إلا أن الإصفهاني لسذاجته نسب عقيلة هذه إلى أنها من ولد عقيل بن أبي طالب ، فقال : وللأحوص مع عقيلة هذه أخبار قد ذكرت في مواضع أخر ، وعقيلة امرأة من ولد عقيل بن أبي طالب (1) .
وأكذوبة الإصفهاني على أنها من ولد عقيل لم تكف آل الزبير ، حتى أمعنوا في التحريف فجعلوا عقيلة هذه هي سكينة بنت الحسين عليهما السلام .
قال الإصفهاني في نفس الموضع: وقد ذكر الزبير ، عن ابن بنت الماجشون ، عن خاله أن عقيلة هذه هي سكينة بنت الحسين كنى عنها بعقيلة (2) .
هكذا أمعن الزبيريون في تزوير الحقائق ، واتهام السيدة سكينة بأمور تتنافى وأبسط القيم الإسلامية ، ووسموها بأقبح الصفات من البذخ واللهو والعبث ، ولم يكتفوا حتى قرنوها بالأحوص الذي قال عنه الإصفهاني بأنه : كان قليل المروءة والدين ، هجاء للناس ، مأبونا فيما يروى عنه (3) .
2 ـ قال أبو الفرج الاصفهاني : كانت سعدى بنت عبدالرحمن بن عوف جالسة في المسجد الحرام ، فرأت عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت ، فأرسلت إليه : إذا فرغت من طوافك فأتنا . فأتاها ، فقالت: لا أراك يابن ربيعة إلا سادرا في حرم الله ، أما تخاف الله ؟ ويحك إلى متى هذا السفه ؟! قال : أي هذه ، دعي عنك هذا من القول ، أما سمعت ماقلت فيك ؟ قالت:لا ، فما قلت ؟ فأنشدها قوله :
قالت سعيدة والدموع ذوارف
منها على الخدين والجـلباب
(1) الأغاني 4 : 258 .
(2) المصدر السابق .
(3) المصدر السابق : 231 .
(92)
إلى آخر الأبيات (1) .
هذا ما ذكره الإصفهاني من الخبر وقصة الأبيات ، إلا أن المحرفين لم يرقهم ذلك فحرفوه ، وجعلوه على ألسنة المغنين بلفظ« سكينة » بدل « سعيدة » وقد اعترف الإصفهاني بهذه المشكلة فقال :
وهذا الشعر تغني فيه :
قالت « سكينة » والدموع ذوارف ... .
وفي موضع :
« أسعيد » ما ماء الفرات وبرده ... .
« أسُكين » ، وإنما غيره المغنون ، ولفظ عمر ما ذكر فيه في الخبر (2) . أي الخبر المتقدم .
3 ـ روى أبو علي القالي في أماليه قول عمر بن أبي ربيعة هكذا :
جددي الوصل يا قريب وجودي
لمـحب فـراقـه قـد ألما (3)
فأبدلوا لفظة« قريب » بلفظ« سكين » أي ترخيم سكينة .
4 ـ روى ابن قتيبة في المعارف : إن عائشة بنت طلحة تزوجها مصعب بن الزبير فأعطاها ألف ألف درهم ، فقال أنس بن زنيم الديلي لأخيه [ عبدالله بن الزبير] :
أبـلغ أمـير المـؤمنين رسـالةبـضع الفـتاة بألف ألف كـامل
من ناصح لك لا يريد خـداعـاوتبيت سـادات الجـيوش جياعا
(1) الأغاني 16 : 12 . وقد مر الحديث حول القصة والأبيات ، فراجع صفحة : 49 ـ 52 و74 .
(2) المصدر السابق : 162 .
(3) أمالي أبو علي القالي 2 : 305 .
