2 ـ دوره في بلورة المعارضة السياسية.
المؤسف في قراءات ودراسات الكثير من المؤرخين والمحللين
السياسيين هو ارتباكهم وعدم دقّتهم في تحديد أدوار أئمة أهل البيت عليهم السلام
وتفكيك مدرستهم الفكرية والسياسية في تعاملهم مع السلطات ، وكذلك
عدم قدرة هؤلاء المحللين على إدراك حكمة تنوّع تلك الاَدوار وفلسفتها
وعدم استيعاب حرص الاَئمة على الاحتفاظ بوحدة هدفهم في
المحافظة على الاِسلام عقيدةً وشريعةً ، نظريةً ومنهاجاً.
يأخذ بعض هؤلاء المحللين دور الاِمام الحسن عليه السلام مثلاً في صلحه مع
معاوية ، ويقومون بتفكيكه بعيداً عن ظروفه وأهدافه ، فيُظهرونه ( سلام
الله عليه ) مصالحاً مساوماً متنازلاً قد رضي بانصاف الحلول مؤيداً
ومبايعاً ، بعيدين عن الاِنصاف والحقّ طبعاً ، وبعيدين عن الدراسة
التحليلية المتأنية التي تضفي على البحث العلمي رصانته وموضوعيته ،
وللحدِّ الذي يسفّ البعض فيصفه ـ عليه السلام ـ بأنّه مذلّ المؤمنين ـ كما خاطبه
أحد أعوانه يوماً ـ متناسين رأي أبيه فيه في صفين حين قال :
« إملكوا عني
هذا الغلام ، لشدّة مراسه في الحرب والقتال » ومتجاهلين موقفه هو نفسه
ـ سلام الله عليه ـ حين خاطب جيشه قائلاً :
« ألا إنّ معاوية دعانا لاَمر
( يقصد الصلح )
ليس فيه عزّ ولا نصفة ، فإن أردتم الموت رددناه عليه ،
وحاكمناه إلى الله تعالى بظبا السيوف ، وإن أردتم الحياة الدنيا ، قبلنا
وأخذنا لكم الرضا ... » فإذا بالناس من كل جانب ومكان يهتفون
ويصرخون ويولولون : « البقية ... البقية » !!
(1) .
فتجرّع ـ سلام الله عليه ـ مرارة ذلك الوصف وقساوة تلك التهمة على
____________
(1) الكامل في التاريخ | ابن الاَثير 3 : 204 ، 217 .
( 30 )
أن يحملهم على ما يكرهون فيُقال فيه أنّه قتلهم أو قاتل بهم على المُلك ،
فضلاً عن حرصه على حقن دماء شيعته بعد أن تأكد لديه نكوص جيشه
وتخاذل قادته وانهيار جنوده.
وكما تهلهل مثل هذا التحليل مع الاِمام الحسن عليه السلام ، كان قد تهلهل مع
أبيه عليه السلام حين إتُّهم أنّه لم يكن سياسياً فذّاً ؛ إذ لم يتراجع خطوة إلى الوراء
من أجل خطوتين إلى الاَمام ـ كما يقول السياسيون الذرائعيون اليوم ـ
فيهادن معاوية ثم ينقضّ عليه غدراً ، كما هو شأن الاَخير وطبعه.
وحين يصل الدور إلى الاِمام الرضا عليه السلام أيضاً ترى بعضهم يحاسبه على
قبوله بولاية العهد ، فيما حاسبه آخرون على عدم قبوله لها في البداية ،
فاتهموه بالتفريط بدماء شيعته عبر إصراره على الرفض ـ حسب زعمهم ـ.
وهكذا مع الاِمامين الباقر والصادق عليهما السلام اللذين انصرفا إلى العلم
وترسيخ العقيدة ، ولم يرفعوا السيف لمواجهة طواغيت زمانهم ، وكأن
المؤرخين لم ينظروا إلى أئمة أهل البيت عليهم السلام ، إلاّ من زاوية واحدة أو بُعدٍ
واحد ، فجاءت دراساتهم وتحليلاتهم عرجاء تمشي على رجلٍ واحدة ،
أو عوراء تنظر بعينٍ واحدة..
أما موقف الاِمام السجاد ـ موضوع البحث ـ من الثورة والجهاد فكان هو
الآخر عُرضة لهذا التحليل الشاطح الذي وضع أُسسه صنفان من الناس :
صنف يحب الدعة والاسترخاء فيروح يُفسِّر موقفه عليه السلام دعةً واسترخاءً
للتغطية على فشله هو وهزيمته ونكوصه.
وصنفٌ يهوى الثورة والتمرد فيتحامل على الاِمام جسارة أو تجرؤاً
فيتّهمه بحبّ الدعة والاسترخاء زوراً وإفكاً.
وهذا يعني أن كلاًّ من هذين الصنفين ـ إذا أحسنّا الظن بهما ـ لم يضع
( 31 )
نفسه في مكانه ، وإنّما درس القضية أو قرأها من خارج الظرفين الزماني
والمكاني ، وراح يسبح في فضاء هذا الاِمام العظيم ولكن كمن يطير بلا
جناح ، أو كمن يتعلّم السباحة على حصير ...
فبعضهم يزعم أنّه اعتزل السياسة والتصدّي بعد فجيعته بوالده
وإخوته ، وغدر الغادرين من أهل زمانه ، فاكتفى بالتضرّع والدعاء
(1).
