المقصد الاَول
حول أحاديث صحيح البخاري
( 52 )
( 53 )
مـقـدمـة:
انّ محمّد بن إسماعيل بن إبراهيم بن مغيرة الفارسي ولد ببخارى سنة
194 هـ، وارتحل في طلب الحديث، ولبث في تصنيفه ست عشرة سنة
بالبصرة وغيرها حتى اتمّه ببخارى، ومات بخرتنگ قرب سمرقند سنة
256 هـ، فكان عمره أكثر من ستين سنة. وكان مغيرة مجوسياً ثم أُسلم.
وعن مقدمة فتح الباري لابن حجر: انّ أبا علي الغساني روى عنه أنّه
قال: خرّجت الصحيح من 600 ألف حديث.
وعنه أيضاً: لم اخرّج في هذا الكتاب إلاّ صحيحاً، وما تركت من
الصحيح أكثر... وعنه: كنّا عند اسحاق بن راهويه ـ وهو استاذه ـ فقال: لو
جمعتم كتاباً مختصراً لصحيح سنة الله، فوقع ذلك في قلبي فأخذت في
جمع الجامع الصحيح، وخرّجت الصحيح من 600 ألف حديث.
فهو أوّل من ميّز الصحيح من غير الصحيح في نظره واجتهاده ثم تبعه
غيره في ذلك، وكتاب البخاري اشهر الصحاح حتى قيل في حقه: انّه أصح
كتاب بعد كتاب الله.
وعن الحاكم في تاريخه: قدم البخاري نيسابور في سنة 250 هـ،
فأقبل عليه الناس ليسمعوا منه، وفي أحد الاَيام سأله رجل عن (اللفظ
بالقرآن)، فقال: افعالنا مخلوقة، وألفاظنا من افعالنا، فوقع بذلك خلاف،
ولم يلبث ان حرّض الناس عليه محمّد بن يحيى الذهلي وقال: من قال
ذلك فهو مبتدع ولا يجالس ولا يكلم! فانقطع الناس عن البخاري إلاّ مسلم
ـ صاحب الصحيح الآخر ـ وأحمد بن سلمة، وقد خشي البخاري على
( 54 )
نفسه فسافر من نيسابور
(1).
أقول: لا شكّ أنّ قول البخاري هو الصحيح المعقول.
ثم انّ جملة من المحقّقين لم تمنعهم شهرة البخاري من أن ينتقدوه
وينتقدوا كتابه، ولا شكّ انّ كلّ انسان له أخطاؤه ونواقصه، ويقبح كلّ القبح
من العلماء أن يغلوا في حقّ أي واحد وإن كان مشهوراً أو ينقصوا من حق
أي أحد وإن كان مهجوراً، وهذا هو الفارق بين العالم والجاهل.
فمن جملة ما اخذوا عليه، انه ينقل الحديث بالمعنى، يعني
لا يهتم بالفاظ الحديث مع انّها مهمة جداً، فقد نقل أحيد بن أبي
جعفر والي بخارى قال: قال لي محمّد بن إسماعيل يوماً: ربّ حديث
سمعته بالبصرة كتبته بالشام، وربّ حديث سمعته بالشام كتبته بمصر،
فقلت له: يا أبا عبدالله بتمامه؟ فسكت
(2).
وبمثله نقل الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد
(3).
وعن محمّد بن الاَزهر السجستاني قال: كنت في مجلس سليمان بن
حرب والبخاري معنا يسمع ولا يكتب، فقيل لبعضهم: ما له لا يكتب؟
فقال: يرجع الى بخارى ويكتب من حفظه (المصدر).
وعن العسقلاني: من نوادر ما وقع في البخاري انّه يخرّج الحديث
تاماً باسناد واحد بلفظين
(4).
ومن جملة ما اخذوا على كتابه ما ذكره ابن حجر في مقدمة الفتح: انّ
____________
(1) انظر هدى الساري 2: 203.
(2) هدى الساري 2: 201.
(3) تاريخ بغداد 2: 11.
(4) فتح الباري 1: 186.
( 55 )
أبا اسحاق إبراهيم بن أحمد المستملي قال: انتسخت كتاب البخاري من
اصله الذي كان عند صاحبه محمّد بن يوسف الفربري، فرأيت فيه اشياء لم
تتم، واشياء مبيضة، منها تراجم لم يثبت بعدها شيئاً، ومنها احاديث لم
يترجم لها، فاضفنا بعض ذلك الى بعض.
