَرجح الذي لا يُجارى .
من هنا انطلقَ ليحدّد معالم ما رسمه في الاجتهاد سابقاً كي يجعل
النصيب الاَوفر له، فتراه يجيب عن المسائل بمفرده دون أن يستشير أحداً من
الصحابة ولم يرتضِ قبول رأي آخر يعارض رأيه، وصار داعياً إلى اتّباع رأيه
وسيرته بعد أن كان سائلاً وباحثاً عن سنّة رسول الله، وأصرَّ على الاَخذ برأيه
وإن خالف سنّة رسول الله والذكر الحكيم؛ لاَنّه أعلم منهم بأحكام الله وسنّة
رسوله ـ على حدّ قوله لمن جمعهم من الصحابة ـ فقال لهم: «لا تفارقوني؛ فإنّي
أعلم منكم ، آخذُ منكم وأردُّ عليكم».
وفوق ذلك أنَّ الخليفة لم يكتفِ بهذا المقدار، بل تراه لا يسمح لعماربن
ياسر وغيره من الصحابة أن يذكّروه بما فعله أيّام رسول الله.
أخرج النسائيّ: أنّ رجلاً أتى عمر، فقال: إنّي اجنبت فلم أجد ماءً؟
( 132 )
فقال: لا تصلِ.
فقال له عمّار: أما تذكر، أنّا كنا في سريةٍ فأجنبنا، فأمّا أنت فلم تُصَلِّ، وأمّا
أنا فإنّي تمعكت فصلَّيت، ثمّ أتيتُ النبيّ (ص) فذكرت ذلك له، فقال: إنّما
يكفيك، وضرب شعبة بكفّه ضربةً ونفخ فيها، ثمّ دلك إحداهما بالاَُخرى ثمّ
مسح بهما وجهه.
فقال عمر : شيئاً لا أدري ما هو.
فقال: إن شئت، لا حدّثته
(1).
وفي رواية أُخرى: كنّا عند عمر فأتاه رجل فقال: يا أميرالمؤمنين! إنّما
نمكث الشهر والشهرين ولا نجد الماء!
فقال عمر: أمّا أنا فلم أكن لاَُصلّي حتّى أجد الماء.
فقال عمّار: يا أمير المؤمنين! تذكر حيث كنّا بمكان كذا، ونحن نرعى
الاِبل ، فتعلم أنّا أجنبنا؟
قال: نعم.
قال: فإنّي تمرّغت في التراب، فأتيت النبيّ (ص) فحدّثته فضحك وقال:
كان الصعيد كافيك، وضرب بكفّيه الاَرض ثمّ نفخ فيها ثمّ مسح بهما وجهه
وبعض ذراعيه.
قال: اتَّقِ الله يا عمّار.
قال: يا أمير المؤمنين ! إن شئت لم أذكره ما عشت، أو حييت.
قال: كلاّ والله، ولكن نولِّيك من ذلك ما تولَّيت
(2).
يوضِّح هذا النصّ أنّ الخليفة لم يكن يرى التيمّم للجُنب، بل يسمح
لهبترك الصلاة إذا تعذّر الماء!
____________
(1) سنن النسائيّ 1: 169 (الحاشية) ، وكذا البيهقيّ1: 209، وأحمد 4:19، مصنّف
عبدالرزاق 1:239 ح215، إلاّ أنّهم ذكروا وجهه وكفّيه.
(2) مسند أحمد 1: 319، سنن أبي داود 1: 88|322، سنن النسائيّ 1:168، السنن
الكبرى 1:209.
( 133 )
قال العينيّ: فيه [يعني الحديث] أنّ عمر (رض) لميكن يرى للجنب
التيمّم؛ لقول عمّار له: فأمّا أنت فلم تصلِّ!
وقال: إنّه جعل آية التيمّم مختصّة بالحدث الاَصغر، وأدّى اجتهاده
إلى أنّ الجنب لا يتيمّم
(1).
قال ابن حجر: هذا مذهب مشهور عن عمر
(2).
وأخرج البخاريّ، عن الاَعمش، عن شقيق، قال:
كنت جالساً مع عبد الله، وأبي موسى الاَشعريّ، فقال له أبو موسى: لو أنّ
رجلاً أجنب فلم يجد الماء شهراً أما كان يتيمّم ويصلّي؟ فكيف تصنعون بهذه
الآية في سورة المائدة: (
فلم تجدوا ماءً فتيمّموا صعيداً طيِّباً)
(3)؟!
فقال عبد الله: لو رخّص لهم في هذا لاَوشكوا إذا يرِد عليهم الماء أن
يتيمّموا الصعيد.
