نظرة في الموضوع
هذا وأنّ الاِمام الصادق كان قد بيّن سبب لجوء الشيخين ـ ومن حذا
حذوهما ـ إلى الرأي والقياس؛ فقد وردت عنه عدّة روايات في هذا السياق،
منها:
ما حكاه القاضي نعمان بن محمّد بن منصور المغربيّ ـ قاضي مصر:
(أنّ سائلاً سأله فقال: يا ابن رسول الله، من أين اختلفت هذه الاَُمّة فيما
اختلفت فيه من القضايا والاَحكام [من الاِحلال والاِحرام] ودينهم واحد،
ونبيّهم واحد؟
فقال عليه السلام: هل علمت أنّهم اختلفوا في ذلك أيّام حياة رسول الله
(ص)؟
____________
(1) النجم : 28 .
(2) الاجتهاد في الشريعة الاِسلامية: 63.
( 146 )
فقال: لا، وكيف يختلفون وهم يردّون إليه ما جهلوه واختلفوا فيه؟!
فقال: وكذلك، لو أقاموا فيه بعده مَن أمَرهم بالاَخذ عنه لم يختلفوا،
ولكنَّهم أقاموا فيه مَن لم يعرف كلّ ما ورد عليه، فَرَدُّوه إلى الصحابة، يسألونهم
عنه، فاختلفوا في الجواب، فكان سبب الاختلاف. ولو كان الجواب عن واحد
والقصد في السؤال عن واحد كما كان ذلك لرسول الله (ص)لميكن
الاختلاف)
(1) .
وجاء في تفسير العيّاشيّ، والخبر طويل نقتطف منه هذا المقطع: (فظنّ
هؤلاء الذي يدّعون أنّهم فقهاء علماء، قد أثبتوا جميع الفقه والدين ممّا تحتاج
إليه الاَُمّة!!
وليس كلّ علم رسول الله عَلِموُه، ولا صار إليهم من رسول الله (ص)
ولاعرفوه.
وذلك أنّ الشيء من الحلال والحرام والاَحكام، يَرِدُ عليهم فيسألون عنه،
ولايكون عندهم فيه أثر من رسول الله (ص)، ويستحيُون أن ينسبهم الناس إلى
الجهل، ويكرهون أن يُسألوا فلا يجيبون، فيطلب العلم من معدنه.فلذلك
استعملوا الرأي والقياس في دين الله، وتركوا الآثار ودانوا بالبدع، وقد قال
رسول الله: (كلّ بدعة ضلالة)، فلو أنّهم إذا سُئلوا عن الشيء من دين الله
فلميكن عندهم منه أثر عن رسول الله ردّوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أُولي
الاَمر منهم، لَعَلِمَهُ الذين يستنبطونه منهم من آل محمّد...)
(2).
وأخرج القاضي نعمان بسنده عن محمّد بن قيس، عن أبيه قال: كنّا عند
الاَعمش فتذاكرنا الاختلاف، فقال: أنا أعلم من أين وقع الاختلاف.
قلت: من أين وقع؟
____________
(1) شرح الاَخبار، للقاضي نعمان 1: 90.
(2) تفسير العيّاشيّ 2: 331 ـ 332 وعنه في وسائل الشيعة 27: 61، والبرهان 2: 476|6
وبحار الاَنوار 5: 297. وفي كتاب (اختلاف أُصول المذهب) للقاضي نعمان، طبعه بدار
الاَندلس بيروت 1973م (... وقد سئل أبو عبد الله جعفر بن محمّد عن علّة اختلاف الناس
بعد رسول الله وكيف يختلفون بعد رسول الله...».
( 147 )
قال: ليس هذا موضع ذكر ذلك.
قال: فأتيته بعد ذلك فخلوت به، فقلت: ذكرنا الاختلاف الواقع، وذكرت
أنّك تعلم من أين وقع، فسألتك عن ذلك، فقلت: ليس هذا موضع ذلك، وقد
جئتك خالياً، فأخبرني من أين وقع الاختلاف.
قال: نعم، وَليَ أمر هذه الاَُمة مَنْ لم يكن عنده علم، فَسُئل فسأل الناس
فاختلفوا
(1).
الصحابة وأخذهم عن الرسول (ص)
وقد أشار ابن حزم وغيره من الاَعلام إلى أنّ الحياة وضنك العيش كانا
لايسمحان للصحابة بالاستزادة من علم الرسول، فقال:
(وقد علم كلّ أحد أنّ الصحابة رضوان الله عليهم كانوا حوالَي رسول الله
بالمدينة مُجتمعين، وكانوا ذَوي معايشَ يطلبونها، وفي ضنك من القُوت شديد
ـ قد جاء ذلك منصوصاً ـ وأنّ النبيّ وأبا بكر وعمر أخرجهم الجوع من بيوتهم
فكانوا بين متحرّف في الاَسواق، وبين من هو قائم على نخله، ويحضر
رسول الله في كلّ وقت منهم الطائفة، إذا وجدوا أدنى فراغ ممّا هم بسبيله. هذا
ما لايستطيع أحد أن ينكره، وقد ذكر ذلك أبو هريرة، فقال: إنّ إخواني من
المهاجرين كان يشغلهم الصَّفق بالاَسواق، وإن إخواني من الاَنصار كان يشغلهم
القيام على نخلهم، وكنتُ امرءاً مسكيناً أصحب رسول الله على ملء بطني، وقد
أقرّ بذلك عمر فقال: فاتَني هذا من حديث رسول الله، ألهاني الصَّفق في
الاَسواق...)
(2).
وجاء عنه أنّه كان يتناوب النُّزول إلى رسول الله للاستزادة منه مع أخ له
نِزاريّ، فيومٌ كان هو ينزل لاَخذ الاَحكام، أمّا اليومُ الآخر فكان حصّة الآخر
النِّزاريّ.
____________
(1) شرح الاَخبار للقاضي نعمان 1: 196.
(2) الاِحكام في أُصول الاَحكام، لابن حزم 2: 254.
( 148 )
وبهذا عرفت أنّ النصوص وضّحت أمراً آخر غير ما هو في مخيلتنا، وهو
أنّ الشيخين كانا يهتمّان بأمر التجارة أكثر من الاستزادة من علم الرسول، وفي
قبال ذلك نرى وجود صحابة قد دعا لهم رسول الله (ص) بالعلم والفهم كقوله
لابن مسعود: إنَّك غلام مُعَلَّم، ودعائه لمعاذ وابن عبّاس بقوله: اللّهمّ فقّهه في
الدين، وغيرهم فمن أُولئك عليّ بن أبي طالب فَقَد نصَّ في أكثر من مرّة على
أنّه عرف جميع علم الرسول واختصّ به، وأنّه كان يخلو برسول الله في اليوم
مرّتين صباحاً ومساء وكان يُناجيه ، حتّى جاء عنه: سَلُوني عن كتاب الله، فإنّه
ليس من آية إلاّ وقد عرفتُ بِلَيلٍ نَزَلت أم بنهار، في سهل أم في جبل.
ولتأكيد الموضوع خُذْ نصوصاً أُخرى:
أخرج البخاريّ، عن عُبَيد بن عُمَير: أنّ أبا موسى استأذن على عمر ثلاثاً،
فكأنّه وجده مشغولاً، فرجع، فقال عمر: ألم تسمع صوت عبداللهبن قيس
ـ يعني به أبا موسى ـ؟ ائذنوا له، فدعي به فقال: ما حَمَلك على ما صنعت؟
قال: إنّا كنّا نؤمر بهذا.
