فقال أيها الأمير : إن السيف إذا لاقى السيف ذهب الخيار .
قال الحجاج : الخيار يومئذ لله ... قال أجل .. ولكنك لا تدري لمن يجعله الله ..
قال الحجاج : والله لقد هممت أن أخلع لسانك فأضرب به وجهك .
فقال يا حجاج : إن صدقناك أغضبناك وإن كذبنا أغضبنا الله . فغضب الامير أهون علينا من غضب الله ( 1 ) .
ويلاحظ ـ في الظاهر ـ أن جامع المحاربي لم يقل للحجاج شيئاً يستلزم أن يهدده الحجاج بالقتل !! غير إننا إذا نفذنا إلى الجانب النفسي العميق ـ في هذا الموضوع ـ أمكننا أن نقول :
إن جامع المحاربي قد استفز الحجاج وأثار كوامن نفسه فكان طبيعياً أن يجيبه الحجاج بالشكل الذي مر بنا ذكره . فالحجاج ـ في قرارة نفسه ـ عارف أنه متمرد على الله وعلى رسوله ، وإن حكم الله سيكون عليه لاله . ولكنه ـ مع هذا ـ حاول أن يخفي ذلك في قرارة نفسه كلما وجد إليه سبيلا ، فلما حادثه جامع ـ بالذي ذكرناه ـ تحركت نوازع نفسه فطفحت تهديداً على لسانه ليقطع الحديث على جامع ويخيفه لئلا يعود إليه في المستقبل .
و « دخل إعرابي على سليمان بن عبد الملك فقال : ـ يا أمير المؤمنين ـ إني أريد أن أكلمك بكلام ... فإذا أمنت بادرة غضبك فسأطلق لساني بما خرست به الألسن ... تأدية لحق الله .
يا أمير المؤمنين أنه قد تكنفك رجال أساؤا الإحسان لأنفسهم ، وابتاعوا دنياهم بدينهم ورضاك بسخط ربهم ، وخافوك في الله ، ولم يخافوا الله فيك ... فلا تأمنهم على ما يأمنك الله عليه ، إنهم لم يأتوا إلا ما فيه تضييع ، وللأمة خسف
____________
1 ـ ابن قتيبة « عيون الأخبار » 2 | 212 طبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة .
( 102 )
وعسف . وأنت مسئول عما اجترموا ، وليسوا مسئولين عما اجترمت . فلا تصلح دنياههم بفساد آخرتك ... فتغافل سليمان كأن لم يسمع شيئاً .
وخرج الإعرابي فكان آخر ( 1 ) العهد به .
وموقف سليمان هذا لا يختلف عن موقف الحجاج من الناحية المبدئية العامة ، وان اختلف عنه من حيث الشكل المظهر الخارجي .
فقد صمت سليمان وانطوى على نفسه بدلا من أن يجيب كما أجاب الحجاج . وسليمان بصمته هذا كتم نوازع نفسه التي أظهرها الحجاج . غير أن الأمر ، مع هذا ، اعمق من ذلك وأكثر تعقيداً .
فقد صرح الإعرابي ـ على بساطته ـ بما يجول في نفسه ، وألقى اللوم ـ في ظاهره ـ على حاشية الملك سليمان . وقد فاته أن يتذكر أن سليمان مسئول عن حاشيته لأنه اختارها وفق إرادته ووفق هواه ومزاجه . وأخذ هؤلاء ـ بدورهم يقومون بضروب الأفعال التي يرتضيها مزاج الملك . واذا بدر منهم ما يثيره ـ أحيانا ـ حمل ذلك منهم على حسن النية .
فسليمان الاموي لا « يصلح » إلا بحاشية فاسدة . والحاشية الصالحة لا « تصلح » لسليمان .
لقد فتح الامويون قلوبهم كما فتحوا خزائن بيت مال المسلمين لكل من حدثته نفسه بالخروج على أسس الدين أو مناوؤة الامام علي بن ابي طالب وتعاليمه .
فقد انضوى تحت لواء معاوية ـ مثلا ـ « أثناء نزاعه مع علي » كل من كان حاقداً علي ابن ابي طالب لعدالته وسلامة معتقداته في السياسة والدين والأخلاق . وفي مقدمة أولئك :
____________
1 ـ المسعودي « مروج الذهب » ومعادن الجوهر 3 | 115 ـ 116 .
( 103 )
عبيد الله بن عمر بن الخطاب الذي هرب خوفاً من أن يقيده الامام بالهرمزان الذي قتله ظلماً .
ولجأ إلى معاوية أيضاً هصقلة بن هبيرة الشيباني الذي اشترى أسرى الخوارج من جماعة الخريت بن راشد السامي بعد أن التوى بما شرطه على نفسه .
وفر إلى معاوية كذلك القعقاع بن شور بعد إعتدائه على أموال المسلمين .
والتحق بمعاوية أيضا النجاشي بن الحرث بن كعب الشاعر المعروف . وبما أن قضية هروب النجاشي تكشف بعض الجوانب من أخلاق الإمام ـ يالإضافة إلى طرفتها ـ فقد رأينا أن ننقلها إلى القارئ ..
حدث ابن الكلبي عن عوانه . قال : خرج النجاشي في اول يوم من شهر رمضان فمر بأبي سمال الاسدي وهو قاعد بفناء داره . فقال له أين تريد ؟ فقال :
اردت الكناسة . فقال : هل لك في رؤوس وآليات قد وضعت في التنور من أول الليل فأصبحت قد أينعت وقد تهرت !! .