قلت: وإنّما كرهتم هذا لذا؟
قال: نعم.
فقال: أبو موسى: ألم تسمع قول عمّار لعمر؟! بعثني رسول الله...
الخبر
(4).
النصوص السابقة أكّدت على أنّ الخليفة كان وراء هذا الحكم الشرعيّ
وغيره من الاَحكام، وأنت ترى مخالفته الواضحة لما نزل به القرآن وبَيَّنَهُ
رسول الله، ولذلك احتجّ عمّار، وأبو موسى، واستغرب فقهاء المسلمين هذا
الحكم الذي أسّسه الخليفة عمر. ومن هنا يعلم أنّه لا يصحّ القول بأنّ مثل هذه
الفتاوى والآراء مقرّرة من قبل الشرع وأنّ للصحابة حقّ الاجتهاد المطلق، ولهم
الاِفتاء طبق ما عرفوه من روح التشريع واعتبار ذلك هو الدين لا غير!
____________
(1) عمدة القاري 4: 19.
(2) فتح الباري 1: 352.
(3) المائدة : 6 .
(4) صحيح البخاريّ 1: 69، سنن أبي داود 1: 87|321، سنن الدارقطنيّ 1: 179|15.
( 134 )
فلو صحَّ هذا الفرض لما صحَّ للخليفة عمر أن يلزم عمّاراً السكوت
ويواجهه بلهجة فيها شيء من العنف والتحذير، إذ حسب هذا القول يقتضي أن
يكون عمّار قد عرف الحكم الشرعيّ من النصّ ومن روح التشريع مضافاً إلى ما
سمعه من النبيّ (ص)، ولا يجوز للخليفة بعد هذا الاعتراض عليه، بل يلزمه
احترام رأيه كصحابيّ يدرك روح التشريع.
ونفس الاَمر يقال عن الصحابة: فلو جاز اجتهاد الجميع، لما صحّ لعمّار
أن ينكر على الخليفة عمر ذلك، وكذا أبو موسى الاَشعريّ وغيرهما من
الصحابة الذين لم يوافقوا الخليفة في الفتوى.
وليتني أعرف: هل خفي على الخليفة عمر ما رواه الصحابيّ الجليل
عمرانبن الحصين:
أنّ رسول الله (ص) رأى رجلاً معتزلاً لم يُصَلِّ في القوم، فقال(ص):
يافلان! ما منعك أن تصلّي في القوم؟
فقال: يا رسول الله! أصابتني جنابة، ولا ماء.
فقال (ص): عليك بالصعيد، فإنّه يكفيك
(1).
وقوله (ص) في مورد آخر: عليك بالتراب
(2).
وفي حديث ثالث: أعلّمك التيمّم، مثل ما علّمني جبرئيل، فأتيته...
(3).
أم هل خفي عليه ما رواه أبو هريرة وأبو ذرّ وغيرهم في التيمّم؟
وكذلك ما وصل إلينا من أخبار المحافظة على الصلاة وأنّها لاتترك
بحال؟
كلّ هذه النصوص تحكم بخطأ ما ذهب إليه الخليفة وأنّه لميكن أعرف
من غيره بالاَحكام الشرعيّة ـ كما ادّعى ذلك لنفسه متأخّراً. أو أنّه لميختصّ
____________
(1) سنن الدارميّ 1: 189 ـ 190، صحيح البخاريّ 1: 96، سنن النسائيّ 1: 171، السنن
الكبرى 1:216، تيسير الوصول 3: 115.
(2) السنن الكبرى 1: 216 ـ 217.
(3) تاريخ بغداد 8: 377.
( 135 )
بعقليّة متميّزة عن غيره كما ادّعته الدكتورة نادية العمريّ وغيرها.
مع العلم أنّ رأي الخليفة عمر بن الخطّاب لم يقتصر على الفاقد للماء
حتّى يمكن القول بالاستثناء وقبول ما عَلَّل به الآخرون، فالخليفة يؤكّد على
لزوم اتّباع آرائه وإن حصل بينها الاختلاف في الواقعة الواحدة.
فعن مسعود الثقفيّ أنّه قال:
شهدتُ عمر بن الخطّاب (رض)... أشرك الاِخوة من الاَب والاَُمّ مع
الاِخوة من الاَُمّ في الثلث.
فقال له رجل: قضيت في هذا عامَ أوّل بغير هذا!
قال: كيف قضيت؟
قال: جعلته للاِخوة من الاَُمّ ولم تجعل للاِخوة من الاَب والاَُمّ شيئاً.
قال: تلك على ما قضينا، وهذا على ما قضينا
(1).