قال: لَتُقِيمَنّ على هذا بيِّنةً أو لاَفعلنّ ـ وفي لفظ آخر: لاَُوجِعَنّ ظهرَك
وبطنك فخرج، فانطلق على مجلس من الاَنصار، فقالوا: لا يشهد لك على هذا
إلاّ أصغرنا.
فقام أبو سعيد: فقال: كنّا نُؤمر بهذا.
فقال عمر: خفي عليّ هذا من أمر رسول الله (ص)، ألهاني عنه الصَّفق
بالاَسواق
(1).
وعلَّق النوويّ على كلام أبي سعيد بقوله: فمعناه أنّ هذا الحديث مشهور
بيننا، معروف لكبارنا وصغارنا، حتّى أنّ أصغرنا يحفظه وسمعه من رسول الله.
وقد أنزل سُبحانه آيات في ذلك منها قوله تعالى: (
فَلاَ تَدْخُلُوها حتّى
يُؤْذَنَ لَكُمْ)
(2)و(
إلاّ أن يُؤْذَنَ)
(3).
____________
(1) مسند أحمد 4: 400، صحيح البخاريّ 9: 133.
(2) النور: 28 .
(3) الاَحزاب: 53.
( 149 )
وأنّ الاستئذان قبل أنْ يكون أمراً إلهيّاً فهو خُلُق إنسانيّ.
وليتني أعرف سبب تهديد أبي موسى بالضرب، وهل التثبُّت في
الحديث يستوجب ذلك؟
فلو لم يشهد أبو سعيد الخدريّ بنهي النبيّ (ص)، وأنّه لم يدخل عليه إلاّ
بعد الاستئذان، فماذا كان يفعل بأبي موسى؟!
أَلا يشكّك هذا الموقف من الخليفة، فيما قيل عن عدالة الصحابة؟
فلو كان أبو موسى صحابيّاً عدلاً، فما معنى التثبُّت؟
ولماذا لا يتأنَّى الخليفة في إصدار أحكامه على الصحابة ولايتثبَّت فيما
يقول؟
ولو تَنَزَّلنْا وقبلنا أنّ الخليفة كان يريد التثبُّت في هذا الخبر، فأيّ معنىً
للخبر الآتي؟!
نقل الدواليبيّ في المدخل إلى علم أُصول الفقه، عن أبي عبيدبن سلاّم
في كتاب «الاَموال» فقال: «أتى أعرابيّ عمرَ، فقال: يا أمير المؤمنين! بلادنا قاتَلْنا
عليها في الجاهليّة وأسلمنا عليها في الاِسلام، علامَ تحميها؟
قال: فأطرق عمر وجعل ينفخ ويفتل شاربه، وكان إذا كربه أمر فَتَل شاربه
ونفخ
(1)، فلمّا رأى الاَعرابيّ ما به جعل يردّد ذلك عليه.
فقال ـ عمر متمسكّاً في ذلك بفكرة المصلحة وحدها، من غير بحث عن
سند من نصّ قرآنيّ أو سُنّة نبويّة ـ : «المال مال الله والعباد عباد الله، واللهِ لولا ما
أحمل عليه في سبيل الله...»
(2).
وأخرج الحاكم في المستدرك والبيهقيّ في السُّنن والقُرطبيّ في تفسيره
____________
(1) في المعجم الكبير 1: 66 رقم الحديث 54، وتاريخ المدينة المنورة 3: 839. واللفظ
للاَوّل : «عن زيد بن أسلم، عن عامر بن عبد الله بن الزبير: إنّ عمر بن الخطّاب كان إذا
غضب فتل شاربه ونفخ».
(2) الاجتهاد في الشريعة الاِسلاميّة للوافي المهدي: 74 عن المدخل إلى علم أُصول الفقه:
ص100 .
( 150 )
عن بجالة: أنّ عمر بن الخطّاب مرّ بغلام وهو يقرأ في المصحف: «النبيُّ أولى
بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أُمّهاتهم، وهو أب لهم».
فقال: يا غلام حُكَّها!
فقال: هذا مصحف أُبيّ.
فَذَهَبَ إليه فسأله.
فقال له أُبيّ: إنّه كان يُلهيني القرآن، ويُلهيك الصَّفْق بالاَسواق، وأغلظ
لعمر
(1).
وفي كنز العمّال: قرأ أُبيّ بن كعب (ولا تَقْرَبُوا الزِّنا إنّه كان فاحشةً ومَقْتاً
وساءَ سبيلا، إلاّ من تاب فإنّ الله كان غفوراً رحيما)، فذُكِر لعمر فأتاه، فسأله
عنها فقال: أخذتُها من فِي رسول الله، وليس لك عمل إلاّ الصَّفْق بالبقيع
(2).
وفي نصّ ثالث: أنّ عمر سمع رجلاً يقرأ بالواو، فقال: مَنْ أقرأك؟
قال أُبيّ.
فدعاه، فقال أُبيّ: أقْرَأنِيه رسولُ الله، وإنّك لتَبيعُ القرظ بالبقيع.
فقال: صدقت، وإن شئت قلت: شهدنا
(3).
وعن إبي إدريس الخولانيّ، قال: كان أُبيّ يقرأ: (إذ جَعَل الذين كفروا في
قُلوبِهمُ الحَميّةَ حميّة الجاهليّة، ولو حميتم كما حموا لفسد المسجد الحرام،
فأنزلَ اللهُ سكِينَتَهُ على رسولهِ) فبلغ ذلك عمر، فاشتدّ، فبعث إليه، فدخل عليه،
فدعا ناساً من أصحابه، فيهم: زيد بن ثابت، فقال: من يقرأ منكم سورة الفتح؟
فقرأ زيد على قراءتنا اليوم، فغلّظ له عمر.
فقال أُبيّ: أأتكلم؟
قال: تكلّم.
____________
(1) المستدرك على الصحيحين 3: 305، السنن الكبرى 7: 69، تفسير القرطبيّ 14:
125ـ 126.
(2) الدرّ المنثور 4: 179، كنز العمّال 2: 568|4744.
(3) الكشّاف 2: 304، المستدرك على الصحيحين 3: 305، الدرّ المنثور 3: 269.
( 151 )
قال: لقد علمتَ أنّي كنت أدخل على النبيّ ويُقرئني وأنت بالباب، فإذا
أحببت أن أقري الناس على ما أقرأني أقرأتُ، وإلاّ لم أقرأ حرفاً ما حييت!
قال: بل أَقْرِىَ الناس
(1).
وفي لفظ آخر: قال أُبيّ: واللهِ يا عمر إنّك تعلم أنّي كنت أحضر وتَغيبون،
وأُدعى وتُحْجَبون ويُصنع لي، واللهِ لئن أحببتَ لاَلزمنّ بيتي، فلا أُحدّث أحداً
بشيء
(2) .
قد يتصوّر القارىَ ـ عند وقوفه على الاَخبار السابقة ـ أنّ أُبيّ بن كعب هو
ممَّن يقول بتحريف القرآن، لاَنّ قراءته تخالف قراءتنا اليوم، وأنّ عمربن
الخطّاب جاء لِيُصَحِّح له قراءته، لكنّ حقيقة الاَمر ليست كذلك، حيث جاء في
صحيح البخاريّ، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب أُبيّ بن كعب ، أنَّ النبيّ قرأ
عليه القرآن، فعن أنس بن مالك قال: قال النبيّ لاَُبي: إنَّ الله أمرني أن أقرأ عليك
(
لم يكن الذين كفروا...) قال: وسمّاني؟ قال: نعم، فبكى.