قال أبو الوليد الباجي: وممّا يدل على صحّة هذا القول انّ رواية أبي
اسحاق المستملي، ورواية أبي محمّد السرخسي، ورواية أبي الهيثم
الكشميهي، ورواية أبي زيد المروزي مختلفة بالتقديم والتأخير، مع أنّهم
انتسخوا من اصل واحد، وانّما ذلك بحسب ما قدر كل واحد منهم في ما
كان في طرة أو رقعة مضافة انّه من موضع ما، فاضافه اليه، ويبين ذلك
أنّك تجد ترجمتين وأكثر من ذلك متصلة ليس بينها احاديث.
وذكر في الجزء السابع من فتح الباري شواهد أُخر منها: انّ البخاري
ترك الكتاب مسودة وتوفي، وقال: اظن ان ذلك ـ أي الناقصة ـ من تصرف
الناقلين لكتاب البخاري.
أقول: وهذا ممّا يقل الاعتماد على الكتاب المذكور.
ومن جملة هذه المؤاخذات ماانتقده الحفاظ في عشرة ومائة
حديث، منها 32 حديثاً وافقه مسلم على تخريجه، و78 حديثاً انفرد هو
بتخريجه
(1).
والذين انفرد البخاري بالاخراج لهم دون مسلم أربعمائة وبضعة
وثلاثون رجلاً، المتكلم فيه بالضعف منهم ثمانون رجلاً، والذين انفرد
مسلم بالاخراج لهم دون البخاري 620 رجلاً، المتكلم فيه بالضعف منهم
____________
(1) فتح الباري 2: 81.
( 56 )
160 رجلاً، والاَحاديث التي انتقدت عليهما بلغت مائتي حديث وعشرة،
اختص البخاري منها بأقل من ثمانين، وباقي ذلك يختص بمسلم.
واما الذين طعن فيهم من رجال البخاري فنحو أربعمائة نفر، فلاحظ
تفصيله في المصدر السابق.
وعند السيد محمّد رشيد رضا ان المشكلة لا تخص بصناعة الفن ـ أي
السند ـ بل في المتون أيضاً، فقال: إذا قرأت الشرح (فتح الباري) رأيت له
في احاديث كثيرة اشكالات في معانيها أو تعارضها مع غيرها...
ويقول الدكتور أحمد امين: ان بعض الرجال الذين روى البخاري
لهم غير ثقات، وقد ضعف الحفّاظ من رجال البخاري نحو الثمانين، وفي
الواقع هذه مشكلة المشاكل فالوقوف على اسرار الرجال محال... ان
احكام الناس على الرجال تختلف كل الاختلاف... ولعل من اوضح المثل
في ذلك عكرمة مولى ابن عباس، وقد ملاَ الدنيا حديثاً تفسيراً، فقد رماه
بعضهم بالكذب، وبأنّه يرى رأي الخوارج، وبانّه كان يقبل جوائز الامراء،
ورووا عن كذبه شيئاً كثيراً، فرووا انّ سعيد بن المسيب قال لمولاه ـ برد ـ:
لا تكذب عليَّ كما كذب عكرمة على ابن عباس، واكذبه سعيد بن المسيب
في احاديث كثيرة.
وقال القاسم: انّ عكرمة كذّاب يحدّث غدوة بحديث يخالفه عشية.
وقال ابن سعد: كان عكرمة بحراً من البحور وتكلّم الناس فيه،
وليس يحتج بحديثه.
هذا على حين ان آخرين يوثقونه... فالبخارى ترجح عنده صدقه،
فهو يروى له في صحيحه كثيراً، ومسلم ترجح عنده كذبه، فلم يرو له إلاّ
حديثاً واحداً في الحج، ولم يعتمد فيه عليه وحده، وانّما ذكره تقوية
( 57 )
لحديث سعيد بن جبير في الموضوع نفسه
(1).
