عناصره النفسيّة
( 54 )
( 55 )
كان سيّدنا العباس ( عليه السلام ) دنيا من الفضائل والمآثر ، فما من صفة
كريمة أو نزعة رفيعة إلاّ وهي من عناصره وذاتياته ، وحسبه فخراً أنّه
نجل الاِمام أمير المؤمنين الذي حوى جميع فضائل الدنيا ، وقد ورث
أبو الفضل فضائل أبيه وخصائصه ، حتى صار عند المسلمين رمزاً لكل
فضيلة ، وعنواناً لجميع القيم الرفيعة ، ونلمح ـ بإيجاز ـ لبعض صفاته.
1 ـ الشجاعة:
أمّا الشجاعة فهي من أسمى صفات الرجولة لاَنها تنمّ عن قوة
الشخصية وصلابتها ، وتماسكها أمام الاَحداث ، وقد ورث أبو الفضل هذه
الصفة الكريمة من أبيه الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الذي هو أشجع إنسان في
دنيا الوجود ، كما ورث هذه الصفة من أخواله الذين تميّزوا بهذه الظاهرة ،
وعرفوا بها من بين سائر الاَحياء العربية.
لقد كان أبو الفضل دنيا في البطولات ، فلم يخالج قلبه خوف
ولارعب في الحروب التي خاضها مع أبيه كما يقول بعض المؤرخين ، وقد
أبدى من الشجاعة يوم الطف ما صار مضرب المثل على امتداد التأريخ ،
فقد كان ذلك اليوم من أعظم الملاحم التي جرت في الاِسلام ، وقد برز فيه
أبوالفضل أمام تلك القوى التي ملاَت البيداء فجبَّنَ الشجعان وأرعب قلوب
( 56 )
عامة الجيش ، فزلزلت الاَرض تحت أقدامهم وخيّم عليهم الموت ، وراحوا
يمنّونه بإعطاء القيادة العامة إن تخلّى عن مساندة أخيه ، فهزأ منهم العبّاس ،
وزاده ذلك تصلّباً في الدفاع عن عقيدته ومبادئه.
ان شجاعة أبي الفضل ( عليه السلام ) ، وما أبداه من البسالة يوم الطفّ لم تكن
من أجل مغنم مادي من هذه الحياة ، وانّما كانت دفاعاً عن أقدس المبادئ
الماثلة في نهضة أخيه سيّد الشهداء المدافع الاَوّل عن حقوق المظلومين
والمضطهدين.
مع الشعراء:
وبهر شعراء الاِسلام بشجاعة أبي الفضل ، وقوّة بأسه وما ألحقه
بالجيش الاَموي من الهزيمة الساحقة ، وفيما يلي بعض الشعراء الذين هاموا
بشخصيته.
1 ـ السيّد جعفر الحلّي:
ووصف الشاعر العلوي السيّد جعفر الحلّي في رائعته ما مُني به
الجيش الاَموي من الرعب والفزع من أبي الفضل ( عليه السلام ) يقول:
وقــع العــذاب على جيوش أميّة | * | من باسـل هو في الوقائع معلم |
ما راعهــم إلاّ تقحـم ضيغــم | * | غيران يعجـم لفظـه ويـدمدم |
عبسـت وجوه القوم خـوف الموت | * | والعبّـاس فيهـم ضاحك يتبسّم |
قلب اليمين على الشمال وغاص في | * | الاَوساط يحصد للرؤوس ويحطم |
ما كرّ ذو بــأس لـه متقـدمـاً | * | إلاّ وفــرّ ورأسـه المتقــدّم |
صبغ الخيول برمحـه حتى غـدا | * | سيـان أشقر لونهــا والاَدهم |
( 57 )
ما شدّ غضباناً على ملمومه | * | إلاّ وحلّ بها البـلاء المبـرم |
وله إلى الاقدام نزعة هارب | * | فكأنّما هـو بالتقـدم يسلــم |
بطل تورث من أبيه شجاعة | * | فيها أنوف بني الضلالة ترغم |
أرأيتم هذا الوصف الرائع لبسالة أبي الفضل وقوة بأسه وشجاعته
النادرة.
أرأيتم كيف وصف الحلّي ما حلّ بالجيش الاَموي من الجبن الشامل ،
والهزيمة الساحقة حينما برز إليهم قمر بني هاشم وبطل الاِسلام فأنزل بهم
العذاب الاَليم ، وترك صفوفهم تموج من الخوف والرعب ، وكان العباس
متبسّماً مثلوج الفؤاد مما ينزل بهم من الخسائر الفادحة ، فقد ملاَ ساحات
المعركة بجثث قتلاهم ، وصبغ خيولهم بدمائهم ، وفيما أحسب أنّه لم
توصف البسالة والشجاعة بمثل هذا الوصف الرائع الدقيق ، والذي لا مبالغة
فيه حسبما تحدّث الرواة عمّا أنزله العباس ( عليه السلام ) بأهل الكوفة من الخسائر
الجسيمة.