وفي لفظ آخر: تلك على ما قضينا يومئذٍ، وهذه على ما قضينا اليوم
(2).
فهذه النصوص تؤكّد على أنّ الخليفة يجدُّ في رسم أُصول فقهه
واعتبارها المقياس الاَوّل والاَخير في الاَخذ به. وهي رؤية أملتها الظروف عليه
ودَعَتْه إلى القول بها، ثمّ امتدّت بعده حتّى بلغ الاَمر ببعض المسلمين أن يقول:
إنّ قول الصحابيّ وفعله يُخصّص كلام الله!
قال الدكتور مدكور: وأيّاً ما كان فمن الثابت أنّه لا يوجد حكم تشريعيّ
في هذا العهد [أي عهد الرسالة] إلاّ ومصدره الوحي، ولم يقُل أحد غير ذلك
سوى من أجازوا للرسول الاجتهاد
(3).
ثمّ نَقَلَ عن المدخل إلى علم أُصول الفقه، للدواليبيّ: أنّ الرسول قد جعل
الاجتهاد أصلاً ثالثاً للاَحكام في عصره
(4)، ثمّ نفى الدكتور سلاّم هذا الرأي،
____________
(1) السنن الكبرى 6: 255.
(2) السنن الكبرى 6: 255 وكذا الدارميّ.
(3) مناهج الاجتهاد في الاِسلام: 356.
(4) مناهج الاجتهاد في الاِسلام عن علم أُصول الفقه للدواليبيّ: 11.
( 136 )
وذهب إلى عدم كونه مصدراً للتشريع في عهده (ص)
(1).
نعم، قد علّل ، أتباع مدرسة الخلافة وأنصارها ، ما ذهب إليه الخليفة
عمربن الخطّاب من اجتهادات تخالف القرآن والسنّة المطهّرة، وذكروا وجوهاً
في ذلك، منها ماقاله الدكتور سلاّم: «.... ولم ينهض عنده [أي المستشكل
القادح] حجّة لقادح خفيٍّ رآه فيه [أي عند عمر] حتّى استفاض الحديث في
الطبقة الثانية من طرق كثيرة، واضمحلّ وَهْم القادح فأخذا به»
(2)وغيرها من
وجوه التعليل التي ذكرها المؤرّخون والفقهاء.
إنّ دعوة الخليفة المسلمين إلى اتّباع قوله، كانت حاجة سياسيّة فرضها
الواقع الاجتماعيّ عليه، وكذا منعه للتدوين وللتحديث؛ إذ لم يصدر نصّ
شرعيّ عن رسول الله فيه. لاَنّه لو ثبت ذلك عنه (ص) لذكَّر الخليفة عمربن
الخطّاب المسلمين به واستعان بقوله (ص) ـ في منعه للحديث والتدوين ـ
ولمينسب المنع لنفسه وحده لئلا يتحمّل وزره.
إنّ الخليفة عمر وبتقويته لفكرة الرأي لم يكن قصده مخالفة سنّة
رسول الله وتخطئتها، بل إنّ الظروف هي التي ألزمت الخليفة أن يقول بالرأي
وإن خالف النصّ، انطلاقاً من الخلفيّات التي ذكرنا بعضها ، وعلى ذلك يمكننا
أن نعدّ مواقفه السابقة مع رسول الله من هذا الباب، إذ كان في الجاهليّة على
شيء من ذلك، فكان يريد تطبيق ممارسة صلاحيّاته ـ التي يرتأيها لنفسه ـ
بأوسع نطاق في الاِسلام ومع رسول الله، ولكنّ الفرق بين العصرين واضح بيّن.
نعم، إنّ البعض قد نفى أن يكون اجتهاد الخليفة من هذا القبيل، حيث إنّه
كان من الذين قد تعبّدوا بسنّة الرسول، ثمّ مثّلوا لذلك ببعض النصوص، كقوله
وهو واقف على الركن: إنّي لاَعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع ولو لم أرَ حبيبي
(ص) قبَّلك واستلمك ما استلمتك ولا قبّلتك
(3).
وقال يعلى بن أُميّة: طُفت مع عمر بن الخطّاب، فلمّا كنت عند الركن
____________
(1) مناهج الاجتهاد في الاِسلام: 356.
(2) مناهج الاجتهاد في الاِسلام: 154.
(3) السنّة قبل التدوين عن مسند أحمد 1: 197 و213.
( 137 )
الذي يلي الباب ممّا يلي الحجر، أخذت بيده ليستلم، فقال: أما طُفتَ مع
رسول الله (ص)؟
قلت: بلى.
قال: فهل رأيته (ص) يستلمه؟
قلت: لا.
