العدوان
    يمكن القول ان فكرة غزو المدينة على النحو الذي وقع في شوّال من العام الخامس الهجري هي فكرة يهودية وبالتحديد فكرة حي بن اخطب ، الذي وظف ثلاثة عناصر هامّة المال اليهودي ، والحقد القريشي الوثني ، والاطماع الغطفانية بكل عمقها البشري الهائل (2).
    وهكذا فوجئت المدينة المنورة بانباء مثيرة حول تجمع قبلي ضخم يرتو على العشرة آلاف مقاتل .
    وثار جدل واسع حول اسلوب مواجهة هذا الزحف الكبير وفي غمرة النقاش طرح الجليل سلمان الفارسي فكرة الخندق ، وهي فكرة لم يألفها العقل العربي في تلك الحقبة من الزمن ، وقد حظيت الفكرة بحماس الجميع وتحول سلمان في نظر
    (1) افترقوا إلى قسمين قسم اختار الشام والأخر توجه إلى « الخيبر » .
    (2) حشدت قبائل غطفان لوحدها ستة آلاف مقاتل .

( 42 )
المسلمين إلى بطل (1) .
    وفي ظروف بالغة القسوة بوشر العمل بحفر الخندق في الجهة الشمالية من المدنية وهي المنطقة المكشوفة التي تشكل نقطة الضعف في دفاعات المدينة .
    كان الفصل شتاءّ والرياح القارسة تعصف بعنف ، والعام عام مجاعة ، وكان المسلمون لا يجدون في بعض الأحيان ما يسدّ رمقهم (2) على أننا لا ننسى ان شهر رمضان المبارك الذي استوعب مدّة الحفر قد منح المؤمنين ارادة جبّارة جعلت من كل تلك المعاناة عبادة وتقرّبا إلى الله . كما لا ننسى مدى الألم الذي يستشعره المؤمنون وهم يسمعون الشائعات التي يبثها اليهود والمنافقون ، والتي اتخذت في بعض الأحيان طابع السخرية اللاذعة (3) .
    وبالرغم من كل الظروف المريرة فقد استكمل المسلمون حفر الخندق قبل ثلاثة أيام من وصول جيوش الغزو ، وفوجيء أبو سفيان بخندق هائل يحول بينه وبين كل احلامه المريضة في القضاء
    (1) هتف المهاجرون : سلمان منا ، وصاح الأنصار : سلمان منا فقال النبي صلى الله عليه وآله حينئذ قولته المعروفة : سلمان منّا أهل البيت .
    (2) جاءت فاطمة عليها السلام برغيف إلى أبيها العظيم فتمتم شاكراً : انه لأول طعام يذيقه أبوك بعد ثلاثة أيام !!
    (3) سخر أحد المنافقين وقد سمع النبي يتحدث عن الفتح الإسلامي القادم ، وافتتاح بلاد الروم والفارس قائلاً : ان محمداً يمنينا كنوز فارس وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط .

( 43 )
على الإسلام .
    عسكرت القوات الزاحفة ، وهيأت نفسها لضرب الحصار ومرّت الأيام قلقة مثيرة للأعصاب ؛ رابطت القوات الإسلامية قريباً من الخندق ، وحدثت مناوشات بالسهام وفي غمرة الحصار تناهت إلى النبي صلى الله عليه وآله انباء حول تحركات مشبوهة لبني قريظة ونقضهم معاهدة الدفاع المشترك بل ونيتهم في الانضمام إلى قوات الغزو ، وكانت قلاعهم داخل المدينة مما يتيح لهم طعن الجيش الإسلامي في خاصرته ، سيّما وانّهم يشكلون قوّة عسكرية ضاربة مجهزة باحسن الأسلحة ومؤلفة من ألف مقاتل .
    وتفاقمت الأخطار ، وراح المنافقون والذين في قلوبهم مرض يتسللون من المعسكر الأسلامي ليلاً ، فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله سوى ألف مقاتل فقط .
    وفجأة حدث تطور عسكري خطير عندما نفّذ عدّة فرسان من المشركين مغامرة جريئة في اقتحام الخندق والعبور إلى الجهة الأخرى ، وليس هناك افضل من هذه الآيات في رسم الحالة الخطيرة التي عاشها المسلمون في واحدة من أخطر المنعطفات التاريخية : « يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنودٌ فارسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا * إذ جاءوكم من فوقكم ومن اسفل منكم واذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنون * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً

( 44 )
شديداً »
(1) .
    راح الفارس المغامر يخطر في مشيته ويقوم باستعراضات استفزازية متحدّياً الإسلام والمسلمين ، وقد وصل به الاستهتار أن هتف ساخراً .
    ـ ألا من مشتاق إلى جنته ؟!
    وللأسف فقد سجّلت معنويات المسلمين ادنى مستوىً لها باستثناء فتى الإسلام علي بن أبي طالب الذي نهض منذ اللحظات الأولى للمواجهة ، فانقذ بذلك الكرامة الإسلامية وسوف ينقذ المصير الإسلامي من أكبر كارثة .
    نهض علي بثباته المعروف وشجاعته وتقدم نحو سيدنا محمد الذي اشرف شخصياً على تجهيزه للصراع (2) .
    وعندما انطلق علي إلى ميدان المواجهة الخالدة رفع النبي صلى الله عليه وآله يديه إلأى السماء لتخترق دعواته الغيوم المتراكمة :
    ـ اللهم انك قد اخذت مني عبيدة يوم بدر وحمزة يوم أحد وهذا علي أخي وابن عمي فلا تذرني فرداً وانت خير الوارثين .
    (1) يستمر تيار الآيات في التنديد بمواقف المنافقين وبعض الذين تزلزل ايمانهم ، ثم ينتهي إلى تمجيد موقف المؤمنين . الآيات 9 ـ 25 سورة الأحزاب .
    (2) ورد في السيرة انه ناوله سيفه ذا الفقار وعممه بعمامته وشيعه بكلمات خالدة قائلاً : « برز الايمان كله إلى الشرك كلّه » .

( 45 )
    وكان من تقاليد القتال الفردي أن يعرّف كل طرف نفسه إلى الآخر ، سأل الفارس المعلّم خصمه :
    ـ من أنت ؟
    ـ علي بن أبي طالب .
    وهنا تغيرت نبرة الخطاب لدى عمرو بن عبد ودّ العامري فتظاهر بالاشفاق قائلاً :
    ـ ليبرز إلي غيرك يابن أخي ... انني اكره ان اقتلك لأن أباك كان صديقاً لي (1) .
    ودار حوار قصير فقد عرض علي ثلاثة نقاط على خصمه قائلاً : ان قريشاً تتحدث انك تقول : لا يدعوني أحد إلى ثلاث خلال إلا اجبته ولو إلى واحدة .
    ـ أجل .
    ـ فاني ادعوك إلى الإسلام .
    قال ابن عبد ودّ :
    ـ دع منك هذه .
    (1) يعدّ عمرو بن عبد ودّ من فرسان العرب المبرّزين قاتل مع المشركين في معركة بدر واصيب بجروح بليغة منعته من حضور معركة أحد ، ولهذا خرج يوم الأحزاب مُعَلّماً ليعرف ، ويبدو من خلال التأمل في حيثيات مواجهته لعليّ ان شجاعته قد خانته في اللحظات الأخيرة بعد أن عرف أن نصف قتلى المشركين البالغ عددهم سبعين مقاتل قد لقوا مصارعهم على يد علي وحده .
( 46 )
    ـ ادعوك ان ترجع بمن يتبعك من قريش إلى مكّة .
    قال الفارس بكبرياء :
    ـ اذن تتحدث عني نساء مكّة بالجبن .
    وهنا قال علي متحدّياً الوثنية كلّها :
    ـ اذن ادعوك إلى المبارزة .
    وغلت عروق الفارس المعلّم ، فقفز من فوق فرسه وسدّد ضربة إلى فعقره وهذا يعني انه سيقاتل حتى النهاية .
    كان عمرو ما يزال في فورة الغيظ فهجم على خصمه وسدّد له ضربة جبّارة اتقاها علي بدرقته ونشب السيف في الحديد وهنا ردّ علي بالمثل فانشب ذا الفقار عاتق الرجل الوثني فسقط على الأرض وانطلقت صيحة نصر من قلب الغبار :
    ـ الله اكبر .
    وادرك الجيش الإسلامي أن علياً قد قتل خصمه العنيد فانطلقت صيحات التكبير وفي غمرة الذهول فرّ رفاق الفارس القتيل متجهين إلى الثغرة التي عبروا منها وسقط أحدهم في اعماق الخندق وراح المسلمون يمطرونه بالحجارة فهتف وهو يتقي الحجارة بيده .
    يا معشر المسلمين قتلة اكرم من هذه (1) .
    (1) سقط نوفل بن عبد الله في الخندق ؛ واستجاب علي عليه السلام فنزل اليه ولم يحرمه =
( 47 )
    وقد اسفرت المواجهة عن نتائج هائلة إذ تغيّر ميزان القوى لصالح المسلمين سيّما وأن علياً قد رابط ومعه مفرزة من المقاتلين عند الثغرة التي عبر منها المشركون وبهذا يكون قد فوّت آخر فرصة للعدوّ في اقتحام الخندق واجتياح المدينة ومن ثم القضاو على رسالة الإسلام إلى الأبد . وعاد بطل الإسلام إلى معسكره يبشر رسول السماء بالنصر واستقبله عمر بن خطاب قائلاً :
    هلا سلبته درعه فانه ليس في العرب درع مثلها فقال علي مجسّداً مثل الفروسية والإنسانية :
    ـ استحييت أن اكشف سوءته .
راية الحب الخالدة :
    طلّت خيبر تمثل تهديداً خطيراً للوجود الإسلامي ، وكان سيدنا محمد يراقب عن كثب التحركات اليهودية المشبوهة لتحريض القبائل العربية ضد الإسلام سيما قبائل غطفان التي تحركها الاطماع في السلب والنهب .
    وتنامى الخطر اليهودي بعد توقيع معاهدة سلام بين المسلمين ومشركي قريش (1) ، التي فُسّرت على أنما تراجع للإسلام وضعف .
    = من فرصة المبارزة الكريمة .
    (1) صلح الحديبية .