قال ويحك ! في أول يوم من رمضان ! . قال دعنا مما لا يعرف .
قال ثم مه ! قال اسقيك من شراب كالورس . يطيب النفس ، يجري في العرق ويزيد في الطرق ، يهضم الطعام ، ويسهل للقدم الكلام . فنزل فتغديا . ثم أتاه بنبيذ فشرباه .
فلما كان آخر النهار . علت أصواتهما ، ولهما جار من شيعة علي ، فأتاه فأخبره بقصتهما . فأرسل إليهما قوماً فأحاطوا بالدار .
فأما أبو سمال فوثب إلى دور بني أسد فأفلت ، وأخذ النجاشي فأتى به إلى علي فلما أصبح أقامه في سراويل فضربه ثمانين جلدة ( 1 ) .
____________
1 ـ ابن أبي الحديد « شرح نهج البلاغة » 1 | 366 ـ 368 .
( 104 )
وروى صاحب « كتاب الغارات ( 1 » » أن عليا لما حد النجاشي غضبت اليمانية لذلك وكان أخصهم به طارق بن عبد الله بن كعب النهدي . فدخل عليه فقال يا أمير المؤمنين ما كنا نرى أهل المعصية والطاعة ، وأهل الفرقة والجماعة ـ عند ولاة العدل ومعادن الفضل ـ سيان في الجزاء حتى راينا ما كان من صنيعك بأخي الحرث فأوغرت صدورنا ..
فقال علي : وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين !! وهل هو إلا رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرم الله فأقمنا عليه حدا كان كفارته .
أن الله تعالى يقول : ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا . إعدلوا هو أقرب للتقوى .
قال : فخرج طارق من عنده فلقيه الاشتر فقال يا طارق : انت القائل لأمير المؤمنين أو غرت صدورنا وشتت أمورنا ؟
قال طارق : نعم أنا قائلها .
قال : والله ماذاك كما قلت . إن صدورنا له لسامعة وإن أمورنا لجامعة . فغضب طارق وقال ستعلم يا أشتر غير ما قلت . فلما جنه الليل همس والنجاشي إلى معاوية ، فلما قدما عليه دخل آذنه فأخبره بقدومهما ـ وعنده وجوه اهل الشام منهم : عمرو بن مرة الجهني وعمرو بن صيفي وغيرهما . فلما دخلا نظر معاوية إلى طارق وقال : مرحبا بالمورق غصنه المعرق أصله المسود غير المسود من رجل كانت منه هفوة ونبوة باتباعه صاحب الفتنة ورأس الضلالة والشبهة .. فقام طارق فقال يا معاوية إني متكلم فلا يسخطك . ثم قال :
أما بعد فان ما كنا نوضع فيما اوضعنا فيه « بين يدي إمام تقي عادل » مع رجال من أصحاب رسول الله أتقياء مرشدين ما زالوا مناراً للهدى ، ومعالم للدين ، خلفا عن سلف مهتدين أهل دين لا دنيا . كل الخير فيهم . اتبعهم من الناس إقيال
____________
1 ـ طبع أكثر من مرة في طهران إيران مع تعليق الاستاذ السيد جلال الدين المحدث .
( 105 )
وأهل بيوتان وشرف ليسوا بناكثين ولا قاسطين ، فلم يكن رغبة من رغب منا عنهم ؛ وعن صحبتهم إلا بقرارة الحق حيث جرعوها ولوعورته حيث أسلكوها وغلبت عليهم دنياً مؤثرة وهوى متبع .
فلا تفخرن يا معاوية إن شددنا نحوك الرحال وأوضعنا إليك الركاب .. فعظم على معاوية ما سمعه . وغضب ولكنه أمسك . وقال يا عبد الله : إنا لم نرد بما قلناه أو نوردك مشرع ظما ولا أن نصدرك عن مكرع ري . ولكن القول قد يجري بصاحبه إلى غير ما ينطوي عليه من الفعل .
ثم أجلسه معه على سريره ... وأقبل نحوه بوجهه يحدثه حتى قام وقام معه عمرو بن مرة وعمرو بن صيفي الجهنيان . فأقبلا عليه بأشد العتاب وأمضه ، يلومانه في خطيته وما واجه به معاوية .
فقال طارق : والله ما قمت بما سمعتماه حتى خيل إلى أن بطن الارض خير لي من ظهرها عند سماعي ما أظهر من العيب والنقص لمن هو خير منه في الدنيا والآخرة ( 1 ) .
فلم يكن طارق يرى ـ وهو على حق ـ أن أهل المعصية والطاعة ، وأهل الفرقة والجماعة ـ أي الخصوم والانصار على السواء ـ سيان في الجزاء ، عند ولاة العدل ، إلا حين رأى معاملة الامام للمسلمين بصورة عامة وموقفه من النجاشي ( 2 ) ، ـ شاعره ـ بصورة خاصة . ولكن ذلك الموقف العادل ـ مع هذا ـ قد أوغر صدر طارق وأثار حفيظة قومه على ما يقول . فقد كان قومه ـ على زعمه ـ يتوقعون أن يغض الامام طرفه عن هفواتهم لاتصالهم به ووقوفهم معه أزاء خصومه الذين انغمسوا في الموبقات إلى الاذقان .
____________
1 ـ شرح نهج البلاغة 1 | 367 .
2 ـ شاعر الامير ـ في الماضي ـ يقال مدير الدعاية في عهدنا ويتمتع عادة بامتيازات كثيرة معرفة من الناحيتين المادية والمعنوية .