ويستمرّ السيد الحلّي في وصف شجاعة أبي الفضل فيقول:
بطل إذا ركب المطهــم خلْته | * | جبـلاً أشمّ يخـف فيه مطهـم |
قسماً بصارمه الصقيـل وانني | * | في غير صاعقة السماء لا أقسم |
لولا القضا لمحا الوجود بسيفه | * | والله يقضـي ما يشـاء ويحكـم |
لقد كان سيف أبي الفضل صاعقة مدمّرة قد حلّت بأهل الكوفة ،
ولولا قضاء الله لاَتى العبّاس على الجيش ، ومحاهم من ساحة الوجود.
2 ـ الاِمام كاشف الغطاء:
وبهر الاِمام محمد الحسين كاشف الغطاء رحمه الله بشجاعة أبي الفضل
( 58 )
فقال في قصيدته العصماء:
وتعبس مـن خوف وجوه أميّة | * | اذا كرّ عبّــاس الوغى يتبسّم |
عليم بتأويـل المنيّـة سيفــه | * | تزول على من بالكريهة معلم |
وان عاد ليل الحرب بالنقع ألْيلا | * | فيوم عداه منـه بالشـر أيوم |
لقد عبست وجوه الجيش الاَموي رعباً وخوفاً من أبي الفضل الذي
حصد رؤوس أبطالهم ، وحطّم معنوياتهم ، وأذاقهم وابلاً من العذاب الاَليم.
3 ـ الفرطوسي:
وعرض شاعر أهل البيت عليهم السلام الشيخ عبد المنعم الفرطوسي نضّر الله
مثواه في ملحمته الخالدة إلى شجاعة أبي الفضل وبسالته في ميدان الحرب
قال:
علم للجهاد فـي كـل زحف | * | علم في الثبـات عنـد اللقاء |
قد نما فيه كــل بأس وعزّ | * | من علـيّ بنجـدة وإبــاء |
هو ثبت الجنان في كل روع | * | وهو روع الجنان من كل راء |
وأضاف الفرطوسي مصوّراً ما أنزله أبو الفضل من الخسائر الفادحة
في جيوش الاَمويين قال:
فارتقى صهــوة الجواد مطلاً | * | علمــاً فـوق قلعة شمّـاء |
وتجلّى والحـرب ليــل قثام | * | قمراً فـي غياهـب الظلماء |
فاستطارت مـن الكمـاة قلوب | * | أفرغت من ضلوعها كالهواء |
وتهاوت جسومهم وهي صرعى | * | واستطارت رؤوسهم كالهباء |
( 59 )
وهو يرمي الكتائب السود رجماً | * | بالمنايا من اليد البيضاء(1) |
إن شجاعة أبي الفضل قد أدهشت أفذاذ الشعراء ، وصارت مضرب
المثل على امتداد التأريخ ، ومما زاد في أهميتها انّها كانت لنصرة الحق
والذبّ عن المثل والمبادئ التي جاء بها الاِسلام ، وانها لم تكن بأي حال
من أجل مغنم مادي من مغانم هذه الحياة.
2 ـ الاِيمان بالله:
أمّا قوّة الاِيمان بالله ، وصلابته فانها من أبرز العناصر في شخصية
أبيالفضل ( عليه السلام ) ، ومن أوليات صفاته ، فقد تربّى في حجور الاِيمان ومراكز
التقوى ، ومعاهد الطاعة والعبادة لله تعالى ، فقد غذّاه أبوه زعيم الموحّدين ،
وسيّد المتّقين بجوهر الاِيمان ، وواقع التوحيد ، لقد غذّاه بالاِيمان الناشىء
عن الوعي ، والتدبّر في حقائق الكون ، وأسرار الطبيعة ، ذلك الاِيمان الذي
اعلنه الاِمام ( عليه السلام ) بقوله: « لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً » وقد تفاعل هذا
الاِيمان العميق في أعماق قلب أبي الفضل وفي دخائل ذاته حتى صار من
عمالقة المتقين والموحّدين ، وكان من عظيم إيمانه الذي لا يحد أنّه قدم
نفسه واخوته وبعض أبنائه قرابين خالصة لوجه الله تعالى.
