النهاية :
كان عمر قد اصدر أمراً بحرمان كل من بلغ الحلم من السبي الفارسي أن يدخل المدينة ، فكتب المغيرة بن شعبة الداهية المعروف وكان ولياً على الكوفة كتب إلى الخليفة الثاني يذكر له غلاماً من أهل فارس يحسن كثيراً من الصناعات وطلب من الخليفة أن يأذن له بدخول المدينة ، وجاء في رسالته :
ان عنده اعمالاً كثيرة فيها منافع للناس ؛ انه حدّاد ونقاش ونجار فكتب اليه عمر أن ارسله ألى المدينة ، وكان المغيرة قد حدد على الغلام ضريبه باهظة في الخراج بلغت مئة درهم ؛ وجاء الغلام ويدعى أبو لؤلؤة ( فيروز ) إلى عمر يشكو شدّة الخراج .
فقال له الخليفة : ماذا تحسن من العمل ؟
فذكر الغلام عدّة صناعات وفنون .
فقال عمر : ما خراجك بكثير في كنه عملك ؛ فانصرف الغلام ساخطاً يتذمّر .
وبعد أيام مرّ غلام المغيرة « أبو لؤلؤة » بالخليفة فسألة الأخير قائلاً :
ـ سمعت أنك تقول : لو اشاء لصنعت رحى تطحن بالريح
فاصنع لي رحىً .
فالتفت الغلام إلى عمر وقال عابساً :
ـ لاصنعنّ لك رحىً يتحدّث بها الناس .
وادرك الخليفة مغزى تهديده ..
فالتفت إلى من حوله بعد أن مضى الغلام :
ـ لقد أوعدني العبد .
فقال له الناس :
ـ وما يمنعك من قتله ؟
فقال عمر :
ـ لا قصاص قبل القتل .
شاهد عيان 25 | ذو الحجة | 23 هـ :
قال ابن ميمون الأسدي شهدت عمر بن الخطاب يوم طعن فما منعني أن أكون في الصف الأول إلا هيبته ، فكنت في الصف الذي يليه ؛ وكان عمر لا يكبّر حتى يستقبل الصف المتقدّم بوجهه ، فان رأى رجلاً متقدّماً من الصف أو متأخراً ضربه بالدرّة .. وهذا ما منعني من الوقوف في الصف الأول .
أقبل عمر لصلاة الفجر ، وكان الظلام ما يزال ، فاعترضه أبو لؤلؤة وسدّد له عدّة طعنات بخنجر ذي رأسين ، وطعن الذين أرادوا القاء القبض عليه ثم انتحر .
( 142 )
وصرخ عمر بالناس :
ـ دونكم الكلب فانه قد قتلني !
ومات من الذين جرحوا في الحادث سبعة اشخاص (1) .
مصير الخلافة :
تدهورت حالة الخليفة الثاني الصحية ونصح الطبيب بكتابة الوصية ، وبرزت ازمة الخلافة من جديد فلا احد يعرف من سيكون الخليفة القادم وكيف ؟ وقيل لعمر : لو استخلفت ؟
فقال الخليفة : ومن استخلف ؟ ... لو كان أبو عبيدة (2) حيّاً لاستخلفته لأنه أمين هذه الأمّة ، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لاستخلفته لانه شديد الحبّ لله (3) .
(1) الكامل في التاريخ 3 : 34 .
(2) أبو عبيدة بن الجراح أحد الثلاثة بعد أبي بكر وعمر الذين دهموا اجتماع « السقيفة » وغيّروا مسار الأحداث .
(3) سالم بن عبيد بن ربيعة ، أبو عبد الله من أهل اصطخر ببلاد فارس وكان سبياً حمل إلى مكة فاشترته ثبيته بنت يعار ، زوجة أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، ثم اعتقته فتبنّاه أبو حذيفة وزوّحه ابنة أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة . كان من فضلاء الصحابة وكبار الموالي ، ومن المهاجرين إلى المدينة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم ، وكان من القرّاء . شارك في حرب المرتدّين باليمامة ، اخذ الراية بعد مقتل زيد بن الخطاب فقطعت يمينه فأخذها بيساره فقطعت فاعتنقها وهو يهتف : « وما محمّد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل » ، « وكايّن من نبي قاتل معه ربّيون كثير » حتى سقط شهيداً .