( 106 )
ويلوح للباحث إن طارق بن عبد الله كان جاهلا بنفسية الامام ـ وإن كان ملتصقا به ـ . فغاب عن ذهنه أن الصديق الوحيد للإمام هو الحق وإشاعة العدل بين الناس . وقد دفعه جهله إلى إعلان استغرابه من موقف الامام ـ الطبيعي ـ من النجاشي . فالنجاشي ـ بنظر الامام ـ رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرم الله فاستحق على ذلك العقوبة الشرعية المناسبة .
وهنا يكمن سر خلود الامام ـ على مر الاجيال ـ ، ويتجلى الامام ـ في اتباعه الحق ـ كالطود ينحدر عنه السيل ولا يرقى إليه الطير . وفي هذه النقطة بالذات يصعق مناوؤه ويتخاذلون فيذهبون مع الملك بالايام التي انسلخت من أعمارهم أثناء الحياة .
وفي هذه النقطة بالذات كذلك يبرز أنصار الامام ومشايعوه على السواء . فطارق المار الذكر لم يكن من أنصاره ـ من مشايعيه . وينعكس الامر عند الاشتر كما رأينا .
ولم يكن الامام غافلا عما ذكرناه . ولكنه كان مقيدا ـ في سياسته العامة ـ بقيود الشريعة ، مدفوعاً إلى اتباعها . فكان يقف مع النصوص لا يتعداها إلى الاجتهاد والاقيسة إذ لا اجتهاد في معرض النص .
وكان الامام يطبق أمور الدنيا على امور الدين ، ويسوق المسلمين جميعا مساقا واحداً . ولا يرفع ولا يضع إلا بالكتاب والسنة . ولم يكن يرى مخالفة الشرع لأجل السياسة سواء اكانت سياسة دينية ام دنيوية .
ولم يكن أيضا ينزل العقوبة ـ بمن يستحقا ـ إلا إذا ثبت عنده أن الانسان قام بعمل يستوجب العقاب . أي ان الاصل ـ عنده ـ براءة الذمة كما يقولون . ولا يعاقب قبل حدوث الجرم .
فالإمام إذن ـ وان فتح قلبه للمشايعين ـ لم يتردد في إزاحتهم عنه كلما آنس بتصرفاتهم خروجا عن الدين . واذا صح ما ذهبنا اليه جاز لنا ان نقول أن أولئك
( 107 )
المشايعين كانوا ـ في عواطفهم ـ مع خصومه قبل إلتحاقهم الظاهر بهم . ولا تخرج عملية الالتحاق تلك عن كونهم حملوا أجسامهم من مكان إلى مكان . والعكس صحيح كذلك .
ولقد اشار الامام الى هذا المعنى حين قال : « إني وشيعتي في ميثاقي الله لا يزاد فينا رجل ولا ينقص إلى يوم القيامة ( 1 ) .
تذكرنا القصة الآنفة الذكر بقصص أخرى مشابهة من هذا القبيل . لعل أطرفها وأهمها ما تذكره كتب التاريخ والادب العربي في معرض التحدث عن موقف طائفة من فضليات نساء المسلمين « كن نصرن علياً في صفين » من معاوية ابن ابي سفيان بعد مصرع ابن ابي طالب . قال ابن عبد ربه :
« وفدت سودة ابنة عمارة بن الاشتر الهمدانية على معاوية .. فقال لها : أنت القائلة لأخيك ـ يوم صفين :
شمر كفعل أبيك يا ابن عمـارة * يوم الطعـان وملتقى الاقران
وأنصر علياً والحسين ورهطـه * وأقصد لهند وابنهـا بهــوان
إن الامام ـ أخا النبي محمد ـ * علم الهدى ومنارة الايمــان
فقد الجيـوش وسر أمام لوائـه * قدمـا بأبيض صـارم وسنان
قالت : مات الرأس وبتر الذنب . فدع عنك تذكار ما قد نسى .. هذا ابن ارطاة قدم بلادي ، وقتل رجالي وأخذ مالي ، فإما عزلته فشكرناك ، وإما لا
____________
1 ـ ابن أبي الحديد ، 1 | 368 . روى ذلك يونس بن أرقم عن زيد بن أرقم عن زيد بن ارقم عن أبي ناجية ـ مولى ام هانئ ـ قال كنت عند علي فأتاه رجل عليه زي السفر . فقال يا أمير المؤمنين إني أتيتك من بلدة ما رأيتك لك بها محباً . قال من أين أتيت ؟ قال من البصرة . قال من البصرة . قال أما انهم لو يستطيعون أن يحبوني لاحبوني . « إني وشيعتي ـ في ميثاق الله ـ لا يزاد فينا رجل ولا ينقص إلى يوم القيامة . »
( 108 )
فعرفناك ، فقال معاوية : والله لقد هممت أن أردك إليه على قتب أشرس فينفذ حكمه فيك . فسكتت ثم قالت :
صلى الاله على روح تضمنه * قبر فاصبح فيه العدل مدفوناً
قد حالف الحق لا يغبى به ثمنا * فصار بالحق والايمان مقروناً
قال : ومن ذاك ؟ قالت : علي بن أبي طالب . أتيته يوما في رجل ولاه صدقاتنا . فكان بيننا وبينه ما بين الغث والسمين . فوجدته قائما يصلي . فانفتل من الصلاة . ثم قال ـ برأفة وتعطف ـ ألك حاجة ؟ فاخبر به خبر الرجل فرفع يده إلى السماء وقال : اللهم إني لم آمرهم بظلم خلقك ، ولا ترك حقك .
