الظن، ولا يجوز البناء على الظن في المطالب الكلامية، ذلك بأنّ
الاساس في علم الكلام هو دائماً انّ (الدلائل النقلية لا تفيد اليقين)
(1)،
فمن ذلك حديث: تحاجّت الجنة والنار، فقالت النار: اوثرت بالمتكبّرين
والمتجبّرين. وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلاّ ضعفاء الناس وسقطهم!
قال الله تبارك وتعالى للجنة: أنت رحمتي أرحم بكِ من أشاء من
عبادي! وقال للنار: انّما انت عذاب اُعذب بك من أشاء من عبادي.
ولكلّ واحدة منهما ماؤها، فأمّا النار، فلا تمتلىَ حتى يضع رجله فتقول،
قط، قط، قط، فهنالك تمتليء، ويزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله عزّ وجلّ
من خلقه أحداً، وأمّا الجنة، فإنّ الله عزّ وجلّ ينشىَ لها خلقاً... الى آخره.
وهذا الحديث متفق عليه أخرجه البخاري ومسلم وعن أبي هريرة، بلفظ:
اختصمت الجنة والنار الى ربهما ـ الحديث ـ وفيه أنه ينشىَ للنار خلقاً.
وفي رواية لمسلم (حتى يضع الله رجله)، وذهب المحققون إلى أنّ
الراوي أراد أن يذكر الجنة فذهل فسبق لسانه إلى النار.
فهذا الحديث ونظائره ـ وهي كثيرة ـ يبعد على المتكّلم أن يقول بصحتها
فضلاً عن أن يجزم بذلك! وإذا اُلجيء إلى القول بصحتها لم يأل جهداً في
تأويلها، ولو على وجه لا يساعد اللفظ عليه بحيث يعلم السامع أن المتكّلم
لا يقول بجوازه في الباطن، وقد نشأت بسبب ذلك عداوة شديدة بين
المتكلمين والمحدثين، يعرفها من نظر في كتب التأريخ، حتى أنّ المتكلمين
سمّوا جمهور المحدّثين بالمشبّهة، والمحدّثين سمّوهم بالمعطّلة.
الفقهاء:
وأمّا الفقهاء، فقد عرف من حالهم انّهم يؤوّلون كلّ حديث يخالف ما
ذهب اليه علماء مذهبهم ـ ولو كان من المتأخّرين ـ أو يعارضون الحديث
____________
(1) المواقف للايجي والجرجاني ص79 طبعة استانبول.
( 282 )
بحديث آخر ـ ولو كان غير معروف عند أئمّة الحديث ـ والحديث الذي
عارضوه ثابتاً في الصحيحين، بل ممّا أخرجه أصحاب الكتب الستة. ومن
نظر في شروح الصحيحين اتضح له الاَمر، وقد ترك بعضهم المجاملة
للمحدثين، فصرّح بانّ ترجيح الصحيحين على غيرهما ترجيح من غير
مرجح، والذين جاملوا اكتفوا بدلالة الحال. وقد اشار إلى ذلك العز بن
عبدالسلام في (كتاب القواعد) فقال:
ومن العجب العجيب انّ الفقهاء المقلّدين يقف أحدهم على ضعف
مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعاً، وهو مع ذلك يقلّده فيه، ويترك
من شهد الكتاب والسنّة والاَقيسة الصحيحة لمذهبه جموداً على تقليد
إمامه، بل يتحيل لدفع ظواهر الكتاب والسنّة ويتأوّلها التأويلات البعيدة
الباطلة نضالاً عن مقلّده، وقد رأيناهم يجتمعون في المجالس، فاذا ذكر
لاَحدهم خلاف ما وطن نفسه عليه، تعجب منه غاية العجب من غير
استرواح إلى دليل، بل لما ألفه من تقليد إمامه، ولو تدبّره لكان تعجّبه من
مذهب إمامه أولى من تعجّبه من مذهب غيره! فالبحث مع هؤلاء ضائع
مفض إلى التقاطع والتدابر من غير فائدة يجديها، وما رأيت أحداً رجع عن
مذهب إمامه إذا ظهر له الحق في غيره! بل يصر عليه مع علمه بضعفه
وبعده. فالاَولى ترك البحث مع هؤلاء الذين إذا عجز أحدهم عن تمشية
مذهب إمامه، قال: لعل إمامي وقف على دليل لم أقف عليه، ولم اهتد
اليه، ولا يعلم المسكين أنّ هذا مقابل بمثله ويفضل لخصمه ما ذكر من
الدليل الواضح والبرهان اللائح، فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد
بصره، حتى حمله على مثل ما ذكرته. وفقنا الله لاتباع الحق أين كان وعلى
لسان من ظهر. انتهى كلام العز.