و إنّ توضيحنا لمثله قد يخرجنا عمّا نريد من الاستشهاد به وهو: أنّ علم
الخليفة لميكن كما حاول البعض تصويره، إذ كان يقضي أغلب أوقاته في
السوق والبقيع، ولميختصّ بالنبيّ ، بل كان يتناوب النُّزول إليه (ص) يوماً
فيوماً، وثبت عنه القول: (وكان يلهيني الصَّفق بالاَسواق) أو قول أُبيّ له (وكان
يُلهيك الصَّفق في الاَسواق)، وفي ثالث (إنّك تَبِيع القَرَْظَ بالبقيع).
إنّ التصريح بهذا الرأي لا يعني الاِزراء بالخليفة، بل هو تبيان للحالة التي
كان يعيشها الخليفة والمسلمون في الصدر الاَوَّل بعيداً عمّا رُسِمَ لهم متأخِّراً من
هالة، والكلام عن أُبيّ وقراءته، له مجال آخَر.
إنَّ ما أُثِرَ عن الخليفة من حنكة في فتوحاته ولياقاته العسكريّة شيء،
وبيان دوره في منع تدوين حديث رسول الله وأمره بحرق المدوّنات شيء
آخر
(3).
____________
(1) الدرّ المنثور 6: 79.
(2) تفسير القرآن العظيم 4: 314.
(3) انظر تاريخ التمدّن الاِسلاميّ لجرجي زيدان ـ «حرق مكتبة الاِسكندريّة».
( 152 )
ونحن في الوقت الذي نُشِيد بالفتوحات الاِسلاميّة لا نرتضي ما أصدره
من أوامر في الاِقلال من الحديث أو منع تدوينه!
نعم، قد خلط الكثير من الاَعلام بين هاتين الناحيتين، فإنّك إذا اعترضت
على دوره في الاِفتاء أجابوك بفتوحاته، إنّ هذا ليدلُّ على تفكير غائم تنقصه
الدقّة والتمييز.
إنّ اللياقة الشخصيّة في الاِدارة العسكريّة، لا تعني بالضرورة القُدرة على
امتلاك ناصية الاِفتاء.
والدفاع عن حياض الدولة وتوسيع رقعة الخلافة، هي ممّا يطلبه الخليفة
وممّا يعود عليه بالنَّفع كما يعود على المسلمين ولا علاقة لهذا بالتكوين الثقافيّ
للشخصيّة، فقد أطبق التاريخ على سموّ ورفعة موقف المعتصم حين استغاثت
باسمه امرأة من المسلمين، لكنّ ذلك لم يمنع التاريخ من أن يشهد بأنّ
المعتصم كان قليل الثقافة لا يملك رصيداً من العلم والفقه.
إلى هنا برزت أسماء آخرين من الذين خالفوا فقه عمر وآرائه في الصدر
الاَوّل الاِسلاميّ، هم:
13 ـ عمّار بن ياسر.
14 ـ أبو سعيد الخدريّ والاَنصار.
15 ـ أُبيّ بن كعب.
( 153 )
المصلحة والنصوص
قال الاَُستاذ خالد محمّد خالد:
لقد ترك عمر بن الخطّاب النصوص الدينيّة المقدّسة من القرآن والسنّة
عندما دَعَتْه المصلحة لذلك، فبينما يقسِّم القرآن للمؤلّفة قلوبهم حظّاً فيالزكاة
ويؤدّيه الرسول ويلتزمه أبو بكر، يأتي عمر فيقول (إنّا لا نعطي على الاِسلام
شيئاً، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر).
وبينا يُجيز الرسول وأبو بكر بيع أمّهات الاَولاد، يأتي عمر فيحرّم بيعهن،
وبينا الطلاق الثلاث في مجلس واحد يقع واحداً بحكم السنّة والاِجماع، جاء
عمر فترك السنّة وحطّم الاِجماع
(1).
قال ابن قُدامة: ولنا كتاب الله وسنّة رسوله؛ فإنّ الله تعالى سمّى المؤلّفة
في الاَصناف الذين سمّى الصدقة لهم، والنبيّ (ص) قال: (إنّ الله تعالى حكم
فيها، فجزّأها ثمانية أجزاء). وكان النبيّ (ص) يعطي المؤلّفة كثيراً في أخبارٍ
مشهورة، ولم يَزَل كذلك حتّى مات.
ولا يجوز ترك كتاب الله وسنّة رسوله إلاّ بنسخ، والنسخ لايثبت
بالاحتمال، ثمّ إنّ النسخ إنّما يكون في حياة النبيّ (ص)؛ لاَنّ النسخ إنّما يكون
بنصّ، ولا يكون النصّ بعد موت النبيّ (ص) وانقراض زمن الوحي، ثمّ إنّ
القرآن لا يُنسخ إلاّ بقرآن، وليس في القرآن نسخ كذلك ولا في السنّة، فكيف
يترك الكتاب والسنّة بمجرّد الآراء والتحكّم؟ فكيف يتركون به الكتاب
والسنّة
(2)؟
____________
(1) الديمقراطيّة أبداً: 155 ـ طبعة المطبعة العموميّة بدمشق.
(2) المغني، لابن قدامة 2: 526.
( 154 )
وقال صاحب المنار: إنّنا نجد دول الاستعمار الطامعة في استعباد جميع
المسلمين وفي ردّهم عن دينهم يخصّصون من أموال دولهم سهماً للمؤلّفة
قلوبهم من المسلمين، فمنهم من يؤلّفونه لاَجل الدخول في حمايتهم ومُشاقّة
الدول الاِسلاميّة والوحدة الاِسلاميّة، أفليس المسلمون أولى بهذا منهم؟!
إن منطق الخليفة عمر بن الخطّاب ليوحي بأنّ سهم المؤلّفة قلوبهم
ينحصر بالذين اعتنقوا الاِسلام منهم، أو هو بعبارة أُخرى معنى آخر لمنطق
المبشِّرين الذين ينطلقون من سياسة إعطاء الغذاء والدواء للناس كي يعتنقوا
النصرانيّة، غافلاً عن أنَّ النبيّ لا يريد بعمله هذا دعوتهم إلى الاِسلام بالمال، بل
يريد أن يهيّىَ قلوبهم ليستقبلوا منه الدعوة، وأن يومنوا إيمان قلب وعقيدة، فهو
(ص) يتألّفهم مرّة بوضعهم على رأس سَرِيّة من السرايا. وأُخرى يتألّفهم
بمشاورتهم في بعض الاَُمور، وثالثة يتألّفهم بالمال، وهكذا.
ولم تختصّ هذه المسألة بضعف الاِسلام وعزّته، بل إنّه (ص) كان يريد
أن يُهيّئهم كي يقبلوا الاِسلام، قبول إيمان وعقيدة لا لقلقة لسان.
وهنا أتساءل: لو صحّ تعليل الخليفة في سهم المؤلّفة قلوبُهم، وأنّ
الاِسلام قد قوي فلا حاجة إليهم إذَنْ، فما معنى ما نقله الدكتور محمّد عجاج
الخطيب في النصّ الآتي:
كان رسول الله قد أمر الصحابة ومن معه يوم الفتح بأن يكشفوا عن
مناكبهم ويُهرولوا في الطواف، ليرى المشركون قوّتهم وجَلَدهم، وقوّة دولة
الاِسلام، ورأى عمر أنّ هذا الاَمر قد ذهبت عِلّته، ولكنّه قال: فيم الرَّمَلان الآن
والكشف عن المناكب، وقد أطَّأَ الله الاِسلام ونفى الكفر وأهله؟!
ومع ذلك لا ندع شيئاً كنّا نفعله على عهد رسول الله
(1).