ثم أخرج من جيبه قطعة من جراب فكتب فيه : قد جاءكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ، ولا تبخسوا الناس أشاءهم ، ولا تعثوا في الارض مفسدين ( 1 ) .
ودخلت بكادة الهلالية على معاوية فسألها عن حالها ، قالت بخير . قال . غيرك الدهر ؟ قالت : كذلك هو ذو غيره ، من عاش كبر ، ومن مات فقد .
قال عمرو بن العاص : هي والله القائلة ـ يوم صفين :
يا زيد دونك فأحتقر من دارنا * سبقـا حساما في الترب دفينا
قد كنت أدخره ليوم كريهـة * فاليـوم أبرزه الزمان مصونا
قال مروان وهي ـ والله ـ القائلة :
أترى ابن هند للخلافة مالكــا ! * هيهات ـ ذاك ـ وإن أراد ـ بعيد
قال سعيد بن العاص وهي القائلة :
قد كنت أطمع أن أموت ولا أرى * فوق المنابر ـ من أمية ـ خاطبا
فالله أخـر مدتـي فتطاولــت * حتى رأيــت من الزمان عجائبا
____________
1 ـ ابن عبد ربه « العقد الفريد » 1 | 211 ـ 212 .
( 109 )
ثم سكتوا ، فقالت أنا والله قائلة ما قولوا . وما خفى عليك مني أكثر فضحك وقال ليس يمنعنا ذلك من برك . أذكري حاجتك . قالت . أما الآن فلا ( 1 ) .
وكتب معاوية إلى عامله في الكوفة أن يوفد إليه الزرقاء بنت عدي بن قيس الهمدانية ، وكانت شهدت ـ مع قومها ـ صفين . فلما دخلت عليه قال « الست الراكبة الجمل الاحمر والواقفة بين الصفين تحظين على القتال وتوقدين الحرب ؟ . والله ـ يا زرقاء ـ لقد شركت علياً في كل دم سفكة .
قالت . أحسن الله بشارتك . فمثلك من يبشر بخير . فضحك وقال : والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب من حبكم له في حياته . أذكري حاجتك . قالت : آليت على نفسي أن لا اسأل أميرا أعنت عليه أبداً ( 2 ) .
ودخلت أم سنان بنت جشمة بن خرشة المذحجية على معاوية تكلمه في غلام من بني ليث حبسه مروان . « فقال لها معاوية كيف قولك .
عزب الرقاد فمقلتـي لا ترقـد * والليل يصدر بالهموم ويـورد
يا آل مذجح لا مقــام فشمروا * أن العــدو لآل أحمد يقصـد
هذا علــي كـالهلال تحفــه * وسط السماء من الكواكب أسعد
خير الخلائــق وابن عم محمد * أن يهدكــم بالنور منه تهتدوا
فقال رجل من جلسائه وهي القائلة :
أما هلكت ـ أبا الحسين ـ فلم تزل * بالحق تعـرف هاديــا مهديــا
فأذهب عليـك صلاة ربك ما دعت * ـ فوق الغصون ـ حمامة قمريـا
قد كنت ـ بعد محمد ـ خلفا كمـا * أوصي إليـك بنــا فكنت وفيـا
____________
1 ـ العقد الفريد 1 | 212 ـ 213 .
2 ـ المصدر نفسه ص 213 ـ 214 .
( 110 )
قالت لسان صدق ، وقول نطق . وكان ـ والله ـ علي أحب إلينا منك ( 1 ) . ودخلت ـ على معاوية ـ عكرشة بنت الاطرش بن رواحه متوكئة على عكاز « فسلمت عليه بالخلافة . ثم جلست . فقال لها معاوية الآن يا عكرشة صرت ـ عندك ـ أمير المؤمنين !! قالت : نعم إذ لا علي حي ( 2 ) . ، فعبرت بذلك عن الخسارة التي حلت بالمسلمين بعد مصرع الامام أحسن تعبير .
فقد مات علي . فمات العدل معه . وباستطاعة معاوية ـ ومن هم على شاكلته أن يصبحوا أمراء للمؤمنين .
وسأل معاوية ـ ذات يوم ـ درامية الحجونية عن سبب حبها لعلي وبغضها معاوية . فقالت . أو تعفيني ، قال لا أعفيك .
قالت أما إذا أبيت فأني أحببت علياً على عدله في الرعية وقسمه بالسوية . وأبغضتك على قتال من هو أولى منك بالامر
وطلبتك ما ليس لك بحق . وواليت علياً على ما عقد له رسول الله من الولاء ، وحبه المساكين وإعظامه لاهل الدين . وعاديتك على سفكك الدماء وجورك في القضاء وحكمك بالهوى ..
فقال : هل لك من حاجة ؟ قالت او تفعل إذا سألتك ؟ قال نعم .
قالت : تعطيني مئة ناقة فيها فحلها وراعيها .
قال : تصنعين بها ماذا ؟ قالت أغذوا بألبانها الصغار واستحيي بها الكبار وأكتسب بها المكارم وأصلح بها بين العشائر ... قال أما والله لو كان علي حيا ما أعطاك منها شيئاً ! !
____________
1 ـ العقد الفريد : 1 | 214 ـ 215 .
2 ـ المصدر نفسه ص 215 ـ 216 .
( 111 )
قالت : لا والله ولا وبرة واحدة من مال المسلمين ( 1 ) .