( 283 )
وقد ختم الجزائري رحمه الله هذا البحث (بتنبيه) مهم قال فيه ـ تعليقاً على نقدهم
لحديث (تحاج الجنة والنار) من أنّ النار لا تمتليء حتى ينشىَ الله لها خلقاً
آخر ـ:
ومن الغريب في ذلك محاولة بعض الاغمار ممّن ليس له إلمام بهذا
الفن لا من جهة الرواية ولا من جهة الدراية، لنسبة الغلط اليه كانّه ظن انّ
النقد قد سد بابه على كل أحد أو ظن انّ النقد من جهة المتن لا يسوغ لاَنّه
يخشى أنّ يدخل منه أرباب الاَهواء، ولم يدر انّ النقد إذا جرى على المنهج
المعروف لم يستنكر، وقد وقع ذلك لكثير من أئمّة الحديث مثل
الاسماعيلي فانّه بعد أن أورد حديث (يلقى ابراهيم أباه آزر يوم القيامة
وعلى وجه آزر قترة) ـ الحديث ـ قال: وهذا خبر في صحته نظر من جهة
انّ ابراهيم عالم بانّ الله لا يخلف الميعاد فقد يجعل ما بأبيه خزياً له، مع
اخباره انّ الله قد وعده بانّ لا يخزيه يوم يبعثون، وعلمه بانّه لا خلف
لوعده. فانظر كيف أعلّ المتن بما ذكره.
وقد قال بعض علماء الاصول: انّ في الاحاديث ما لا تجوز نسبته
إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لاَنّه لايمكن حملها على ظاهرها لكونه على خلاف
البرهان، وغير ظاهرها بعيد عن فصاحته صلى الله عليه وسلم
(1). انتهى ملّخصاً.
أقول: واليك بقية الكلام في هذا المقام نقلاً من كتاب اضواء على
السنة المحمدية كما نقلنا كلام الجزائري أيضاً منه
(2).
كلام مقلّدة المذاهب
وبعد ان فرغنا من كلام الذين ردوا على ابن الصلاح نأتي بطائفة من
القول في أمر مقلّدة المذاهب وموقفهم من الحديث ليكون تماماً على ما
____________
(1) توجيه النظر: 130، 131، 136، 137 وما بعدها.
(2) أنظر الكتاب المذكور: 263 ـ 283.
( 284 )
قاله العز بن عبد السلام آنفاً.
من المعروف الذي لا خلاف فيه انّك تجد الحديث يعمل به الحنفي
لشهرته ثم يأتي الشافعي فيرفضه لضعف في سنده! وتجد المالكي يترك
الحديث لانّ العمل جرى على خلافه، ويعمل به الشافعي لقوة في سنده
على ما رأى، وهكذا.
وفي مرآة الاصول وشرحها مرقاة الوصول: من أصول الحنفية
يرحمهم الله في بحث حال الراوي وهو: ان عرف بالرواية، فان كان فقيهاً
تقبل منه الرواية مطلقاً، سواء وافق القياس أو خالفه، وإن لم يكن فقيهاً ـ
كأبي هريرة وانس رضي الله عنهما ـ فتردّ روايته إن لم يوافق الحديث الذي
رواه.
ومن العلماء من قال: لا تقبل رواية الاخبار عن رسول الله إلاّ إذا
كانت خبر عامة عن عامة، أو اتفق علماء الاَمصار على العمل بها، وهذا
الطريق هو الذي يميل اليه فقهاء العراق ـ أبو حنيفة واصحابه ـ وقد أوضح
هذا الاَمر الامام أبو يوسف صاحب أبي حنيفة في كتابه الذي ألّفه عن
الاَوزاعي. وجاء في كتاب (الاُم) للامام الشافعي نقل هذا القول عن أبي
يوسف تلميذ الشافعي حيث قال:
فعليك من الحديث بما تعرفه العامة
(1) وايّاك والشاذ منه، فانّه حدّثنا
ابن أبي كريمة، عن جعفر، عن رسول الله: انّه دعا اليهود فسألهم فحدّثوه
حتى كذبوا على عيسى، فصعد المنبر فخطب الناس فقال:
«انّ الحديث سيفشو عليَّ، فما أتاكم عني يوافق القرآن فهو عني،
____________
(1) يريد بالعامة الجمهور، لا مقابل الخاصة.
