في كربلاء
وكان ركب الاِمام في كربلاء فأصرّ عليه الحرّ أن ينزل فيها ، ولم يجد
الاِمام بُدّاً من النزول فالتفت إلى أصحابه قائلاً:
«
ما اسم هذا المكان ؟. . ».
«
كربلاء.. ».
وفاضت عيناه بالدموع ، وراح يقول:
«
اللهمّ إنّي أعوذ بك من الكرب والبلاء.. ».
وأيقن الاِمام بنزول الرزء القاصم ، فالتفت إلى أصحابه ينعي إليهم
نفسه ونفوسهم قائلاً:
«
هذا موضع كرب وبلاء ، ها هنا مناخ ركابنا ، ومحطّ رحالنا ،
وسفك دمائنا.. ».
وسارع أبوالفضل العباس مع الفتية من أهل البيت عليهم السلام ، وسائر
الاَصحاب الممجدين إلى نصب الخيام لعقائل الوحي ، ومخدرات النبوة ،
وقد خيّم عليهنّ الرعب ، وأيقن بمواجهة الاَحداث الرهيبة على صعيد هذه
الاَرض.
ورفع الاِمام الممتحن يديه بالدعاء إلى الله شاكياً إليه ما ألمّ به من
عظيم المحن والخطوب قائلاً:
«
اللهمّ.. انّا عترة نبيّك محمد ( صلى الله عليه وآله ) قد أخرجنا ، وطردنا ،
وأزعجنا عن حرم جدّنا وتعدّت بنو أميّة علينا ، اللهمّ فخذ لنا بحقّنا ،
وانصرنا على القوم الظالمين.. ».
( 167 )
وأقبل الاِمام على أهل بيته وأصحابه ، فقال لهم:
«
الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت
معائشهم فإذا مُحصوا بالبلاء قلَّ الديّانون.. ».
يا لها من كلمات ذهبية حكت واقع الناس واتجاهاتهم في جميع
مراحل التأريخ فهم عبيد الدنيا ، وعبيد السلطة ، وأما الدين والمثل العليا فلا
ظلّ لها في أعماق نفوسهم ، فإذا دهمتهم عاصفة أو بلاء هربوا من الدين ،
ولم يثبت عليه إلاّ من امتحن الله قلبه للاِيمان أمثال الصفوة العظيمة من أهل
بيت الحسين وأصحابه.
ثم حمد الامام ( عليه السلام ) الله وأثنى عليه ، والتفت إلى أصحابه قائلاً:
«
أمّا بعد: فقد نزل بنا ما قد ترون. وان الدنيا قد تغيّرت ،
وتنكّرت ، وأدبر معروفها ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الاِناء ،
وخسيس عيش كالمرعى الوبيل(1) ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به ،
وإلى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله ، فاني لا أرى
الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برما.. »
(2).
لقد أعلن أبو الاَحرار بهذا الخطاب عمّا حلّ به من المحن والبلوى ،
وأعلم أهل بيته وأصحابه عن عزمه الجبّار وأرادته الصلبة في مقارعة
الباطل ، واقامة الحق الذي آمن به في جميع أدوار حياته... وقد وجه إليهم
هذا الخطاب ليكونوا على بيّنة من أمرهم ، ويشاركوه في تحمّل المسؤولية ،
وقد هبّوا جميعاً وهم يسجّلون في تأريخ البشرية أروع الاَمثلة للتضحية
والفداء من أجل إقامة دولة الاِسلام ، وكان أول من تكلّم منهم زهير بن
____________
(1) المرعى الوبيل: هو الطعام الوخيم الذي يخاف وباله وسوء عاقبته.
(2) حياة الاِمام الحسين 3: 98.
( 168 )
القين وهو من أفذاذ الاَحرار فقال له:
« سمعنا يا بن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مقالتك ، ولو كانت الدنيا لنا باقية وكنّا
فيها مخلّدين لآثرنا النهوض معك على الاِقامة فيها.. ».
ومثلت هذه الكلمات شرف الاِنسان الذي لا يضاهيه شرف ، وقد
حكى ما في نفوس أصحابه الاَحرار من الولاء لريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله )
والتفاني في سبيله ، وانبرى بطل آخر من أصحاب الاِمام وهو برير الذي
وهب حياته لله ، فقال له:
يا بن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لقد منّ الله بك علينا أن نقاتل بين يديك ،
وتقطع فيك أعضاؤنا ، ثم يكون جدّك شفيعنا يوم القيامة.. ».