إن هذه الحكايات ـ أن دلت على شيء ـ فإنما تدل على أن نفوس الناس أوعية تقبل الخير ـ على أسوء الفروض ـ كما تقبل الشر . فاذا ساد الشر في المجتمع وتبناه حكام السوء اختفت الفضيلة وقل ناصرها . والعكس صحيح كذلك . وبما أن التاريخ البشري بصورة عامة ، والتاريخ العربي الاسلامي بصورة خاصة قد غلبت على حكامه ـ باستثناء علي بن أبي طالب ـ شهوة الحكم والمحافظة على المصالح الذاتية ـ بنسب متفاوتة ـ فلا عجب أن رأينا نفوس الرعايا قد طبعت على الشر والهبوط عن مستويات الاخلاق الرفيعة .
وللحكام الامويين القدح المعلى في هذا الشأن .
ولواتيح لعلي بن أبي طالب أن يحكم العالم العربي ـ الإسلامي بعد وفاة الرسول مباشرة لكانت الأخلاق العربية ـ الإسلامية المنتشرة في الوقت الحاضر ـ غير ما هي عليه الآن .
وفي هذه النقطة بالذات يظهر أثر الامويين في الخلق العربي ـ الإسلامي الشائع واضحا كالشمس في رائعة النهار . « سأل رجل عليا ما بال المسلمين اختلفوا عليك ولم يختلفوا على أبي بكر وعمر ؟ فقال لأن أبا بكر وعمر كانا واليين على مثلي . وأنا اليوم وال علي مثلك ( 2 ) . »
العصبية القبلية الجاهلية التي حاربها الإسلام : تمسك الامويين بأمويتهم اولا
____________
1 ـ العقد الفريد 1 | 216 ، 217 .
2 ـ مقدمة ابن خلدون ، المطبعة التجارية ص 211 . لعل الإمام قصد بذلك أن الجبل الإسلامي الذي عاش في عهد أبي بكر وعمر ما زالت تكتنفه هيبة النبي وتهيمن على نفسه الاحكام التي كان الرسول سائر ـ في سياسته ـ وفقاً لمستلزماتها . أما الجيل الذي أراد أن يحكمه الامام ـ في ضوء القرآن وسيرة النبي ـ فقد فسدت طباعه اثناء خلافة عثمان .
( 112 )
وقبل كل شيء . واستغلوا جميع الروابط الممكنة لتثبيتها ودعمها . فكانت سياستهم مستندة على أمويتهم بالدرجة الاولى ، وعلى قريشيتهم بالدرجة الثانية ، وعلى عروبتهم بالدرجة الثالثة . وبهذا الاسلوب أسقطوا الموالي « وهم المسلمون غير العرب » من حسابهم ، وعاملوهم معاملة جاهلية يأباها الاسلام . على أنهم التزموا في الجانب العربي ـ سياسة من والاهم من الاعراب وشاركهم في المساهمة في استئصال الاخلاق الاسلامية من نفوس الناس . وبما أن الامويين لا يرتبطون بالموالي بروابط العشيرة والنسب أو وحدة المصالح المشتركة ، وبما أن الموالي وبخاصة الفرس قد ألفوا منذ عهد الامام علي بن أبي طالب ـ المساواة مع العرب بحكم كونهم إسلاما ـ فقد راعهم بعد الحكم الاموي عن روح الاسلام فقاوموه ( 1 ) ولم يجد الامويون بداً من إثارة النزعة العربية الجاهلية ضد الموالي لاصباط محاولتهم الرامية إلى تطبيق مبادئ الاسلام على شئون الحياة . وفي هذا الجو الجديد زرعت بذور الشعوبية وانقسم المسلمون حولها ، وانشغل فريق من الكتاب والادباء في معركة كلامية حامية الوطيس حول مساوئ الشعوبية ومحاسنها . وكسب الامويون ثمار ذلك . فقد ألهوا المسلمين من العرب والموالي بمشاكل جانبية ـ مازلنا نعاني بعض آثار الدين الحنيف . وإلى القارئ طرفا من ذلك الصراع الفكري بين الموالي والعرب .
ذكر ابن عبد ربه ( 2 ) في أن معاوية بن أبي سفيان استدعى الأحنف بن قيس ، وسمرة بن جندب وقال لهما : « إني رأيت هذه الحمراء قد كثرت . واراها قد
____________
1 ـ ولعل ذلك يفسر لنا شدة تعلقهم بالامام علي وعلى حبهم الشديد له . ولعل ذلك الامر نفسه يفسر لنا بغض الامويين وأتباعهم للفرس . فقد تجسم بعضهم للإمام فشمل أنصاره ومحبيه .
2 ـ ابن عبد ربه ، العقد الفريد 2 | 260 ـ 261 .
( 113 )
قطعت على السلف . وكأني أنظر إلى وثبة منهم على العرب والسلطان . فقد رأيت أن أقتل شطراً وأدع شطراً لإقامة السوق وعمارة الطريق .
وروى : أن حمران ـ مولى عثمان بن عفان ـ عاتب عامر بن عبد القيس « المعروف بزهده ونسكه » في موقفه من عثمان ، وكان عبد الله بن عامر « صاحب العراق » حاضرا . فأنكر عامر بن القيس ذلك . فقال له حمران : « لا كثر الله فينا مثلك . فقال له عامر بل كثر الله فينا مثلك . فقيل له أيدعو عليك وتدعو له ؟ قال نعم يكسفون طرقنا ويخرزون خفافنا ، ويحوكون ثيابنا . فاستوى ابن عامر جالسا ـ وكان متكئا ـ فقال لما كنت أضنك تعرف هذا الباب لفضلك وزهادتك .