( 285 )
وما أتاكم عني يخالف القرآن فليس عني». وكان عمر ـ فيما بلغنا ـ لا يقبل
الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ بشاهدين، وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه لا
يقبل الحديث عن رسول الله، والرواية تزداد كثرة ويخرج منها ما لا يعرف
ولا يعرفه أهل الفقه، ولا يوافق الكتاب ولا السنّة، فايّاك وشاذ الحديث،
وعليك بما عليه الجماعة من الحديث وما يعرفه الفقهاء، وما يوافق الكتاب
والسنّة
(1)، فقس الاشياء على ذلك، فما خالف القرآن فليس عن رسول الله
وإن جاءت به الرواية. وحدّثنا الثقة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انّه قال في مرضه
الذي مات فيه: «انّي لاُحرّم ـ وفي رواية: لا اُحرّم ـ إلاّ ما حرّم القرآن، والله
لا يمسكون عليَّ بشيء
(2). فاجعل القرآن والسنّة المعروفة لك إماماً وقائداً،
واتبع ذلك، وقس عليه ما يرد عليك ممّا لم يوضح لك في القرآن والسنّة.
انتهى.
وقال الامام علم الدين الفلاني المالكي في كتابه ايقاظ الهمم
(3):
ترى بعض الناس إذا وجد حديثاً يوافق مذهبه فرح به وانقاد له
وسلم، وإن وجد حديثاً صحيحاً سالماً من النسخ والمعارض مؤيداً
لمذهب غير إمامه فتح باب الاحتمالات البعيدة، وضرب عنه الصفح
والعارض، ويلتمس لمذهب إمامه أوجهاً من الترجيح مع مخالفته للصحابة
والتابعين والنص الصريح.. وان عجز عن ذلك كلّه ادّعى النسخ
(4) بلا دليل،
أو الخصوصية أو عدم العمل به أو غير ذلك، ممّا يحضر ذهنه العليل،
____________
(1) السنّة هي السنّة العملية، وما كانت تعرف عندهم إلاّ بذلك.
(2) انظر سيرة ابن هشام 332 ج4.
(3) قواعد التحديث ص72.
(4) قال الزهري: أعيا الفقهاء وعجزهم أن يعرفوا ناسخ حديث رسول الله ومنسوخه.
( 286 )
وإن عجز عن ذلك كلّه ادّعى انّ إمامه اطلع على كلّ مروي أو جلّه، فما ترك
هذا الحديث الشريف إلاّ وقد اطّلع على طعن فيه برأيه المنيف فيتخذ
علماء مذهبه أرباباً، ويفتح لمناقبهم وكراماتهم أبواباً، ويعتقد انّ كلّ من
خالف ذلك لم يوافق صواباً، وإن نصحه أحد من علماء السنّة اتخذه عدواً
ولو كانوا قبل ذلك أحباباً!
رأي مالك واصحابه
ورأي الامام ملك واصحابه انّهم يقولون: تثبت السنّة من وجهين:
أحدهما: ان تجد الاَئمّة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا بما يوافقها.
الثاني: ألاّ نجد الناس اختلفوا فيها.
وقد كان رضي الله عنه يراعي كلّ المراعاة العمل المستمر الاَكثر ويترك ما سوى
ذلك، وان جاء فيه أحاديث، وقال: احبّ الاَحاديث الي ما اجتمع الناس عليه.
ولنعد إلى ما نحن بصدده:
قال الشاطبي في الموافقات
(1): قال الامام مالك في حديث غسل
الاناء من ولوغ الكلب سبعاً: جاء هذا الحديث ولا أدري ما حقيقته! وكان
يضعفه ويقول: يؤكل صيده فكيف يكره لعابه؟ وأهمل مالك كذلك اعتبار
حديث: «من مات وعليه صوم صام عنه وليه»
(2) وذلك للاَصل القرآني:
(
ولا تزرُ وازرةٌ وزر أخرى)
(3).
وقال ابن العربي: إذا جاء خبر الواحد معارضاً لقاعدة من قواعد
الشرع، فهل يجوز العمل به أم لا؟ قال أبو حنيفة: لا يجوز العمل به،
____________
(1) الموافقات 3: 21 ومابعدها.
(2) رواه الشيخان وأبو داود.
(3) الانعام 6: 164.
( 287 )
وقال الشافعي: يجوز، وقال مالك: انّ الحديث إذا عضدته قاعدة قال به،
وان كان وحده تركه كما في حديث ولوغ الكلب، لانّ هذا الحديث عارض
أصلين عظيمين، أحدهما: قوله تعالى: (
فكلوا ممّا أمسكن عليكم)
(1)،
والثاني: انّ علّة الطهارة (الحياة) وهي قائمة بالكلب، ونهى عن صيام ست
من شوال ـ مع ثبوت الحديث الذي أخرجه الترمذي وأبو داود والنسائي ـ
وهو: «من صام رمضان واتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر» ردّ ذلك
تعويلاً على أصل سد الذرائع.