( 143 )
شكل الخليفة مجلساً يتألف من ستة اشخاص هم : علي بن أبي طالب ، الزبير بن العوام ، عبد الرحمن بن عوف ، سعد بن أبي وقاص ، طلحة بن عبد الله ، عثمان بن عفان .
وضع الخليفة الثاني مساراً لاعمال المجلس وحدّد امتيازات الأعضاء بشكل تسير فيه الأمور لتسقط التفاحة في احضان « عثمان ابن عفان » عثمان الذي حرّر بالأمس وثيقة العهد إلى عمر لمّا اغمي على الخليفة الأول ! هل كان اجراء الخليفة نوعاً من ردّ الجميل أو استجابة لما يموج في عواطف « قريش » التي لا تكنّ لعلي أية مشاعر بالارتياح .
استدعى الخليفة الثاني اعضاء المجلس المؤقت ، فجاءوا جميعاً ، وتصفح عمر وجوه بعضهم قائلاً :
ـ اكلكم يطمع بالخلافة بعدي ؟
واعتصم الجميع بالصمت .. وكرر عمر السؤال ثانية وثالثاً .. فانبرى الزبير وقال بحدّة :
ـ وما الذي يبعدنا عنها ؟! .. وليتها أنت فقمت بها ولسنا دونك في قريش .. ولا في القرابة .
لقد نجح عمر بن الخطاب في ايقاظ كل الطموحات والاطماع في نفوس بعض الصحابة .
وانبرى عمر ليردّ الصاع صاعين في صراحة مريرة قائلاً :
( 144 )
ـ أفلا اخبركم عن انفسكم ؟
تمتم بعضهم :
ـ أنا لو استعفيناك لم تعفنا .
التفت عمر إلى الزبير فقال :
ـ اما أنت يا زبير فوعق لقس ( كثير البرم ) مؤمن الرضا كافر الغضب يوماً انسان ، ويوماً شيطان ؛ ولعلها ( الخلافة ) لو افضت اليك ظلت يومك تلاطم بالبطحاء على مدٍّ من شعير !! فليت شعري من يكون للناس يوم تكون شيطاناً ؟!
والتفت إلى طلحة فقال :
ـ أقول أم اسكت ؟
ردّ طلحة بانزعاج :
انك لا تقول من الخير شيئاً .
ـ اما اني اعرفك منذ اصيبت اصبعك من يوم أحد واتياً ( غاضباً ) بالذي حدث لك .. ولقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ساخطاً عليك للكلمة التي قلتها يوم انزلت آية الحجاب (1) .
وشعر سعد بن ابي وقاص بالضيق بعد أن وصله الدور ؛ قال
(1) كان طلحة قد قال : ان قبض محمد أنكح أزواجه من بعده فما جعل الله محمداً أحق ببنات اعمامنا ! . وفي هذه المناسبة نزلت الآية الكريمة : « وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا ازواجه من بعده ابدا » | الأحزاب : 53 .
( 145 )
عمر وقد اقبل عليه بوجهه :
ـ انما أنت صاحب مقنب « جماعة الخيل » تقاتل به وصاحب قنص وقوس وأسهم ، ومازهرة (1) ، والخلافة وأمور الناس .
والتفت الخليفة إلى عبد الرحمن بن عوف وقال :
ـ اما انت يا عبد الرحمن فلو وزن نصف ايمان المسلمين بايمانك لرجح ايمانك ... ولكن لا يصلح هذا الأمر لمن فيه ضعف كضعفك ، ومازهرة وهذا الأمر !
وأما انت يا علي :
والتفت عمر إلى علي فلم يجد له عيباً سوى أن قال :
ـ لله أنت لولا دعابة (2) فيك ... أما والله لئن وليتهم لتحملنهم على الحق الواضح ، والمحجة البيضاء .
وجاء دور عثمان :
والتفت عمر إلى عثمان « مرشح قريش » فقال له :
ـ هيهاً اليك كأني بك قد قلدّتك قريش هذا الأمر لحبها اياك فحملت بني امية وبني ابي معيط على رقاب الناس ، وآثرتهم بالفيء
(1) قبيلة سعد .
(2) لا يذكر التاريخ أحداً وصف علياً بالدعابة سوى عمر بن بن الخطاب وهو أمر يثير تساؤلات عديدة .