ومما يذكر عن نافع بن جبير أنه كان يسأل إذا مرت به جنازة فإذا قالوا قرشي قال : واقوماه ! وإذا قالوا عربي قال : وا بلدتاه !! واذا قالوا مولى قال : هو مال الله يأخذ ما يشاء ، ويدع ما يشاء » ( 1 ) .
وروى الجاحظ : أن الحجاج بن يوسف الثقفي « أقبل على الموالي وقال : أنتم علوج عجم ، وقراؤكم أولى بكم ففرقهم وفض جمعهم كيف أحب ، وصيرهم كيف شاء ، ونقش على يد كل رجل منهم اسم البلدة التي وجهه إليها » ( 2 ) .
وكتب التاريخ الإسلامي ، والأدب العربي تعج بالاخبار المتضمنة سوء معاملة الامويين للموالي ، فقد امتهنوهم ، واستهانوا باحسابهم ، وأرهقوهم بالضرائب ، وفرضوا عليهم الجزية والخراج ، وضرائب كثيرة أخرى ، وأسقطوهم من العطاء فكان الجنود الموالي يقاتلون من دون عطاء ، أي أنهم عاملوهم ـ في هذه الناحية ـ كما يعاملون المشركين والكفار ، وهو أمر يأباه الإسلام .
____________
1 ـ المصدر نفسه 262 .
2 ـ المصدر نفسه 262 .
( 114 )
وكانوا يقولون : لا يقطع الصلاة إلا ثلاثة : حمار أو كلب أو مولى .
وكانوا : لا يكنونهم بالكنى ولا يدعونهم الا بأسماء والالقاب ، ويمشون في الصف معهم ، ولا يقدمونهم في الموكب . وإن حضروا طعاماً قاموا على رؤوسهم ، وان اطعموا المولي ـ لسنه وفضله وعلمه ـ واجلسوه في طريق الجناز لئلا يخفى على الناظر أنه ليس من العرب ، ولا يدعونهم يصلون على الجنائز إذا حضر إحد من العرب ، وإن كان الذي يحضر غريراً .
وكان الخاطب لا يخطب المرأة منهم إلى أبيها ولا إلى أخيها ، وإنما يخطبها إلى مواليها فإن رضي زوج ، وإلا فإن زوج الأب والأخ ـ بغير رأي مواليه ـ فسخ النكاح ، وإن كان قد دخل بها كان سفاحاً غير نكاح » ( 1 ) .
وإذا أمعنا النظر فيما ذكرناه وجدناه خروجاً سافراً على مبادئ الإسلام ، واختراقاً واضحاً للقرآن والسيرة النبوية . جاء في القرآن الكريم :
« يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم » . ولكن الامويين قد ساروا في سياستهم العامة ـ في هذه النقطة بالذات « كما ساروا في غيرها » على أسس تتناقض هي وما نص عليه القرآن الكريم . فلم تقتصر سياستهم على مطاردة الأتقياء من المسلمين ـ وحرمانهم من حقوقهم المشروعة ـ بل تعدت ذلك إلى العناية بالمتمردين على أوامر الله . فقد أغدق الامويين ـ على هؤلاء ـ المناصب والهبات .
وبما أن الامويين كانوا عارفين بكيفية مجيئهم للحكم ، وعدم مشروعية حكمهم من الناحية الدينية ـ فقد ساروا في ذلك بطريقة تنسجم هي وأسلوب مجيئهم للحكم من جهة وتعصم « من جهة أخرى » ملكهم من التصدع والانهيار . فلا غرو أن جعلوا المستهترين بالدين وبمصالح الناس مادة بناء ذلك الحكم .
____________
1 ـ ابن عبد ربه « العقد الفريد » 2 | 260 ـ 261 إن كل ما ذكر خروج صارخ على مبادئ الاسلام .
( 115 )
ولو اعتمد الامويون على الأتقياء والمتدينين لكانوا كمن سعى إلى حتفه بظلفه .
ذكر أبو عمرو سفيان بن عبيد الله « قال : قلت يا رسول الله قل لي قولا في الاسلام لا أسال عنه أحدا غيرك . فقال : قل آمنت بالله ثم استقم ( 1 ) . »
لقد أوجز الرسول ـ في هذا القول المختصر ـ روح الاسلام مجانية العقائدي والاخلاقي . فالإيمان بالله ـ كما ذكرنا ـ يستلزم القيام بشعائره الدينية المعروفة . والاستقامة تتضمن السير وفق مستلزمات الاخلاق الإسلامية الى شرحناها .
فهل آمن الامويون بالله ؟ ومن ثم استقاموا .
إن تاريخهم يشير إلى الاجابة بالنفي عن هذين السؤالين . وبقدر ما يتعلق الامر بجانب الاستقامة يمكننا أن نلاحظ بعدهم عن الاسلام إذا وازنا موقفهم من الموالي ـ الذي سنشرحه مفصلا ـ بموقف رسول الله .
ذكر البخاري ( 2 ) بإسناده عن عائد بن عمرو : « أن أبي سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر . فقالوا : ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها !!