لقد جاهد العبّاس ببسالة دفاعاً عن دين الله ، وحماية لمبادىَ الاِسلام
التي تعرّضت للخطر الماحق أيّام الحكم الاَموي ، ولم يبغ بذلك إلاّ وجه الله
والدار الآخرة.
____________
(1) ملحمة أهل البيت 3: 329 ـ 330.
( 60 )
3 ـ الاِباء:
وصفة أخرى من أسمى صفات أبي الفضل ( عليه السلام ) ، وهي الاِباء وعزّة
النفس فقد أبي أن يعيش ذليلاً في ظلّ الحكم الاَموي الذي اتخذ مال الله
دولاً ، وعباد الله خولاً ، فاندفع إلى ساحات الجهاد كما اندفع أخوه أبو
الاَحرار الذي رفع شعار العزّة والكرامة ، وأعلن أن الموت تحت ظلال
الاَسنّة سعادة ، والحياة مع الظالمين برماً.
لقد مثّل أبو الفضل ( عليه السلام ) يوم الطفّ الاِباء بجميع رحابه ومفاهيمه فقد
منّاه الاَمويون بإمارة الجيش ، وإسناد القيادة العامة له أن تخلّى عن أخيه
سيّد شباب أهل الجنّة ، فهزأ منهم وجعل إمارة جيشهم تحت حذائه ،
واندفع بشوق وإخلاص إلى ميادين الحرب يجندل الاَبطال ويحصد
الرؤوس دفاعاً عن حرّيته ودينه وكرامته.
4 ـ الصبر:
ومن خصائص أبي الفضل ( عليه السلام ) ومميّزاته الصبر على محن الزمان ،
ونوائب الدهر ، فقد ألمّت به يوم الطف من المصائب والمحن التي تذوب
من هولها الجبال ، فلم يجزع ، ولم يفه بأيّ كلمة تدلّ على سخطه ، وعدم
رضاه بما جرى عليه وعلى أهل بيته ، وانّما سلّم أمره إلى الخالق العظيم ،
مقتدياً بأخيه سيّد الشهداء ( عليه السلام ) الذي لو وزن صبره بالجبال الرواسي لرجح
عليها.
لقد رأى أبو الفضل الكواكب المشرقة ، والممجدين الاَوفياء من
( 61 )
أصحابه وهم مجزّرون كالاَضاحي في رمضاء كربلاء تصهرهم الشمس ،
وسمع عويل الاَطفال ، وهم ينادون العطش العطش ، وسمع صراخ عقائل
الوحي ، وهنّ يندبن قتلاهنّ ، ورأى وحدة أخيه سيّد الشهداء ، وقد أحاط
به أنذال أهل الكوفة يبغون قتله تقرّباً لسيّدهم ابن مرجانة ، رأى أبو الفضل
كل هذه الشدائد الجسام فلم يجزع وسلّم أمره إلى الله تعالى ، مبتغياً الاَجر
من عنده.
5 ـ الوفاء:
ومن خصائص أبي الفضل ( عليه السلام ) الوفاء الذي هو من أنبل الصفات
وأميزها ، فقد ضرب الرقم القياسي في هذه الصفة الكريمة وبلغ أسمى حدّ
لها ، وكان من سمات وفائه ما يلي:
أ ـ الوفاء لدينه:
وكان أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) من أوفى الناس لدينه ، ومن أشدّهم
دفاعاً عنه ، فحينما تعرّض الاِسلام للخطر الماحق من قبل الطغمة الاَموية
الذين تنكّروا كأشدّ ما يكون التنكّر للاِسلام ، وحاربوه في غلس الليل وفي
وضح النهار ، فانطلق أبو الفضل إلى ساحات الوغى فجاهد في سبيله جهاد
المنيبين والمخلصين لترتفع كلمة الله عالية في الاَرض ، وقد قطعت يداه ،
وهوى إلى الاَرض صريعاً في سبيل مبادئه الدينية.