قال: فانفذ عنك فإنّ لك في رسول الله أُسوة حسنة
(1).
لكنّ مثل هذه النصوص لا تفي بالمدّعى بعدما عرفت عن حجم الاجتهاد
فكراً وتطبيقاً عند الخليفة عمر ، وإنّما تكون هذه النصوص واضحة الدلالة على
أنّ الخليفة لا يعني برأيه وباجتهاده تعمّد مخالفة النصّ، وإنّما تعني شيئاً آخر،
فإذا لحظت هذا وأقواله في ضرورة التمسّك بالاَحاديث ونبذ الاجتهاد، ثمّ
لحظت اجتهاداته وتوسّعه في الاستنباط حتّى مع وجود النصّ، إذا لحظت
هاتين المسألتين علمتَ أنّ الظروف هي التي حدت به أن يتّخذ موقفاً انجرّ في
نهاية المطاف إلى مخالفة السنّة النبويّة، من حيث يشعر أو لا يشعر بذلك.
لاَنّ استمرار ظاهرة التخطئة عند المسلمين تؤدّي لا محالة إلى انفصال
القيادتين السياسيّة والعلميّة إحداهما عن الاَُخرى، وهذا يعني خروج
المسلمين عمّا اعتادوا عليه في عهد رسول الله من الاَخذ عن شخص واحد
والخدش في مكانته الروحيّة، ونظراً للمصلحة العامّة ـ كما يقولون ـ ذهبوا إلى
القول بالمصلحة وحجّيّة الرأي واجتهادات الصحابة ، وخصوصاً اجتهادات
الشيخين؛ لاَنّهم قد عرفوا ملاكات الاَحكام وروح التشريع، كما طرحها
المبرّرون لآراء واجتهادات الشيخين ـ زاعمين أن اجتهادات أمثال هؤلاء جديرة
بالامتثال ـ ثمّ رووا أحاديث عن رسول الله في ذلك.
ثمّ إنّ المسلمين كانوا قد عرفوا أنّ الاَحكام المُستجدّة يلزم أن
يستنبطوها من النصوص الشرعيّة وما جاء عن رسول الله، ولا يجوز لاَحد
القول فيها بالرأي والاجتهاد، وحيث إنّ الخليفة لم يحفظ جميع تلك النصوص
____________
(1) السنّة قبل التدوين: 86 عن مسند أحمد 1: 265.
( 138 )
الصادرة عن رسول الله (ص) أو لا يعرف تفسيرها، فتراه يشرّع القياس ليكون
المبرّر لما يذهب إليه وليقال في تبريره إنّ كلامه مأخوذ من الاَصل الفلاني
والآية الفلانيّة.
وبذلك صار الاجتهاد أمراً مألوفاً عند المسلمين ولا يختصّ بالخليفة
لاَنّه قد عمّ جميع الصحابة، مع الاَخذ بنظر الاعتبار أنّ البعض منهم: كان يفتي
طبق الرأي والاجتهاد، والآخر: طبق النصّ ولا يرضى بالتحديث إلاّ عن كتاب
الله وسنّة رسوله، وإن اجتهد هؤلاء فكان في إطار الاستنباط الصحيح المتين من
الكتاب والسنّة بمعنى سلوك السُّبُل الكفيلة بالدلالة على ما أراده الله ورسوله،
وهذا ليس من الرأي بشيء.
بلى، إنّها كانت خطوة سياسيّة اتّخذها لكي لا يجرؤ أحد على مخالفة
فتاواه، بل ليسلّم الجميع لما يذهب إليه.
عن أبي موسى الاَشعريّ: أنّه كان يفتي بالمتعة، فقال له رجل: رُويدك
ببعض فُتياك، فإنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النُّسك بعدك، حتّى
يفتيه، فسألته.
فقال عمر: قد علمت أنّ النبيّ قد فعله وأصحابه، ولكنّي كرهت أن يظلّوا
معرسين بهنّ في الاَراك، ثمّ يروحون في الحجّ تقطر رؤوسهم
(1).
إنّ هذا النصّ وأمثاله ممّا يؤكّد فكرة خضوع الاَحكام الشرعيّة لرأي
الخليفة، إذ ترى أبا موسى الاَشعري ـ وهو من كبار الصحابة ـ لا يمكنه أن يفتي
بالمتعة؛ لاَنّه لا يدري ما أحدث أمير المؤمنين في النُّسك! بل يجب عليه
التروّي حتّى يأتي أمر الخليفة وقراره الاَخير فيه!!