قال : فقال أبو بكر أتقولون هذا الشيخ قريشي وسيدهم ؟ فأتى النبي فأخبره . فقال يا أبا بكر لعلك أغضبتهم ؟ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت الله . فأتاهم أبو بكر فقال يا إخوتنا أغضبتكم ؟ قالوا : لا . يغفر الله لك . »
وقال عمر بن الخطاب ـ قبيل وفاته ـ « لو كان سالم ـ مولى حذيفة ـ حياً لاستخلفته وقلت لربي إن سألني أني سمعت نبيك يقول إن سالماً كان شديد الحب لله ( 3 ) . »
____________
1 ـ كتاب الفتوحات الوهبية للشيخ ابراهيم المالكي ص 196 .
2 ـ صحيح البخاري 2 | 362 .
3 ـ ابن الاثير « الكامل في التاريخ » 3 | 34 .
( 116 )
وأما منزلة سلمان الفارسي ـ عند النبي ـ ومنزلة الاسلام عند سلمان فأشهر من ان تذكر .
قال ابن حجر : ( 1 ) « سلمان أبو عبد الله الفارسي ـ ويقال له سلمان الخير وسلمان بن الاسلام ...
روى عنه أنس بن مالك وكعب بن عجرة ، وابن عباس ، وأبو سعيد وغيرهم من الصحابة ، ومن التابعين أبو عثمان والنهدي ، وطارق بن شهاب وسعيد بن وهب وآخرون بعدهم » .
وذكر يوسف المالكي ( 2 ) أن سلمان كان إذا قيل له : ابن من أنت ؟ قال أنا سلمان بن الاسلام من ولد آدم ...
وذكر معمر عن رجل من أصحابه قال دخل قوم على سلمان ـ وهو أمير على المدائن ـ وهو يعمل الخوص . فقيل له تعمل هذا وأنت أمير يجري عليك رزق ؟ فقال أني أحب أن أكل من عمل يدي ( 3 ) ...
وكان خيراً فاضلا حبرا عالما زاهدا متقشفا ...
وروى عن النبي ـ من وجوه ـ أنه قال لو كان الدين عند السماء لناله سلمان ... وعن عائشة قالت كان لسلمان مجلس مع رسول الله ينفرد به بالليل حتى كاد يغلبنا على رسول الله .
وروى من حديث أبي بريدة عن أبيه عن النبي أنه قال :
أمرني ربي بحب أربعة وأخبرني أنه يحبهم ، علي وأبي ذر والمقداد وسلمان . »
____________
1 ـ الإصابة في تمييز الصحابة 2 | 60 .
2 ـ الاستيعاب في أسماء . الاصحاب 2 | 45 ـ 58 .
3 ـ وذكر انه تعلم عمل الخوص بالمدينة ـ من الانصار ـ عند بعض مواليه . وكان أول مشاهده الخندق ، وهو الذي اشار بحفره . فقال أبو سفيان وأصحابه هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها ، وتوفي في أواخر خلافة عثمان وقيل في خلافة عمر .
( 117 )
فسلمان الفارسي بنظر الاسلام أفضل من معاوية وأبيه العربيين . القريشيين . ذكر لمقريزي ( 1 ) « إن أبا بكر كلم أبا سفيان فرفع صوته . فقال أبو قحافة : أخفض صوتك يا أبا بكر عن ابن حرب . فقال أبو بكر يا أبا قحافة : إن الله بنى في الاسلام بيوتا كانت غير مبنية . وهدم بيوتا كانت في الجاهلية مبنية . وبيت أبي سفيان مما هدم »
فموقف الامويين من الموالي إذن موقف لا يجيزه الاسلام من الناحية المبدئية العامة . وتتجسم بشاعة ذلك الموقف إذا تذكرنا أن قسما كبير امن الموالي ـ وبخاصة الفرس منهم ـ كانوا من أفاضل المسلمين الامر الذي حمل ابن خلدون على القول بان حمله العلم في الاسلام أكثرهم العجم .
قال ابن خلدون : « من الغريب الواقع أن حملة العلم في الاسلام اكثرهم العجم لا من العلوم الشرعية ولا من العلوم العقلية إلا في القليل النادر وإن كان منهم العربي في نسبته ومرباه ومشيخته مع أن اللغة عربية وصاحب شريعتها عربي ... فكان صاحب صناعة النحو سيبويه والفارسي من بعده والزجاج من بعدهما : وكلهم عجم في أنسابهم . وكذا حملة الحديث الذي حفظوا عن أهل الاسلام اكثرهم عجم ...
وكان علماء اصول الفقه كلهم عجما ... وكذا حملة الكلام . وكذا اكثر المفسرين . ولم يقم بحفظه وتدوينه إلا الاعاجم ... وظهر مصداق قول النبي : « لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من اهل فارس ( 2 ) » فأنت ترى ان الفرس ـ وهم الذين تطلق عليهم كلمة الموالي في الاعم والاغلب ـ قد برعوا في شتى صنوف المعرفة العربية الاسلامية .
____________
1 ـ النزاع والتخاصم 190 .
2 ـ مقدمة ابن خلدون : 543 ـ 544 .
( 118 )
ومن الغريب أن ينتزع الفرس من العرب ـ بالاضافة إلى علم الكلام وأصول الفقه والحديث وتفسير القرآن ـ قواعد اللغة العربية ، وهو أمر بعيد عن متناول المسلم غير العربي كما هو معروف .
أما براعة الفرس في الفقه فقد بلغت حد الاعجاز فقد روى عن أبي ليلى أنه قال : « قال لي عيسى بن موسى ـ وكان دياناً شديد العصبية .
من كان فقيه البصرة ؟ قلت الحسن بن أبي الحسن .
قال ثم من ؟ قلت محمد بن سيرين .