( 146 )
فسارت اليك عصابة من ذؤبان العرب ، فذبحوك على فراشك ذبحاً والله لئن فعلوا لتفعلن ، ولئن فعلت ليفعلن ..
وأخذ عمر بناصية عثمان وأردف :
ـ إذا كان ذلك فاذكر قولي .
وهنا جاء دور الاجراءات المشدّدة في خلق جوّ ارهابي سوف يساعد على دعم وتعزيز موقف عثمان .
استدعى عمر أحد الانصار وقال :
ـ يا أبا طلحة أن الله أعز الاسلام بكم فاختر خمسين رجلاً من الانصار فالزم هؤلاء النفر ( اعضاء الشورى ) بامضاء الأمر وتعجيله ، واستدعى الخليفة « المقداد » واصدر اليه آخر اوامره التي تنضح تهديداً ووعيداً :
ـ اجمع هؤلاء الرهط ( اعضاء الشورى ) في بيت حتى يختاروا رجلاً منهم ، فان اجتمع خمسة وأبى واحد فاشرخ رأسه بالسيف ، وان اتفق اربعة وابي اثنان فاضرب رأسيهما وأن اتفق ثلاثة منهم على رجل ورضي ثلاثة منهم برجل آخر فحكموا عبد الله بن عمر ؛ فإن لم يرضوا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف ؛ واقتلوا الباقين !
وأدرك علي من خلال كل هذا « السيناريو » ان الهدف الأخير
( 147 )
هو حرمانه مرّة أخرى من حقه في الخلافة فقال لعمه العباس :
ـ يا عم لقد عدلت عنا .
قال العباس :
ـ ومن ادراك بهذا ؟!
قال علي وهو يميط اللثام عمّا وراء كل هذا « اللف والدوران » :
ـ « لقد قرن بي عثمان .. وقال : كونوا مع الأكثر ، ثم قال : كونوا مع عبد الرحمن ، وسعد لا يخالف ابن عمه ( عبد الرحمن ) وعبد الرحمن صهر لعثمان .. فاما أن يوليها عبد الرحمن عثمان أو يوليها عثمان عبد الرحمن ... » (1) .
يقول علي مؤرخاً لتلك اللحظات المريرة :
ـ « فصبرت على طول المدّة (2) وشدّه المحنة حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم اني احدهم ، فيالله وللشورى .. متى اعترض الريب فيَّ مع الأول منهم ، حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر ؟! لكنيّ اسففت إذ اسفّوا وطرتٌ إذا طاروا فصغا رجل لضغنه ومال الآخر لصهره مع هن وهنٍ إلى أن قام ثالث (3) القوم نافجاً
(1) تاريخ الطبري 5 : 35 .
(2) فترة حكم الخليفة الثاني .
(3) الخليفة الثالث .
( 148 )
حضينه بين نثيله ومعتلفه وقام معه بنو ابيه يخضمون مال الله خضمة الابل نبتة الربيع (1) .
وهكذا بدأت اعمال الشورى في ظروف بالغة الحساسية . وبدأت الاطماع بالظهور ؛ والمصالح والمؤامرات في موازنات يمكن القول أنه محسوبة سلفاً ؛ فالتوزيع القبلي لاعضّاء الشورى يمنح الارجحية لبني امية .
لقد توقف التاريخ ملياً في السقيفة قبل أن يغير مساره وها هو الآن يتوقف مرّة أخرى لا ليغير من اتجاهه ولكن ليزيد من سرعة ذات المسار حيث المجتمع الإسلامي يفقد مقاييسه الصائبة في اختيار الحاكم اللائق .
توفي عمر بعد ثلاثة أيام وصلّى على جثمانه صهيب الرومي في غرّة المحرّم ؛ وبدأ أول لقاء لاعضاء الشورى ؛ وارتفعت نبرة الجدل العقيم .. لقد استيقظت في نفوس البقض شهوة الحكم والزعامة وضاع صوت علي وهو يحذر اصحاب النبي من العواقب الوخيمة التي ستسفر عن التنكر لكلمة الحق :
ـ لم يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق ، وصلة رحم ، وعائدة كرم .. فاسمعوا قولي ، وعوا منطقي ، عسى ان تروا هذا الأمر من بعد هذا اليوم تنتضي فيه السيوف ، وتخان فيه العهود ، حتى يكون
(1) نهج البلاغة : الخطبة 3 .