وقد أنكر عمر بن الخطّاب على البعض لاِفتائه من عند نفسه بقوله: كيف
تفتي الناس ولست أمير ؟ وَلِيَ حارَّها مَن وَلِيَ قارّها
(2)
ونحن، بعد وقوفنا على ملابسات التشريع، يمكننا القول: إنّ الذهاب
____________
(1) صحيح مسلم 2: 896|157، مسند أحمد 1: 50، سنن النسائيّ 5: 153، السنن
الكبرى5 : 20، تيسير الوصول 1: 340|30، سنن ابن ماجة 3: 992|2979.
(2) الصحيح من سيرة النبيّ الاَعظم 1 : 79 عن مصادر متعدّدة .
( 139 )
إلى حجّيّة كلام الصحابيّ، واستغلال مفهوم اجتهاد النبيّ وإنّه قد أخطأ في فداء
أسرى بدر، والصلاةِ على المنافق، وقوله: إنّما أنا بشر إذا أمرتُكم بشيء من
دينكم فخذوا به، وإذا أمرتُكم بشيء من رأيي فإنّما أنا بشر أُخطىَوأُصيب
(1)
وغيرها.... كلّها رؤىً قد رُسمت لتصحيح اجتهادات الخليفة، ولرسم المبرِّر لما
يذهب إليه.
فسؤال الصحابة الخليفة عن الحكم الشرعيّ وبالعكس، يعني طلب
الجميع الوقوف على ما حكم به الله ورسوله، فلو كان اجتهاد الخليفة عمربن
الخطّاب عندهم حجّة، لاَخذوا به ولَما ذكّروه بما قاله الرسول (ص) وما فعله،
ولَمَا تراجع هو عمّا أفتى به في كثير من المواطن! وهذا دليل على أن سيرة
الشيخين لم تكن حجّة عند المسلمين في الصدر الاِسلاميّ الاَوّل ـ وعلى
التحديد قبل تأسيس الشورى ـ حيث وقفت على تخطئة الصحابة للخليفة عمر،
وتخطئة الواحد منهم للآخر.
فلو صحّ ما نُسب إلى رسول الله من أنّه أكّد على لزوم اتّباع سنّة الشيخين
بقوله: (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر..)، فَلِم نرى الصحابة لايأخذون
بأمر الرسول حيث خالفوا رأي الشيخين من بعده؟
قال الدكتور ديب البغا، وهو بصدد بيان أدلّة النافين لحجّيّة مذهب
الصحابيّ: «...أجمعت الصحابة على جواز مخالفة كلّ واحد من آحاد الصحابة
المجتهدين للآخر، فلم ينكر أبو بكر وعمر
(2)رضي الله عنهما على مخالفيهما
بالاجتهاد، بل أوجبوا على كلّ مجتهد في مسائل الاجتهاد أن يتّبع اجتهاد نفسه،
ولو كان مذهب الصحابيّ حجّة لما كان كذلك، ولكان يجب على كلّ واحد
منهم اتّباع الآخر، وهو محال»
(3).
إنّ الناس كانوا يريدون الوقوف على سنّة رسول الله لا سنّة الشيخين،
والخليفة ـ كما عرفت ـ لا يعرفها جميعاً، ومن هنا بدأ يواجه مشكلة جدّيّة
____________
(1) مناهج الاجتهاد في الاِسلام: 349.
(2) بل أنكر عمر على الكثير منهم وهدّدهم وعاقب كما مرّ، ويأتيك أكثر من ذلك.
(3) أثر الاَدلة المختلف فيها في الفقه الاِسلاميّ، للدكتور مصطفى ديب البغا: 347.
( 140 )
ينبغي له أن يضع الحلّ لها، لاَنّ المحدّثين من الصحابة وبنقلهم الاَحاديث عن
رسول الله سيوقفون الناس على وهن رأي الخليفة وبُعده عن الشريعة، وإنّ هذه
الظاهرة والتوعيّة ـ بطبيعة الحال وحسب نظر الخليفة ستمسُّ كيان الخلافة
والدولة الاِسلاميّة الفتيّة، وتؤدّي إلى انفصال القيادتين السياسيّة والعلميّة
إحداهما عن الاَُخرى، وهو ممّا لا يخدم الوضع العامّ ولا قرار الخليفة.
فلابدّ له والحال هذه من رسم خطّة واتّخاذ نهج للخروج ممّا هو فيه،
فذهب أوّلاً إلى القول بحجّيّة الرأي والقياس، بعد أن كان معارضاً لهما؛ لاَنّه
رأى فيها ما يطيّب النفس ويُقنع السائل. وقد وقفت على نصوص للصحابة
يتّخذون فيها التمثيل والتشبيه أُسلوباً لاِقناع الخليفة عمربن الخطّاب وفقاً لرأيه
وفهمه، منها: ما قاله أبو عبيدة بن الجرّاح للخليفة في قتل المسلم بالذمّيّ:
أرأيت لو قتل عبداً له أكنت قاتله؟! فصمت عمر، أو تمثيل زيد بن ثابت في
الاِرث بالشجرة، وغيرها.