ولا يوجد في البشرية مثل هذا الاِيمان الخالص ، لقد أيقن أن نصرته
لابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فضل ومنّة من الله عليه ليفوز بشفاعة جدّه الاَعظم يوم
يلقى الله.
وانبرى بطل آخر من أصحاب الاِمام ، وهو نافع فأعلن نفس المصير
الذي اختاره الاَبطال من أصحابه ، فقال:
« أنت تعلم أن جدّك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لم يقدر أن يشرب الناس محبّته ،
ولا أن يرجعوا إلى أمره ما أحبّ ، وقد كان منهم منافقون يعدونه بالنصر ،
ويضمرون له الغدر ، يلقونه بأحلى من العسل ، ويخلفونه بأمرّ من الحنظل ،
حتى قبضه الله إليه ، وان أباك عليّاً كان في مثل ذلك ، فقوم قد أجمعوا على
نصره ، وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين ، حتى أتاه أجله فمضى
إلى رحمة الله ورضوانه وأنت اليوم عندنا في مثل تلك الحالة ، فمن نكث
عهده ، وخلع بيعته فلن يضرّ إلاّ نفسه ، فسر بنا راشداً معافى ، مشرقاً ، ان
شئت أو مغرباً ، فوالله ما اشفقنا من قدر الله ، ولا كرهنا لقاء ربّنا ، وإنّا على
( 169 )
نيّاتنا وبصائرنا ، نوالي من والاك ونعادي من عاداك.. »
(1).
دلّ هذا الخطاب الرائع على وعي نافع ، وإدراكه العميق للاَحداث
ودراسته لاَبعادها فقد أعرب أن الرسول الاَعظم ( صلى الله عليه وآله ) بما يملك من طاقات
روحية لم يستطع أن يجمع الناس على محبّته ، ويخضعهم إلى الاِيمان
برسالته ، فقد كان هناك طائفة من المنافقين انتشروا في صفوف المسلمين ،
وهم يضمرون الكفر في دخائل نفوسهم ويظهرون الاِسلام على ألسنتهم ،
وكانوا يبغون للنبيّ ( صلى الله عليه وآله ) الغوائل ويكيدون له في غلس الليل وفي وضح
النهار ، وكذلك حال وصيّه وباب مدينة علمه الاِمام أمير المؤمنين من بعده
فقد ابتلي بمثل ما ابتلي به النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) فقد آمن به قوم وحاربه قوم آخرون ،
وحال الاِمام الحسين ( عليه السلام ) كحال جدّه وأبيه ، فقد آمنت به قلّة مؤمنة من
أصحابه ، وزحفت لحربه الجموع الهائلة من الذين نزع الله الاِيمان من
قلوبهم.
وعلى أيّ حال فقد تكلّم أكثر أصحاب الاِمام بمثل كلام نافع وهم
يعلنون له الاِخلاص والتفاني ، وقد شكرهم الامام ، وأثنى عليهم ، ودعا لهم
بالمغفرة والرضوان.
خروج الجيوش لحرب الاِمام الحسين:
وتمّت أحلام ابن مرجانة ، وتحققت آماله حينما استولت طليعة
جيوشه على ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وأخذ يطيل النظر فيمن ينتدبه لحربه ،
ويرشّحه لقيادة قوّاته المسلّحة ، وتصفح الاَرجاس من أذنابه
____________
(1) مقتل المقرم : 231.
( 170 )
وعملائه ، فلم ير رجساً مثل عمر بن سعد يقدم على اقتراف هذه الجريمة فقد درس
نفسيته ، ووقف على ميوله واتجاهاته التي منها الخنوع والمروق من الدين ،
وعدم المبالاة بارتكاب الآثام والجرائم ، والتهالك على المادة وغير ذلك من
نزعاته الشريرة.