ب ـ الوفاء لاَمّته:
رأى سيّدنا العبّاس ( عليه السلام ) الاَمّة الاِسلامية ترزح تحت كابوس مظلم من
الذلّ والعبودية قد تحكّمت في مصيرها عصابة مجرمة من الاَمويين فنهبت
( 62 )
ثرواتها ، وتلاعبت في مقدراتها ، وكان أحد أعمدتهم السياسية يعلن بلا
حياء ولا خجل قائلاً: (إنما السواد بستان قريش) فأي استهانة بالاَمة مثل
هذه الاستهانة ، ورأى أبو الفضل ( عليه السلام ) أن من الوفاء لاَمّته أن يهبّ لتحريرها
وإنقاذها من واقعها المرير ، فانبرى مع أخيه أبي الاَحرار والكوكبة المشرقة
من فتيان أهل البيت عليهم السلام ، ومعهم الاَحرار الممجدون من أصحابهم ، فرفعوا
شعار التحرير ، وأعلنوا الجهاد المقدّس من أجل إنقاذ المسلمين من الذلّ
والعبودية ، وإعادة الحياة الحرّة الكريمة لهم ، حتى استشهدوا من أجل هذا
الهدف السامي النبيل ، فأي وفاء للاَمة يضارع مثل هذا الوفاء؟
ج ـ الوفاء لوطنه:
وغمرت الوطن الاِسلامي محن شاقّة وعسيرة أيام الحكم الاَموي ،
فقد استقلاله وكرامته ، وصار بستاناً للاَمويين وسائر القوى الرأسمالية من
القرشيين وغيرهم من العملاء ، وقد شاع البؤس والحرمان ، وذلّ فيه
المصلحون والاَحرار ، ولم يكن فيه أي ظلّ لحرية الفكر والرأي ، فهبّ
العباس تحت قيادة أخيه سيّد الشهداء ( عليه السلام ) إلى مقاومة ذلك الحكم الاَسود
وتحطيم أروقته وعروشه ، وقد تمّ ذلك بعد حين بفضل تضحياتهم ، فكان
حقاً هذا هو الوفاء للوطن الاِسلامي.
د ـ الوفاء لاَخيه:
ووفى أبو الفضل ما عاهد الله عليه من البيعة لاَخيه ريحانة
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، والمنافح الاَول عن حقوق المظلومين والمضطهدين.
ولم يرَ الناس على امتداد التاريخ وفاءً مثل وفاء أبي الفضل لاَخيه
الاِمام الحسين ( عليه السلام ) ، ومن المقطوع به أنه ليس في سجلّ الوفاء الانساني
( 63 )
أجمل ولا أنظر من ذلك الوفاء الذي أصبح قطباً جاذباً لكل إنسان حرّ
شريف.
6 ـ قوّة الإرادة:
أمّا قوّة الاِرادة فانّها من أميز صفات العظماء الخالدين الذين كُتب لهم
النجاح في أعمالهم إذ يستحيل أن يحقق من كان خائر الاِرادة ، وضعيف
الهمّة أي هدف اجتماعي ، أو يقوم بأي عمل سياسي.
لقد كان أبو الفضل ( عليه السلام ) من الطراز الاَول في قوة بأسه ، وصلابة
إرادته ، فانظمّ إلى معسكر الحق ، ولم يهن ، ولم ينكل ، وبرز على مسرح
التأريخ كأعظم قائد فذّ ، ولو لم يتّصف بهذه الظاهرة لما كتب له الفخر
والخلود على امتداد الاَيّام.
7 ـ الرأفة والرحمة:
وأترعت نفس أبي الفضل بالرأفة والرحمة على المحرومين ،
والمضطهدين وقد تجلّت هذه الظاهرة بأروع صورها في كربلاء حينما
احتلّت جيوش الاَمويين حوض الفرات لحرمان أهل البيت من الماء حتى
يموتوا أو يستسلموا لهم ، ولما رأى العباس ( عليه السلام ) أطفال أخيه ، وسائر الصبية
من أبناء اخوته ، وقد ذبلت شفاهم ، وتغيّرت ألوانهم من شدّة الظمأ ذاب
قلبه حناناً وعطفاً عليهم ، فاقتحم الفرات ، وحمل الماء إليهم ، وسقاهم ،
وفي اليوم العاشر من المحرّم ، سمع الاَطفال ينادون العطش العطش ،
فتفتت كبده رحمة ورأفة عليهم ، فأخذ القربة ، والتحم مع أعداء
( 64 )
الله حتى كشفهم عن نهر الفرات ، فغرف منه غرفة ليروي ظمأه فأبت رحمته أن
يشرب قبل أخيه وأطفاله ، فرمى الماء من يده.
فتّشوا في تاريخ الاَمم والشعوب فهل تجدون مثل هذه الرأفة
والرحمة ، التي تحلَّى بها قمر بني هاشم وفخر عدنان.
هذه بعض عناصر أبي الفضل وصفاته ، وقد ارتقى بها إلى قمّة المجد
التي ارتقى إليها أبوه.