ومذهب أبي حنيفة، انّ خبر الواحد إذا ورد على خلاف القياس لم
يقبل، ولهذا لم يقبلوا حديث المصراة.
وكان الطحاوي
(2) امام الحنفية مجتهداً في المذهب يخالف ابا حنيفة
عند قيام الدليل، وينقد الحديث نقد معنى وإن صحّ السند في نظر
المحدّثين.
بين الاوزاعي وأبي حنيفة
ذكر ابن الهمام انّ الاوزاعي قال: ما لكم لا ترفعون الاَيدي عند
الركوع والرفع منه؟ فقال: لاَجل انّه لم يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء..
فقال الاوزاعي: كيف لم يصح وقد حدثني الزهري، عن سالم، عن
أبيه ابن عمر: انّ رسول الله كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة وعند الركوع
وعند الرفع منه.
فقال أبو حنيفة: حدّثنا حمّاد، عن إبراهيم (اي النخعي)، عن
____________
(1) المائدة 5: 4.
(2) هو أبو جعفر الطحاوي تفقّه على خاله المزني صاحب الشافعي، ألّف معاني
القرآن ومشكل الآثار وغيرهما، عاش من سنة 229 هـ إلى سنة 321 هـ.
( 288 )
علقمة، والاسود، عن عبدالله ابن مسعود: انّ النبي كان لا يرفع يديه إلاّ
عند افتتاح الصلاة ثم لا يعود.
فقال الاوزاعي: احدّثك عن الزهري، عن سالم، عن أبيه وتقول
حدّثني حمّاد، عن إبراهيم!
فقال أبو حنيفة: كان حمّاد أفقه من سالم، وعلقمة ليس بدون ابن
عمر في الفقه، وان كان لابن عمر فضل صحبته فالاَسود له فضل كثير.
وقال حافظ المغرب في الانتقاء
(1):
انّ كثيراً من أهل الحديث استجازوا الطعن على أبي حنيفة لردّه كثيراً
من أبخار الآحاد العدول، لانّه كان يذهب في ذلك إلى عرضها على ما
اجتمع عليه من الاَحاديث ومعاني القرآن فما شذّ عن ذلك ردّه وسمّاه
شاذاً.
وقال الثوري: كان أبو حنيفة شديد الاَخذ للعلم، ذاباً عن حرم الله ان
تستحل، يأخذ بما صح عنده من الاَحاديث التي كان يحملها الثقات،
وبالاَخير من فعل رسول الله وبما أدرك عليه علماء الكوفة.
وكان الاوزاعي يقول: انّا لا ننقم على أبي حنيفة انّه رأى
(2)، كلنا
يرى، ولكنّنا ننقم عليه انّه يجيئه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيخالفه إلى
غيره
(3).
هذا ولا يزال أبو حنيفة إلى يوم القيامة بين الاَئمّة، هو الامام الاَعظم
واتباعه يملاَون مشارق الاَرض ومغاربها، ولا يستطيع أحد أن يشك في
____________
(1) الانتقاء: 149.
(2) كان أبو حنيفة امام أهل الرأي.
(3) تأويل مختلف الحديث: 63.
( 289 )
اسلامهم، أو يطعن في عبادتهم، هذا وقد أحصى ابن القيم في اعلام
الموقعين حوالي مائة حديث لم يأخذ بها مقلّدة الفقهاء، وذلك من الكتب
المعتبرة عن أهل السنّة.
وذكر سبط ابن الجوزي جملة أحاديث من أحاديث الصحيحين لم
يأخذ بها الشافعية لما ترجح عندهم ممّا يخالفها، وكذا بقيّة المذاهب.
وأخرج الخطيب عن أبي صالح الفراء قال: سمعت يوسف بن اسباط
يقول: ردّ أبو حنيفة على رسول الله أربعمائه حديث أو اكثر.
واخرج عن وكيع قال: وجدنا أبا حنيفة خالف مائتي حديث.
واخرج أيضاً عن حماد بن سلمة من طريقين قال: انّ أبا حنيفة
استقبل الآثار والسنن فردّها برأيه
(1).