(93)
لو لأبي حـفص أقـول مـقالتي
وأقص شأن حديثهم لا رتاعا (1)
إلا أن الإصفهاني رواها عن مصعب ، عن محمد بن يحيى هكذا :
ولما تزوج مصعب سكينة على ألف ألف ، كتب عبدالله بن همام على يد أبي السلاس إلى عبدالله بن الزبير :
من ناصـح لك لا يريد خـداعاوتبيت سـادات الجيوش جياعاوأقص شأن حديثهم لا رتاعا (2)
هذا هو دأب الوضاع ، يقلبون الحقائق ، ويحرفون الكلم ، طعنا منهم في مخالفيهم أو مخالفي أسيادهم ، ويجهدون في دفع كل قبيح عنهم ، ليوصمون به مخالفيهم ، كما فعل من قبل معاوية بن أبي سفيان في الطعن على علي عليه السلام ، ظنا منه إطفاء نوره ، ويأبي الله إلا أن يتم نوره .
(1) المعارف لابن قتيبة : 233 .
(2) الأغاني 16 : 164 .
هناك عدة قوائم دبجت في تعداد أزواج سكينة :
الأولى : قائمة أبي الفرج الاصفهاني
روى الإصفهاني قال : حدث الزبير بن بكار قال : حدثني عمي مصعب ، قال : تزوجت سكينة بنت الحسين عليهما السلام عدة أزواج ، أولهم عبدالله ابن الحسن بن علي وهو ابن عمها وأبو عذرتها ، ومصعب بن الزبير ، وعبدالله بن عثمان الحزامي ، وزيد بن عمرو بن عثمان ، والأصبغ بن عبدالعزيز ولم يدخل بها ، وإبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف ولم يدخل بها (1) .
على أن الإصفهاني روى أن الذي تزوج سكينة هو عمرو بن حكيم بن حزام وهو عم والد عبدالله بن عثمان بن عبدالله بن حكيم بن حزام كما أورد ذلك ابن سعد وابن خلكان وسبط ابن الجوزي في قوائمهم مما يعني اضطراب خبر زواجها من عبدالله بن عثمان بن عبدالله ، فمرة يتزوجها
(1) الأغاني 16 : 158 .
(96)
عبدالله بن عمرو ومرة يتزوجها عم أبيه ، فما الذي يعنيه هذا الاضطراب ؟!
قال الاصفهاني : عن أبي الأزهر قال : حدثنا حماد بن اسحاق ، عن أبيه ، عن الهيثم بن عدي ، عن صالح بن حسان وغيره : إن سكينة كانت عند عمرو بن حكيم بن حزام ، ثم تزوجها زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان ، ثم تزوجها مصعب بن الزبير ، فلما قتل مصعب خطبها إبراهيم بن عبدالرحمن ابن عوف ... إلى آخر الرواية (1) وسيأتي البحث فيها لاحقا .
الثانية : قائمة ابن سعد
قال : تزوجها مصعب بن الزبير بن العوام ، ابتكرها فولدت له فاطمة ، ثم قتل عنها ، فخلف عليها عبدالله بن عثمان بن عبدالله بن حكيم بن حزام بن خويلد ... فولدت له عثمان ـ الذي يقال له : قرين ـ وحكيما وربيحة ، فهلك عنها ، فخلف عليها زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان فهلك عنها ، فخلف عليها إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف الزهري ، كانت ولته نفسها فتزوجها فأقامت معه ثلاثة أشهر ، فكتب هشام بن عبدالملك إلى واليه بالمدينة أن فرق بينهما ففرق بينهما ، وقال بعض أهل العلم: هلك عنها زيد بن عمرو ابن عثمان ، وتزوجها الأصبغ بن عبدالعزيز بن مروان (2) .
الثالثة : قائمة ابن خلكان
قال : تزوجها مصعب بن الزبير فهلك عنها ، ثم تزوجها عبدالله بن عثمان بن عبدالله بن حكيم بن حزام فولدت له قرينا ، ثم تزوجها الأصبغ بن
(1) الأغاني 16 : 161 .
(2) الطبقات الكبرى لابن سعد 8 : 475 في قسم النساء اللواتي لم يروين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وروين عن أزواجه وغيرهن .