لا يجب الاخذ بكل ما في البخاري
ويقول صاحب المنار في كلام له في هذا المجال: بل ما من مذهب
من مذاهب المقلدة إلاّ واهله يتركون العمل ببعض ما صح عند البخاري
وعند مسلم أيضاً من احاديث التشريع المروية عن كبار ائمة الرواة، لعلل
اجتهادية أو لمحض التقليد، وقد اورد المحقق ابن القيم أكثر من مائة شاهد
على ذلك في كتابه اعلام الموقعين...
وعن الانتصار لابن الجوزي، جملة احاديث لم تأخذ بها الشافعية من
احاديث الصحيحين، لما ترجح عندهم مما يخالفها، وكذا في بقية
المذاهب.
اقول: من وقف على المباحث الماضية لا يبقى له شك في عدم
وجوب العمل بكل ما في الصحاح ومنها البخاري، بل يطمئن بكذب جملة
منها فلا يبقى للمحقّق سوى الاحتياط التام، واما المقلد والعامي ومدعي
العلم فله ما تخيل، بل صحة الرواية عند مؤلف شيء وصحة المتن عن
النبي الاَكرم صلى الله عليه سلم شيء آخر وبينهما بون بعيد، فلا تكن من المغرورين.
روايات البخاري
وعن العراقي كما عن شروط الائمة الخمسة ص85 انّ عدد احاديث
البخاري يزيد في رواية الفربري على عدده في رواية ابراهيم بن معقل
____________
(1) ضحى الاسلام 2: 117 ـ 118.
( 58 )
بمائتين، ويزيد عدد النسفي على عدد حماد بن شاكر النسفي بمائة.
وعن ابن حجر في مقدمة الفتح: ان عدد ما في البخاري من المتون
الموصولة بلا تكرار 2602، والمتون المعلّقة المرفوعة 159، فمجموع
ذلك 2761.
وقال في شرح البخاري: انّ عدته على التحرير 2513 حديث
(1).
نواقص كتاب البخاري
الذي ظهر لي بالتعمّق في روايات البخاري واحاديثه ان فيه نواقص
تضر باعتباره وبالاعتماد عليه أو بحسن تأليفه، منها:
1 ـ لا مناسبة في بعض المواضع بين عناوين الاَبواب ورواياتها كما
في غالب كتاب العلم، وكتاب مواقيت الصلاة، وباب إذا لم يجد ماء ولا
تراباً وامثالها.
2 ـ الاحاديث المكررة ـ سواء بلا مناسبة أو بمناسبة جزئية ـ في كتابه
قد بلغت الى حد تشمئز منه النفس ويتنفر منه الطبع، ولعلها من خصائص
هذا الكتاب وحده، فانّه ربمّا كرّر فيه بعض الاحاديث ثلاث عشرة مرة،
وست عشرة مرة، وتسع عشرة، بل الى اثنتين وعشرين مرة!!!!
ويحتمل ان هذا التكرار الممل المخالف للذوق السليم ليس من صنع
المؤلف، فانّه مات قبل تدوين كتابه فتركه مسوداً، فتصرف فيه المتصرفون
بلا روّية، وعليه فيقل الاعتماد على الكتاب المذكور، فان امانة البخاري
ووثاقته لا توجدان أو لم تثبتا لهؤلاء المتصرفين.
____________
(1) فتح الباري 1: 70.
( 59 )
3 ـ لا يوجد في كتاب التوحيد ـ مثلاً ـ حديث مفيد، بل كثيراً ما لا
يستفاد من روايات البخاري معنى مفيداً، وهذا شيء عجيب، وكيف يعقل
ان تكون جملة كثيرة من احاديث النبي الحكيم الفصيح صلى الله عليه وآله وسلم في أُمور تافهة
غير مناسبة لمقام النبوة، وهو افضل البشر عقلاً وعلماً وحكمة؟!!!
4 ـ لا معنى لبعض كتب البخاري، فلاحظ كتاب التمني تجد صدق
ما قلنا.
5 ـ ينبغي ان نسمي مجمع الصحاح ـ ومنها البخاري ـ بكتب سيرة النبي
صلى الله عليه وآله وسلم، إذ لا توجد في أكثر احاديثها مطالب في العقائد والمعارف والضوابط
الكلية في الفقه، ولذا ترى فقهاء المذاهب والمجتهدين في الفقه يلجأون
الى القياس والاستحسان والمصالح المرسلة، بل ذهب بعض المحققين ـ
كما تقدم ذكره عند البحث عن كتابة الحديث ـ الى ان الصحابة (رض) لم
يفهموا جعل الاحاديث كلّها ديناً عاماً دائماً كالقرآن، والى ان حكمة النهي
عن كتابة الحديث هي لكي لاتكثر اوامر التشريع ولا تتسع ادلة الاحكام،
وهو ما كان يتحاشاه النبي صلى الله عليه وسلم.