وبعضهم يحلّل إنّه آثر الدعاء والبكاء على غيرهما ؛ لاَنّهما أيسر مؤونةً
وأقلُّ كلفةً من المواجهة والنزال وحزِّ الرؤوس وجزِّ الرقاب..
(2).
وبعضهم يقول إنّه آثر الدعة والراحة طمعاً بهما بعد أن رأى ما رأى من
هول المصائب التي حلّت باخوته وأهل بيته في مجزرة كربلاء...
ويشطح صنف آخر أكثر من هؤلاء جميعاً فيزعم أنّه صالح وساوم
السلطة ونأى بنفسه بعيداً عن الثورات الشيعية التي تفجّرت في زمانه ؛ بل
تبرأ منها في السرِّ والعلن
(3)ـ حسب زعمهم ـ ومن هنا فإنّه أخذ على
أيدي هؤلاء الثوار وخذلهم وتنصّل من مسؤوليته تجاه ثوراتهم ، وما إلى
ذلك من هذه الدراسات المبتورة والتحليلات الشوهاء...
فلنتوقف قليلاً أمام هذه المزاعم وندرسها بموضوعية وتأنٍ بعيداً عن
لغة البُعد الواحد والنظرة الاَحادية والتحليل الجاهز ، وباختصار شديد
طبعاً ، آملين ألاّ نكون في هذا البحث الموجز مختزلين أو قافزين على
ظهر التاريخ والمؤرخين ..
____________
(1) راجع جهاد الشيعة | الدكتورة الليثي : 29.
(2) حياة علي بن الحسين عليه السلام | كاظم جواد السبتي : 320. ونظرية الاِمامة | صبحي
الصالح 349 .
(3) ثورة زيد | ناجي الحسن : 30 ـ 31. وجهاد الشيعة | الدكتورة الليثي .
( 32 )
المرحلة المنعطف :
بالتأكيد أنّ مرحلة الاِمام السجاد عليه السلام يمكن أن تسجّل منعطفاً مهماً بين
مرحلتين فاصلتين في عمل أئمة أهل البيت عليهم السلام :
الاُولى : : مرحلة التصدّي والصراع السياسي والمواجهة العسكرية ضدّ
المنحرفين والمحرّفين من الفاسقين والمارقين والناكثين ، وقبلهم الكفرة
والمنافقين وأعداء الدين الواضحين...
الثانية : مرحلة المعارضة السياسية الصامتة ، أو الرفض المسؤول
الواضح للانحراف ، أمام الضبابية والزيف الملفّع بالدين ، وبعد ذلك بناء
القاعدة الشعبية والجماعة الواعية التي تتحمّل عبء الرسالة لمواجهة
الانحراف والتحريف اللذين غرقت أو استُغرقت فيهما الحالة الدينية
تحت شعارات الاِسلام نفسها ويافطات الآيات القرآنية والاَحاديث
النبوية..
ومن هنا ، وحين تختلط المفاهيم ، وتهتزّ القيم وترتجّ المقاييس لابدّ
من وقفةٍ متأنيةٍ تتيح للاُمّة أن تلتقط أنفاسها ، وتتأمل في ماضيها وتدرس
حاضرها لعلّها تضع بعض الخطوات الصحيحة على سُلِّم مستقبلها الآتي..
تأسيساً على ذلك ، كان أمام الاِمام زين العابدين عليه السلام أن يُلفت الاَنظار
إلى امور كثيرة اختلط حابلها بنابلها ، وكان عليه أن يجذّر أمور اُخرى في
عقول وضمائر الجماعة المؤمنة التي يُراد لها أن تحفظ الاِسلام عقيدةً
ونظاماً ، شريعةً ومنهاجاً ، وليس شعاراً وسوقاً ، أو تجارة واستهلاكاً...
ومن هذه الاُمور ما يلي :
1 ـ تركيز ثورة الاِمام الحسين عليه السلام في ضمائر الناس باعتباره خرج لطلب
الاِصلاح في أُمّة جدّه فعلاً ، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر ، داعياً
( 33 )
لتحكيم دين الله ، ولم يخرج ( أشراً ولا بطراً ) ، بل لم يخرج على إمرة
( أمير المؤمنين يزيد !! ) ولم ينوِ تمزيق الصف المسلم أو تفريق جماعة
المسلمين ، وبالتالي فإنّه قُتل بسيف أعداء الدين ، وليس ( بسيف جدّه )
كما كان يروّج الاعلام الرسمي آنذاك ، وبعض المؤرخين المتخلفين
اليوم
(1) .
أي كان على الاِمام زين العابدين عليه السلام أن يفضح الشرعية المزيفة التي
تقنّع بها الحكم الاَموي ، ويكشف زيف شعاراته الاِسلامية العريضة
ومزاعم انتمائه للنبي والوحي والرسالة الاِسلامية ، وبالتالي يوضح معالم
الاِسلام المحمدي الاَصيل والفرق بينه وبين الاِسلام المدّعى الملفّع
بتلكم الشعارات .. والعناوين واللافتات ..