*
*
*
*
*
( 65 )
مع الأحداث
( 66 )
( 67 )
ورافق أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) منذ نعومة أظفاره كثيراً من الاَحداث
الجسام التي لم تكن ساذجة ، ولا سطحية ، وانّما كانت عميقة كأشدّ ما
يكون العمق ، فقد أحدثت اضطراباً شاملاً في الحياة الفكرية والعقائدية بين
المسلمين ، كما استهدفت بصورة دقيقة إبعاد أهل البيت عليهم السلام عن المراكز
السياسية في البلاد ، واخضاعهم لرغبات السلطة ، وما تعمله على الصعيد
الاقتصادي والاجتماعي ، من أعمال لا تتفق في كثير من بنودها مع التشريع
الاِسلامي ، وقد تجلّى ذلك بوضوح أيّام حكومة عثمان وما سلكته من
التصرفات في المجالات الاِداريه ، فقد عمدت إلى منح مناصب الدولة ،
وسائر الوظائف العامة إلى بني أميّة وآل معيط ، وحرمان بني هاشم ، ومن
يتّصل بهم من أبناء الصحابة من أي منصب من المناصب العامة ، وقد
استولى الاَمويون على جميع أجهزة الدولة ، وراحوا يعملون عامدين أو غير
عامدين إلى خلق الاَزمات الحادّة بين المسلمين ، ومن المقطوع به أنّه لم
تكن لاَكثرهم أيّة نزعة إسلامية ، كما لم تكن لهم أيّة دراية بأحكام القانون
الاِسلامي ، وما تتطلّب إليه الشريعة الاِسلامية من إيجاد مجتمع إسلامي
متطوّر قائم على المودّة والتعاون وبعيد كلّ البعد عن التأخّر.
لقد أشاعت حكومة عثمان الرأسمالية في البلاد ، فقد منحت الاَمويين
وبعض أبناء القرشيين الامتيازات الخاصة ، وفتحت لهم الطريق لكسب
( 68 )
الاَموال ، وتكديسها بغير وجه مشروع ، وقد أدّت هذه السياسة الملتوية إلى
خلق اضطراب شامل لا في الحياة الاقتصادية فحسب ، وانّما في جميع
مناحي الحياة ، وأشاعت القلق والتذمّر في جميع الاَوساط الاِسلامية ،
فاتجهت قطعات من الجيوش المرابطة في العراق ومصر إلى يثرب ،
وطالبت عثمان بالاستقامة في سياسته ، وإبعاد الاَمويين عن جهاز الدولة ،
كما طالبوه بصورة خاصة بإبعاد مستشاره ووزيره مروان بن الحكم الذي كان
يعمل بصورة مكشوفة لتأجيج نار الفتنة في البلاد.
ولم يستجب عثمان لمطالب الثوّار ، ولم يخضع لرأي الناصحين له ،
والمشفقين عليه ، وظلّ متمسّكاً بأسرته ، ومحتضناً لبطانته ، تتوافد عليه
الاَخبار بانحرافهم عن الطريق القويم ، واقترافهم لما حرّمه الله ، فلم يعن
بذلك ، وراح يسدّدهم ويلتمس لهم المعاذير ، ويتّهم الناصحين بالعداء
لاَسرته.
وبعدما اختفت جميع الوسائل الهادفة لاستقامة عثمان لم يجد الثوار
بُدّاً من قتله ، فقَتل شرّ قتلة ، ويقول المؤرّخون انّه تولّى قتله خيار أبناء
الصحابة كمحمد بن أبي بكر ، كما أقرّ قتله كبار الصحابة وعظماؤهم ، وفي
طليعتهم الصحابي الجليل صاحب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وخليله عمّار بن ياسر.
وانتهت بذلك حكومة عثمان وهي من أهمّ الاَحداث الجسام التي
جرت في عصر أبي الفضل ( عليه السلام ) وبمرأى ومسمع منه ، فقد كان في شرخ
الشباب وعنفوانه وقد رأى كيف تذرع الانتهازيّون من الاَمويين بمقتل
عثمان فطبّلوا له ، ورفعوا قميصه الملطّخ بدمائه فجعلوه شعاراً لتمرّدهم
على حكم الاِمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ذلك الحكم القائم على الحق والعدل.
إنّ أسوأ ماتركت حكومة عثمان أنّها ألقت الفتنة بين المسلمين ،
( 69 )
وحصرت الثروة عند الاَمويين وآل أبي معيط ، وعملائهم من القرشيين
الحاقدين على العدل الاجتماعي ، وبذلك استطاعوا القيام بعصيان مسلّح
ضدّ حكومة الامام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) التي كانت امتداداً ذاتياً لحكومة الرسول
الاَعظم ( صلى الله عليه وآله ) .
وعلى أيّ حال فلنترك حديث عثمان ، ونتوجّه إلى ذكر بقيّة الاَحداث
التي جرت في عصر أبي الفضل ( عليه السلام ) .
*
*
*
*
*