وعرض ابن مرجانة سليل الاَدعياء على ابن سعد القيام بحرب سبط
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فامتنع عن إجابته فهدده بعزله عن ولاية الريّ فلم يطق صبراً
عنها ، فقد سال لها لعابه فأجابه إلى ذلك ، وزحف إلى كربلاء ، ومعه أربعة
آلاف فارس ، وهو يعلم أنّه خرج لقتال ذريّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذين هم خيرة
من في الاَرض ، وانتهى الجيش إلى كربلاء فانظم إلى الجيش الرابض هناك
بقيادة الحرّ بن يزيد الرياحي.
خطبة ابن زياد:
وأمر الطاغية بجمع الناس في رحاب المسجد الاَعظم فهرعوا كالاَغنام
خوفاً من ابن مرجانة ، وقد امتلاَ الجامع منهم فقام خطيباً فقال:
« أيّها الناس: إنّكم قد بلوتم آل أبي سفيان فوجدتموهم كما تحبّون ،
وهذا أمير المؤمنين يزيد ، قد عرفتموه حسن السيرة ، محمود الطريقة ،
محسناً إلى الرعية ، يعطي العطاء في حقّه ، وقد أمنت السبل على عهده ،
وكذلك كان أبوه معاوية في عصره ، وهذا ابنه يزيد يكرم العباد ، ويغنيهم
بالاَموال ، وقد زادكم في أرزاقكم مائة مائة ، وأمرني أن أقّرؤها عليكم ،
واخرجكم إلى حرب عدوّه الحسين فاسمعوا له وأطيعوا.. »
(1).
لقد خاطبهم باللغة التي يفهمونها ، ويتهالكون عليها ، ويقدمون
____________
(1) الطبري 6: 230.
( 171 )
أرواحهم بسخاء في سبيلها ، وهي المادة التي هاموا بحبها ، وقد أجابوه إلى
ما أراد فزجّهم لاقتراف أفظع جريمة في تأريخ البشرية.
واسند القيادة في بعض قطعات جيشه إلى كل من الحصين بن نمير ،
وحجار بن أبجر ، وشمر بن ذي الجوشن ، وشبث بن ربعي ، وغيرهم ،
وقد زحفوا بمن معهم إلى كربلاء لمساعدة ابن سعد.
احتلال الفرات:
وقامت العصابة المجرمة التي تحمل شرور أهل الاَرض وخبثهم
باحتلال الفرات ، ولم تبق شريعة أو منفذ إلاّ وقد وضع عليها الحرس ، وقد
صدرت إليهم الاَوامر المشدّدة من قبل القيادة العامة بالحذر واليقظة كي لا
تصل قطرة من الماء إلى عترة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذين هم من خيرة ما خلق الله.
ويقول المؤرّخون: حيل بين الحسين والماء قبل قتله بثلاثة أيّام
(1)
وكان ذلك من أعظم ما عاناه الاِمام من المحن والخطوب ، فكان يسمع
صراخ أطفاله ، وهم ينادون: العطش ، العطش ، وذاب قلب الاِمام حناناً
ورحمة لذلك المشهد الرهيب ، فقد ذبلت شفاه أطفاله ، وذوي عودهم ،
وجفّ لبن المراضع ، وصوّر أنور الجندي هذا المنظر المفجع بقوله:
وذئـاب الشـرور تنـعـم بالمـاء | * | وأهــل النبـيّ مـن غير مـاء |
يالظلـم الاَقـدار يظمأ قلـب الليث | * | والليــث مـوثــق الاَعضـاء |
وصغار الحسين يبكون في الصحراء | * | يا ربّ أيـن غــوث القضـاء |
____________
(1) مرآة الزمان في تواريخ الاَعيان : 89 .
( 172 )
لقد نزع الله الرحمة من قلوبهم ، فتنكّروا لاِنسانيتهم ، وتنكّروا لجميع
القيم والاَعراف ، فان جميع الشرائع والمذاهب لا تبيح منع الماء عن النساء
والاَطفال فالناس فيه جميعاً شركاء ، وقد أكّدت ذلك الشريعة الاِسلامية ،
واعتبرته حقاً طبيعياً لكل إنسان ، ولكن الجيش الاَموي لم يحفل بذلك ،
فحرم الماء على آل النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) وكان بعض الممسوخين يتباهى ويفخر
لحرمانهم الحسين من الماء ، فقد انبرى الوغد اللئيم المهاجر بن أوس
صوب الامام رافعاً صوته قائلاً:
« يا حسين ألا ترى الماء يلوح كأنّه بطون الحيات ، والله لا تذوقه أو
تموت دونه.. »
(1).