نعم خلو كتب الحديث عمّا قلنا واجمال جملة أُخرى من روايات
هذه الكتب يقويان استنباط هؤلاء المحقّقين من حكمة النهي المذكور،
لكن معنى ذلك سقوط السنّة القولية عن مقامها السامي في التشريع
الاسلامي المقربه عند المذاهب الاسلامية أو جمهور المسلمين، حيث
يعدون السنّة بعد كتاب الله تعالى مصدراً أصلياً، اللهم إلاّ ان يقال ان المراد
بها هي السنّة العملية دون اخبار الآحاد التي عرفت حالها فيما مر من هذا
الكتاب، وان الغلو في اعتبار روايات الصحاح شأن مدّعي العلم والمغرورين
دون العلماء الكاملين.
( 60 )
6 ـ كل منصف تعمق ـ بعد مطالعة البخاري ـ في سائر الصحاح يفهم
بوضوح انّ البخاري ـ مع الغض عن نقله الحديث بالمعنى كما مر ـ يرى
جواز الحذف والتغيير في متون الاحاديث بما يراه مناسباً، وهذا امر خطير
يسقط اعتبار الكتاب الى حد بعيد رغم اشتهاره واعتماد معظم اهل العلم
عليه، فمن باب المثال يمكن ان يرجع المحقّق الى روايات التيمم الواردة
في بحث عمر وعمّار (رض)، وروايات كتاب الاذان، وقصة انكار عمر
موت النبي صلى الله عليه وسلم، وقصة منازعة العباس وعلي وما قال لهما عمر، وامثال
ذلك.
وانا ارجو من القراء الكرام ان لا يتبادروا الى الانكار والغضب، بل
ليرجعوا الى البخاري ثم الى سائر الصحاح وكتب الحديث حتى يقفوا على
الحقيقة، والحق احق ان يتبع، نعم ليس سبيل التحقيق في الدين هو
تحكيم طريقة الآباء أو اتباع المشهور، اذ رب شهرة لا اصل لها، والمسلم
بحكم فطرته ودينه مكلّف باتباع الدليل والله يهدي من يشاء الى الصراط
المستقيم، واعلم اني لا اتعرّض لاحاديث البخاري وكذا غيره من الصحاح
من ناحية السند إلاّ نادراً ولا اتعرّض لجميع الاحاديث ليكون الكتاب
كالشرح للصحاح، بل اتعرض لبعض الروايات
(1).
بدء الوحي
(1) عن عائشة أُمّ المؤمنين انّها قالت: أول مابدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم
____________
(1) النسخة الحاضرة عندي من البخاري هي المطبوعة بمساعدة دار ابن كثير واليمامة
في دمشق وبيروت الطبعة الرابعة (1410 هـ) بتحقيق وتعليق الدكتور مصطفى ديب
البغا مدرس في كلية الشريعة ـ جامعة دمشق، في ستة اجزاء. وحيث ان الدكتور
المذكور ذكر لكل حديث رقماً مسلسلاً فأنا اذكر الرقم المذكور بعد نقل الرواية كلاً
أو بعضاً.
( 61 )
من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم... فانطلقت به خديجة حتى أتت به
ورقة بن نوفل...
(1).
اقول: في هذه الرواية ثلاثة اسئلة:
أولها: انّ السيدة عائشة تنقل الموضوع كأنّها كانت مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وكأنّها سمعت كلام جبرئيل في غار حراء، وكأنّها كانت عند خديجة ـ
(رض) ـ وسمعت كلامها وكلام ورقة بن نوفل لرسول الله وما اجابه النبي
صلى الله عليه وسلم، والحال انّها لم تكن ولدت آنذاك، وهذا شيء عجيب، وأي مجوز
لنقله في مثل كتاب البخاري، ألمجرد حسن الظن بانّها تنقل كل ذلك عن
رسول الله، فان حسن الظن في أُمور الدين لا يكفي لكسب الحقيقة مع ان
سوق العبارة في مجموع الحديث لا يناسب النقل، بل العبارة عبارة الشاهد
دون الناقل، وهل هذا بمجرده لا يشعر بكذب الحديث؟
ثانيها: انّ ورقة بن نوفل ـ يعلم باخراج قريش ايّاه صلى الله عليه وسلم من مكة وهو
لا يعلم، فهلموا ايها المنصفون ـ بل يا ايها العاقلون ـ انظروا نصرانياً يعلم
مستقبل النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم، ويسأل صلى الله عليه وسلم عنه سؤال تلميذ من
استاذه!!!