قال فما هما ؟ قلت موليان . قال فمن كان فقيه مكة ؟ قلت : عطاء بن ابي رباح ومجاهد وسعيد بن جبير وسليمان بن يسار .
قال فما هؤلاء ؟ قلت : موالي ، قال فمن فقهاء المدينة ؟ قلت يزيد بن اسلم ومحمد بن المنكدر ، ونافع بن أبي نجيح .
قال فما هؤلاء ؟ قلت موالي فتغير لونه ـ ثم قال : فمن أفقه أهل قباء ؟ قلت ربيعة الرأي ، وابن أبي الزناد قال : فما كانا ؟ قلت من الموالي . فاربد وجهه . ثم قال : فمن كان فقيه اليمن ؟ قلت طاووس وابنه وابن منبه .
قال فما هؤلاء ؟ قلت من الموالي . فانتفخت أوداجه فانتصب قاعدا . ثم قال : فمن كان فقيه الشام ؟ قلت مكحول . قال فما كان مكحول هذا ؟ قلت موالي .
قال فتنفس الصعداء . ثم قال : فمن كان فقيه الكوفة ؟ قال : فوالله لولا خوفه لقلت الحكم بن عينية ، وعمار بن أبي سليمان . ولكني رأيت فيه الشر فقلت : إبراهيم والشعبي . قال فما كانا ؟ قلت عربيان . قال الله اكبر . وسكن جأشه ( 1 ) . »
____________
1 ـ ابن عبد ربه : « العقد الفريد » 2 ص 262 . كان الاولى بعيسى بن موسى ان يرتاح لبروز الفرس في الفقه بجانب إخوانهم العرب ومساهمتهم لخدمة الدين الحنيف .
( 119 )
هؤلاء هم العجم الذين كان دعاة الامويين ـ ومازلوا ـ ينتقصونهم في دينهم وفي أحسابهم وفي خلقهم .
ومن المحزن حقا أن تلصق بهؤلاء المسلمين صنوف التهم ومختلف المثالب والموبقات حتى أصبح القول :
« بأن الفرس دخلوا الاسلام لهدمه » من الاقوال التي يرددها كثير من الناس دون تثبت أو انصاف .
وقد أسرفت كتب التاريخ المدرسي عندنا ـ في هذه القضية ـ غاية الاسراف .
فمصرع الخليفة الثاني مثلا : كان سببه ـ بنظر مؤلفيها ـ مؤامرة فارسية لهدم الاسلام ، وسقوط الدولتين الاموية ، والعباسية ، والنزاع بين المنصور وأبي مسلم الخراساني ، وبين الرشيد والبرامكة ، وبين الامين والمأمون الخ ...
كلها امثلة من هذا القبيل . وقد بلغ بعض الكتاب المعاصرين ( 1 ) في هذا الاتهام ذروته حين نسب للفرس مصرع الامام علي بن أبي طالب مع علمه بحبهم له ـ لعدالته وتقواه ـ .
ومن يدري فلعل حب الفرس لعلي هو الذي جعل هؤلاء الكتاب يبغضونهم ويكيلون لهم التهم دون حساب .
ولا يخفى ما في هذه المزاعم والاباطيل من تجن على التاريخ وتبسيط لحوادثه .
ومما يلفت النظر إن أولئك الكتاب يميزون احيانا بين الفرس على اسس اخرى غير فارسيتهم . فيحترمون بعضهم إلى حد العبادة ويمقتون بعضا آخر الى حد الكفر .
____________
1 ـ الدكتور بديع شريف « الصراع بين الموالي والعرب » دار الكتاب العربي بمصر ، 1954 ص 32 ـ 33 .
( 120 )
ويجري هذا المجرى : ان أولئك الكتاب « العرب » كثيراً ما يعتبرون غير العرب « عربا » وبالعكس من الناحية « القومية » .
لقد مر بنا القول بأن الموالي قد برعوا في العلوم الاسلامية وتفوقوا فيها على العرب . ترى لماذا برع الموالي في إتقان العلوم الاسلامية ؟ وتخلف عنهم العرب ؟
هل يعود السبب في ذلك إلى اختلاف في وراثاتهم الجسمية والعقلية ؟
ام انه يرجع إلى عوامل بيئية صرفة ؟
هل أشتل الامويون العرب في الحروب والمؤامرات السياسية فصرفوهم عن العلم ؟ فخلا الجو العلمي للموالي ؟
وهل شعر الموالي بضرورة تجنب الاشتراك في السياسة الاموية فانصرفوا بكليتهم إلى العلم ؟
إن الاجابة بالاثبات عن السؤال الرابع وبالنفي عن السؤال الثالث تعتبر من أوليات العلم الحديث ـ وبخاصة علم النفس والاجتماع ـ .
فلم يبرع الموالي في الجوانب العلمية لأنهم موال بل برعوا فيها لانصرافهم لها دون العرب .
وقد أدى انصراف الموالي إلى البحث والتتبع في العلوم الاسلامية إلى اختلاف في تفسير النصوص الموجودة في القرآن والحديث وبالتالي إلى ظهور مسائل اجتهادية كثيرة أبعدت المسلمين عن بعضهم بعضا .
وهذه ظاهرة لا ينبغي أن تثير الدهشة أو الاستغراب . فإن من مستلزمات البحث الحرأنه يؤدي إلى تشعب الدراسة واختلاف في وجهات النظر . ويظهر ذلك في شتى صنوف المعرفة الإنسانية ، الطبيعية منها والاجتماعية مع اختلاف في سعة ذلك الاختلاف » .