فقال لقد قمت مقامي هذا وإني لأعلم أن فيكم من هو أقدم صحبة لرسول الله مني . ولكني شهدت رسول الله نصف النهار في يوم شديد الحر وهو يقول لتكونن فتنة حاضرة ، فمر رجل مقنع . فقال رسول الله وهذا يومئذ على الهدى . فقمت فأخذت بمنكبيه وحسرت على رأسه فإذا عثمان فاقبلت بوجهه على رسول الله . وقلت : هذا يا رسول الله ؟ قال نعم . فأطبق أهل الشام مع معاوية حينئذ بايعوه على الطلب بدم عثمان .
وذكر الواقدي ( 1 ) أن معاوية خاطب أهل الشام ـ أثناء رجوعه بعد تنازل الحسن ـ فقال : « أيها الناس إن رسول الله قال : إنك ستلي الخلافة من بعدي . فاختر الارض المقدسة . وقد اخترتكم . فالعنوا ابا تراب . فلعنوه .
فلما كان من الغد كتب كتابا ثم جمعهم فقرأه عليهم . وفيه : هذا كتاب كتبه أمير المؤمنين معاوية صاحب وحي الله الذي بعث محمداً نبياً ، وكان أمياً لا يقرأ ولا يكتب فاصطفى له من أهله وزيراُ وكاتباً اميناً فكان الوحي ينزل على محمد وأنا اكتبه . هو لا يعلم ما أكتب . فلم يكن بيني وبين أحد من خلقه .
فقال له الحاضرون كلهم صدقت يا أمير المؤمنين ( 2 ) .
وذكر الطبري أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مئة ألف درهم حتى يروي أن هذه الآية أنزلت في علي :
« ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام . وإذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد » .
____________
1 ـ من أساليبه في استمالة أهل الشام والتنديد بخصومه شرح نهج البلاغة 1 | 361 .
2 ـ لقد كذب معاوية على الرسول في هذا الكتاب كذبة بشعة . فلقد كان يكتب للرسول بعض رسائله للعرب . ولم يحصل ذلك إلا بعد فتح مكة حين التمس أبوه من النبي أن يشمله بعطفه لينسي الناس مناوؤته للنبي . أما كاتب الوحي فهو زيد بن ثابت .

( 82 )

وإن الآية الثانية نزلت في ابن ملجم وهي قوله :
« ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله فلم يقبل » . فبذل له مئتي الف درهم فلم يقبل . فبذل له اربعمائة الف فقبله وروى ذلك ( 1 ) . وقد حارب معاوية علي بمئة الف لا يفرقون ـ على حد قوله ـ بين الناقة والجمل . وبلغت طاعتهم إياه حداً يفوق الوصف . فقد صلى بهم ـ عند مسيرهم الى صفين ـ الجمعة يوم الأربعاء .
وعندما خرج عبد الله بن علي « في طلب بني مروان » الى الشام ـ وقد ببعضهم الى السفاح حلف هؤلاء للسفاح انهم ما عملو لرسول قرابة ولا اهل بيت يرثونه غير بني امية . كل ذلك بفضل إتقان معاوية لفن الدعاية على اساس السير على اساس الكذب المنظم .
وفي معرض التحدث عن براعة معاوية في الانتفاع بهذا الفن في شجب خصومه يذكر أحد ( 2 ) الرواة « ان معاوية وضع قوما من الصحابة وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي .. منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وعروة بن الزبير .
وروى الزهري أن عروة بن الزبير حدثه قال حدثتني عائشة قالت كنت عند رسول الله إذ اقبل العباس وعلي . فقال النبي يا عائشة هذان يموتان على غير قبلتي .
وزعم عروة كذلك أن عائشة حدثته فقالت كنت عند النبي إذ اقبل العباس وعلي . فقال الرسول يا عائشة ان سرك ان تنظري الى رجلين من اهل النار فانظري الى هذين قد طلعا . فاذا العباس وعلي بن أبي طالب » .
« وأبرع ما برع فيه معاوية من ألوان الدهاء القاء الشبهة بين خصومه في زمن كانت فيه هذه الشبهات من ايسر الامور . كان اذا اراد ان يستميل احد البطارقة من دولة الروم ـ فاستعصى عليه ـ كتب له رسالة مودة وثناء وأنفذها مع رسول
____________
1 ـ المصدر نفسه ص 361 .
2 ـ ابن ابي الحديد : شرح نهج البلاغة 1 | 358 .

( 83 )