2 ـ بناء الجماعة الواعية ، أو كما تُسمى القاعدة الجماهيرية الشعبية ،
المؤهّلة لحفظ الرسالة وحدودها بعيداً عن الزيف والتزييف وسياسة
تسطيح الوعي التي غطّت مساحات عريضة من الجمهور المسلم بحيث
أضحت تلك الجماهير لا تفرّق بين المفاهيم ومصاديقها ، أو بين
الشعارات المرفوعة وضرورة تبنيها ، أو بين الاَصيل والطارىء ، الاَمر
الذي يُسبّب الفتنة فعلاً أو يُشعلها ، ويحجب الرؤية الواضحة عن النفوس
البريئة التي تتأثر بالشعار ولا تغوص في أعماق الاُمور ...
3 ـ تعميق مفهوم الاِمامة والولاية في الجماعة الخاصة بعد أن اهتزّت
____________
(1) ابن تيمية ، حياته ، عقائده | صائب عبدالحميد : 390 ، الطبعة الثانية.
حيثُ يقول ابن تيمية بالحرف الواحد : ولم يكن في خروجه مصلحة لا في دين ولا في دنيا ،
وكان في خروجه وقتله من الفساد مالم يكن يحصل لو قعد في بلده .
وراجع : منهاج السُنّة | ابن تيمية 2 : 241 .
وذهب أبو بكر العربي المالكي في ( العواصم من القواصم ) إلى نحو هذا الرأي .
( 34 )
لدى العامّة تحت ضغط الاِعلام المزيف وأبواقه المأجورة ، ومن ثمّ
توضيح الخرق الفاضح الذي تمَّ خلاله فصل المرجعية الفكرية عن
المرجعية السياسية أو الاجتماعية ، وبالاَحرى فصل الدين عن السياسة ،
وإبقاء مقاليد الاُمور بيد الصبيان والغلمان ، يعبثون بمقدرات البلاد
والعباد.
4 ـ العمل بدقّة في مقطع زمني بالغ الحساسية ، يحسب على الاِمام
حركاته وسكناته ، ويعدّ عليه أنفاسه وكلماته من جهة ، وموازنة ذلك مع
عمل إعلامي وتبليغي بالغ الصعوبة والتعقيد لكشف المعالم الحقيقية
للدين ، بعيداً عن عيون السلطة ورقابتها وأزلامها وجواسيسها المنتشرين
في كل زاوية وزقاق ، من جهة اُخرى...
القتال على جبهات متعددة :
ومن هنا كان على الاِمام أن يقاتل على جبهات متعددة ويستخدم
لغات متعددة في آن واحد ، وهذا أشقّ ما يتحمله أي زعيم سياسي أو
قائد ديني يريد مواصلة مسيرته وتركيز خطّه في خندقين متقابلين :
خندق العمل السري ، وخندق الساحة العلنية المكشوفة التي تتربص
به الفرص ، وتحسب عليه الكلمات ، وربما تسعى لاستدراجه والايقاع به
وإبعاده عن أصحابه أو إبعادهم عنه ، وخاصة الخلّص المؤثرين فيهم ،
لئلاّ يتأثروا به ويحملوا رسالته وإشعاعاته ودفين أسراره وتحركاته
وأهدافه..
أمام هذا المأزق ، وحيث لم يبقَ في مدينة الرسول ومكة
« أكثر من
( 35 )
عشرين رجلاً يحبوننا أهل البيت » كما قال الاِمام زين العابدين عليه السلام
(1) ، ولم
يبقَ من خيار أمام الاِمام إلاّ التحرك بحذر وتؤدة ، ربما لا يُفهمان حتى من
قبل بعض المخلصين الذين يريدون أو يرغبون موقفاً علنياً صريحاً تجاه
تحركاتهم التي تُحسب عليه ولا تحسب عليهم باعتباره الرمز والمحور
وهو المتهم بأنه المحرّك لكلِّ تيار معارض أو متململ ضد السلطة
والحاكم.
وبذلك فإنّه أوحى للسلطة بأنه ابتعد تماماً عن العمل السياسي
وانصرف للتعبّد والدعاء ، وهو من ناحية اُخرى يسعى إلى تركيز المفهوم
الاِمامي الذي أُولى أولوياته مواجهة الظالم بعد الاَمر بالمعروف والنهي
عن المنكر...
وهنا حار المؤرخون فعلاً في تشخيص موقف الاِمام من حركات
المعارضة وخاصة تلك التي اشتعلت قريباً منه ، أو تلك التي رفعت
شعارات شيعية مثل ثورة التوابين بقيادة سليمان بن صُرد الخزاعي ، أو
ثورة المختار وشعارها المعروف : « يالثارات الحسين » !!
فمن قائلٍ إنّه عليه السلام تبرّأ من ثورة المختار مثلاً ، إلى قائل إنّه حينما جيء له
برأس عبيدالله بن زياد ورأس عمر بن سعد وببعض قتلة الحسين ، خرّ
ساجداً لله قائلاً :
« الحمدُ لله الذي أدرك ثأري من أعدائي ، وجزى الله
المختار خيراً » (2) .
ومنهم من قال إنّه لم يُجب على رسالة المختار ورفض دعوته ببيعته
له عليه السلام ، وإن ذلك من حقّه ، لكون المختار لم يَستَشِرْه في تحركه أو حركته
____________
(1) الاِمام السجاد عليه السلام | حسين باقر : 63.