ثالثها: وهو أهمها انّ النبي لم يطمئن بتعينه رسولاً، وكأن الله سبحانه
وتعالى لم يقدر على تفهيم رسوله بما اراد منه واعطاه ايّاه حتى نصحته
زوجته، وهو يخشى على نفسه! واسوأ منه انّ ورقة النصراني عرف الملك
وعلم انه صلى الله عليه وسلم بعث رسولاً، وهو يخشى على نفسه، فانا لله وانا إليه
راجعون، وهذا الحديث وامثاله انّما يقبله السذج والبسطاء، ولا يجترىء
____________
(1) صحيح البخاري 1: رقم 3 كتاب بدء الوحي.
( 62 )
مسلم فطن ان يقبل ان الرسول الخاتم فهم نبوته بقول زوجته وبقول رجل
نصراني اعمى دون وحي منزّل من الله سبحانه وتعالى عليه.
على أن الحديث التالي لجابر بن عبدالله في البخاري يكذب قصة
الرجوع الى ورقة، فقلت: زمّلوني زمّلوني، فانزل الله تعالى: (
يا أيّها
المدّثر قم فأنذر)
(1)(2).
وحمله على وقت آخر لا دليل عليه سوى حسن الظن بالرواة وحفظ
كلامهم عن التعارض!
نكتة
(2) عن أبي موسى قال سئل النبي عن اشياء كرهها، فلما اكثر عليه
غضب ثم قال للناس: «سلوني عمّا شئتم» قال رجل: من أبي؟ قال:
«أبوك حذافة، فقام آخر فقال من أبي...
فلما رأى عمر ما في وجهه قال: يا رسول الله انّا نتوب الى الله عزّ
وجلّ.
وفي رواية أُخرى فبرك عمر فقال رضينا بالله رباً وبالاسلام ديناً
وبمحمد نبياً، فسكت
(3).
أقول: للحديث صدر في بعض الكتب لا اذكره احتراماً لعمر،
ولاجله حذفه البخاري فصار الكلام مجملاً!
مسح الرجلين
(3) عن عبدالله بن عمرو قال: تخلّف رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر
____________
(1) المدثر: 1 ،2.
(2) صحيح البخاري رقم 4638 كتاب التفسير.
(3) صحيح البخاري رقم 92 ـ 93 كتاب العلم.
( 63 )
سافرناه، فأدركنا وقد ارهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على
ارجلنا فنادى بأعلى صوته: «ويل للاعقاب من النار» مرتين أو ثلاثاً
(1).
أقول: يظهر من الرواية انّ الصحابة (رض) كانوا يمسحون على
أرجلهم في الوضوء عملاً بظاهر القرآن أو بتعليم من الرسول صلى الله عليه وسلم أو
بكليهما، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ويل للاعقاب من النار» ناظر الى لزوم ازالة النجاسة
عن الاَعقاب المبطلة للصلاة.
وعليه فالرواية تنافي ما ورد في غسل الرجلين، وحمل المسح على
الغسل الخفيف ـ كما عن بعضهم ـ تأويل بلا وجه.
(4) وعن علي: انّه صلّى الظهر ثم... فشرب وغسل وجهه ويديه،
وذكر راسه ورجليه ثم...
(2).
أقول: المظنون ان الاصل: مسح رأسه ورجليه، فيد الاَمانة حرّفتها
بذكر!
شرط دخول الجنة
(5) وفي رواية أبي هريرة: «اسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة، من
قال لا اله إلاّ الله، خالصاً من قلبه، أو نفسه»
(3).