(97)
عبدالعزيز بن مروان وفارقها قبل الدخول ، ثم تزوجها زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان ، فأمره سليمان بن عبدالملك بطلاقها ففعل (1) .
الرابعة : قائمة سبط ابن الجوزي
قال : وأما سكينة فتزوجها مصعب بن الزبير فهلك عنها ، فتزوجها عبدالله بن عثمان بن عبدالله بن حكيم بن حزام فولدت له عثمان الذي يقال له : قرير [ والظاهر أنه قرين كما عليه غيره ] ، ثم تزوجها الأصبغ بن عبدالعزيز بن مروان أخو عمر بن عبدالعزيز ، ثم فارقها قبل الدخول بها ، وماتت في أيام هشام بن عبدالملك ... .
قال سبط ابن الجوزي :
وأول من تزوجها مصعب بن الزبير قهرا ، وهو الذي ابتكرها ثم قتل عنها وقد ولدت له فاطمة (2) .
هذه قوائم أربع اخترناها لبيان مواضع الاختلاف في تعداد أزواج « آمنة » سكينة بنت الحسين عليهما السلام ، ومصدر هذه القوائم أكثرها زبيرية يرويها الزبير بن بكار ، عن عمه مصعب الزبيري وقد عرفت حالهما ، فلا حاجة إلى أن نعيد ما ذكره علماء الرجال من ضعفهما وكذبهما وانحرافهما عن عليّ وعن آله ـ صلوات الله عليهم ـ لذا فهي ساقطة عن الاعتبار سندا ، كونها بين مرسلة وبين ضعيفة برجالها ، إلا أن ذلك لا يمنعنا من مناقشتها وبيان متناقضاتها ، حتى لا يخفى على ذوي الأبصار محاولات الوضع المتعمد على هذه الشخصية الطاهرة ، وكيف أن آل الزبير عمدوا إلى الانتقاص من
(1) وفيات الأعيان 2 : 394 رقم 268 .
(2) تذكرة الخواص سبط ابن الجوزي : 249 .
(98)
منافسيهم أهل البيت عليهم السلام ، ووصموا كل شائنة فيهم وألصقوها بأهل هذا البيت الطاهر ؟ ومن ذلك حديث الأزواج ، حيث اشتهر عن عائشة بنت طلحة تعدد الأزواج ، وكان أولهم مصعب ، فألصقوا هذه الحادثة بالسيدة « آمنة » سكينة بنت الحسين عليهما السلام ، وأبعدوها عن أشخاصهم ، وسيأتي تفصيل ذلك قريبا إن شاء الله .
القائمة الموحدة
ويمكننا الآن أن نوحد هذه القوائم ليتسنى لنا مناقشة الجميع من خلال مناقشة هذه القائمة الموحدة ، وغرضنا من ذكر عدة قوائم ليتضح للقارئ الكريم اضطراب الرواة وتضاربهم في افتعال مثل هذه الحادثة ، والتي تقتضيها مصالح سياسية مقيتة ، أهمها : إلغاء الخلاف الفكري بين أهل البيت عليهم السلام وبين هذه المجموعات السياسية ؛ وإعطائها مسحة من الشرعية ؛ وإلغاء ما يمكن أن يقال عن هؤلاء من تجاوزه على أهل البيت عليهم السلام ، وتقدمهم عليهم وغصب حقوقهم . تماما كما وضعت قصة زواج عمر بن الخطاب من أم كلثوم ، وقد أبطلنا هذه الشبهة في كتابنا« كشف البصر » (1) .
على أن هذه القوائم من الأزواج تتسم بتشكيلاتها السياسية ، فالأزواج المذكورين هم بين زبيريين إلى أمويين إلى مروانيين ، وهذا دليل وحده يكفي لإثبات أن القوائم الموضوعة رتبت على أساس منحى سياسي خاص ، يراد منه إلغاء الخلاف الفكري بين هذه التوجهات السياسية وبين أهل البيت عليهم السلام ، والشطب على مبتنيات الخلاف بين المدرستين .