فالخليفة إمّا من المتعبّدين ـ كما يوحي هذا النصّ ـ وإمّا من المجتهدين
الذين قد تعرّفوا المصالح كما ثبت ذلك عنه، فلو كان من المتعبّدين فلِمَ لايأخذ
بفعل الرسول في سهم المؤلّفة قلوبهم؟! وإن كان من المجتهدين، فما الذي
____________
(1) السنّة قبل التدوين: 86 عن مسند أحمد 1: 297 ح317 بإسناد صحيح.
( 155 )
يرجّح في اجتهاده هذا على ذاك؟!
هذا، وقد أفردت الدكتورة نادية العمريّ للطلاق ثلاثاً بحثاً في (أمثلة من
اختلافهم في الاجتهاد بالرأي) من كتابها «اجتهاد الرسول»، فقالت:
«الاَصل في الطلاق أن يكون متفرّقاً، مرّة بعد مرّة، قال الله تعالى:
(
الطلاقُ مرّتان فإمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان)
(1) والحكمة في
تفريق الطلقات أن يكون للزوج فرصة يراجع فيها نفسه في أمر هذه العلاقة
التي يحرص الشارع على استمرارها، وبعد المرّتين يقول الله تعالى (
فإنْ
طلّقها، فلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتّى تَنْكِحَ زَوْجَاً غَيْرَهُ)
(2)
هذا هو الطلاق كما شرّعه الله في القرآن، مفرَّقاً واحدة بعد واحدة، لكن
ما الحكم إذا ضيّع الزوج على نفسه هذه الفرصة المتكرّرة، وتعجّل الفراق
النهائيّ، فجمع الثلاث في لفظ واحد.
إنّنا لا نجد في القرآن الكريم كلاماً عن جمع الثلاث في لفظ واحد أو
مجلس واحد، لكنّا نجد في السنّة أنّ ركانة بن عبد يزيد طلّق امرأته ثلاثاً
فيمجلس واحد، فحزن عليها حزناً شديداً، فسأله الرسول: كيف طلّقتها؟
قال: ثلاثاً.
قال (ص): في مجلس واحد؟
قال: نعم.
قال الرسول: فإنّما تلك واحدة، فأرجعها إن شئت، فراجَعَها
(3).
ولكنّ الناس في عهد عمر بن الخطّاب استهانوا بأمر الطلاق، وكثر منهم
إيقاعه جملة واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم...»
(4).
إلى أن تقول.
____________
(1) البقرة : 229.
(2) البقرة : 230.
(3) بداية المجتهد 2: 50، أعلام الموقّعين 3: 32، نيل الاَوطار 7: 16 ـ 20.
(4) اجتهاد الرسول: 240.
( 156 )
«ولكن هل أفتى العلماء بمقتضى ما فعله عمر2 على مرّ العصور؟
وافق كثير من العلماء عمر2 وخالفه آخرون
(1).
وأعتقد أنّ مصالح الناس هي الحكم في ذلك، فإذا رأى أُولو الاَمر ـ كما
رأى عمر أنّ إمضاءها ثلاثاً يحقّق المصلحة أمضَوها، وإن رأوا المصلحة العامّة
في إيقاعها واحدة فهي واحدة كما كانت حتّى سنتين من خلافة عمر.
ولذا ذهب ابن القيّم: إلى أنّ إيقاعها واحدة في العصور المتأخّرة أكثر
مراعاة للمصلحة، وقطعٌ لذريعةِ فسادٍ اجتماعيّ وهو انتشار التحلّل حين كان
يفتي بوقوعها ثلاثاً، فيلجأ الزوجان «إلى ما كان عليه في زمن النبيّ (ص)
وخليفته منالاِفتاء بما يعطّل سوق التحليل أو يقلّلها أو يخفّف شرّها
(2).
ويقارن ابن القيّم بين العصور المختلفة واختلاف المصلحة باختلاف
ظروف الناس، فيقول: إنّ الثلاث مجموعة على عهد رسول الله وأبي بكر كانت
تقع واحدة، وكان التحليل محرّماً وممنوعاً منه، ثمّ صارت في بقيّة خلافة عمر
ثلاثاً، والتحليل ممنوع منه، ثمّ صار التحليل كثيراً منتشراً ومشهوراً، والثلاث
ثلاث. العقوبةُ إذا ترَكَت مفسدةً أكثر من الفعل المعاقب عليه وجب تركها»
(3).
وقد أثّر اجتهاد الخليفة عمر بن الخطّاب في فقه المسلمين لامحالة.
فذهبت المالكيّة والحنابلة إلى أنّ فاعل هذا [أي الطلاق ثلاثاً] آثم يفوّت
الغرض الذي من أجله شرّع التعدّد، ويرى الشافعيّ وابن حزم أنّ ذلك خلاف
الاَولى وليس محظوراً لعموم النصّ، ويرى الحنفيّة أنّه طلاق بدْعيّ إذا كان بلفظ
واحد أو بألفاظ متفرّقة في طُهر واحد
(4).
وقال الدكتور مصطفى البغا، بعد نقله رأي عمر في الطلاق: فهذا ممّا
تغيّرت به الفتوى لتغيّر الزمان، وعلم الصحابة حسن سياسة عمر وتأديبه لرعيتة
____________
(1) انظر تفسير القرطبيّ 3: 129.
(2) أعلام الموقّعين 3: 48.
(3) اجتهاد الرسول: 242.
(4) مناهج الاِسلام للدكتور مدكور: 177.
( 157 )
في ذلك فوافقوه على ما ألزم به وصرحوا لمن استفتاهم بذلك
(1).
والآن أتساءل: كيف يعرف عمر المصلحة ويقف على روح التشريع في
المؤلّفة قلوبهم، وقد وقفتَ على أجوبة ابني قدامة وصاحب المنار له؟!
وهل يصحّ أن يعرف الخليفة المصلحة ولا يعرفها النبيّ والصدّيق؟!
أم هل يعقل جهلهما بالمصالح، خصوصاً بعد ملاحظة أنّ النبيّ متّصل
بالوحي؟! وإذا سمح للبشر ـ غير المعصوم ـ الاِفتاء بتغيّر الزمان والمكان فإلى
اين ستصل فتاواه؟!
نعم إننا لا ننفي تغيّر بعض الاَحكام الجرئيّة إذا زاحم أمراً آخر أهمَّ منه.
وكذا لاننكر ـ بنحو الاِطلاق ـ تبدّل الاَحكام لتبدّل موضوعاتها، لكنّ
سؤالنا: كيف يمكن الاطمئنان بقول من يدّعي أنّ هذا الحكم قد تغيّر لتبدلّ
موضوعه، مع علمنا بأنَّ مبادىَ الاَحكام وغاياتها من عند الله ولايعرفها إلاّ
المعصوم؟
بلى؟ لو عرفنا المعصوم تبدّل موضوع حكم، فلا محيص عن الاَخذ به
باعتباره صادراً عن الله وما المعصوم إلاّ مبلّغ مأمون، وأمّا احتمالنا ذلك عن
طريق الحدس والتخمين فلا يوجب الاطمئنان، وكذا الحال بالنسبة إلى اعتبار
العلّة في الاَحكام، فإنّها في الغالب حكمة وليست بعلّة تامّة، فمثلاً قولنا في
تحريم الزنا إنّه جاء لاَجل عدم اختلاط المياه، فهذا القول ليس بعلّة الحكم فيه
بل هو الحكمة فيه، والحكمة في العدّة، هي عدم اختلاط المياه كذلك، وقد
وردت هذه فيروايات كثيرة، ولكن ماذا نقول: لو رفع رحم المرأة بعمليّة
جراحيّة، أو علمنا يقيناً أنّها عقيم، هل يجب عليها الاعتداد أم لا؟!