أقول: هذا المعنى وما يقرب منه يستفاد من جملة من الاَحاديث،
ومقتضاه عدم اشتراط دخول الجنة بالاعتقاد بنبوة فضلاً عن الاعتقاد بنبوة
خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، ولكن لا بدّ من تقييده بغيره كحديث معاذ
(4) وغيره.
____________
(1) صحيح البخاري رقم 9660 كتاب العلم، صحيح مسلم 3: 131.
(2) صحيح البخاري رقم 5239 كتاب الاشربة.
(3) صحيح البخاري رقم 99.
(4) صحيح البخاري رقم 128 كتاب العلم.
( 64 )
واعلم انّه ورد في جملة من الاَحاديث على أنّه صلى الله عليه وسلم امر بقتال الناس
حتى يقولوا... ومدخول كلمة "حتى" مختلف زيادة ونقيصة اختلافاً كثيراً
يشكل احراز ما هو الصحيح منه.
صحيفة علي
(6)عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟
قال: لا،إلاّ كتاب الله أو فهم اعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة.
قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟
قال: العقل، وفكاك الاَسير، ولا يقتل مسلم بكافر
(1)(2).
(7) عن علي: ما عندنا شيء إلاّ كتاب الله وهذه الصحيفة عن النبي
صلى الله عليه وسلم: المدينة حرم ما بين عائر الى كذا من احدث فيها حدثاً، أو آوى محدثاً
فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين، لا يقبل منه صرف ولا عدل،
وقال: ذمة المسلمين واحدة، فمن اخفر مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة
والناس أجمعين، ولا يقبل منه صرف ولا عدل، ومن تولّى قوماً بغير اذن
مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرف ولا
عدل
(3).
أقول: قيل في تفسير (الصرف والعدل): أي التوبة والفدية أو النافلة
والفريضة ورواه بتفاوت في كتاب الجزية
(4).
(8) وعن أبي جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم شيء من
____________
(1) وفي الديات من سنن ابن ماجه برقم 2658 أو ما في هذه الصحيفة فيها الديات
عن رسول الله (ص)...
(2) صحيح البخاري رقم 111.
(3) صحيح البخاري رقم 1771 كتاب فضائل المدينة.
(4) صحيح البخاري رقم 3008 كتاب الجزية، بتفاوت.
( 65 )
الوحي؟ إلاّ ما في كتاب الله؟ قال: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أعلمه
إلاّ فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة.
قلت: وما في الصحيفة؟
قال: العقل، وفكاك الاَسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر
(1).
(9) وعن ابن الحنفية: لو كان علي ذاكراً عثمان ذكره يوم جاء اناس
فشكوا سعاة عثمان، فقال لي علي: اذهب الى عثمان فاخبره انّها (اي
الصحيفة المشتملة على أحكام الصدقات) صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر
سعاتك يعملون فيها.
فأتيته بها، فقال: اغنها عنّا، فاتيت بها علياً فاخبرته، فقال: ضعها
حيث أخذتها.
وفي نقل آخر: أرسلني أبي وقال: هذا الكتاب فاذهب به الى عثمان،
فان فيه أمر النبي في الصدقة
(2).
أقول: هذه صحيفة أُخرى لعلي رضي الله عنه في احكام الزكاة اعرض عن
اخذها ـ فضلاً عن العمل بها ـ عثمان. ومنها يظهر بطلان ما:
(10) عن ابن عباس حين سئل: أترك النبي صلى الله عليه وسلم من شيء؟ قال: ما
ترك إلاّ ما بين الدفتين. ونسب مثله الى محمّد بن الحنفية
(3).
(11) عن ابراهيم التيمي عن أبيه قال: خطبنا علي بن أبي طالب قال:
من زعم انّ عندنا شيء نقرأه إلاّ كتاب الله وهذه الصحيفة (قال: وصحيفة
معلقة في قراب سيفه) فقد كذب، فيها اسنان الابل، واشياء من الجراحات،
____________
(1) صحيح البخاري رقم 2882 كتاب الجهاد.
(2) صحيح البخاري رقم 2944 كتاب الخمس.
(3) صحيح البخاري رقم 2731 كتاب فضائل القرآن.