(1) كشف البصر عن زواج أم كلثوم من عمر للمؤلف ، يستعرض روايات الفريقين وعدم دلالة الجميع على واقعة الزواج ، فراجع .
(99)
وسيكون ترتيب هذه القائمة الموحدة هكذا :
1 ـ مصعب بن الزبير ، حسب رواية الإصفهاني وابن سعد وابن خلكان وسبط ابن الجوزي .
2 ـ عبدالله بن عثمان بن عبدالله بن حكيم بن حزام ، حسب رواية الإصفهاني وابن سعد وابن خلكان وابن الجوزي .
3 ـ الأصبغ بن عبدالعزيز بن مروان ، كما في رواية ابن سعد ، أما الإصفهاني وابن خلكان وسبط ابن الجوزي فقالوا : لم يدخل بها .
4 ـ زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان ، فهو برواية الإصفهاني وابن سعد وابن خلكان ، أما سبط ابن الجوزي فلم يذكره .
5 ـ إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف ، لم يذكره غير الإصفهاني وابن سعد ، واتفقا أنه لم يدخل بها ، ولم يذكره ابن خلكان وسبط ابن الجوزي .
6 ـ أما عبدالله بن الحسن بن علي ، فهو حسب رواية الإصفهاني فقط .
وبذلك فقد اشتملت القائمة الموحدة على مصعب بن الزبير وعبدالله ابن عثمان ، وهما الاسمان المشتركان في القوائم الأربع . وسيتم مناقشة هذين الاسمين بشيء من التفصيل ؛ ليمكننا تحديد الواقع من أحاديث الزواج هذه . ثم نأتي على بقية الأسماء ، كل بما يقتضيه البحث .
أولا : مصعب بن الزبير
ليتسنى لنا صحة دعاوى زواج مصعب بن الزبير من السيدة « آمنة » سكينة بنت الحسين عليهما السلام ، علينا أن نلقي نظرة سريعة على الخط الزبيري منذ نشوئه ، للحصول على رؤية واقعية عن توجهات هذا البيت الزبيري وأتباعه . وهل بالإمكان سيتم ثمة تقارب بين الزبيريين المعروفين
(100)
بتوجهاتهم غير العلوية وبين الهاشميين ؟
سؤال سيخرجنا من منعطفات مآزق الروايات الموضوعة من قبل رواة زواج السيدة « آمنة » سكينة بنت الحسين عليهما السلام .
من هم آل الزبير ؟
يعد الزبير بن العوام مؤسس الخط الزبيري ـ إذا صح التعبيرـ فهو الذي سن توجهات آله ، وألقى لهم آراءه في علاقاته على المستوى الديني ، وطموحاته على المستوى السياسي .
كان الزبير بن العوام حليفا لعلي عليه السلام يوم السقيفة ، وكان من الذين انظموا إلى علي عليه السلام ، وممن أبوا بيعة أبي بكر ، بل كان من المعترضين الأشداء عليها . فهو لن يغمد سيفه ما لم تستقر البعية لعلي بن أبي طالب ، بعد ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحقية علي عليه السلام في الخلافة ، لذا فإن ابن قتيبة في « الإمامة والسياسة » يصور لنا موقف الزبير المتصلب في رفض البيعة لأبي بكر ، وإصراره على أحقية علي عليه السلام في البيعة قائلا :
وأما علي والعباس بن عبدالمطلب ومن معهما من بني هاشم فانصرفوا إلى رحالهم وعمهم الزبير بن العوام ، فذهب إليهم عمر في عصابة فيهم أسيد بن حضير وسلمة بن أسلم فقالوا : انطلقوا فبايعوا أبابكر ، فأبوا . فخرج الزبير بن العوام بالسيف ، فقال عمر : عليكم بالرجل فخذوه ، فوثب عليه سلمة بن أسلم فأخذ السيف من يده فضرب به الجدار ... (1) .
وقال الطبري : أتى عمر بن الخطاب منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين فقال : والله لأحرقن عليكم أو لتخرجن إلى البيعة ،
(1) الإمامة والسياسة 1 : 15 .