يحمل إليه الهدايا والرشى كأنها جواب على طلب منه يساوم فيه على المصالحة والغدر برؤسائه من دولة الروم . ويخرج الرسول العربي من طريق متباعد كأنه يتعمد الروغان من العيون والجواسيس . فاذا اعتقله الروم ـ ولابد أن يعتقله لانه يتعرض للإعتقال ويسعى إليه ـ وقعت الشبهة على البطريق المقصود وتعذر الاطمئنان إليه من قومه بعد ذلك وعزلوه وابعدوه ان لم ينكلوا به أشد النكال (1)
وحيلة اخرى لجأ إليها معاوية للإيقاع بخصومه هي تدبير مؤامرة اغتيال من يرى اغتياله وسيلة ناجحة في القضاء عليه . فعل ذلك مع الأشتر والحسن بن علي وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد .
هذا عدا عن ضربه خصومه ببعضهم فيستغنى ـ على ما يقول العقاد ـ بالوقيعة بينهم عن الايقاع بهم .
ولكن معاوية ـ مع مداهنته وخبثه ـ لم يتردد ، إذا استلزمت مصالحه ذلك من الايقاع بخصومه والتنكيل بهم بشكل من القسوة والغلظة قل أن يجدها المرء إلا في الامويين .
وحوادث بسر بن ابي ارطأة ، والضحاك بن قيس الفهري ، وسفيان بن عوف الغامدي في الاعتداء على ارواح المسلمين بعد صفين ـ مشهورة لدى الكثيرين .
وإلى القارئ طرفا منها .
ذكر ابراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي في « كتاب الغارات » عن ابن الكنود « قال : حدثني سفيان بن عوف الغامدي قال دعاني معاوية فقال إني باعثك في جيش كثيف ذي أداة . فالزم لي جانب الفرات حتى تمر بهيت فتقطعها فإن وجدت بها جندا فاغر عليهم ، وإلا فامض حتى تغير على الانبار . فإن لم تجد بها جنداً فامض حتى تصل المدائن .
____________
1 ـ العقاد : معاوية بن أبي سفيان ص 70 ـ 72 . وقد فعل مثل ذلك مع قيس بن سعد بن عبادة وجرير بن عبد الله البجلي حتى اوقع الريبة منهما في نفس الامام والمقربين إليه وبخاصة الاشتر .
( 84 )

وأعلم أنك إن اغرت على اهل الانبار واهل المدائن فكأنك أغرت على الكوفة . هذه الغارات ـ يا سفيان ـ على العراق ترعب قلوبهم وتفرح كل من له هوى فينا منهم وتدعو إلينا من خاف الدوائر . فاقتل من لقيته ممن ليس هو على مثل رايك . وأضرب كل من مررت به من القرى . وأحرب الاموال فإن حرب الاموال شبيه بالقتل : وهو أوجع للقلب ( 1 ) .
وروى ابراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي صاحب « كتاب الغارات » أن معاوية استدعى الضحاك بن قيس الفهري وقال له : « سر حتى تمر بناحية الكوفة وترتفع عنها ما استطعت . فمن وجدته من الاعراب في طاعة علي فأغر عليه ، وإن وجدت له مسلحة أو ضلا فأغر عليها . وإذا أصبحت في بلدة فأمس في أخرى ...
فأقبل الضحاك فنهب الاموال ، وقتل من لقى من الاعراب ، حتى مر بالثعلبية . فاغار على الحاج فأخذ أمتعتهم . ثم أقبل فلقى عمرو بن قيس بن مسعود الذهلي ـ وهو ابن أخي عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله ـ فقتله في طريق الحاج وقتل معه ناساً من الصحابة » ( 2 ) .
واستدعى معاوية بسر بن أبي أرطاة « وكان بسر قاسي القلب فظاً سفاكاً للدماء لا رأفة عنده ولا رحمة . فأمره ان يأخذ طريق الحجاز والمدينة ومكة حتى ينتهي إلى اليمن . وقال له : لا تنزل على بلد أهله على طاعة علي إلا بسطت عليهم لسانك حتى يروا أنهم لا نجاة لهم وإنك محيط بهم . ثم اكفف عنهم وادعهم إلى البيعة . فمن أبى فاقتله ، واقتل شيعة علي حيث كانوا ...
فدخل بسر المدينة ـ وعامل علي عليها أبو أيوب الانصاري صاحب منزل رسول الله ـ فخرج أبو أيوب عنها هارباً . ودخل المدينة فخب في الناس وشتمهم
____________
1 ـ شرح نهج البلاغة 1 | 144 .
2 ـ المصدر نفسه 1 | 154 .

( 85 )

وتهددهم وقال : شاهت الوجوه ... ثم شتم الانصار فقال : يا معشر اليهود وابناء العبيد .. اما والله لاوقعن بكم وقعة تشفي غليل صدور المؤمنين ... فنزل فاحرق دوراً كثيرة .. ثم خرج بسر إلى مكة . فلما قرب منها هرب قثم ابن العباس ـ وكان عامل علي ـ فدخلها بسر فشتم اهلها وأنبهم ..
وقد روى عوانة عن الكلبي ان بسراً ـ لما خرج من المدينة إلى مكة ـ قتل في طريقه رجلا واخذ مالا . وبلغ أهل مكة فخافوه وهربوا . فخرج إبنا عبيد الله بن عباس فذبحهما بسر ، فخرج نسوة من بني كنانة فقالت امرأة منهن هذه الرجال يقتلها فما بال الولدان !!! والله ما كانوا يقتلون في جاهلية ، ولا إسلام ...
وخرج بسر من الطائف فأتى نجران فقتل عبد الله بن عبد المدان وإبنه مالكا . وكان عبد الله هذا صهراً لعبيد الله بن العباس . ثم جمع اهل نجران وقال :
يا معشر النصارى وإخوان القرود . أما والله إن بلغني عنكم ما أكره لأعودن عليكم بالتي تقطع النسل وتهلك الحرث وتخرب الديار ... وأتى صنعاء ... فدخلها وقتل منها قوماً .
وأتاه وفد مأرب فقتلهم . ثم خرج بسر من صنعاء فقتل الناس قتلا ذريعاً . ثم رجع إلى صنعاء فقتل بها مئة شيخ من أبناء فارس ( 1 ) » .
وروى أبو الحسن بن أبي سيف المدائني في « كتاب الأحداث ( 2 ) » قال : « كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله ـ بعد عام الجماعة ـ أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل ابي تراب واهل بيته . فقامت الخطباء في كل كورة ـ وعلى كل منبر ـ يلعنون علياً ويبرؤن منه ...
وكتب معاوية الى عماله الا يجيزوا لاحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة .
____________
1 ـ شرح نهج البلاغة 1 | 117 ـ 120 .
2 ـ من اساليبه في تثبيت مركزه ومقاومة خصومه . المصدر السابق 3 | 15 ـ 16 .