فالقياس والتمثيل هو المنفذ العقليّ الذي اتَّخذه البعض نهجاً في معرفة
الاَحكام، والصحابة قد اتَّخذوه لاِقناع الخليفة عمر، واتّخذه الخيلفة عمر أيضاً
لاِقناع الناس برأيه مركّزاً على القياس بشكل خاصّ؛ فجاء في كتاب عمربن
الخطّاب إلى شريح.
إذا وجدت شيئاً في كتاب الله فاقض به، ولا تلتفت إلى غيره، وإن أتاك
شيء ليس في كتاب الله فاقض بما سنّ رسول الله، فإن أتاك ما ليس فيكتاب الله
ولميسنّ رسول الله (ص) فاقض بما أجمع عليه الناس، وإن أتاك ما ليس في
كتاب الله ولا سُنّة رسول الله ولم يتكلّم فيه أحد قبل، فإن شئت أن تجتهد
برأيك فتقدّم، وإن شئت أن تتأخّر فتأخّر، وما أرى التأخّر إلاّ خيراً لك
(1).
وفي كتاب الخليفة عمر لاَبي موسى الاَشعريّ:
فاعرف الاَشباه والاَمثال ثمّ قس الاَُمور بعضها ببعض، أقربها إلى الله
وأشبهها بالحقّ فاتّبعه، واعمد إليه
(2).
____________
(1) أعلام الموقّعين.
(2) سنن الدارقطنيّ 4: 206 ـ 207، شرح النهج 11: 91.
( 141 )
هذا وقد شكّ ابن حزم في صدور هذه الرسالة من عمر إلى واليه أبي
موسى الاَشعريّ، لكنّه قَبِل صدور الرسالة لشريح وإن كان له فيها بعض
الكلام
(1).
قالت الدكتورة نادية شريف العمريّ: وقد استعمل عمر بن الخطّاب
مصطلح القياس في رسالته إلى أبي موسى الاَشعريّ، إلاّ أنّ تلك الاصطلاحات
والقواعد لم تكن شائعة بمسمّياتها تلك
(2).
وهذا كلام صحيح، إذ إنَّ القياس بمفهومه الاصطلاحيّ لم يظهر إلاّ في
زمان متأخّر عن الخلافة الراشدة ، لكنَّ بذوره وجذوره الاَوّليّة كانت قد ظهرت
نتائجها بشكل واضح عند الخليفتين عموماً وعند الثاني منهما بشكل خاصّ،
وذلك ما لا يستطيع إنكاره إلاّ مكابر، فسواء صحّ استعماله لكلمة القياس أم
لميصحّ، فإنَّ الثابت أنّه استفاد وعمل وطبّق القياس وغيره في فقهه.
والذي أشكلناه على منهجيّة الشيخين ومن حذا حذوهما من الصحابة
في التفكير، لم يكن ليخفى على جمّ غفير من الصحابة، فقد تصدّى الكثير
منهم في موارد عدّة للاجتهادات والاَقيسة والمصالح التي بُدّلت وغيّرت على
أساسها الاَحكام، أو مُنع من تطبيق بعضها أو زِيد فيها أحكام أُخرى .
وهناك من عيون الصحابة من لم يكتف بالمخالفة والتغليط
والتصحيح في مورد أو أكثر، بل أطلقوا قاعدة عامّة نصَّ عليها الكتاب وجاءت
بها سُنّة النبيّ، مفادها عدم جواز إعمال الرأي في الاَحكام، لاَنّ الاِتيان بحكم
جديد لميُسْتَقَ من القرآن والسنّة يعني نقص الشريعة وعدم إبلاغ النبيّ (ص)
للرسالة، وهذا ما لا يقول به مسلم.. يستلزم القول بمعرفة الصحابة حكماً عامّاً
خفي على المشرّع وجهه، وهذا يعني كذلك اختصاص بعضهم بطائفة الاَحكام
أخْفَوها عن الآخرين، ومعناه: أن النبيّ (ص) لم يبلِّغها للآخرين ـ والعياذ بالله ـ
أو أنّ بعض الصحابة قد وقف على وجه تشريع الحكم وغايته من قبل الله
____________
(1) انظر مناظرات في أُصول الشريعة بين ابن حزم والباجيّ، للدكتور تركي: 398 عن
الاَحكام.