نعم يجب ذلك، لاَنَّ الله فرض ذلك لمصلحة ملحوظة في اللوح
المحفوظ لميطّلع عليها البشر، فمن المجازفة والتساهل بأحكام الله القول
بعدملزوم العدّة، بدليل أنّ العلّة المتخيّلة ـ هي عدم اختلاط المياه ـ قد انقضت
____________
(1) أثر الاَدلّة المختلف فيها في الفقه الاِسلاميّ: 277 وقال بها أغلب علماء أهل السنّة قديماً
وحديثاً.
( 158 )
في الفرض المذكور.
ولا يفوتنا القول بوجود علل منصوصة في التشريع كالاِسكار في الخمر
مثلاً، فمتى وجدت فيه علّة الاِسكار حرم ومتى ارتفعت حلّ، لكن أين هذا ممّا
كان يقدم عليه الشيخان، من إطلاق أحكام ليس لها وجود أو نراها تتعارض مع
أحكام موجودة ثابتة في الذكر الحكيم، فنراه يضيّق دائرة حكم أو يوسّعه في
حين آخر بتصوّر وجود مصلحة في جعل الحكم الفلاني أو مفسدة في إلغاء
الحكم الفلاني، في حين نعلم أنّ هذا لا يمكن أن يصدر إلاّ ممّن له إحاطة تامّة
بكلّ مبادىَ الاَحكام وغاياتها ومن اختصّه الله بعلمه، والخليفة لميختصّ بذلك
لما عرفت، وإنّه بتشريعه الطلاق ثلاثاً أو رفعه سهم المؤلّفة قلوبهم أو المنع من
المتعة، كان يريد منعها إلى الاَبد لما رأى فيها المصلحة الوقتيّة، ولميكن منعه
وقتيّاً ليقال إنّه بالعنوان الثانويّ وإنّ ذلك من صلاحيّات الخليفة.
ولو سلّمنا أنّ الاَحكام تتغيّر بتغيّر المصالح.. فأين المصلحة في مثل هذه
الاَحكام؟ ومن هو الذي يحدّدها؟ وهل جاءت الاَحكام طبق الهوى والرأي، أم
طبق التعبّد والدليل؟ فلو كان فيه نصّ ودليل، فما هو هذا النصّ والدليل؟
قال الشيخ خلاّف في (علم أُصول الفقه) عند ذكره شروط المصالح
المرسلة، وهي ثلاثة:
أوّلها: أن تكون مصلحة حقيقيّة وليست مصلحة وهميّة. والمراد بهذا أن
يتحقّق من أنّ تشريع الحكم في الواقعة يجلب نفعاً أو يدفع ضرراً، وأمّا مجرّد
توهُّم أنّ التشريع يجلب نفعاً من غير موازنة بين ما يجلبه من ضرر فهذا بناء
على مصلحة وهميّة.
ثانيها: أن تكون مصلحة عامّة وليست مصلحة شخصيّة. والمراد بهذا أن
يتحقّق من أنّ تشريع الحكم في الواقعة يجلب نفعاً لاَكبر عدد من الناس، أو
يدفع ضرراً عنهم، وليس لمصلحة فرد أو أفراد قلائل منهم، فلايشرّع الحكم
لاَنّه يحقّق مصلحة خاصّة بأمير أو عظيم، بصرف النظر عن جمهور الناس
ومصالحهم، فلابد من أن تكون لمنفعة جمهور الناس.
ثالثها: أن لا يعارض التشريع لهذه المصلحة حكماً أو مبدأً ثبت بالنصّ أو
( 159 )
الاِجماع
(1).
بعد هذا نقول: هل ما قاله عمر كان يجلب النفع لاَكبر عدد من الناس أو
يدفع الضرر عنهم، مع معرفتنا بملابسات الحياة ومشاكلها ومافيها من ضغوط
توفّر إمكان تخطّي المرء ما كان يألفه؟
فلو ضيّع الزوج على نفسه هذه الفرصة المذكورة، وتعجّل الفراق
النهائيّ، فجمع الثلاث بلفظ واحد ـ حسب قول الدكتورة نادية ـ فهل يجب عليه
أن يرضخ لحكم عمر وتَبِين زوجته معه؟ مع أنّا قد عرفنا بأنَّ الدكتورة قد
صرّحت: بأنّ الحكمة في تفريق الطلقات إنّما هو من أجل أن يراجع الزوج
نفسه، وقولها: هذا هو الطلاق كما شرّعه الله في القرآن، مفرّقاً واحدة بعد
واحدة
(2).
لكن ماذا نقول للذين يعلمون بأنّ الحكمة في تفريق الطلقات وأنّه من
أجل أن يراجع الزوج نفسه،ثمّ يقولون إنّ الطلاق ثلاثاً قد صدر عن مصلحة؟!
إنّه التعصّب ولا ريب، إذ كيف يمكن أن تُجعل الحكمة في التفريق وتذهب في
الوقت نفسه إلى أنّ ما قاله الخليفة عمر بن الخطّاب جاء عن مصلحة؟!
نعم، إنّها قالت بهذا القول وهي تعلم أنّ الحكم قد رجع إلى عمر، لاإلى
القرآن ولاإلى السنّة.
وبعد هذا هل يمكن لاَحد أن يقول: إنّ حكم الخليفة مستقىً من القرآن؟!
أو إنّ تشريعه لم يخالف النصّ بعد أن عرفنا أنّ المصلحة التي ارتضاها الخليفة
قد خالفت القرآن؟!
إنّ كلمة (ثلاثاً) لا توجب البينونة؛ لتخالفها مع الشرع والعقل، وهي
بمنزلة القول: إنّ كلمة (خمساً) أو (سبعاً) بعد (الله أكبر) تكفي في صلاة
العيدَين دون أدائها على التعاقب.
وكذا القول (سبحان الله، مائة مرّة) إنّها تمنح قائلها ثواب تكرارها مائة
____________
(1) علم أُصول الفقه، لعبد الوهّاب خلاّف: 86 ـ 89.
(2) اجتهاد الرسول: 240.
( 160 )
مرة؟
ومثله القول: (أشهد أن لا إله إلاّ الله، مرّتين» تكفي عن ترديدها في الاَذان
مرّتين!
وكذا رمي الحصيات السبع مرّة واحدة إنّها تكفي في رمي الجمرات!
ومثله الشهادات الاَربع في اللعان. وهكذا، حتّى ينجرّ الاَمر إلى سائر
الاَحكام.
وقد صرّح أكثر من واحد من الاَعلام بأنّ الطلاق مرّتان يقتضي التفريق،
قال الجصّاص في شرحه للآية: «الطلاق مرّتان»، وذلك يقتضي التفريق
لامحالة، لاَنّه لو طلّق اثنين معاً لما جاز أن يقال: طلّقها مرّتين، وكذلك لو دفع
إلى رجل آخر درهمين لم يَجُز أن يقال: أعطاه مرّتين حتّى يفرّق الدفع، فحينئذٍ
يُطلق عليه.
وإذا كان هذا هكذا، فلو كان الحكم المقصود باللفظ هو ما تعلّق
بالتطليقتين من بقاء الرجعة لاَدّى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المرّتين، إذ كان هذا
الحكم ثابتاً في المرّة الواحدة إذا طلّق اثنتين، فثبت بذلك أنّ ذكره للمرّتين إنّما
هو أمرٌ بإيقاعه مرّتين ونهي عن الجمع بينهما في مرّة واحدة
(1).
نعم، قد أثّر فقه الخليفة في الاَحكام، والكلّ يعرف أنّ الخليفة عمربن
الخطّاب جعل الحكم تابعاً للمصلحة التي يرتأيها ويتصوّرها أو يصوّرها على
أنّها علّة تامّة يكون الحكم تابعاً لها ومرتّباً عليها، فتراه يغيّر الحكم تبعاً لتغيّر
مايراه مناسباً من المصالح دون المصالح الواقعيّة التي لايحيط بها إلاّ الله.