(2) رجال الكشي : 127| 203 عن عمر بن علي بن الحسين. ومناقب آل أبي طالب 4 : 157 .
( 36 )
وإنّه كان بعيداً عنه ولم يكن الاِمام يعرف مكنون توجهاته ونواياه ، إلى
قائل : إنّ المختار لم يتحرك إلاّ تحت إشارته وتلقّي الضوء الاَخضر منه ،
وهكذا بين مشرّق ومغرّب ويمين ويسار.
أمام هذه المفارقات أو المفترقات لابدّ من القول أن الطريق الاَفضل
لاَن يستكمل الاِمام كافة أهدافه ، كان عليه توزيع الاَدوار وعدم الانجرار
إلى لعبة السياسة القذرة ، والاحتفاظ بالقدر المعقول من حلقاتها التي
يستفيد منها القائد ، ولكن لا أن يقع في مستنقعها الآسن ، فتحسب عليه
بعض شطحاتها والتواءاتها وتجاوزاتها...
هذه الموازنة الدقيقة أو المعادلة الصعبة ، لم يكن من السهل على
الاِمام السجاد عليه السلام عبورها أو تمريرها ، لاسيّما وانه كان يمارس عمله تحت
الاَضواء وفي الهواء الطلق وتحت رقابة العيون والجواسيس من جهة ،
وبالتالي فلا ينبغي أن يوحي للسلطة أنّه معارض يبغي الحكم والسلطة ،
ولكنه من جهة اُخرى يريد التأكيد على أنّه وصي ووريث ذلك الاِمام
العظيم الذي ستبقى حرقة قتله تلتهب في نفس كلِّ شريف عرفه وعايشه
وعاشره ، فضلاً عن كونه نجله وولده والمفجوع الاَول بقتله والمسؤول
عن الثأر له ومواصلة طريقه ، فضلاً عن أنّه حامل رسالته ومؤدي أماناته
وامتداده والاِمام المستخلف من بعده على البلاد والعباد...
هكذا كان الاِمام السجاد يحيا ، وهكذا كانت تمر أيام حياته وساعاته
غصّة بعد غصّة ، وألماً بعد ألم ، والمهمة تكبر وتكبر ، وعليه إتمام
المشوار وإكمال الشوط إلى النهاية.
فهو من جهة لا يريد المغامرة بتركةٍ ثقيلة عليه أداؤها في تبليغ الرسالة
وحمل الاَمانة وبلورة أحكام الدين التي سفّهها حكام بني أمية وجعلوها
( 37 )
مهزلة وحكاية ، ومن جهة اُخرى يريد تحريك أجواء الصراع ضد الظالمين
واستثمار فضاءاته الحرّة لتطويق مساعي الحكام الاَمويين في الالتفاف
على جريمتهم في تحريف الدين وخبثهم في احتواء غضب الاُمّة
المقدس ضد قتلة الاِمام الحسين عليه السلام وأصحاب الحسين.
ومن جهة ثالثة : لا يريد أن يُتّهم أنه اعتزل التصدي تشبثاً بالحياة
وحرصاً على حطامها ، بل انه كان يسعى إلى تسفيه تلك التهمة باعتباره
أزهد الناس في حياة نتنة ( اغتالت حسين السبط واختارت يزيداً )...
وفوق ذلك كلّه أنّه عليه السلام لم يرد أن يعطي للمتقاعسين والمتخاذلين عذراً
آخر لتبرير قعودهم وغدرهم واحتمائهم بعزلته وانطوائه ، أي اتخاذ ذلك
ذريعةً وغطاءً لنكوصهم وجبنهم وتهافتهم على الدنيا وملذّاتها ، وبالتالي
مواصلة طريق الانحراف الذي كان عليه السلام أصدق الناس في محاربته ،
وأمضاهم في مناجزته ومناوءته...
الحصيلة :
كانت حصيلة هذا العمل الدؤوب والمنهج الحكيم ، والموازنة
الدقيقة ، وبعد أن كان الناس قد ( ارتدوا إلاّ ثلاثة ) و( لم يبقَ في المدينة
ومكة أكثر من عشرين شخصاً محباً لاَهل البيت ) ـ كما ذكرنا ـ ، وبعد
انقطاع مفتعل موهم عن مسرح الاَحداث ، واستثمار موفّق لظروف الزمان
والمكان ـ كما سيأتي ذكره ـ كانت الحصيلة أن استطاع الاِمام السجّاد عليه السلام
وعدد قليل من المخلصين الذين تظافرت جهودهم على نصرته أن يحقق
نتائج قياسية ويترك آثاراً عظيمة لا يقدر على تحقيقها أي زعيم أو قائد
يمرُّ بظروفه وتعقيدات المقطع الزمني الحساس الذي عاشه أو تفاعل معه
( 38 )
أو انفعل فيه.
وكان من هذه الآثار الاَرقام التالية :
* ( كان القرّاء لا يخرجون إلى مكة حتى يخرج علي بن الحسين ،
ومعه ألف راكب ).
* ( كان القوم لا يخرجون من مكة حتى يخرج علي بن الحسين سيد
العابدين ).