( 86 )

وكتب إليهم أن انظروا من قبلكم من شيعة عثمان ومحبيه وأهل ولايته والذين يروون فضائله ومناقبه فأدنوا مجالسهم وقربوهم وأكرموهم ، واكتبوا لي بكل ما يروي كل رجل منهم اسمه واسم أبيه وعشيرته ..
ثم كتب إلى عماله إن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية . فاذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة الخلفاء الاولين . ولاتتركوا خبراً يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وأتوا بمناقض له في الصحابة ...
فقرئت كتبه على الناس فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها . وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر .
وألقى إلى معلمي الكتاتيب فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع . حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن ...
ثم كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان : انظروا من قامت عليه البينة أنه يحب عليا وأهل بيته فأمحوه من الديوان واسقطوا عطائه ورزقه . وشفع ذلك بنسخة أخرى : من اتهمتموه بموالاة هؤلاء القوم فنكلوا به ، واهدموا داره ... فظهر حديث كثير موضوع وبهتان منتشر .
ومضى على ذلك الفقهاء والقضاة والولاة . وكان أعظم الناس في ذلك بلية القراء المراؤن والمستضعفون الذي يظهرون الخضوع والنسك فيفتعلون الاحاديث ليحظوا عند ولاتهم ويقربوا مجالسهم ويصيبوا الاموال والضياع والمنازل .
ثم انتقلت تلك الاخبار والاحاديث إلى أيدي الديانين والذين لا يستحلون الكذب والبهتان فقبلوه ... فلم يزل الامر كذلك حتى مات الحسن .. ثم تفاقم الامر بعد قتل الحسين » .
تلك جوانب من أخلاق معاوية ذكرها المؤرخون المسلمون .


( 87 )

أما ما خفي عنا مما ذكره المؤرخون الآخرون فأكثر من ذلك .
وأما ما خفي على المؤرخون ـ من أخلاق معاوية ـ فأكثر من ذلك بكثير . وقد ظهر معاوية في الامثلة التي ذكرناها بأبشع ما يظهر به الانسان من الكذب ومن الانتهازية السياسية . وإلى الخطوط العامة للاوضاع التي ذكرناها ، يشير العقاد بقوله ( 1 ) :
« كل شيء في الحياة الانسانية هين إذا هان الخلل في موازين الانسانية . وإنها لأهون من ذلك إذا جاوز الأمر الخلل إلى إنعكاس الاحكام وإنقلابها من النقيض إلى النقيض ... فمن الناس من يحب أن تتغلب المنفعة على الحقيقة أو على الفضيلة لأنه يرجع إلى طبيعته فيشعر بحقارتها إذا غلبت مقاييس الفضائل المنزهة والحقائق الصريحة .. وإنه ليعترف بالرذيلة إذا استطاع أن يلوث الفضيلة التي يمتاز بها عليه ذوو الفضائل البينة .
وإذا لم يرجح من أخبار تلك الفترة إلا الخبر الراجح عن لعن على المنابر بأمر من معاوية لكان فيه الكفاية لإثبات ماعداه مما يتم به الترجيح بين كفتي الميزان » .
وهناك جوانب اخرى تتجلى فيها السياسة الوصولية التي سار معاوية طبقا لمتطلباتها . فلم يكتف « أمير المؤمنين » و « خليفة » رسول الله بضرب المسلمين ببعضهم بشتى الوسائل ، ومختلف المؤامرات للمحافظة على سلطانه بل حالف البيزنطيين ـ أعداء المسلمين والإسلام ـ على حساب المصلحة الإسلامية العليا . فقد عقد معاوية مع أمراء البيزنطيين سلسلة من المعاهدات الرامية إلى تثبيت قواعد ملكه على حساب الاسلام والمسلمين .
ولعل ابشع تلك المعاهدات ـ غير المتكافئة ـ تلك التي عقدها معاوية ـ بمحض الختياره ـ مع الامير البيزنطي كونستان الثاني في عام 39 هـ . فدفع معاوية ـ وفقاً لمستلزمات هذه المعاهدة ـ الجزية للأمير البيزنطي المذكور .
____________
1 ـ معاوية بن أبي سفيان ص 11 و 16 .
( 88 )