واشتدّ عمرو بن الحجاج نحو الحسين ، وهو فرح كأنّما ظفر
بمكسب أو مغنم قائلاً:
« يا حسين هذا الفرات تلغ فيه الكلاب ، وتشرب فيه الحمير
والخنازير ، والله لا تذوق منه جرعة حتى تذوق الحميم في نار
جهنّم.. »
(2).
وكان هذا الوغد الاَثيم ممن كاتب الاِمام الحسين ( عليه السلام ) بالقدوم إلى
الكوفة.
وانبرى جلف آخر من أوغاد أهل الكوفة وهو عبدالله بن الحصين
الاَزدي فنادى بأعلى صوته لتسمعه مخابرات ابن مرجانة فينال منه جوائزه
وهباته ، قائلاً:
« يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنّه كبد السماء ، والله لا تذوق منه قطرة
____________
(1) أنساب الاَشراف 3: 181.
(2) أنساب الاَشراف 3: 182 ، تأريخ ابن الاَثير 4: 236.
( 173 )
حتى تموت عطشاً.. ».
فرفع الاِمام يديه بالدعاء عليه قائلاً:
«
اللهمّ اقتله عطشاً ، ولا تغفر له أبداً.. »
(1).
لقد تمادى هؤلاء الممسوخون بالشرّ ، وسقطوا في هوّة سحيقة من
الجرائم والآثام ما لها من قرار.
سقاية العباس لاَهل البيت
والتاع أبو الفضل العبّاس كأشدّ ما تكون اللوعة ألماً ومحنة حينما
رأى أطفال أخيه وأهل بيته وهم يستغيثون من الظمأ القاتل ، فانبرى الشهم
النبيل لتحصيل الماء ، وأخذه بالقوة ، وقد صحب معه ثلاثين فارساً ،
وعشرين راجلاً ، وحملوا معهم عشرين قربة ، وهجموا بأجمعهم على نهر
الفرات وقد تقدّمهم نافع بن هلال المرادي وهو من أفذاذ أصحاب الامام
الحسين فاستقبله عمرو بن الحجاج الزبيدي وهو من مجرمي حرب كربلاء
وقد اعهد إليه حراسة الفرات فقال لنافع:
« ما جاء بك؟.. ».
« جئنا لنشرب الماء الذي حلاَتمونا عنه.. »
« اشرب هنيئاً.. ».
« أفأشرب والحسين عطشان ، ومن ترى من أصحابه؟. ».
« لا سبيل إلى سقي هؤلاء ، انّما وضعنا بهذا المكان لمنعهم عن
الماء.. ».
____________
(1) الصراط السوي في مناقب آل النبي: 86.
( 174 )
ولم يعن به الاَبطال من أصحاب الاِمام ، وسخروا من كلامه ،
فاقتحموا الفرات ليملاَوا قربهم منه ، فثار في وجوههم عمرو بن الحجاج
ومعه مفرزة من جنوده ، والتحم معهم بطل كربلاء أبو الفضل ، ونافع بن
هلال ، ودارت بينهم معركة إلاّ انّه لم يقتل فيها أحد من الجانبين ، وعاد
أصحاب الامام بقيادة أبي الفضل ، وقد ملأوا قربهم من الماء.
لقد أروى أبو الفضل عطاشى أهل البيت ، وانقذهم من الظمأ ، وقد
منح منذ ذلك اليوم لقب (السقاء) وهو من أشهر ألقابه ، وأكثرها ذيوعاً بين
الناس كما أنّه من أحبّ الاَلقاب وأعزّها عنده
(1).
أمان الشمر للعباس وأخوته:
وبادر الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن إلى سيّده ابن مرجانة
فأخذ منه أماناً لاَبي الفضل وأخوته الممجّدين ، وقد ظنّ أنّه سيخدعهم ،
ويفردهم عن أخيهم أبي الاَحرار ، وبذلك يضعف جيش الاِمام ، لاَنّه يخسر
هؤلاء الاَبطال الذين هم من أشجع فرسان العرب ، وجاء الخبيث يشتدّ
كالكلب ، وقد وقف أمام جيش الحسين ، وهتف منادياً:
« أين بنو أختنا العباس واخوته؟.. ».