* ( قال الزهري : نعم.. لقيته وما لقيت أحداً أفضل منه ، والله ما علمتُ
له صديقاً في السرِّ ، ولا عدّواً في العلانية ، فقيل : وكيف ذلك ؟ قال : لاَني
لم أرَ أحداً وإن كان يحبه إلاّ وهو لشدّة معرفته بفضله يحسده ، ولا رأيت
أحداً وإن كان يبغضه إلاّ وهو لشدّة مداراته له يداريه ... )
(1).
* ( ... حج هشام بن عبدالملك فلم يقدر على استلام الحجر الاَسود ،
من شدّة الزحام فنُصب له منبر فجلس ... إذ أقبل علي بن الحسين عليه السلام
وعليه إزار ورداء ، فجعل يطوف ، فإذا بلغ موضع الحجر تنحّى الناس
حتى يستلمه هيبة له وإجلالاً .. ) الاَمر الذي أزعج هشام ، فسأل متجاهلاً
له : من هذا ؟ فكان جواب الفرزدق في قصيدته المعروفة التي دفع
ضريبتها بعد فترة وجاء فيها :
هذا الذي تعرف البطحـاء وطأته * والبيت يعرفـه والحـلُّ والحـرمُ
هـذا ابـن خيـر عباد الله كلُّهم * هـذا التقي النقـي الطاهـر العلمُ
____________
(1) بحار الاَنوار| المجلسي 46 : باب 5 ـ 21 ، معلوم أن الزهري من علماء الدولة.. ويبدو أن
تحليله للحب والكراهية هنا قد جنح في مالا يمكن تفسيره إلاّ بمعنىً آخر لا نرى ضرورة
للتفصيل فيه ، لكونه لم يخرج إلاّ من موقف الزهري من الاِمام عليه السلام ، والزاوية التي كان ينظر
إليه من خلالها ..
( 39 )
إذا رأتـه قـريش قـال قـائلهـا * إلـى مناقب هـذا ينتهـي الكـرمُ
وليس قـولك مـن هذا ؟ بضائره * العُرب تعرفُ من أنكرت والعجمُ (1)
* ( وقال القرشي لابن المسيّب : ... ثم غاب عني فترة حتى أتيتُ
مكة ، فإذا بحلقة مستديرة ، فاطلعتُ لاَنظر فإذا صاحبي فسألت عنه ،
فقيل : هو زين العابدين ... )
(2).
* أثناء ثورة المدينة التي تفجّرت ردّاً على مجون الاَمويين وقتلهم لآل
بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فزع مروان كأشدّ ما يكون الفزع مع عياله إلى بيت الاِمام زين
العابدين ؛ لاَنّ الثورة كانت تستهدفه ، فضمّ الاِمام نساء الاَمويين إلى
حرمه ، وقيل أنّه كفل أربعمائة امرأة مع أولادهن وضمهنّ إلى عياله حتى
قالت واحدة منهنّ : إنّها ما رأت في دار أبيها من الراحة والعيش الكريم
مثل ما رأته في دار الاِمام علي بن الحسين عليهما السلام
(3).
* وصفه عمر بن عبدالعزيز قائلاً : ( إنّه سراج الدنيا وجمال
الاِسلام )
(4) .
* و ( لمّا مات شهد جنازته البرّ والفاجر وأثنى عليه الصالح والطالح ،
وانهال الناس يتبعونه حتى وضعت الجنازة )
(5).
____________
(1) رجال الكشي : 129 ـ 130 | 207.
(2) بحار الاَنوار 46 : باب 5 ـ 78.
(3) الاِمام زين العابدين | أحمد فهمي : 64.
(4) مقدمة الصحيفة السجادية | السيد محمد باقر الصدر : 6.
(5) رجال الكشي : 117 ـ 118 | 188 عن سعيد بن المسيّب.
( 40 )
( 41 )
الفصل الثاني
ظاهرة البكاء عند الاِمام زين العابدين عليه السلام
بين البكاء والتباكي :
بين البكاء والتباكي الهادفين خيط رفيع لا يمكن تجليته واكتناه فلسفته
إلاّ بفهم الهدف من البكاء أولاً ، والتباكي ثانياً.
فإذا كان الهدف من البكاء هو تربية النفوس وتجلية الصدأ الذي يرين
عليها جرّاء زحمة الحياة وقساوة العيش ، ومن ثم توجيه البكاء إعلامياً
للتأثير على الناس كشكل من أشكال العمل السياسي أو الرسالي الهادف
النبيل ، يأتي هنا ممدوحاً ومندوباً ، وهو غير الجزع والضعف والنفاق
والرياء الذي له أهداف هابطة اُخرى.
أي أنّه في الدائرة الاُولى عاطفة نبيلة يمكن أن تنتزع من الاِنسان
دواعي قسوة القلب وغلظته وشدّته ، وتحيله أكثر شفافية وسماحة ورقّة
من جهة ، وهو عمل تربوي لتوجيه النفوس وتربيتها وتهذيب مشاعرها
وأحاسيسها من جهة اُخرى.
وهكذا التباكي هو الآخر ، إمّا أن يكون تمثيلاً أجوف لا هدف وراءه
ولاجدوى منه ولا طائل ، وإمّا أن يكون مواساةً للباكي في صدق بكائه
وتصديق انفعاله وتفاعله مع حدث ما أو مصيبة ما ، أو يكون مشاركةً
إنسانية ووجدانية تواسي المبكى عليه في عظمة تضحيته ونبل إقدامه
( 42 )
وهيبة موقفه ، وبالتالي فإنّ الدائرة الاُولى غير الثانية بالتأكيد..