كل ذلك نكاية برابع الخلفاء الراشدين عندما أعلن معاوية العصيان عليه والتمرد على القرآن ونسة النبي (1) .
لقد مر بنا الحديث عن وجهين من وجوه الكذب المنظم الذي استعمل لتثبيت حكم الامويين ونود أن نذكر ـ في الفقرات القابلة ـ وجهاً ثالثاً من تلك الوجوه ؟ واذا كان الوجهان السالفا الذكر قد استندا ـ بالدرجة الاولى ـ إلى جهود معاوية « يعاونه عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة » فإن الوجه الجديد ـ الذي سنذكره ـ قد استند إلى جهود أبي هريرة دون سائر الناس .
وإذا كان من المستطاع ـ كما ذكرنا ـ أن يقوم الباحث بدراسة مقارنة لهتلر وابن أبي سفيان ـ فيما يتصل ببراعة كل منهما في الدعاية لنفسه واضعاف حجة خصمه ـ فإنه من الممكن كذلك أن يقوم الباحث بدراسة مقارنة بغوبلز ـ وزير الدعاية في العهد النازي ـ وزميله أبي هريرة (2) « وزير » بن أبي سفيان .
وبقدر ما يتعلق الامر بأبي هريرة يمكننا أن نقول : أنه أتقن فن الدعاية للأمويين اتقانا منقطع النظير ، وخدمهم خدمة جليلة في تثبيت ركائز حكمهم في بلاد المسلمين . وقد أظهر أبو هريرة « للمسلمين في زمانه » بأنه أكثر الرواة صلة بالرسول . فأسرف في الرواية عنه من الناحيتين الكمية والنوعية . فقد روى ـ من الناحية الكمية ـ أكثر مما روى غيره من المحدثين (3) .
أما من الناحية النوعية فكان أبو هريرة يقول تارة : « سمعت من حبيبي رسول الله » واخرى « أوصاني خليلي محمد » والثالثة : « حدثني الصادق الصدوق » إلخ
____________
1 ـ وقد سار عبد الملك بن مروان على منواله عندما عقد معاهدة غير متكافئة مع الأمير البيزنطي جوستنيان الثاني عام 70 هـ فدفع الجزية صاغراً للبيزنطيين وتنازل لهم عن قبرص وأرمينية ـ كل ذلك نكاية بالأشدق وابن الزبير ـ كما سنرى ـ .
2 ـ أنظر شيخ المغيرة أبو هريرة للعلامة المحقق الشيخ محمود أبو رية نشرت الطبعة الثالثة منه دار المعارف بمصر عام 1969 م
3 ـ وقد أفرد الإمام أحمد بن حنبل في مسنده القسم الاكبر من الجزء الثاني ص 228 ـ 41 هـ لحديث أبي هريرة .

( 89 )

ولقد أدى إسرافه في الرواية عن النبي إلى تسرب الشك للمسلمين في صحة ما يرويه فكان يتقي ذلك احياناً بقوله : إن مالا يرويه الناس من حديث الرسول أكثر بكثير مما يرويه لهم ، وبتحذيرهم من سماع غيره من المحدثين ـ لكثرة الكذب على رسول الله آنذاك على حد زعمه ـ احياناً أخرى .
ومما يلفت النظر حقاً أن أبا هريرة لم يلتفت إلى التناقض الذي وقع فيه ، فقد جاء بعض « أحاديثه » مناقضاً لبعض آخر كما سنرى .
ويلوح للباحث إن صحة الحديث ـ عند أبي هريرة ـ تعتمد على « صدقه » في خدمة الامويين .
والشيء الطريف في أحاديث أبي هريرة أنها منصبة على مخاطبة الرعايا المسلمين دون حكامهم الفجرة الطغاة المستهترين .
وكانت تلك الاحاديث ذات اشكال مختلفة :
فمنها ما يحث المسلمين على طاعة حكام السوء .
ومنها ما يشغلهم بأمور ثانوية الأهمية بعيدة عن جوهر الدين .
ومنها ما يوجه انتباههم إلى أمور تافهة ضعيفة الصلة بحياتهم العامة والخاصة .
ومنها ما يتضمن إطراء النبي على سيرة الامويين .
ومنها ما يشير إلى إضعاف حجة من يناؤئهم من المسلمين . وإلى القارئ . أمثلة من ذلك سقناها على سبيل التمثيل لا الحصر :
ذكر الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن أبي هريرة باسانيده المختلفة أن رسول الله قال (1) : « خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم . ثم الذين يلونهم » .
« إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها . ولبن الدر يشرب . وعلى
____________
1 ـ مسند أحمد بن حنبل ج 2 ص 228 ـ 231 و 247 ـ 250 و 254 و 260 ـ 267 و 271 و 272 و 278 و 282 و 288 و 306 و 340 و 359 و 360 و 373 و 401 و 476 و 477 و 480 و 483 ـ 485 و 488 و 492 و 497 و 500 و 503 و 504 و 510 و 517 و 522 و 345 و 456 و 473 و 474 و 371 و 400 و 343 .
( 90 )