وهبّت الفتية كالاَسود ، فقالوا له:
« ما تريد يابن ذي الجوشن؟.. ».
فانبرى مستبشراً يبدي لهم الحنان المزيّف قائلاً:
« لكم الاَمان.. ».
____________
(1) أنساب الاَشراف 3: 181.
( 175 )
وصاحوا به ، وهم يتميّزون من الغيظ ، فقد لذعهم قوله:
« لعنك الله ، ولعن أمانك ، أتؤمننا ، وابن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، لا أمان
له... »
(1).
وولّى الخبيث خائباً فقد ظنّ أن السادة الاَماجد اخوة الاِمام من طراز
أصحابه الممسوخين الذين باعوا ضمائرهم على ابن مرجانة ووهبوا حياتهم
للشيطان ، ولم يعلم أن أخوة الحسين ( عليه السلام ) من أفذاذ الدنيا ، الذين صاغوا
الكرامة الاِنسانية ، وصنعوا الفخر والمجد للاِنسان.
زحف الجيوش لحرب الحسين
وزحفت طلائع الشرك والكفر لحرب ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في عصر
الخميس لتسع خلون من شهر محرم ، بعد أن صدرت إليهم الاَوامر
المشدّدة من ابن مرجانة بتعجيل القتال وحسم الموقف خوفاً من تبلور رأي
الجيش وحدوث انقسام في صفوفه ، وكان الاِمام محتبياً بسيفه أمام بيته اذ
خفق برأسه ، فسمعت شقيقته عقيلة بني هاشم السيدة زينب أصوات
الرجال ، وتدافعهم نحو أخيها ، فانبرت إليه فزعة مرعوبه ، فايقظته ، فرفع
الاِمام رأسه فرأى أخته مذهولة ، فقال لها بعزم وثبات:
«
إنّي رأيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في المنام ، فقال: إنك تروح إلينا.. ».
وذابت نفس العقيلة أسى وحسرات ، وانهارت قواها ، ولم تملك
نفسها أن لطمت وجهها ، وراحت تقول:
____________
(1) أنساب الاَشراف 3: 184.
( 176 )
« يا ويلتاه... »
(1).
والتفت أبو الفضل إلى أخيه فقال له:
« أتاك القوم.. ».
وطلب الاِمام منه أن يتعرّف على خبرهم قائلاً:
«
اركب بنفسي أنت يا أخي ، حتى تلقاهم ، فتقول لهم: ما بدا
لكم ، وما تريدون؟.. ».
لقد فدى الاِمام ( عليه السلام ) اخاه بنفسه ، وهو مما يدلّ على سموّ مكانته ،
وعظيم منزلته ، وانه قد بلغ قمّة الاِيمان ، وأعلى مراتب المتقين... وأسرع
أبو الفضل نحو الجيش ، ومعه عشرون فارساً من أصحابه ، ومن بينهم زهير
بن القين ، وحبيب بن مظاهر ، وسألهم أبو الفضل عن سبب زحفهم ، فقالوا
له:
« جاء أمر الاَمير أن نعرض عليكم النزول على حكمه ، أو
نناجزكم... »
(2).
وقفل العباس إلى أخيه ، فأخبره بمقالتهم ، وراح حبيب بن مظاهر
يعظهم ويحذّرهم من عقاب الله قائلاً:
« أما والله بئس القوم يقدمون غداً على الله عزّ وجلّ ، وعلى رسوله
محمد ( صلى الله عليه وآله ) وقد قتلوا ذريته ، وأهل بيته ، المتهجّدين بالاَسحار ، الذاكرين الله
كثيراً بالليل والنهار ، وشيعته الاَتقياء الاَبرار.. »
(3).
وردّ عليه بوقاحة عزرة بن قيس فقال له:
____________
(1) ابن الاَثير 3: 284.
(2) البداية والنهاية 8: 177.
(3) حياة الاِمام الحسين 3 : 172 .
( 177 )
« يا بن مظاهر إنّك لتزكّي نفسك.. ».