ومن هنا نلمس الفرق بين الندبة المعروفة :
ويصيح واذلاّه أيـن عشيرتي * وسراة قومي أين أهل ودادي
وبين الاُخرى التي تفجّر الدموع دماً :
لا تطلبوا قبر الحسين بشرق أرضٍ أو بغربِ * فدعـوا الجميع وعـرجّوا فمشهـده بقلبي
تفسير ظاهرة البكاء عند الاِمام عليه السلام :
وكما ارتبك بعض المؤرخين في تفسير دور الاِمام السجاد عليه السلام في ريادة
مشروع المعارضة للسلطة الاَموية ، وأخفقوا في تفسير مواقفه الدقيقة
لبلورة الاتجاه المناهض لها ، ارتبك بعضهم الآخر في تفسير ظاهرة البكاء
المعروفة لديه ، وراحوا يشرّقون حولها ويغرّبون أيضاً..
نعم ، اتجه بعضهم إلى تحليل الظاهرة على أنها فجيعة ولدٍ بأبيه
وأخوته فقط ، وبالتالي فانها لا تعدو كونها عاطفةً جياشةً لا يمكن التحكّم
بانفجارها وتدفّقها في لحظات الانفعال الوجداني الذي لا يُكبح.. فيما
اعتبرها آخرون أُسلوباً سياسياً ذكياً لاستنهاض الناس وتذكيرهم بالظلامة
الكبيرة التي لحقت بأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
وبين هذا التفسير وذاك ، راح المؤرخون يحلّلون ويكتبون ويبحثون ،
وكلّ من زاويته أو فهمه للبكاء والتباكي ، فمن حزين مفجوع ينفّس ببكائه
عن غصّة وألم دفينين لا يستطيع منهما فكاكاً ، إلى بكّاءٍ متباكٍ ينوي
ببكائه وتباكيه إذكاء نار الغضب المقدس ضد الظالمين الذين تجرأوا على
ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه والصفوة من خيرة خلق الله بعد
( 43 )
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ..
ومن هنا فلا يستطيع المؤرخ أو المحلل السياسي تفسير ظاهرة البكاء
لدى الاِمام السجاد تفسيراً علمياً رصيناً إلاّ من خلال دراسة الظروف التي
عاشها عليه السلام والفضاء الاِعلامي والسياسي الذي كان يتنفّس فيه ، وإلاّ شطّ به
التحليل بين أقصى اليمين وأقصى اليسار ، وجنح في تفسير هذه الظاهرة
وفق ظروف اُخرى ، ربما نفسية أو اجتماعية ، أو سياسية ، هي في
الحقيقة ، غير تلك التي يجب أن تفسّر من خلالها أو على ضوئها...
فحين نفهم مثلاً أنّ طائفةً كبيرةً من الناس كانت تجهل الدواعي
والاَسباب التي دفعت الاِمام الحسين عليه السلام لخوض تلك المعركة غير
المتكافئة ، يمكن أن نمسك بخيط واحد من خيوط التفسير العلمي لبكاء
الاِمام السجاد عليه السلام .
وحين ندرك أن الاِعلام الاَموي كان يفسّر خروج الاِمام الحسين عليه السلام ضد
الطاغية يزيد بأنّه صراع على السلطة ، وأنه بخروجه إنّما شقّ عصا الطاعة
وفرّق الجماعة ، وأن الصراع بين الحسين ويزيد إنّما هو صراع شخصي
تفجّر بين عائلتين أو بيتين يعتدُّ كل منهما بتأريخه وأمجاده ، وهما البيت
الاُموي والبيت الهاشمي ، ويعتقد كلّ منهما بوراثته لتراث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ،
تكون الكارثة أكبر والرزيّة أدهى على الاِمام السجاد عليه السلام ، لاَنّه سيواجه
صعوبة بالغة في توضيح هذا المشتبك المؤلم ، ولو عِبر الدموع الغزيرة
والنحيب المتواصل الذي أصبح إحدى خصال نفسه الزكية ، وطابعاً
لروحه الطاهرة.
ولما كان إعلام السلطة آنذاك هو الحاكم والمهيمن على عقول الناس
وأفكارهم ، وللحدِّ الذي يواجه به أحدهم الاِمام الحسين عليه السلام
( 44 )
قائلاً ( ياحسين ألا تتقي الله : تخرج من الجماعة وتفرّق بين هذه
الاُمة )
(1) .
وأكثر من ذلك حين يواجه المرء نداءات تخرج من هنا وهناك في
أرض المعركة ، تقول ( الزموا طاعتكم ولا ترتابوا في قتل من مرَقَ من
الدين وخالف إمام المسلمين ) وفي رواية اُخرى ( أمير المؤمنين )
(2).
وحين يسمع عفوية ذلك الشيخ الكبير الذي لا يعرف من الامور شيئاً ،
فراح يواجه السبايا عند دخولهم الشام بقوله : ( الحمدُ لله الذي أهلككم
وقتلكم وأراح البلاد من رجالكم وأمكنَ منكم أمير المؤمنين يزيد )
(3).