قال الدكتور مصطفى البغا عند ذكره لاَدلّة الاستصلاح: إنّ الصحابة
«شرّعوا لهذه الحوادث من الاَحكام ما رأوا أنّ فيه تحقيق المصلحة ممّا يجلب
النفع أو يدفع الضرر، حسبما أدركته عقولهم، واعتبروا ذلك كافياً لبناء الاَحكام
والتشريع، وحوادثهم في ذلك كثيرة ومشهورة»
(2).
____________
(1) أحكام القرآن للجصّاص 1: 378.
(2) أثر الاَدلّة المختلف فيها للدكتور بغا: 54.
( 161 )
وقال الوافي المهدي: لمّا توالت الفتوحات الاِسلاميّة في عصر الخلفاء،
وعلى الاَخصّ في عهد عمر، وخضع لنفوذهم أُمم شتّى لها حضارات مختلفة،
ممّا جعلهم يواجهون مشاكل معقّدة لا عهد لهم بها من قبل، سواء في الناحية
العسكريّة أو الماليّة، أو الاَحوال الشخصيّة، أو الجنائيّة وغيرها، وهذا ممّا
جعلهم يلجؤون إلى استعمال القياس حيث لا نصّ من كتاب ولا سنّة. وكانت
طريقتهم في الاجتهاد اللجوء إلى كتاب الله، ثمّ إن لم يجدوا فيه نصّاً التجأوا إلى
السنّة النبويّة، فإن لم يحضرهم شيء ممّا أُثِر عن رسول الله (ص) استشاروا
حفّاظ الصحابة، هل يحفظون في القضيّة النازلة بهم شيئاً عن رسول الله (ص)؟
فإن لم يوجد لجؤوا إلى الرأي، وسيأتي أنّ عمر كان يسأل: هل ثبت شيء في
القضيّة النازلة بهم عن أبي بكر؟
والرأي الذي استعملوه ينتظم فيه القياس والاستحسان، والمصلحة
المرسلة وسدّ الذرائع. وفي هذا العصر ظهر مصدر جديد من مصادر التشريع
الاِسلاميّ لم يُعرف في العهد التأسيسيّ للتشريع، ألا وهو الاِجماع ، فإنّ أبابكر
كان يشرّع فيما لا نصّ فيه من كتاب ولا سنّة عن طريق جمعيّة تشريعيّة،
وكذلك الاَمر بالنسبة لاَوّل خلافة عمر. وكان ما يصدر عن تلك الجمعيّة
التشريعيّة من أحكام يعتبر صادراً عنهم جميعاً
(1).
وقال: «وخلاصة القول أنّ الصحابة كانوا يرجعون إلى الرسول في
الاَغلب الاَعمّ، حينما كان على قيد الحياة. أمّا حينما التحق بالرفيق الاَعلى فقد
أصبح هذا المرجع مفقوداً، وهذا ما جعل اجتهادهم بعد موته (ص) يدخل في
مرحلة أعظم وطور أخطر. قال الاَُستاذ مصطفى الزرقاء: فشأنهم في حياة
الرسول استماع واتّباع واستفتاء منه فيما يشكل عليهم. وبتعبير آخر: اعتماد
على الرسول في الفهم والتوجيه في كلّ شيء.
أمّا بعد وفاته عليه السلام فقد انتقلوا فجأة من طور الاعتماد إلى طور الاجتهاد؛
لزوال ذلك المرجع، وحلول مخلّفاته الدستوريّة ـ القرآن والسنّة ـ محلّ بياناته
الشفهية، فتولّدت من ذلك الحين ضرورة إلى الاجتهاد لامناص منها تجاه
____________
(1) الاجتهاد في الشريعه الاِسلاميّة للوافي المهدي: 46.
( 162 )
طوارىَ الحوادث، ولاحدود ولا أمد كان لها»
(1).
فالاجتهاد هو الغطاء الذي احتمى به السلف، وكان في نفس الوقت
المبرّر للخلف عمّا فعله السلف! ولو راجعت أبواب المصالح المرسلة لرأيتها
دوّنت كي تصحّح فعل الصحابة، فقد حملوا عهد أبي بكر لعمر بالخلافة ـ مع
قولهم بأنّ النبيّ لم يخلّف ـ على أنّه جاء لمصلحة المسلمين والحفاظ على
وحدة كلمتهم. وكذا الحال بالنسبة إلى حرق عثمان المصاحف، فقالوا: إنّها
جاءت لجمع الناس على مصحف واحد؛ درءاً للاختلاف، ومثله الكثير.
إنّ القول بالمصالح المرسلة إنّما كان ـ إذن ـ لتصحيح أفعال وفتاوى
الصحابة والمطالع في أُصول فقه العامّة يعلم أنّ المصالح المرسلة ليست من
الاَُصول الذاتيّة في هذا الفقه ولم يشذّ عن هذا، إلاّ مالك فإنّه هو الوحيد الذي
اعتبرها أصلاً مستقلاًّ، فقد قسّموا المصالح إلى ملغاة ومرسلة ومعتبرة،
والاَخيرة إلى ضروريّة وحاجّيّة وتحسينيّة وفرّعوا عليها الفروع والاَحكام.
مفردات اجتهاديّة
والآن لنرجع إلى مواقف الخليفة في الاَحكام لنرى إن كانت اجتهاداته قد
انتهت عند هذا الحدّ أم أنّ له آراء أُخرى ذهبت إلى أبعد من ذلك؟
والواقع أنّنا الآن في غنى عن التفصيل في هذا الموضوع، بيد أنّ تجلية
رؤيتنا في مسألة منع الحديث تقود بالضرورة إلى بيان الجانب الفقهيّ للخليفة،
ومدى المفردات وأُمّهات المسائل الفقهيّة التي استفاد فيها من الرأي المحض
والاجتهاد.
فمن ذلك: أنّ عمر بن الخطّاب شرّع صلاة التراويح وقال عنها: نِعْمَت
البِدعة هذه
(2)!
____________
(1) الاجتهاد في الشريعة الاِسلاميّة: 69 ـ 70 وقد أخذ كلام الدكتور الزرقاء من الفقه
الاِسلاميّ في ثوبه الجديد 1: 167.
(2) صحيح البخاريّ 3: 58، تاريخ المدينة 2: 713، الرياض النضرة 1: 309، تاريخ
اليعقوبيّ 2: 140.
( 163 )
وأضاف في أذان الصبح (الصلاة خير من النوم)، لمجرّد إعجاب الخليفة
بها حين سمعها من أحد الصحابة. وبالمقابل حذف «حيّ على خير العمل» من
الاَذان معلّلاً ذلك بأنّ هذه الجملة ستمنع المسلمين من الجهاد، ونهى عن
البكاء على الميّت
(1)، وجعل علامة البلوغ ستّة أشبار
(2)، مع أنّ الثابت عن
رسول الله (ص) هو قوله: (والغلام حتّى يحتلم)
(3)، وقال بعدم توريث الاَعاجم
إلاّ مَن ولد في العرب
(4)مع أنّ الرسول الاَكرم محمّد (ص) يقول: (لافضل
لعربيّ على أعجميّ إلاّ بالتقوى)
(5)ويقول الله سبحانه وتعالى: (
إنّ أكرمكم
عندالله أتقاكم)
(6)واختلفت الاَحكام عنده في حدّ شارب الخمر، فتارة يجعله
ثمانين جَلدة
(7)، وأُخرى يجعله ستّين! ويقول لمطيع الاَسود: أَقِضَّ عنه
بعشرين، أي اترك العشرين الباقية لشدّة ما أوجعته
(8). وجاء عنه أنّه صلّى
المغرب فترك القراءة، فلمّا انقضت الصلاة قيل له: تركت القراءة!