( 48 )
    وفي شهر صفر من السنة السابعة للهجرة تحرك الجيش الإسلامي المؤلف من ألف واربعمئة مقاتل صوب الحصون اليهودية المنيعة ؛ وانتخب سيدنا محمد صلى الله عليه وآله الطريق المؤدية من خيبر إلى مضارب غطفان للحؤول دون أي تنسيق بينهما أو وصول امدادات عسكرية.
    وبالرغم من عنصر المفاجأة الذي وفّره النبي صلى الله عليه وآله بجيشه إلا مناعة الحصون والقلاع اليهودية حالت دون سقوطها رغم تشديد الحصار .
    كانت الجزيرة العربية تراقب باهتمام الصراع المصيري خاصّة قريش التي كانت تتمنى أن تدور الدائرة على المسلمين .
    اخفقت الحملات الإسلامية المتكررة في تحقيق تقدّم يذكر ؛ وكانت مدّة الحصار وقاربت المؤن على النفاد ، وراح اليهود يسخرون من المسلمين .
    وفي تلك اللحضات التاريخية المثيرة هتف النبي :
    ـ لا عطين الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله .
    وبات الجميع وهم يحلمون براية الحب الأزلية .
    اشرقت شمس اليوم التالي وتطلّع المسلمون إلى من

( 49 )
سيمسك بالراية ، ولم يطل الوقت حتى ظهر علي بن أبي طالب والراية تخفق فوق هامته .
    قال النبي وهو يوصيه :
    ـ انطلق يفتح الله عليك .
    وجسّد علي المثل الأعلى للجندي المسلم تقدم باتجاه الهدف ثم توقف وسأل دون أن يلتفت ألى ورائه :
    ـ على ماذا اقاتلهم يا رسول الله ؟
    ـ قاتلهم حتى يشهدوا ان لا إله الا الله واني رسول الله ؛ وتقدم علي والحماس يملأ صدره حتى إذا اصبح قريباً من الحصن ، رمى بدرعه ليتخفف من وزنه ويكون أكثر قدرة على المناورة والحركة وأمر جنوده أن يفعلوا مثله .
    ورأى اليهود في علي بلا درع لقمة سائغة فهبط اليه الحارث (1) ، وهو غارق في الحديد وراح يتهادى بغرور ولم يمهله علي أذ قفز علياً هم أهوى عليه تضربة مدمّرة فسقط إلى الأرض ، وراح ابطال اليهود يبرزون اله الواحد بعد الآخر فيلاقون ذات المصير ، وانقلب الموقف وعم الحماس المسلمين الذين راحوا يسخرون من أبطال اليهود وهم يتساقطون عند قدمي بطل الإسلام .
    (1) أخو مرحب .
( 50 )
    وهنا يقرر مرحب خوض المعركة المصيرية واعادة روح الثقة بالنفس لدى اليهود .
    تقدّم مرحب وهو مثقل بالحديد والزرد ، وفي يده رمح طويل ذي ثلاث رؤوس ؛ وليس في جسده الفارع ثغرة يمكن للسيف ان ينفذ فيها .
    سدّد البطل اليهودي رمحه باتجاه صدر علي وايقن اليهود والمسلمين بانها ستكون نهاية لعلي ولكن البطل الإسلامي تحاشى الضربة وقفز في الهواء عالياً ليهوى بضربة أودعها غضب السماء . مرّت لحظات مثيرة ثم هوت كتلة الحديد فوق الأرض محدثة دويّا رهيباً وشعر اليهود بالرعب وانكفأوا داخل حصونهم وهنا أعلن علي شارة الهجوم العام .
    وفي لحظات سقط القموص (1) وتساقطت بعد ذلك سائر الحصون .
    وظهرت علائم الارتياح على وجه سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وفي غمرة هذا الفرح وصل جعفر بن أبي طالب من الحبشة على رأس المهاجرين ، وتضاعفت فرحة النبي صلى الله عليه وآله حتى سمع يقول :
    ـ والله ما ادري بايهما أنا أشدّ سروراً بقدوم جعفر أم بفتح خيبر .
    (1) أقوى حصون خيبر .
( 51 )
    وعانق علي أخاه بعد فراق طويل .
    ان اعظم ما في علي بن أبي طالب هو توازنه العجيب ، فلقد ظل كما هو رغم كل هذه الأمجاد الحربية وكان سيدنا محمد صلى الله عليه وآله لا يفتأ يذكر فضله واخلاصه وكان علي يزداد حبّاً وولاءً لمعلّمه ومربّيه واخيه العظيم .