وانبرى إليه البطل الفذّ زهير بن القين فقال له:
« أتق الله يا بن قيس ، ولا تكن من الذين يعينون على الضلال
ويقتلون النفس الزكية الطاهرة ، عترة خيرة الاَنبياء.. ».
فأجابه عزرة:
« كنت عندنا عثمانياً فما بالك ، .. ».
فردّ عليه زهير بمنطق الشرف والاِيمان:
« والله ما كتبت إلى الحسين ، ولا أرسلت إليه رسولاً ، ولكن الطريق
جمعني وإياه ، فلما رأيته ذكرت به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعرفت ما تقدمون من
غدركم ، ونكثكم ، وسبيلكم إلى الدنيا ، فرأيت أن أنصره ، وأكون في حزبه
حفظاً لما ضيّعتم من حقّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .. »
(1).
لقد كان كلام زهير حافلاً بالصدق بجميع رحابه ، فقد بيّن أنّه لم
يكتب إلى الاِمام بالقدوم إلى الكوفة لاَنّه كان عثماني الهوى ، ولكنه حينما
التقى بالاِمام في الطريق ووقف على واقع الحال من غدر أهل الكوفة به ،
ونكثهم لبيعته انقلب رأساً على عقب ، وصار من أنصار الاِمام ، ومن أكثرهم
مودّة وحباً له ، لاَنّ الاِمام من ألصق الناس برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) .
وعلى أيّ حال فقد عرض أبو الفضل مقالة القوم على أخيه ، فقال
له:
«
ارجع إليهم فان استطعت أن تؤخّرهم إلى غدوة لعلّنا نصلّي
لربّنا هذه الليلة ، وندعوه ، ونستغفره فهو يعلم أنّي أحبّ الصلاة ،
____________
(1) أنساب الاَشراف 3: 184.
( 178 )
وتلاوة كتابه ، وكثرة الدعاء والاستغفار... ».
لقد أراد ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أن يودّع الحياة الدّنيا بأثمن ما فيها
وهي الصلاة والدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن الكريم ، وان يواجه الله
تعالى وقد تزوّد منها.
ورجع أبو الفضل ( عليه السلام ) إلى معسكر ابن مرجانة فأخبرهم بمقالةِ أخيه
فعرض ابن سعد ذلك على الخبيث الدنس شمر بن ذي الجوشن خوفاً من
وشايته إذا استجاب لطلب الاِمام ، فقد كان شمر المنافس الوحيد لابن سعد
على إمارة الجيش كما كان عيناً عليه ، كما أراد أن يكون شريكاً له في
المسؤولية فيما إذا عاتبه ابن زياد على تأخير الحرب.
ولم يبد الشمر أي رأي له في الموضوع ، وانما أحاله لابن سعد
ليكون هو المسؤول عنه ، وانبرى عمرو بن الحجاج الزبيدي فأنكر عليهم
هذا التردد والاِحجام عن إجابة الاِمام قائلاً:
« سبحان الله!! والله لو كان من الديلم ثم سألكم هذه المسألة لكان
ينبغي أن تجيبوه.. »
(1).
ولم يزد ابن الحجّاج على ذلك ، فلم يقل لهم: انّه ابن رسول
الله ( صلى الله عليه وآله ) وانّهم هم الذين غرّوه وكاتبوه بالقدوم إلى مصرهم ، لم يقل ذلك
خوفاً من أن تنقل الاستخبارات العسكرية إلى ابن زياد ذلك فينال العقاب
والحرمان ، وأيّد ابن الاَشعث مقالته ، فاستجاب ابن سعد إلى تأجيل
الحرب ، وأوعز إلى رجل من أصحابه أن يعلن ذلك ، فدنا من معسكر
الاِمام ورفع صوته قائلاً:
____________
(1) تأريخ ابن الاَثير 3: 285.
( 179 )
« يا أصحاب الحسين بن علي قد أجّلناكم يومكم هذا إلى غد فان
استسلمتم ونزلتم على حكم الاَمير وجهنا بكم إليه وان أبيتم
ناجزناكم... »
(1).
وأُرجئ القتال إلى صبيحة اليوم العاشر من المحرّم ، وظلّ جيش
ابن سعد ينتظرون الغد هل يجيبهم الاِمام أو يرفض ما دعوه إليه.