(2) اجتهاد الرسول، للدكتورة نادية: 326.
( 142 )
تعالى، في حين أن رسول الله لم يبيّنها لهم وهو المبيّن لاَحكام الله.
إنّ القول بمعرفة الصحابة لغايات الاَحكام ومصالحها ومفاسدها المبتناة
عليها، كانت من النقاط التي رُسمت لتصحيح الرأي والاجتهاد.
لاَنّا نعلم أنّ العقول الناقصة من الرجال لا تستطيع الاِحاطة بجميع مصالح
ومفاسد الاَحكام، ومن هنا لم يجعل سبحانه وتعالى لاَحدٍ حقّ الجعل
والتشريع، واختصّ ذلك بذاته المقدّسة، لاَنّه العالم المحيط بالمصالح
والمفاسد.
إذاً لم يبق إلاّ أن يقال: إنّ الشريعة المحمّديّة متكاملة الاَحكام، دقيقة
الاِحكام، ليس فيها حكم إلاّ وقد استبان بنحو من أنحاء الدلالة التي أرشد إليها
النبيّ مَنْ اختصّه بالعلم، فكان على الراسخين في العلم أن يُبَيّنوه للناس
ويستنبطوه من الكتاب والسنّة وفق ما أراده الله، لا بما اعتقدوا فيه من المصالح
وإرادته العقول غير الكاملة.
وهذه الحقيقة صرّح بها الكثير من لامعي الصحابة، فخذ على سبيل
المثال: الاِمام عليّ بن أبي طالب وابن مسعود، فإنّهما قد أوضحا هذه الحقيقة
وأشارا إلى أنّ فهم الرجال يعجز عن إدراك الحكم الاِلهيّ وغايته، لا أنّ الحكم
ليس موجوداً في الكتاب.
جاء عن عليّ بن أبي طالب: ما من شيء إلاّ وعلمه في القرآن، ولكنّ
رأيالرجال يعجز عنه
(1).
وعن عبد الله بن مسعود: ما من شيء إلاّ [بُيِّنَ] لنا في القرآن حكمه ولكنّ
فهمنا يقصر عن إدراكه، فلذلك قال تعالى (
لِتُبيّن للناس ما نُزِّل إليهم)
(2).
إنّ قول عليّ بن أبي طالب وابن مسعود صريح الدلالة على أن الاَحكام
موجودة في كتاب الله وأنّ رسوله (ص) مكلّف بتبيين ذلك للناس، وقد أمر
سبحانه المؤمنين بالرجوع إليه (ص)، بقوله (
فإنْ تنازعتم في شيءٍ فُردّوه
____________
(1) انظر حجّيّة السنّة: 329 عن الحجّة للمقدسيّ، وفي الكافي 1: 60 ح6 عن الصادق (ع):
ما من أمر يختلف فيه اثنان إلاّ وله أصل في كتاب الله ولكن لا تبلغه عقول الرجال.
(2) حجّيّة السنّة: 329 عن ابن أبي حاتم، والآية : 44 من سورة النحل.
( 143 )
إلى الله والرسول)
(1).
نعم، إنّ الآية تؤكّد بصراحة ووضوح أن حكم كلّ ما تنازع فيه المؤمنون
موجود في كتاب ربّ العالمين وسنّة سيّد المرسلين، فلو لم يكن كذلك لما أمر
سبحانه الناس بالردّ إليهما، إذ من الممتنع عقلاً أن يأمر الله بالردّ عند النزاع إلى
من لايوجد عنده فصل النزاع!
بَيْدَ أنّنا لا نريد أن نذهب إلى ما ذهب إليه إسماعيل أدهم واحمد توفيق
شوقي وغيرهما من الداعين إلى الاقتصار على القرآن ومنكري السنّة الآمرين
بلزوم اتّباع القرآن وحده!
بل نريد التنويه إلى أنّ الصحابيّ الواعي الذي عايش النبيّ (ص) يمكنه
أن يقف على حكم الله في كتابه ويهتدي إلى الصواب فيه، وإذا أعياه رجع إلى
السنّة، وليس هناك حكم لا يمكن استنباطه من الكتاب والسنّة حتّى يصل الاَمر
إلى القياس والقول بحجّيّة الرأي.
إنّ عدم وقوف الصحابيّ على الدليل ليس دليلاً على العدم، إذ يمكن
وجود الحكم المتنازع فيه عند الآخرين، وقد وقفت على نماذج من ذلك
ورجوع الخليفة وغيره إليهما، فكيف يقول الخليفة عمر: «ولم يسنّ رسول الله
فاقض بما أجمع عليه الناس»؟!