ما اختلف فيه اقوال الفقهاء
ممّا اختلف فيه أقوال الفقهاء لاَخذ كلّ واحد منهم بحديث مفرد
اتصل به، ولم يتصل به سواه، ما روي عن عبد الوارث بن سعيد
(2) انّه
قال: قدمت مكّة فألفيت بها أبا حنيفة، فقلت له: ما تقول في رجل باع بيعاً
وشرط شرطاً؟
فقال: البيع باطل والشرط باطل!
فأتيت ابن أبي ليلى فسألته عن ذلك، فقال: البيع جائز والشرط
باطل.
فاتيت ابن شبرمة فسألته عن ذلك، فقال: البيع جائز والشرط جائز.
فقلت في نفسي، سبحان الله، ثلاثة من فقهاء العراق لا يتفقون على مسألة!
____________
(1) تاريخ بغداد 13|390 ـ 391.
(2) في نسخة: الليث بن سعد.
( 290 )
فعدت إلى ابي حنيفة فأخبرته بما قال صاحباه، فقال: ما أدري ما
قالا لك، حدّثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: نهى رسول الله
عن بيع وشرط. فالبيع باطل والشرط باطل.
فعدت إلى ابن أبي ليلى فأخبرته بما قال صاحباه، فقال: ما أدري ما
قالا لك، حدّثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة (رض) قالت:
أمرني رسول الله أن اشتري بريرة فأعتقها، البيع جائز والشرط باطل.
قال: فعدت إلى ابن شبرمة فأخبرته بما قال صاحباه، فقال: ما أدري
ما قالا لك، حدّثني مسعر بن كدام، عن محارب بن دثار، عن جابر قال:
بعت النبي صلى الله عليه وسلم بعيراً وشرط لي حملانه إلى المدينة. البيع جائز والشرط
جائز.
ونكتفي بهذا القدر لانّ الاَدلّة كثيرة تملاَ مجلداً برأسه.
علماء النحو واللغة
مرّ بك انّ علماء الاَمّة قد انقسموا في تلقّي الحديث إلى ثلاثة أقسام:
المتكلّمون والاصوليون ـ والفقهاء ـ والمحدّثون، ولكي نستوفي هذا البحث
نذكر كذلك موقف علماء النحو واللغة فانّهم لم يجعلوا الحديث من
شواهدهم في اثبات اللغة وقواعد النحو، ذكر السيوطي في كتابه الاقتراح
في اصول النحو:
وأمّا كلامه صلى الله عليه وسلم فيستدل منه بما ثبت انّه قاله على اللفظ المروي وذلك
نادر جداً، وانّما يوجد في الاَحاديث القصار على قلّة أيضاً، فانّ غالب
الاَحاديث مروي بالمعنى، وقد تداولها الاَعاجم والمولدون قبل تدوينها
فرووها بما أدت اليه عباراتهم فزادوا ونقصوا، وقدّموا وأخّروا، وابدلوا
ألفاظاً بالفاظ، ولهذا نرى الحديث الواحد في القصة الواحدة مرويّاً على
( 291 )
أوجه شتى بعبارات مختلفة. ومن ثم أنكر على ابن ملك اثباته القواعد
النحوية بالاَلفاظ الواردة في الحديث.
وقال أبو حيان في شرح التسهيل ـ يرد على ابن مالك الذي جوز
الاستشهاد بالحديث وهو صاحب الالفية المشهورة ـ:
قد أكثر المصنّف من الاستدلال بما وقع في الاَحاديث على اثبات
القواعد الكلية في لسان العرب، وما رأيت أحداً من المتقدّمين والمتأخّرين
سلك هذه الطريقة غيره، على انّ الواضعين الاَولين لعلم النحو المستقرئين
للاَحكام من لسان العرب كأبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر،
والخليل، وسيبويه من أئمّة البصريين، والكسائي، والفراء، وعلي بن مبارك
الاَحمر، وهشام بن الضرير من أئمّة الكوفيين لم يفعلوا ذلك، وتبعهم على
هذا المسلك المتأخّرون من الفريقين وغيرهم من نحاة الاَقاليم، كنحاة بغداد
وأهل الاندلس. وقد جرى الكلام في ذلك مع بعض المتأخرين الاذكياء
فقال: انّما ترك العلماء ذلك لعدم وثوقهم بانّ ذلك لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لو
وثقوا بذلك لجرى مجرى القرآن الكريم في اثبات القواعد الكلية، وانّما كان
ذلك لاَمرين:
أحدهما: انّ الرواة جوّزا النقل بالمعنى، فتجد قصة واحدة قد جرت
في زمانه صلى الله عليه وسلم ولم تنقل بتلك الاَلفاظ جميعها، نحو ما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم:
«زوجتكها بما معك من القرآن وملكتكها بما معك» وغير ذلك من الاَلفاظ
الواردة في هذه القصة، فتعلم يقيناً انّه صلى الله عليه وسلم لم يلفظ بجميع هذه الاَلفاظ، بل
لا نجزم بانّه قال بعضها، إذا يحتمل انّه قال لفظاً مرادفاً لهذه الاَلفاظ غيرها،
فأتت الرواة بالمرادف ولم تأت بلفظه، إذ المعنى هو المطلوب ولا سيّما مع
تقادم السماع وعدم ضبطه بالكتابة والاتكال على الحفظ والضابط منهم من
( 292 )
ضبط المعنى، وأمّا ضبط اللفظ فبعيد جداً لا سيّما في الاَحاديث الطوال،
وقد قال سفيان الثوري: إن قلت لكم انّي أحدّثكم كما سمعت فلا
تصدقوني انّما هو المعنى. ومن نظر في الحديث ادنى نظر علم العلم اليقين
انّهم يروون بالمعنى.