الذي يشربه نفقته ويركب » « امرؤ القيس ـ صاحب لواء الشعراء ـ إلى النار » . « شدة الحر من فيح جهنم فابردوا بالصلاة » . قصوا الشوارب واعفوا اللحى . « خمس من الفطرة : قص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط والاستحداد والختان » .
« إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فإن في أحد جناحيه داء وفي الأخر شفاء ».
« لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها » . « لا يشرب الرجل من فم السقاء » « من ابتاع محفلة أو مصراة فهو بالخيار فإن شاء أن يردها وإن شاء يمسكها مسكها » « أصدق بيت قاله الشاعر : ألا كل شيء ماخلا الله باطل . » « ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة . » « لا تسبوا الريح فإنها تجيء بالرحمة والعذاب . ولكن سلوا الله خيرها وتعوذوا به من شرها » .
« انظر إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم » .
« من أدرك ركعة من صلاة الفجر ـ قبل أن تطلع الشمس ـ فقد أدركها . ومن أدرك ركعة ـ من صلاة العصر ـ قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها » .
« اليهود والنصارى لايصبغون . فخالفوا عليهم » .
« غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى » فجرت أربعة انهار من الجنة : الفرات والنيل والسيحان وجيحان » .
« دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تسقها ولم ترسلها فتأكل من خشاش الارض .
« التسبيح للرجال والتصفيق للنساء . » « إذا صلى أحدكم ثم جلس في مصلاه لم تزل الملائكة تقول اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه ، مالم يحدث أو يقوم . »
« لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب أو جرس » .
« فضل صلاة الجمعة على صلاة أحدكم وحده خمس وعشرون جزء » .
« من صلى على جنازة فلم يمشي معها فليقم حتى تغيب عنه . ومن مشى معها فلا يجلس حتى توضع » .


( 91 )

« اذا صليتم علي فاسألوا الله لي الوسيلة . قيل يا رسول الله وما الوسيلة ؟ قال أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلا رجل واحد وأرجوأن أكون أنا هو . »
« الله يحب العطاس ويبغض ـ أو يكره ـ التثاؤب » .
« إذا ولغ الكلب في الاناء فاغسله سبع مرات » .
« إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يتنخمن أمامه ولا عن يمينه . فإن عن يمينه ملكا ولكن ليتنخم عن يساره أو تحت قدمه اليسرى » .
« لا تبتدؤا اليهود والنصارى بالسلام . فإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضياقها » . « من اتخذ كلبا إلا كلب صيد أو زرع أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراط ـ القيراط بقدر جبل أحد » .
« ما يؤمن الذي يرفع رأسه قبل الامام أن يرد الله رأسه رأس حمار » .
« لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر . ولا يقولن أحدكم للعنب الكرم فإن الكرم هو الرجل المسلم » .
« إذا قلت لصاحبك ـ والإمام يخطب يوم الجمعة ـ اسكت فقد لغوت » .
« ان الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار » .
« وأن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة » .
وحدث أبو هريرة مروان بن الحكم فقال : حدثني حبي أبو القاسم الصادق المصدوق . « إن هلاك أمتي على يدي غلمة سفهاء من قريش » .
« لن يزال على هذا الامر عصابة على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك » .
« من أطاعني فقد أطاع الله . ومن أطاع الامير فقد اطاعني » .


( 92 )

جددوا إيمانكم . قيل يا رسول الله وكيف ؟ قال اكثروا من قول لا اله الا الله » .
« رضي الله لكم ثلاثاً . أن تعبدوه ولا تشركوا به أحدا . وأن تنصحوا لمن ولاه الله أمركم . وأن تعتصموا بحبل اله جميعا ولا تفرقوا » .
من قال لا اله الا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . قالها عشر مرات حتى يصبح كتب له بها مئة حسنة ومحى عنه بها مئة سيئة وكانت له عدل رقبة وحفظ بها يومئذ حتى يمسي . ومن قال مثل ذلك حين يمسي كان له مثل ذلك » .
في الجمعة ساعة ما دعا الله فيها عبد مؤمن بشيء إلا استجاب الله له » . « تسحروا فإن السحور بركة » .
« إذا انقطع شسع أحدكم فلا يمشي في النعل الواحدة » . « إذا انتعل احدكم فليبدأ باليمنى . وإذا خلع فليبدأ باليسرى » .
إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت عليه ـ فبات وهو عليها ساخط ـ لعنتها الملائكة حتى تصبح » . « إن الملائكة تجيء يوم الجمعة فتقعد على أبواب المسجد فيكتبون السابق والثاني والثالث والناس على منازلهم حتى يخرج الامام . فإذا خرج الامام طويت الصحف » .
« من حج البيت ولم يفسق ولم يرفث رجع كما ولدته أمه » .
« بينما رجل يمشي على طريق وجد غصن شوك فقال : لأرفعن هذا ولعل الله يغفر لي به . فرفعه فغفر الله له به وأدخله الجنة » .
حدثنا عبد الله حدثني ابي حدثنا اسماعيل عن الجريري عن خالد بن غلاق العيسى قال نزلت على أبي هريرة .
قال : ومات ابن لي فوجدت عليه . فقلت : هل سمعت من خليلك شيئا نطيب بأنفسنا عن موتانا ؟ قال نعم .