وهل كلّ ما لا نعرفه من حكم الله ورسوله هو ممّا لم يسنّ، حتّى يصحّ
القول: فإن شئت أن تجتهد برأيك فتقدّم، وإن شئت أن تتأخّر فتأخّر؟!
ألم يكن ذلك هو الرأي المنهيّ عنه في الروايات؟
أما خالف الخليفة بقوله هذا ما قاله في نصّ آخر:
أيها الناس! اتّهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتُني أرُدُ أمر رسول الله
(ص) برأيي اجتهاداً فوالله ما آلُو عن الحقّ ، وذلك يوم أبي جندل والكتاب بين
رسول الله (ص) وأهل مكّة فقال : «اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم» فقالوا: ترانا
قد صدّقناك بما تقول ؟ ولكنَّك تكتب باسمك اللّهمّ ، فرضي رسول الله (ص)
____________
(1) النساء: 59.
( 144 )
وأبيت، حتّى قال لي رسول الله (ص) : «تراني أرضى وتأبى أنت»
قال:فرضيت
(1).
ألا ترى أن يكون القائل بالرأي هو ممّن تنقصه المعرفة بالسنّة، لقول
عمر: «أصبح أهل الرأي أعداء السنن، أعيتهم أن يَعُوها وتفلّتت منهم أن
يردوها، فاستَبَقُوها بالرأي»
(2).
ما يعني هذا التهافت بين نصوص الصحابة؟ فتارة نراه يحمي الرأي
ويشرّعه أمام نصّ رسول الله وكلامه ويقف أمام إتيان الصحابة بالدواة إليه (ص)
ويقول: إنّه ليهجر، وأُخرى نسمعه يقول بما مرّ أعلاه؟!
أتكون هذه النصوص معبّرة عن مرحلتين مرّ بهما الخليفة، فتارة يتّخذ
الرأي وثانية يخالفه؟
وماذا سيفعل القائس ـ على رأي عمر ـ إذا اشتبهت عليه الوجوه ولايدري
أيّها أحبّ إلى الله.
ولو صحّ القياس في شريعة السماء فلِمَ لا يوجب الشرع جلد القاذف
بالكفر دون القاذف بالزنا؟!
ولماذا نراهم يفرّقون بين حكم خروج المني ودم الحيض في إعادة
الصلاة، وكلاهما ممّا يوجب الغسل فيه، وكذا تفريقهم بين المذي والبول
والمني في الغسل ومخرجها واحد؟!
وحرّموا النظر إلى شعر المرأة وأباحوا النظر إلى وجهها، وسوّوا بين قاتل
الصيد عمداً وخطأً، وفرّقوا بينهما في قاتل النفس
(3).
ألا يكون القياس مبتنياً على الظنّ، والشارع قد نهى عن اتّباعه بقوله
تعالى: (
وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِه عِلْمٌ)
(4)؟! ولقوله عزّ وجلّ: (
إن يتّبعون إلاّ
____________
(1) المعجم الكبير للطبرانيّ 1 : 72 ، وانظر : جامع بيان العلم وفضله.
(2) شرح النهج 11: 102.
(3) مناظرات في الشريعة الاِسلاميّة بين ابن حزم والباجيّ: 416 عن الاَحكام لابن حزم.
(4) الاِسراء : 36 .
( 145 )
الظّنّ وإنّ الظّنّ لا يغني من الحقّ شيئاً)
(1).
أليس القياس مُبْتنياً على اختلاف الاَنظار في تعليل الاَحكام، والشرع
لاتناقض بين أحكامه؟
قال الوافي المهدي: وقد استعمل الصحابة «رضي الله عنهم» القياس، فقد
قاسوا خلافة أبي بكر لرسول الله بعد موته على إنابته في الصلاة حين مرض
الرسول مرضه الاَخير، قائلين: «رضيه رسول الله لاَمر ديننا، أفلا يرضاه لاَمر
دُنيانا»؟! وقد قاس أبو بكر الزكاة على الصلاة وقال: لاَُقاتلنّ من فرّق بين الصلاة
والزكاة، وقاس أبو بكر كذلك العهد على العقد حينما عهد إلى عمر بالخلافة من
بعده...)
(2)0.
إن التفصيل في مثل هذه الاَُمور يستدعي مزيداً من الوقوف عندها، لكنّا
نكتفي بهذا القدر ليكون القارىَ على صورة من الاتّجاهات الفكريّة السائدة في
الصدر الاِسلاميّ الاَوّل، وليتعرّف على جذور بعض الاَُصول عند النهجين.