الثاني: انّه وقع اللحن كثيراً فيما روي من الحديث، لاَنّ كثيراً من
الرواة كانوا غير عرب بالطبع ولا يعلمون لسان العرب بصناعة النحو فوقع
اللحن في كلامهم وهم لا يعلمون ذلك، وثم طوائف أخرى وقفت من
الحديث مواقف مختلفة كالشيعة والزيدية والخوارج وغيرهم، ولكلّ قوم
سنّة وامامها.
فأمّا الشيعة وبخاصة الامامية: فانّهم لا يعتبرون من الاَحاديث إلاّ ما
صح لهم من طرق أهل البيت عن جدّهم، يعني ما رواه الصادق (جعفر)،
عن أبيه الباقر، عن أبيه زين العابدين، عن الحسين السبط، عن أبيه أمير
المؤمنين، عن رسول الله سلام الله عليهم جميعاً، أمّا ما يرويه مثل أبي
هريرة وسمرة بن جندب ومروان بن الحكم وعمران بن حطان وعمرو بن
العاص ونظرائهم فليس له عند الامامية من الاعتبار مقدار بعوضة
(1).
وأمّا الخوارج
(2): فانّهم اقتصروا من الحديث على من يتولونه من
الصحابة، فالاحاديث المقبولة عندهم هي ما خرجت للناس قبل الفتنة
(3)،
أمّا ما بعدها فانّهم نابذوا الجمهور كلّه لانّهم اتبعوا ائمة الجور ـ بزعمهم ـ
____________
(1) ص149 من كتاب أصل الشيعة وأُصولها للعلاّمة محمّد الحسين آل كاشف الغطاء
ـ الطبعة العاشرة.
(2) هم الذين خرجوا على علي 2.
(3) ومن الذي يستطيع ان يميز ما خرج قبل الفتنة ممّا خرج بعدها.
( 293 )
فلم يصبحوا بذلك أهلاً لثقتهم.
رأي الامام محمّد عبده رحمه الله
كان الاستاذ الامام محمّد عبده لا يأخذ بحديث الآحاد مهما بلغت
درجته من الصحة في نظر المحدّثين، إذا ما خالف العقل أو القرآن أو
العلم، واليك طرفاً من أقواله في ذلك: قال رحمه الله ـ وهو يتكّلم عن سحر النبي
ـ ما يأتي:
وقال كثير من المقلّدين الذين لا يعقلون ما هي النبوة ولا ما يجب
لها: انّ الخبر بتأثير السحر في النفس الشريفة قد صح
(1) فيلزم الاعتقاد به،
وعدم التصديق من بدع المبتدعين، لانّه ضرب من انكار السحر، وقد جاء
القرآن بصحة السحر!! فانظر كيف ينقلب الدين الصحيح والحق الصريح
في نظر المقلّدين بدعة! نعوذ بالله! يحتج بالقرآن على ثبوت السحر!
ويعرض عن القرآن في نفيه السحر عنه صلى الله عليه وسلم وعده من افتراء المشركين
عليه، ويؤول في هذه ولا يؤول في تلك! مع انّ الذي قصده المشركون
ظاهر، لاَنّهم كانوا يقولون انّ الشيطان يلابسه عليه السلام ، وملابسة الشيطان
تعرف بالسحر عندهم وضرب من ضروبه، وهو بعينه اثر السحر الذي
نسب إلى لبيد
(2) فانّه قد خالط عقله وادراكه في زعمهم!