( 66 )
وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المدينة حرم ما بين عير الى ثور، فمن أحدث فيها
حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله
منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً، وذمة المسلمين واحدة يسعى بها ادناهم،
ومن ادّعى الى غير أبيه أو انتمى الى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة
والناس اجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً»
(1).
(12) عن أبي الطفيل قال: سئل علي أخصّكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشي؟
فقال: ما خصّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء لم يعم به الناس كافة إلاّ ما كان في
قراب سيفي هذا.
قال: فاخرج صحيفة مكتوب فيها: «لعن الله من ذبح لغير الله، ولعن
الله من سرق منار الارض، ولعن الله من لعن والده (والديه)، ولعن الله من
آوى محدثاً»
(2).
(13) وعن علي عليه السلام : ما كتبنا عن رسول الله إلاّ القرآن، وما في هذه
الصحيفة...
(3).
(14) عن قيس بن عباد قال: انطلقت أنا والاشتر الى علي عليه السلام فقلنا: هل
عهد إليك رسول الله شيئاً لم يعهده الى الناس عامة؟ قال: لا، إلاّ ما في كتابي
هذا... فاذا فيه: «المؤمنون تكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم، ويسعى
بذمتهم ادناهم ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده، من أحدث حدثاً
فعلى نفسه، ومن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس
أجمعين»
(4).
____________
(1) صحيح مسلم 10: 150.
(2) صحيح مسلم 13: 142.
(3) سنن أبي داود 2: 223..
(4) سنن أبي داود 4: 179 كتاب الديات.
( 67 )
(15) عن الاشتر انه قال لعلي: انّ الناس قد تفشغ بهم ما يسمعون،
فان كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليك عهداً فحدثنا به.
قال: ما عهد اليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عهداً لم يعهده الى الناس، غير انّ
في قراب سيفي صحيفة فاذا فيها: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم يسعى بذمتهم
ادناهم لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده» (مختصر)
(1).
ومعنى تفشغ: فشا وانتشر بما يسمعون كما ذكره السندي، وضبطه
السيوطي في شرحه: تقشع، وفسّره بتصدع واقلع.
أقول: لا بدّ من ذكر امور باختصار، منها:
1 ـ انّ الروايات ـ كما ترى ـ تختلف اختلافاً شديداً في مطالب
الصحيفة كمّاً وكيفاً وترتيباً، وما ادعى أحد من الرواة انّه نقل كلّ ما في
الصحيفة، وهذا شيء عجيب.
2 ـ انّ نفس هذا الاصرار على نفي الكتاب أو شيء من العلم عند
علي ربّما يدل على عكسه، وانّ الغرض من هذه الروايات انكاره، ويدل
عليه الخبر الاَخير من شهرة ذلك ـ الكتاب أو العهد ـ بين الناس.
3 ـ صريح خبر ابن الحنفية وجود كتاب آخر عند علي وهو صحيفة
صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم ارسلها الى عثمان ليعمل بها، ولكنّ عثمان ما قبلها
وردّها، وهذا يكذّب كل ما في الروايات من الانكار والنفي!
4 ـ ممّا لا شكّ فيه انّ النبي صلى الله عليه وسلم علّم عليّاً علوماً كثيرة في المعارف
والفقه وغيرهما، وانّه كان يلزمه من صغره الى حين موت النبي صلى الله عليه وسلم،
وسيأتي انّه صلى الله عليه وسلم يخلو به كل يوم، وكل من قرأ الأحاديث الواردة في حقه
____________
(1) سنن النسائي 8: 24.
( 68 )
يعلم ذلك قطعاً.
والعجب انّه لم ينكر أحد على ابي هريرة الوعائين للعلم اللذين
اعطاهما له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانّه بث وعاءً واحداً ولم يبث الوعاء الآخر!
وكلّ عاقل يعلم انّ عليّاً أعلم من أبي هريرة بكثير، فأي موجب لهذا
الانكار؟
5 ـ قد ثبت انّ لعليّ كتباً أو كتاباً كبيراً فيه كثير من الحلال والحرام،
وقد نقل عنه أولاده كمحمّد بن علي وجعفر بن محمّد في موارد كثيرة.
ولعلّ غرض المنكرين الوضّاعين هو نفي وصيّة الخلافة إليه، وهذا
النفي لا يتوقّف على نفي ما هو المعلوم من علومه أو كتابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.