( 149 )
بعضكم ائمة لأهل الضلال ، وشيعة لأهل الجهالة (1) .
ومرّ يومان ولكن دون جدوى وقد حبس المجتمع الإسلامي انفاسه ، ماترقباً نتيجة الجدل الذي تحول الى صراع .
وجاء أبو طلحة الانصاري واعلن أنه سينفذ أوامر الخليفة الراحل اذا انصرمت الأيام الثلاثة دون انتخاب خليفة :
ـ والذي ذهب بنفس عمر .. لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمرت .
وهنا وجه عبد الرحمن أول ضربة عندما اعلن تنازله عن حقه في الخلافة مقابل أن يكون له الحق في انتخاب الخليفة وانبرى عثمان لتأييد خطوة بن عوف ، وتهافت الآخرون على تأييد عبد الرحمن أيضاً فيما ظل علي معتصماً بالصمت .
التفت عبد الرحمن إلى علي وقال :
ـ ما تقول يا أبا الحسن ؟
وادرك الامام ما وراء خطوة بن عوف فقال :
ـ اعطني موثقاً لتؤثرن الحق .. ولا تتبعن الهوى ولا تخصّ رحم ، ولا تألوا الامّة نصحاً .
وشعر عبد لرحمن أن مصير الخلافة قد اضحى في قبضته ،
(1) نهج البلاغة .
( 150 )
فاعطى لعلي ما يريد .. انها في كل الأحوال مجرّد كلمات .
وهنا وجه عبد الرحمن ضربته القاضية عندما زجّ شرطاً لا مبرّر له كاساس للبيعة ؛ قال لعلي وهو في ذروة ايمانه أن علياً سيرفض :
ـ ابايعك على كتاب الله وسنّة رسوله وسيرة الشيخين (1) ابي بكر وعمر .
قال علي موضحاً موقفه الخالد ومعتزّاً بشخصيته الفريدة :
ـ بل على كتاب الله وسنة رسوله واجتهاد رأيي .
والتفت عبد الرحمن إلى عثمان فعرض عليه شروط البيعة فرددها عثمان على الفور وهو يكاد يطير فرحاً .
وهنا صفق عبد الرحمن على يد عثمان وهتف :
ـ السلام عليك يا أمير المؤمنين .
وخاطب علي بن أبي طالب عبد الرحمن قائلاً :
ـ احلب حلباً لك شطره ...
وأردف وهو يكشف له معرفته ما يدور فى الخفاء وراء
(1) لم تكن سيرة الشيخين سوى شرط وهمي فلقد تقاطعت سيرتهما في نقاط بالغة الأهمية .
( 151 )
الأبواب المغلقة :
ـ والله ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه (1) .
والتفت علي إلى « قريش » التي القت بكل ثقلها من اجل عثمان فقال بمرارة :
ـ ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا ، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون .
ونهض وغادر المكان وهو يتمتم بحزن :
ـ سيبلغ الكتاب اجله .
وشعر عمّار بن ياسر بالألم يعتصر قلبه فقال لعبد الرحمن :
ـ « يا عبد الرحمن .. اما والله لقد تركته وانه من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون » .
واحسّ « المقداد » كأن خنجراً يمزق قلبه فقال :
ـ تالله ما رأيت م3ثل ما أتى إلى أهل بيت بعد نبيهم !!
واعجباً لقريش !! لقد تركت رجلاً ما أقول ، ولا أعلم أن أحداً
(1) وفي هذا اشارة واضحة إلى أن اتفاقاً سابقاً كان بين ابي بكر وعمر حمل مصير الخلافة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم .
( 152 )
اقضى بالعدل ولا أعلم ، ولا أتقى منه .
وأردف بغضب :
ـ أما لو أجد أعوانا ..
ولم تكن الصفات التي ذكرها المقداد سوى عيوباً لعلي في زمن يتنكّر للمجد الاخلاقي ... ولا يعرف غير الاساليب الهابطة طريقاً لتحقيق غايات تافهة سرعان ما تزول .
وهكذا بات على علي أن يطول رحلة العذاب صابراً محتسباً حتى يبلغ الكتاب أجله .