قال: كيف كان الركوع والسجود؟
قالوا: حسناً.
قال: لا بأس
(9).
في حين صحَّ عن النبيّ أنّه قال: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب
(10).
____________
(1) صحيح البخاريّ 2: 102، صحيح مسلم 2: 238، الاِجابة للزركشيّ: 67، تاريخ
المدينة 2: 676 و3: 905.
(2) نقله الاَمينيّ في الغدير 6: 171 عن كنز العمّال (ابن أبي شيبة، وعبد الرزّاق ومسدّد وابن
المنذر في الاَوسط).
(3) مسند أحمد 6: 100، 101، المستدرك على الصحيحين 2: 59.
(4) الموطّأ 2: 502|14.
(5) مسند أحمد 5: 411.
(6) الحجرات: 13 ، وانظر مجمع الزوائد 3: 273.
(7) السنن الكبرى 8: 318 ـ 319. انظر المحلّى .
(8) السنن الكبرى 8: 317 ـ 318 ، شرح النهج 12: 137 الطبعة القديمة ـ خطبة 223،
الفائق 3:229.
(9) السنن الكبرى 2: 347 ـ 381.
(10) مسند أحمد 5: 314، سنن أبي داود 1: 217|822، سنن الترمذيّ 1: 194،
156|247، النسائيّ 2: 137|38.
( 164 )
وجاء عن عمر أنّه ضرب ابنَيه لتكنّيهما بأبي عيسى وأبي يحيى، معلّلاً أنّ
عيسى ويحيى ليس لهما أب
(1).
وعن هشام بن عروة عن أبيه: أنّ عمر بن الخطّاب قرأ آية السجدة وهو
على المنبر يوم الجمعة فنزل فسجد، وسجد الناس معه ثمّ قرأها يوم الجمعة
الاَُخرى، فتهيّأ الناس للسجود، فقال: على رسلكم، إنّ الله لم يكتبها علينا إلاّ أن
نشاء، فلم يسجد، ومنعهم أن يسجدوا
(2).
والمطالع في كتب الفقه يقف على رواسب هذا الحكم وامتداداته في
الفقه الاِسلاميّ ـ في أحد مدارسه الفقهيّة ـ.
فقد اختلفوا في حكم سجود التلاوة: أهو واجب أم سنّة؟
قال مالك
(3) والشافعيّ
(4)وأحمد
(5): هو سنّة، أو فضيلة عند مالك
وليسبواجب.
أمّا أبو حنيفة
(6)فقد خالفهم وذهب إلى أنّه واجب.
قال الزرقانيّ في شرحه على الموطّأ
(7): هو سنّة أو فضيلة؟ قولان
مشهوران. وقد روى في ذلك حديثاً عن أبي هريرة: أنّ رسول الله قرأ بالنجم
فسجد وسجد الناس معه إلاّ رجلَين
(8).
____________
(1) المصنّف لعبد الرزّاق 11 : 42 ، سنن أبي داود 4 : 291 | 2963 ، السنن الكبرى
9:310، تيسير الوصول 1: 47|7، شرح النهج 12: 44، وفي الطبقات الكبرى
5:69:
عن عمر بن الخطّاب أنّه جمع كلّ غلام اسمه اسم نبيّ ، فأدخلهم الدار ليغيّرَ أسماءهم،
فجاء آباؤهم فأقاموا البيّنة أنَّ رسول الله سمّى عامّتهم ، فخلّى عنهم....
(2) مناظرات في الشريعة الاِسلاميّة بين ابن حزم والباجيّ: 297 عن الاَحكام لابن حزم.
(3) المغني1: 688 والشرح الكبير1: 816 والمجموع4: 61.
(4) الاَُمّ 1: 119.
(5) المجموع4: 61.
(6) المجموع4: 61 والمبسوط للسرخسيّ2: 4.
(7) 2: 194.
(8) انظر أثـر الاَدلّـة المختلف فيهـا: 355 ، سـنن الدارمـيّ 1 : 342 ، سـنن ابـي داود
2:59|1406.
( 165 )
وعن زيد بن ثابت أنّ رسول الله قرأ بالنجم فلم يسجد فيها
(1).
وفي آخر عنه (ص): السجدة على من سمعها وعلى من تلاها
(2). وإلى
غيرها من الاَحاديث التي وُضعت لتصحيح مواقف الخليفة وماتذهب إليه
المذاهب.
ولو راجع الباحث أثر قول الصحابيّ في الاَحكام لعرف الكثير الكثير
(3)،
ومنها حكم هذه المسألة التي نحن بصددها؛ إذ استدلّ مالك على أنّها سنّة،
لترك عمر السجود فيها بمحضر الصحابة، ولم ينكر عليه أحد ولمينقل عن
أحد منهم خلاف، وهم أفهم بمغزى الشرع وأقعد بفهم الاَوامر الشرعيّة
(4)!!
قال الدكتور محمّد سلاّم مدكور، بعد ذكره للروايات المجيزة للاجتهاد
في عصر الرسول:... والواقع أنّ شيئاً من ذلك لا يدلّ على أنّ أحداً غير الرسول
(ص) بما يوحى إليه، له سلطة تشريعيّة في ذلك العهد، لاَنّ هذه الجزئيّات:
منها ما صدر في حالات خاصّة يتعذّر فيها الرجوع إليه ـ عليه الصلاة والسلام ـ
لبعد المسافة أو خوف فوات الفرصة، ومنها ما كان القضاء منها أو الاِفتاء مجرّد
تطبيق لاتشريع. ونستطيع أن نقول: إنّ الرسول على مقتضى هذه النظريّة نفسها
لميكن بحاجة إلى هذا المعنى من الاجتهاد.
إلى أن يقول: أمّا بعد انتقال الرسول (ص) من الحياة الدنيا، وفي عصر
الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ الذي ينتهي بنهاية القرن الهجريّ الاَوّل قد
عرضت لهم بسبب التوسّع والفتح واتّساع رقعة الدولة الاِسلاميّة مسائل جديدة
لميكن لهم بها عهد، وقد انقطع الوحي فكان لا مناص من مواجهة الاَحكام
الفقهيّة للاَحداث والنوازل في دولة ناشئة سريعة النموّ تضمّ أقطاراً وأجناساً
____________
(1) سنن النسائيّ 2: 160، سنن الدارميّ1: 343، سنن أبي داود 2: 58|1404.
(2) انظر أثر الاَدلّة المختلف فيها: 355.
(3) انظر أثر الاَدلّة المختلف فيها في الفقه الاِسلاميّ من ص353 إلى 433 مثلاً.
(4) أثر الاَدلّة المختلف فيها: 355 عن المغني 1: 446، بداية المجتهد 1: 214، الزرقانيّ
على الموطّأ 2: 194 ـ 196.
( 166 )
مختلفة
(1).
وعليه فقد عرفنا أنّ الخليفة كان يعتمد في فتاواه على محض الرأي دون
نصّ من القرآن أو فعل من النبيّ، بل كان يخالف أحياناً بفتواه صريح القرآن كما
في آية الطلاق وأمر النبيّ ـ كما في قضية الرجل المتنسّك ورزيّة يوم الخميس ـ
لما رآه من مصلحة!