تكون الرزية أكبر على الاِمام السجاد عليه السلام ، ويكون نشيجه هو المتنفّس
الوحيد للتعبير عن الاَلم والمرارة ، وهو تحت مخالب اللئام وصليل
سيوفهم وقعقعة رماحهم.
المواجهة أو الصبر :
في هذا الجو الاِعلامي الماكر ، ومن هذا الفضاء الملبّد بكل تهويمات
التضليل ، والتكتم والتعتيم على أعظم ثائر وأعظم ثورة أرادت أن تعيد
الحق إلى نصابه ، وتستنهض الضمائر الميّتة وبتضحية قلّ نظيرها في
التاريخ البشري انتصاراً للدين المضيّع والحدود المستباحة ، كان على
الاِمام السجاد أن ينتهج أحد خيارين :
____________
(1) راجع : تاريخ الطبري 4 : 289 ، والقول هذا منسوب إلى يحيى بن سعيد الذي أرسله أمير
مكة لاِرجاع الحسين وثنيه عن التوجه إلى العراق.
(2) تاريخ الطبري 4 : 331.
(3) الاِمام السجاد| حسين باقر : 102.
( 45 )
الاَول : هو المواجهة العلنية الصريحة ، والتنديد المباشر باجراءات
السلطة الحاكمة وفضحها ، أي إقدامه عليه السلام على عملية استشهادية اُخرى
تلحقه بأبيه وإخوته ، لا تكلّف خصومه أكثر من ضربة سيفٍ واحدة
لايتردّد عن القيام بها جلواز واحد من جلاوزة السلطة يتقرب بها إلى
الاَمير ، دون أن يرفّ له جفن أو يحاكمه ضمير ، وفي أُمّة ميتة لم يبقَ فيها
للدم حرمة ولا للتضحية معنى أو صدى.. وبالتالي إيقاف أو إنهاء الدور
الرسالي المهمّ الذي يسعى الاِمام السجاد عليه السلام إلى تحقيقه من خلال كشف
تلك الغيوم وتبديدها...
والثاني : هو الصبر على ذلك الضيم أو الحيف الذي شمله مع عمّته
العقيلة زينب عليها السلام وتمرير المرحلة بالعضّ على الجرح بنيّة مواصلة مراحل
الكشف المطلوبة في كل عملية تغييرية يُراد لها أن تعيد الاُمّة المضللة إلى
وعيها ، أو تعيد الوعي إلى الاُمّة المغلوبة على أمرها ، المسلوبة إرادتها
المغيّب ضميرها ، وفي ذلك الهوس الاِعلامي الصاخب ، والمناخ
السياسي الملوّث.
من هنا كان على الاِمام أن يختار طريقاً أو منهجاً يحقّق له هذا الهدف
الكبير دون المساومة على مبادئه أو التفريط بها ، أو القفز عليها ، فاختار
طريق البكاء أولاً ، ثم طريق الدعاء الذي سنأتي على ذكره في الفصل
اللاحق إن شاء الله.
ماذا حقق البكاء؟
وعن طريق البكاء هذا المشفوع بالدعاء طبعاً ، استطاع الاِمام عليه السلام أن
يحقق الاَغراض التالية :
( 46 )
1 ـ تقريع أو استنهاض الضمير النابض في الاُمّة والذي لم يمت بعد ،
أي مخاطبة الفطرة السليمة ، من خلال دموع ساخنة ونشيج صادق
لايمكن تفسيره ببساطة على أنّه مجرد عواطف فائرة على فجيعةٍ مرّت
وكارثة حلّت ، لا سيّما وانه من إمام يعرف أكثر من غيره القضاء والقدر
وحتمية الموت وطوارق السُنن...
2 ـ استثمار جميع المواقف والمناسبات التي تُذكّر الناس بالجريمة
الكبرى التي ارتكبت بحق سبط النبي وسيد شباب أهل الجنة ، وعبر بكاء
حارّ صادق يتفجّر أمام قصاب مثلاً يذبح شاته فيسقيها ماءً قبل ذبحها
ـ كما مرَّ ـ أو أمام ضيف فقد عزيزاً فغسّله وكفّنه ـ كما ذكرنا ـ أو على مائدة
إفطار يُقدّم فيها الماء للعطاشى والضامئين ويكون شعارها مثلاً :
« شيعتي ما إن شربتم عذب ماءٍ فاذكروني * أو سمعتـم بذبيح أو قتيـل فـاندبوني »!
وغير ذلك مما كان يذكّر بتجاوز الحدود ، وقساوة القلوب ، أي قلوب
القتلة التي كانت كالحجارة أو أشدُّ قسوة ، وهذا يعني تركيز الشعور بالاِثم
الكبير الذي ارتكب في طفوف كربلاء والذي صار عنوانه :
« اللهمَّ العن أُمّة
قتلتك ، والعن أُمّة ظلمتك ، والعن أُمّة شايعت وبايعت على قتلك ، والعن
أُمّة سمعت بذلك فرضيت به » !!
3 ـ إيهام السلطة الحاكمة وعيونها وأزلامها ومرتزقتها أنّ المفجوع ليس
لديه إلاّ البكاء ، وأنّه ليس عملاً جُرمياً يبرّر للسلطة اتخاذ إجراءٍ قمعي
لمواجهته ، فكيف إذا كان المفجوع باكياً فعلاً وليس متباكياً ، كما هو حال
الاِمام عليه السلام !!