( 93 )

سمعته يقول : « صغارهم دعاميص الجنة » .
حدثنا عبد الله حدثني أبي حدثنا هاشم حدثنا المبارك عن الحسن قال : بينا أبو هريرة يحدث أصحابه إذ أقبل رجل إلى أبي هريرة ـ وهو في المجلس ـ فأقبل وعليه حلة له . فجعل يمس فيها حتى قام على أبي هريرة فقال يا أبا هريرة : هل عندك في حلتي هذه من فتيا ؟ فرفع راسه إليه وقال :
حدثني الصادق المصدوق خليل أبو القاسم قال :
« بينا رجل ممن كان قبلكم يتبختر بين بردين ، فغضب الله عليه فأمر الارض فبلعته » .
« ينزل الله كل ليلة إلى السماء الدنيا لنصف اليل الآخر أو لثلث الليل الآخر فيقول :
من ذا الذي يدعوني فأستجيب له ؟
من ذا الذي يسألني فأعطيه ؟
من ذا الذي يستغفرني فأغفر له حتى يطلع الفجر » .
« أزرة المؤمن من أنصاف الساقين فأسفل من ذلك إلى ما فوق الكعبين فما كان من أسفل من ذلك ففي النار » .
« ان الله يحب العطاس ويكره التثاؤب » .
« تلقون من بعدي اختلافا وفتنة » .
فقال له قائل من الناس : فمن لنا يا رسول الله قال :
عليكم بالأمين وأصحابه ـ يشير إلى عثمان بذلك .
ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهما الله وإياهم بفضل رحمته الجنة .
يقال لهم ادخلوا الجنة فيقولون : حتى يجيء أبوانا . ثلاث مرات .


( 94 )

فيقولون مثل ذلك . فيقال لهم ادخلوا الجنة أنتم وأبواكم » .
« إن رجلا رأى كلبا ياكل الثرى من العطش فأخذ الرجل خفه فجعل يغرف له حتى رواه فشكر الله له فأدخله الجنة » .
« يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم ـ وهو خمسمائة عام » .
« سألت ربي فوعدني أن يدخل من أمتي سبعين ألفا ـ في الجنة ـ على صورة القمر ليلة البدر .
فاستزدت فزادني مع كل ألف سبعين ألفا . فقلت : أي ربي إن لم يكن هؤلاء مهاجري أمتي !!
قال : إذن أكملهم لك من الاعراب » .
من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمد الله ثلاثا وثلاثين وكبر الله ثلاثا وثلاثين ـ فتلك تسع وتسعون . ثم قال ـ تمام المئة ـ لا إله الا الله وحده لا شريك له . له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير .
غفر الله له خطاياه » .
قال أبو هريرة : قلت للنبي من أسعد الناس يوم القيامة ؟
فقال : لقد ظننت ـ يا أبا هريرة ـ أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث :
أسعد الناس بشفاعتي ـ يوم القيامة ـ من قال لا اله الا الله خالصة من قبل نفسه » .
وذكر أبوهريرة أنه سمع حبيبه أبا القاسم يقول : « الصلوات الخمس والجمعة إلىالجمعة ، ورمضان إلى رمضان مكفرات مابينهن ما اجتنبت من الكبائر » .
وقال أبو هريرة : « أوصاني خليلي رسول الله بثلاث :
الوتر قبل النوم . وركعتي الضحى ، وصوم ثلاثة أيام من كل شهر .
« صلاة مسجدي هذا أفضل من الف صلاة فيما سواء من المساجد إلا المسجد الحرام » « لا مرأة مومسة مرت بكلب على رأس ركى يلهث قد كاد يقتله العطش فنزعت خفها فأوثقته بخمارها فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك » .


( 95 )

ـ 2 ـ
إتخاذهم الدين وسيلة لقمع حركات المسلمين الذين طالبوا « الخلفاء » الأمويين بتطبيق مبادئ الدين على تصرفاتهم .
أي أن الامويين كانوا يتظاهرون بالتدين فيدعون المسلمين ـ في خطبهم وخطب ولاتهم ـ إلى التمسك بالدين الذي لا يتمسكون هم ولا ولاتهم بتعاليمه .
وكانت غايتهم من ذلك ـ بالطبع ـ هي صرف الناس عن المطالبة بتطبيق الدين على شؤون الحياة من جهة وعاملا من العوامل التي يبرر الأمويون فيها اعتداءاتهم على أرواح المسلمين وممتلكاتهم .
وقد أصبح الأمويون بهذا النوع من التصرف ممن يشملهم منطوق الآيات التالية التي وردت في القرآن : جاء في سورة البقرة .
« ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وماهم بمؤمنين . يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون . في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون » .
وإذا قيل لهم : « لا تفسدوا في الارض قالوا إنما نحن مصلحون . ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون » .. وجاء في سورة البقرة أيضاً .
« أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون » .
« ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام . وإذا تولى سعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد . وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالاثم فحسبه جهنم وبئس المهاد » . وإلى القارئ نماذج من تصرفات الامويين في هذا الباب .
خطب زياد بن أبيه في حشد كبير من المسلمين فنعى عليهم عدم تمسكهم بالدين


( 96 )