ولو سلّمنا بحجّيّة رأي الصحابيّ وأنّ الصحابة جميعاً عدول فإنّ ذلك
لايقتضي العمل بما يقولون وإن خالف النصّ الصريح. وأقصى ما يمكن أن
يقال فيه هو كان عليه أن يلتزم بما يراه فيكون منجّزاً ومعذّراً له وليس على
الآخرين أن يلتزموا بما التزم هو به.
واللافت للنظر أنّ الخليفة كان يفتي قبل تصفّح الكتاب العزيز ومراجعة
السنّة المطهّرة، فضلاً عن استفراغ الوسع وبذل الجهد في تحصيل الحكم
الشرعيّ منهما.
فإرادة الخليفة رجمَ المرأة التي ولدت لستّة أشهر مع وجود آيتين في
كتاب الله، تدلاّن بالتأمّل على شرعيّة حملها وولادتها..
وكذا اقتراحه تجريدَ الكعبة من كسوتها، ومخالفة شيبة بن عثمان
وأُبيّبن كعب له وقولهما: إنّ رسول الله والصدّيق كانا أحوج منك إليها.
وكذا جهله بحكم تزويج المرأة في عدّتها، وإرادته رجم المجنونة
الزانية، والتباس وجه الحيلة عليه في قضيّة المرأة التي اتّهمت الشابّ بمراودتها
عن نفسها، وغيرها من النصوص المارّة الذكر سابقاً.. كلّها لَتؤكد على أنّ
الخليفة كان يفتي دون استحضار ذهنيّ لآيات الذكر الحكيم والسنّة المطهّرة، ثمّ
يريد أن يتعبّد الصحابة بفتواه، خلافاً لما ثبت وصحّ عندهم.
فلو صحّ القول بحجّيّة رأي الصحابة للزم عمر أن يأخذ بمرويّات
الآخرين كذلك، خصوصاً في المسائل التي ليس عنده أثر فيها عن رسول الله،
كما يلزمه الاَخذ بفتاوى الآخرين وآرائهم لاَنّها حجّة حسب فرضه، ولايحقّ له
____________
(1) مناهج الاجتهاد في الاِسلام: 43 ـ 44.
( 167 )
إلزامهم بالتعبّد برأيه وحده.
إنّه لَيحقّ للمطالع بعد هذا أن يتساءل: كيف يجوز للخليفة أن يهدّد عمّاراً
وأُبيّاً وأبا موسى الاَشعريّ وغيرهم؟! فيقول لاَبي موسى: (والله لتقيمنّ عليه
بيّنة) أو (أقم عليه البيّنة وإلاّ أوجعتُك)، ويقول لاَُبيّ: (لتخرجنّ ممّا قلت،
فجاء يقوده حتى أدخله المسجد...)، ولابن مسعود: (ما هذا الحديث الذي
تكثرونه عن رسول الله؟!)، ويقول لاَبي هريرة: (لتتركنّ الحديث عن
رسول الله أو لاَُلحقنّك بأرض دوس)، وضربه تميمَ الداريّ بالدرّة.
نعم، قال علماء أهل السنّة والجماعة بعدم لزوم اتّباع الصحابة الاَوائل
بعضهم للآخر
(1) من أجل أن يعذّروا عمر ويبرّروا فعله معهم، وليحدّوا من
تأثير مخالفات الصحابة للخليفة!
ويظهر من النصوص المتقدّمة أنَّ عدم لزوم الاتّباع إنَّما هو لمن خالف
الخليفة من الصحابة، وأمّا من وافقه فإنَّهم أضفوا عليهم هالة من القدسيّة
والعظمة بحيث لم يقبلوا خطأ أحد الخلفاء أو أتباعهم ، حتّى أنّهم جعلوا من
سيرة الشيخين مصدراً تشريعيّاً لا يقبل النقاش ، مع ذهابهم إلى عدمعصمة
أُولئك الصحابة!!
إنّ الخليفة بتأكيده على القياس كان يريد تصحيح اجتهاداته، وبإصراره
على الرأي كان يريد الانطلاق من موقعيّة عليا في الدولة الاِسلاميّة، فتراه يقف
موقف المشرّع الذي لا يتراجع عمّا أفتى به، اللّهمّ إلاّ إذا عورض بتيّار فكريّ
قويّ، ونُقِد كلامه بآية قرآنيّة أو حديث عن رسول الله متّفق عليه بين المسلمين،
فيرضخ عند ذلك لحكم الوحي ويتراجع عن رأيه!
وبنظري أنَّ القول بالتصويب في الاَحكام الشرعيّة عند مدرسة الخلفاء
جاء من هذا المنطلق.
ومن هذا كلّه نخلُص إلى أنّ القول بحجّيّة كلام الصحابيّ وأنّ للخليفة
الاِفتاء طبق ما يراه مصلحة، كان المنطلق والنهاية في مدرسة الخلفاء.
____________
(1) انظر أثر الاَدلّة المختلف فيها، للدكتور بغا: 339.
( 168 )
وعليه فقد اتّضحت لنا لحدّ الآن أُمور، هي:
1 ـ عدم اختصاص الشيخين بميزة ترفعهما عن غيرهما .
2 ـ انقسام المسلمين ـ بعد رسول الله ـ إلى نهجين فكريّين .
3 ـ سعي الخليفة عمر بن الخطّاب في إخضاع الآخرين لرأيه.
4 ـ عدم حجّيّة قول الصحابة ، لمخالفة عمر لآرائهم ومخالفتهم إيّاه في
عدّة موارد.
5 ـ الخدش فيما قيل عن نظريّة عدالة الصحابة ، لتكذيب الخليفة لهم
وعدماطمئنانهم إلى قوله وكذا العكس.
6 ـ إمكان مناقشة الصحابة فيما بينهم، والقول بعدم جواز ردّهم جاء
لتصحيح ما وقع في الصدر الاَوّل من الاختلاف في فتاواهم، وعدّ ذلك من
الرأي الممدوح!
7 ـ بطلان ما أسّسوه من أُسس للاجتهاد، كالقياس والاستحسان
والمصلحة؛ لكونها قد أُسّست لاحقاً ولضرورات وقتيّة، فلم ينصّ عليها كتاب
ولاسنّة.
فمن الطبيعي ـ والحالة هذه ـ أن تزداد موجة الاعتراض على نهج الرأى
والاجتهاد من قبل الصحابة ، وذلك بتحديثهم عن رسول الله، لاَنّ في نقل
الحديث والاِكثار منه ، فيه ما يعني تخالف الاَحكام ووجهات النظر الشرعيّة بين
مدرسة السنّة النبويّة وبين منحى الرأي والاجتهاد ، لاَنّ في مدرسة السنّة النبويّة
حقائق توعويّة، قد لا تتوافق مع ما يصبو إليه أتباع نهج الرأي والاجتهاد من
الحكّام وغيرهم. ومن يراجع النصوص الحديثيّة والتاريخيّة يجد هذه الحقيقة
ظاهرة جليّة.
فالبعض مِن الصحابة لا يرتضي الرأي والاجتهاد ويدعو إلى لزوم استقاء
الاَحكام من القرآن والسنّة النبويّة المطهّرة، لاغير، ولا يرتضي اجتهادات
الصحابة وفِعْل الشيخين.
والبعض الآخر منهم يذهب إلى مشروعيّة قول عمر ويعتبره حجّة يجب
التعبّد به.
( 169 )
ومن هذا كلّه نخلص إلى القول : بأنَّ المدوّنين كانوا من أتباع التعبّد
المحض، موافقين لروح الشريعة الحاثّة على العلم ولوصايا واهتمام النبيّ
بالتدوين، وقد دوّنوا وحدّثوا فعلاً . وأمّا المانعون عن التدوين فهم من أتباع
الاجتهاد والرأي، ومن أتباع الخلفاء.