4 ـ وحين تختلط دموع البكاء مع تراب قبر المتوفّى ، وهو ما كان يفعله
( 47 )
الاِمام حين كان يُطيل سجوده وبكاءه على التراب الذي احتفظ به من ثرى
قبر والده ومسحه بخاتمه الذي أصرّ على لبسه والمحافظة عليه مع الشعار
المنقوش عليه والذي كان يردده عليه السلام :
« خزي وشقي قاتل الحسين بن
علي » (1) ، تكون رسالة البكاء أكثر تعبيراً وأمضى أثراً في إذكاء الوجدان
المعذّب والضمير الحي وتفجيرهما ضد الظلم والظالمين.
5 ـ أما حين يمتزج البكاء مع الدعاء ، الذي سنأتي على ذكره ،
وتتكامل لوحة الرفض المقدّس عبر العاطفة والفكر ، وعبر العقل والقلب ،
يكون الهدف من البكاء أكثر تجليّاً وسطوعاً ، وهذا ما كان يُلاحظ عند
الاِمام عليه السلام وهو يخرُّ ساجداً على حجارة خشنة في الصحراء يوماً ويشهق
شهيقاً مرّاً مردّداً :
« لا إله إلاّ الله حقاً حقّا.. لا إله إلاّ الله تعبّداً ورقّا.. لا إله إلاّ
الله إيماناً وصدقا.. » ثمّ يرفع رأسه وإذا بلحيته ووجهه مخضبان بدموع
عينيه ، فيقول له أحد أصحابه : أما آن لحزنك أن ينقضي ، ولبكائك أن
يقلّ ؟ ! ويأتيه الجواب المارّ الذكر ، ليكون دالّة معبّرة عن حزنٍ ليس كمثله
حزن ، وبكاء ليس كمثله بكاء...
إنّه بوضوحٍ كاملٍ حزنٌ على رمزٍ مقدّس بكت عليه أهل الاَرض
وملائكة السماء ، وليس حزن ولدٍ على أبيه قط ، وإنه حزنٌ على فجيعةٍ
بدين ، أي أنّه حزن على دين مضيّع صيّره الصبيان لعبةً يعبث بها غلمان
بني أمية ، ودمية تتلاقفها أكفُّ أحفاد أبناء الطلقاء...
إنّه باختصار شديد ، رسالة صامتة شديدة اللهجة ، ودموع حرّى
ناطقة ، وبيان صارخ مشحون بعواطف البكاء النبيلة ممزوجة بثرى تراب
طاهر ، مشفوعاً بتأوّهات خالصة أرادت وتريد أن تواجه الظالم بأفصح
____________
(1) الكافي 6 : 474|6 ، عيون اخبار الرضا 2 : 56.
( 48 )
ما يكون التعبير عن الرفض والغضب المقدّس وأقدس ما يكون الاِفصاح
عن الثورة والتمرّد.
إنّه سلاح ماضٍ لكشف الجرم الكبير وفضحه والدعوة لقطع اليد التي
نفّذته ، وأمام من ؟ وبدموع من ؟
بدموع الثائر المفجوع الذي لم يستطع الاستشهاد في اليوم العظيم ،
لمرضٍ أقعده ، وعلَّة ما كان يستطيع الوقوف على قدميه بسببها ، فشاءت
إرادة الله أن تحتفظ به ليكشف خيوط الجريمة الكبرى وهو يبكي وينشج
ويقول :
وهنّ المنـايا أي وادٍ سلكتـه * عليها طـريقي أو علـيّ طريقها
وكـلاً ألاقـي نكبةً وفيجعـةً * وكأس مرارّات ذعافاً أذوقها (1)
ثم يختتمها بدعاء دامع حزين :
« يا نفس حتّامَ إلى الدنيا سكونك ؟
وإلى عمارتها ركونك ؟ أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك ؟ ومن وارته
الاَرض من أُلاّفك ؟ ومن فجعتِ به من إخوانك ؟ ونُقل إلى الثرى من
أقرانك ؟ فحتّامَ إلى الدنيا إقبالك ، وبشهواتها اشتغالك وقد رأيتِ انقلاب
أهل الشهوات ، وعاينتِ ما حلَّ بها من المصيبات ... » (2).
نعم ، إنّه البكاء الهادف ، والنشيج المدوّي ، والدموع الناطقة ، إنه
____________
(1) من ندبة طويلة له عليه السلام انظر الصحيفة الخامسة السجادية للسيد محسن الاَمين دعاء (109) .
والبحار| المجلسي 78 : 154. وينابيع المودّة | الحافظ القندوزي الحنفي : 273. وكشف
الغمة | الاربلي 2 : 309.
(2) البلد الاَمين | الكفعمي : 320. والصحيفة 4 : 29.
( 49 )
رسالة صامتة شديدة اللهجة صارخة الاحتجاج ، محبوكة المتن ، متينة
السند.. إنّه بكاء أفقه أهل زمانه وأعلمهم وأورعهم وأتقاهم ، حفيد
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وابن سبطه ، المفجوع بقتله ، الشاهد على دمه ، حامل رسالته
ومبلّغ أمانته ووصيه ووريثه والداعي إلى حقّه.. إنّه بكاء علي بن الحسين
بن علي بن أبي طالب عليهم السلام .