ونسي او تناسى نفسه وخليفته وأثر كل منهما في ذلك الوجه من وجوه الحياة الإسلامية . ثم قال :
« كأنكم لم تسمعوا نبي الله ولم تقرأوا كتاب الله ولم تعلموا ما أعد الله من الثواب الكريم لأهل طاعته والعذاب الأليم لأهل معصيته .. إني لأقسم بالله لآخذن الولي بالولي والمقيم بالضاعن والمقبل بالمدبر .
أيها الناس لقد أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادة . نسوسكم بسلطان الله الذين أعطانا ونذود عنكم بفئ الله الذي خولنا . فلنا عليكم السمع والطاعة فيما أحببنا ولكم علينا العدل فيما ولينا ( 1 ) .
فزياد بن سمية إذن يتهم المسلمين الذين يطالبون الامويين باتباع تعاليم الدين في تصرفاتهم بأنهم لم يقرؤا كتاب الله ولم يسمعوا أحاديث نبيه وأنهم جاهلون بما أعد الله من الثواب لأهل طاعته والعقاب لأهل معصيته . في حين أن زياداً ـ وأسياده الامويين ـ أولى بسماع ذلك واتباعه . فقد أعد الله الثواب والعقاب للذين يطيعونه ويتبعون أوامره ويعرضون عما ينهى عنه .
وعندي إن جانبا من تعبير المسلمين عن طاعتهم الله يتمثل في عصيانهم أوامر ولاة السوء « أمثال زياد بن أبيه » الذي عصوا الله فيما كانوا يعملون .
ولا ندري فيما إذا كانت هناك طاعة الله افضل من عصيان اوامر الخارجين على تعاليمه !!
أما استطراد ابن سمية في التهديد والوعيد « إلى حد الخروج عن أوامر الله » وتصميمه على اخذ الولي بالولي والمقيم بالضاعن والمقبل بالمدبر فشيء يناقض قول الله « ولا تزر وازرة وزر أخرى » .
وأما زعمه بأنه والامويين قد جعلهم الله للناس ساسة فكذب على الله والناس ، ذلك لأنهم نصبوا أنفسهم حكاما عن طريق تمردهم على الله ورسوله .
____________
1 ـ ابن الاثير : « الكامل في التاريخ » 3 | 222 ـ 233 .
( 97 )

وأما قوله بأنهم عن الناس ذادة فلسنا ندري كيف يذودون عن الناس بعد الذي ظهر منهم من تمزيق لمصالح الناس وتحد لمبادئ الدين !. ولعله كان يقصد أنه ـ واسياده الامويين ـ يذودون عمن سكت عن موبقاتهم ، وشاركهم اقتسام منافع الملك والتمتع بثمرات « بساتين قريش » ..
وإذا كان الامر كذلك فهل من الانصاف لله أن يزعم ابن أبيه انه يسوس المسلمين بسلطان الله !! . ولو أنه قال : انه يسوسهم بسلطان الامويين ـ الذي لا يرضاه الله ـ لما أخطأ ولا تجنى .
وأما إضافة عبارة « الذي أعطانا » بعد عبارة « بسلطان الله » فشئ يمجه الذوق الاسلامي ، ويأباه التاريخ .
ولا ندري كيف أعطى الله سلطانه للامويين الذين حاربوه في شخص نبيه الكريم !!
وخطب الحجاج بن يوسف في اهل البصرة فقال :
« يا أهل العراق إني قد استعملت عليكم محمداً ابني وبه الرغبة عنكم .. وقد أوصيته فيكم خلاف وصية رسول الله بالانصار . فانه أوصى أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم . وقد أوصيته أن لا يقبل من محسنكم ولا يتجاوز عن مسيئكم » ( 1 ) .
ولسنا نعرف سبب وصيته تلك بعدم التجاوز عن المسيء وعدم القبول من المحسن ـ إلا إيغاله في قتل الناس .
وإذا جاز للحاكم ـ في بعض الاحيان ـ أن لا يتجاوز عن المسيء فإنه لا يجوز عدم القبول من المحسن .
ثم هل يجيز الاسلام ذلك ؟
وخاطب الحجاج جموعا من المسلمين فقال :
____________
1 ـ المسعودي : « مروج الذهب ومعادن الجوهر » 3 | 85 ـ 86 .
( 98 )

« إني لأرى رؤسا قد أيعنت وقد حان قطافها . إني لأنظر الدماء بين العمائم اللحى ... ثم قرأ قوله تعالى : « وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان . فكفرت بأنعم الله فأذاقها البأس والجوع والخوف بما كانوا يصنعون . وأنتم أولئك ... »
إنكم أهل بغي وخلاف وشقاق ونفاق . فإنكم طالما أوضعتم في الشر وسننتم سنن البغي ... فو الله لأذيقنكم الهوان ... ولألحونكم لحو العود ولأعصبنكم عصب السلمة حتى تذلوا . ولأضربنكم ضرب غرائب الابل حتى تذروا العصيان وتنقادوا » .
فالمسلم ـ بنظر الحجاج ـ هو الذي يستسيغ موبقات الامويين ويرتاح لاستهتار الحجاج ، ويفوض أمره لله . وإلا فهو معرض ـ في كل لحظة ـ لشتى صنوف العاب . أما أن يبحث الحجاج ـ « أمير » المسلمين ـ عن عوامل التدمير ، ويسعى إلى إزالتها بالمعاملة الحسنة والسير وفق مستلزمات الشريعة الاسلامية فشئ لم يخطر بباله . وسبب ذلك أنه ـ وأسياده الامويين ـ كانوا من الامرين بالمعروف التاركين له .
وحج عبد الملك بن مروان بالناس في عام « 75 هـ » ـ على ما يذكر ابن الاثير ( 1 ) فقال « لست بالخليفة المستضعف ـ يعني عثمان ـ ولا بالخليفة المداهن ـ يعني معاوية ـ ولا بالخليفة المأفون ـ يعني يزيد ـ .
ألا وإني لا أداري هذه الامة إلا بالسيف حتى تستقيم لي قناتكم .. والله لا يأمرني أحد بتقوى الله ـ بعد مقالي هذا ـ إلا ضربت عنقه . ثم نزل . » أي إن حفيد طريد رسول الله يريدها جاهلية صرفة مبنية على القوة الغاشمة وإراقة الدماء .
أما المسلم الذي ينبه « الخليفة » نحو تقوى الله فسوف ينال حتفه ـ وهو أمر
____________
1 ـ ابن الاثير : « الكامل في التاريخ » 4 | 33 ـ 34 .
( 99 )