والذي يجب اعتقاده انّ القرآن مقطوع به، وانّه كتاب الله بالتواتر عن
المعصوم صلى الله عليه وسلم
، فهو الذي يجب الاعتقاد به بما يثبته، وعدم الاعتقاد بما
ينفيه، وقد جاء بنفي السحر عنه عليه السلام ، حيث نسب القول باثبات حصول
السحر له إلى المشركين اعدائه ووبّخهم على زعمهم هذا، فاذا هو ليس
____________
(1) حديث السحر رواه أحمد والشيخان والنسائي.
(2) لبيد بن الاعصم الذي قالوا بانّه سحر النبي(ص).
( 294 )
بمسحور قطعاً.
حديث السحر من الآحاد
وأمّا الحديث ـ فعلى فرض صحّته ـ هو حديث آحاد، والآحاد لا
يؤخذ بها في باب العقائد، وعصمة النبي من تأثير السحر في عقله عقيدة
من العقائد، لا يؤخذ في نفيها عنه إلاّ باليقين ولا يجوز ان يؤخذ فيها بالظن
والمظنون! على انّ الحديث الذي يصل إلينا من طريق الآحاد انّما يحصل
الظن عند من صح عنده، أمّا من قامت له الاَدلّة على انّه غير صحيح فلا
تقوم به عليه حجّة، وعلى أي حال، فلنا بل علينا أن نفوض الاَمر في
الحديث ولا نحكمه في عقيدتنا، ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل، فانّه
إذا خولط النبي في عقله ـ كما زعموا ـ جاز عليه أن يظن انّه بُلّغ شيئاً وهو
لم يُبلّغه، أو أن شيئاً ينزل عليه وهو لم ينزل عليه، والاَمر ظاهر لا يحتاج
إلى بيان ـ إلى ان قال رحمه الله ـ: ما أضر المحب الجاهل، وما أشد خطره على
من يظن انّه يحبه، نعوذ بالله من الخذلان، على انّ نافي السحر بالمرة لا
يجوز أن يعدّ مبتدعاً، لاَنّ الله تعالى ذكر ما يعتقد به المؤمنون في قوله:
(
آمن الرسول) الآية، وفي غيرها من الآيات، ووردت الاَوامر بما يجب
على المسلم أن يؤمن به حتى يكون مسلماً ولم يات في شيء ذكر
السحر..
وقال: ولو كان هؤلاء يقدرون الكتاب قدره، ويعرفون من اللغة ما
يكفي لعاقل أن يتكّلم ما هذروا هذا الهذر، ولا وصموا الاسلام بهذه
الوصمة، لكن من تعوّد القول بالمحال لا يمكن الكلام معه بحال، نعوذ
بالله من الخبال.
وسحر النبي قد نفاه من المتقدّمين ـ غير الاستاذ الامام ـ الجصاص
( 295 )
في تفسيره.
وقد ردّ الاستاذ الامام كذلك أحاديث كثيرة في امور اعتقادية وغير
اعتقادية كحديث الغرانيق وحديث زينب بنت جحش وغيرهما ممّا لا
نستطيع ايراد أقواله فيها هنا.
رأي السيّد رشيد رضا
نختتم هذا الموضوع بكلمة قيّمة للعلاّمة السيّد رشيد رضا رحمه الله:
انّ بعض أحاديث الآحاد تكون حجّة على من تثبت عنده واطمأن
قلبه بها، ولا تكون حجّة على غيره يلزم العمل بها، ولذلك لم يكن
الصحابة يكتبون جميع ما سمعوا من الاَحاديث ويدعون اليها، مع دعوتهم
إلى اتباع القرآن والعمل به وبالسنّة العملية المتبعة المبيّنة له إلاّ قليلاً من بيان
السنّة كصحيفة علي رضي الله عنه المشتملة على بعض الاَحكام كالدية وفكاك
الاَسير وتحريم المدينة كمكة، ولم يرض الامام مالك من الخليفتين
المنصور والرشيد أن يحمل الناس على العمل بكتبه حتى الموطأ، وانّما
يجب العمل بأحاديث الآحاد على من وثق بها رواية ودلالة، وعلى من وثق
برواية أحد وفهمه لشيء منها أن يأخذ عنه، ولكن لا يجعل ذلك تشريعاً عاماً.
ومن بلغه حديث وثبت عنده وجب عليه العمل به، ومن خالف
بعض الاَحاديث لعدم ثبوتها عنده، أو لعدم العلم بها فهو معذور،
واحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في العقائد، وانّما يؤخذ بها في الاحكام
الفرعية، لانّ العقائد دلائلها الاَخبار المتواترة.