الاِمام يأذن لاَصحابه بمفارقته:
وجمع ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أهل بيته وأصحابه في ليلة العاشر من
المحرم ، وعرض عليهم ما يلاقيه من الشهادة ، وطلب منهم أن ينطلقوا في
رحاب الاَرض ويتركوه وحده ليقلى مصيره المحتوم ، وقد أراد بذلك أن
يكونوا على بيّنة من أمرهم فقال لهم:
«
أثني على الله أحسن الثناء ، وأحمده على السرّاء والضرّاء...
اللهمّ إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة ، وعلّمتنا القرآن ، وفهّمتنا في
الدين وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدة ، ولم تجعلنا من المشركين.
أمّا بعد: فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي ، ولا
أهل بيت خيراً من أهل بيتي ، فجزاكم الله جميعاً عنّي خيراً ، ألا وانّي
لاَظنّ يومنا من هؤلاء الاَعداء غداً ، واني قد أذنت لكم جميعاً فانطلقوا
في حلّ ليس عليكم منّي ذمام ، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه
جملاً ، وليأخذ كل رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي ، فجزاكم الله
جميعاً خيراً ، ثم تفرّقوا في سوادكم ومدائنكم حتى يفرج الله ، فان
____________
(1) حياة الاِمام الحسين 3: 165.
( 180 )
القوم انّما يطلبونني ولو أصابوني لُهوا عن طلب غيري... »
(1).
وتمثّلت روعة الاِيمان ، وسرّ الاِمامة بهذا الخطاب العظيم الذي كشف
جانباً كبيراً عن نفسية أبي الاَحرار ، فقد تجنّب في هذا الموقف الدقيق
الحاسم جميع ألوان المنعطفات ، ووضع أصحابه وأهل بيته أمام الاَمر الواقع
فقد حدد لهم النتيجة التي لا مفرّ منها وهي القتل والتضحية ، وليس هناك
أي شيء آخر من متع الدنيا ، وقد طلب منهم أن يخلوا عنه وينصرفوا تحت
جنح الظلام ، فيتخذونه ستراً دون كل عين ، فلعلّهم يخجلون أن يبتعدوا
عنه في وضع النهار ، فقد جعلهم في حلّ من التزاماتهم تجاهه ، وقد عرّفهم
أنّه بالذات هو الهدف لتلك الوحوش الكاسرة المتعطشة إلى سفك دمه ، فإذا
ظفروا به فلا إرب لهم في طلب غيره.
جواب أهل البيت:
ولم يكد يفرغ الاِمام من خطابه حتى هبّت الصفوة من أهل
البيت عليهم السلام ، وعيونهم تفيض دموعاً ، وهم يعلنون ولاءهم له ، وتضحيتهم في
سبيله ، وقد مثلهم أبو الفضل العباس ( عليه السلام ) فخاطب الاِمام قائلاً:
« لم نفعل ذلك؟!! لنبقى بعدك ، لا أرانا الله ذلك أبداً.. ».
والتفت الاِمام إلى السادة من ابناء عمّه من بني عقيل ، فقال لهم:
« حسبكم من القتل بمسلم ، اذهبوا فقد اذنت لكم... ».
وهبّت فيتة آل عقيل كالاَسود تتعالى أصواتهم ، قائلين:
« إذن ما يقول الناس: ، وما نقول: ، إنا تركنا شيخنا وسيّدنا ، وبني
____________
(1) ابن الاَثير 3: 285.
( 181 )
عمومتنا خير الاَعمام ، ولم نرم معهم بسهم ، ولم نطعن برمح ، ولم نضرب
بسيف ولا ندري ما صنعوا ، لا والله لا نفعل ، ولكن نفديك بأنفسنا واموالنا
وأهلينا نقاتل معك ، حتى نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك... »
(1).
لقد صمّموا على حماية الاِمام العظيم ، والدفاع عن أهدافه ومبادئه ،
واختاروا الموت تحت ظلال الاَسنّة على الحياة التي لا هدف فيها.