على جانب كبير من الخطر على الدين والأخلاق .
ومن الطريف أن نذكر في هذه المناسبة أن المفروض بعبد الملك من حيث كونه خليفة المسلمين أن يأمر هو الناس بتقوى الله وأن يعاقب من يتمرد على أوامر الله . أما أن يتمرد الخليفة نفسه على الله وتعاليمه ويعصيه عصياناً مضاعفاً ـ بتمرده على أوامره أو لا وبقتله من يمنعه عن ذلك التمرد ثانياً ـ فأمر على جانب كبير من الخطر على الدين والاخلاق .
ومن الطريف أن نذكر في هذه المناسبة أن عبد الملك بن مروان ـ عبد الملك « الخليفة » الجبار المتمرد على الله ـ عندما شاخ وضعف وقرب من الموت ، أخذ يشعر بحقارة نفسه واستصغارها أمام سلطان الله ـ شأن كل إنسان في الاوقات الحرجة ـ فندم . ولات ساعة مندم . قال ابن الاثير ( 1 ) :
« لما نزل بعبد الملك بن مروان الموت أمر بفتح باب قصره فإذا قصار يقصر ثوباً . فقال يا ليتني كنت قصاراً ... فقال سعيد بن العزيز : الحمد لله الذي جعلهم يفزعون إلينا ولا نفزع إليهم .
وقال سعيد بن بشير : إن عبد الملك حين ثقلجعل يلوم نفسه ويضرب يده على رأسه وقال : وددت أن كنت أكتسب يوماً بيوم ما يقوتني وأشتغل بطاعة الله . فذكر ذلك لأبن حازم فقال : الحمد لله الذي جعلهم يتمنون ـ عند الموت ـ ما نحن فيه ، ولا نتمنى ـ عند الموت ما هم فيه » .
وسبب ذلك واضح ، هو أن عبد الملك ـ ومن هم على شاكلته ـ يخافون الله لموبقاتهم في الوقت الذي يشعرون فيه أنهم ملاقوه وتنعكس الآية عند غيرهم من أنصار الله .
فقد روي عن الامام علي بن أبي طالب أنه قال : عند ما ضربه ابن ملجم
____________
1 ـ الكامل في التاريخ 4 | 41 .
( 100 )

وشعر بالموت ـ « فزت ورب الكعبة » ـ فأطلقها صيحة ، لا شعورية ، مرحباً بلقاء ربه لأنه كان عف اللسان واليد والقلب .
ذلك جانب من جوانب فلسفة الامويين في الحكم .
وقد وضع معاوية بن أبي سفيان أصبعه على موطن الداء في الحكم الاموي .
ومعاوية بالطبع أعرف بدخائل ذلك الحكم من غيره ـ حين قال ـ عندما تلقاه رجال من قريش بعد عام الجماعة فقالوا :
الحمد لله الذي أعز نصرك وأعلا كعبك ـ « أما بعد فإني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم ولا مسرة بولايتي . ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة . ولقد رضت لكم نفسي على عمل ابن ابي قحافة وأردتها على عمل عمر ، فنفرت من ذلك نفاراً شديداً . واردتها على ثنيات عثمان ، بأبت . فسلكت بها طريقاً لي ولكم فيه منفعة ـ مؤاكلة حسنة ومشاربة جميلة . فان لم تجدوني خيركم فإني خير لكم ولاية .
يا أهل المدينة إقبلونا بما فينا . فان ما وراءنا شر لكم . وإن معروف زماننا هذا منكر زمان قد مضى ، ومنكر زماننا معروف زمان لم يأت (1) » .
ومما يلفت النظر حقاً أن الامويين وولاتهم لم يصغوا لنصح الناصحين من المسلمين وقد مر بنا موقف من مواقف عبد الملك في هذا الشأن . وهناك أمثلة أخرى كثيرة من هذا القبيل .
خطب الحجاج متذمراً من أهل العراق « فقال : له جامع المحاربي أما إنهم لو أحبوك لأطاعوك . على أنهم ما شنئوك لنسبك ولا لبلدك ، ولا لذات نفسك فدع عنك ما يباعدهم منك إلى ما يقربهم إليك .
فقال الحجاج : ما أراني أرد بني اللكيعة إلى طاعتي إلا بالسيف .
____________
1 ـ ابن عبد ربه : « العقد الفريد » 2 | 361 .