وكل من ظهر له علّة في رواية حديث فلم يصدق رفعه لاَجلها، فهو
معذور كذلك، ولا يصح انّ يقال في حقّه انّه مكذّب لحديث كذا.
وهي تفيد الظن، والاُمّة لم تتعبّد إلاّ بخبر يغلب على الظن صدقه،
( 296 )
حتى جعلوا من قواعدهم: يقع الحكم بالظن الغالب، ولا يلزم من ظنهم
صحته، صحته في نفس الاَمر، ومن القواعد الجليلة المتفق عليها عند
علماء الاصول: ان طروء الاحتمال في المرفوع من وقائع الاَحوال،
يكسوها ثوب الاجمال، فيسقط به الاستدلال.
خاتمة المقدمة
وقال الذهبي ـ في كتابه بيان زغل العلم والطلب عن علم الحديث ـ:
وأمّا المحدّثون فغالبهم لا يفهمون، ولا همة لهم في معرفة الحديث، ولا
في التديّن به... معذور سفيان الثوري فيما يقول: لو كان الحديث خيراً
لذهب كما ذهب الخبر (نص كلام سفيان: لو كان هذا الحديث خيراً لنقص
كما ينقص الخير، لكنّه شر فأراه يزيد كما يزيد الشر) صدق والله! وأي
خير في حديث مخلوط صحيحه بواهيه، انت لا تفليه، ولا تبحث عن
ناقليه، ولا تدين الله تعالى به ـ إلى ان قال ـ: بالله خلونا فقد بقينا ضحكة
لاُولي العقول، ينظرون الينا ويقولون هؤلاء هم أهل الحديث!!
لطيفة
قيل انّه كان في سكة أبي بكر بن عياش كلب إذا رأى صاحب محبرة
ـ أي من الذين يكتبون الحديث ـ حمل عليه، فأطعمه اصحاب الحديث
شيئاً فقتلوه، فخرج أبو بكر فلمّا رآه ميتاً قال: انّا لله ذهب الذي كان يأمر
بالمعروف وينهى عن المنكر!!
وعن شعبة بن الحجاج: وددت اني وقاد حمام ولم أعرف الحديث.
وقال: ما من شيء أخوف عندي ان يدخلني النار من الحديث.
اختلاف الاَئمّة
وعن ابن خلدون في مقدمته: انّ الاَئمّة المجتهدين تفاوتوا في الاكثار
( 297 )
من هذه الصناعة (علم الحديث) والاقلال، فأبو حنيفة رضي الله عنه يقال بلغت
روايته إلى 17 حديثاً أو نحوها، ومالك رحمه الله انّما صح عنده ما في كتاب
الموطأ وغايتها 300 حديث أو نحوها، وأحمد بن حنبل رحمه الله في مسنده
50 ألف حديث... وانّما قلل من قلل الرواية لاَجل المطاعن التي تعترض
فيها والعلل التي تعرض في طرقها لا سيّما والجرح مقدم عند الاكثر...
(1)
أقول: إذا عرفت هذا تعلم جيداً أنّ أحاديث الكتابين على أقسام:
1 ـ منها ما هو مقطوع بكذبه، كالمخالف للقرآن والتأريخ القطعي
وللعقل وأحد طرفي المتعارضات وغير ذلك.
2 ـ ومنها ما هو مظنون الصحة.
3 ـ ومنها ما هو مظنون الكذب.
4 ـ ومنها ما هو مشكوك.
وكلّ عاقل وقف على ما ذكرنا في مقدمات الكتاب وفي هذا الاَمر
العاشر لا يتردد في هذا التقسيم الرباعي، وأمّا تعيين مصداق هذه الاَقسام
فموكول إلى تتبع المتتبع وتحقيق المحقق، نعم جملة من الاَحاديث ـ لا
بعينها ـ مقطوعة الصدور إذ لا يحتمل كذب جميع ما في الكتابين، بل هذا
العلم حاصل في كلّ كتاب من كتب الحديث لكن لا أثر لهذا العلم
الاجمالي، بل هو حاصل في اكثر الكتب المؤلفة للكفار والمسلمين، إذ لا
يحتمل كذب جميع ما في الكتاب ـ في أي موضوع كان بحثه ـ وقد يسمى
هذا بالتواتر الاجمالي في جانب التواتر اللفظي والتواتر المعنوي.
إذا تقرّر ذلك فلنرجع إلى أصل المقصد وهو النظر إلى بعض أحاديث
مسلم، ونذكر بعد الحديث رقم الصفحة والجزء دون رقم الحديث. والله الموفق.
____________
(1) مقدمة ابن خلدون: 444.