جواب أصحابه:
أمّا أصحاب الاِمام ( عليه السلام ) فهم أحرار هذه الدنيا ، وقد اندفعوا يعلنون
للاِمام ( عليه السلام ) الفداء والتضحية دفعاً عن المبادىَ المقدّسة التي ناضل من أجلها
الاِمام ، وقد انبرى مسلم بن عوسجة فخاطب الاِمام قائلاً:
« أنحن نخلّي عنك ، وبماذا نعتذر إلى الله في اداء حقّك ، أما والله لا
أفارقك حتى أطعن في صدورهم برمحي ، وأضرب بسيفي ما ثبت قائمه
بيدي ، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم لقذفتهم بالحجارة حتى أموت
معك.. ».
لقد عبّرت هذه الكلمات عن عميق إيمانه بريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وانّه
سيذبّ عنه حتى النفس الاَخير من حياته.
وانبرى بطل آخر من أصحاب الاِمام وهو سعيد بن عبدالله الحنفي
فخاطب الاِمام قائلاً:
« والله لا نخلّيك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسوله ( صلى الله عليه وآله ) فيك ، أما
والله لو علمت أنّي أقتل ، ثم أحيا ، ثم أحرق ، ثم أذرى يفعل بي ذلك
____________
(1) تأريخ الطبري 6: 238.
( 182 )
سبعين مرّة لما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك ، وكيف لا أفعل ذلك ،
وانّما هي قتلة واحدة ، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا... ».
وليس في قاموس الوفاء أصدق ، ولا أنبل من هذا الوفاء ، فهو يتمنّى
من صميم قلبه أن تجري عليه عملية القتل سبعين مرّة ليفدي الاِمام ( عليه السلام ) ،
ليحفظ بذلك غيبة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وكيف لا يستطيب الموت في سبيله وانّما
هو مرّة واحدة ، ثم هي الكرامة الاَبدية التي لا انقضاء لها.
وانبرى زهير بن القين فأعلن نفس الاتجاه الذي أعلنه المجاهدون
من إخوانه قائلاً:
« والله لوددت أنّي قُتلت ، ثم نشرت ، ثم قتلت حتى أقتل ألف مرّة ،
وان الله عزّ وجلّ يدفع بذلك القتل عن نفسك ، وعن أنفس هؤلاء الفتيان
من أهل بيتك.. »
(1).
أرأيتم وفاء هؤلاء الاَبطال ، فهل تجدون لهم مثيلاً في تأريخ هذه
الدنيا ، لقد ارتفعوا إلى مستوى من النبل والشهامة لم يبلغه أي إنسان وقد
أعطوا بذلك الدروس المشرقة في الدفاع عن الحق.
وأعلن بقيّة أصحاب الاِمام ( عليه السلام ) الترحيب بالشهادة في سبيل إمامهم ،
فجزاهم خيراً ، وأكّد لهم جميعاً أنّهم سينعمون في الفردوس الاَعلى ،
ويحشرون مع النبيين والصدّيقين ، وهتفوا جميعاً:
« الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك ، وشرّفنا بالقتل معك ، أو لا ترضى أن
نكون معك في درجتك يا بن رسول الله.. »
(2).
لقد أُترعت نفوس هؤلاء الاَبطال بالاِيمان العميق ، فتحرّروا من
____________
(1 و2) حياة الاِمام الحسين 3: 168 ـ 169.
( 183 )
جميع ملاذ الحياة ولهوها ، واتجهوا صوب الله ، فرفعوا راية الإسلام عالية
خفّاقة في رحاب هذا الكون.
إحياء الليل بالعبادة :
وأقبل الإمام ( عليه السلام ) مع الصفوة الطيبة المؤمنة من أهل بيته وأصحابه
نحو الله يناجونه بقلوبهم وعواطفهم ، وهم يسألونه العفو والغفران ولم يذق
أحد منهم طعم الرقاد ، فقد كانوا ما بين راكع وساجد وقارىء للقرآن ، وكان
لهم دويّ كدويّ النحل.
وكانوا ينتظرون انبثاق نور الصبح بفارغ الصبر لينالوا الشهادة بين
يديّ ريحانة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ).
وأما معسكر ابن زياد فقد باتوا وهم في شوق لطلوع الصبح ليريقوا
دماء أهل البيت ( عليهم السلام ) ليقترّبوا بها إلى سيّدهم ابن مرجانة.
*
*
*
*
*