إن دراسة سيرة الائمة المعصومين عليهم السلام تعتبر من الاسس القويمة للبناء الفكري والمنهج السلوكي لديننا الحنيف ،لانهم الامتداد الحقيقي لنهج النبوة
وسيرتها المعطاء ، والحماة الامناء لمفاهيم الرسالة وعقائدها من حالة التردي والتحريف والضلال.
اننا في رحاب سيرتهم نتواصل مع القدوة الحسنة بكل تجلياتها الروحيه والفكرية والعلمية ، و امتداداتها التي تستغرق كل مفردات الحياة
وتسيرنحو سلم الكمال المطلوب علي صعيد الفرد والمجتمع.
من هنا فاننا بحاجة الي دراسة متاملة وقراءة متأنية تلم بأطراف تلك السيرة المشرقة بالعطاء ، لنجعلها نصب اعيننا فنستجلي مواطن العبرة
فيها ، ونستلهم دروس العظمة منها ، ونتعاطي مع دلالتها المتناغمة مع مسيرة الحياة بما تحمله من متطلبات ومستجدات علي كافة مستويات الفكر والمنهج
والسلوك.
ولعل في تنوع ادوار تلك السيرة بحسب طبيعة المرحلة والظروف السياسية المحيطة بقادتنا المعصومين عليه السلام مايزيل الرتابة منها ويجعلعا تتواصل
مع مختلف المواقف والظروف نحو هدف اسمي وهم مشترك ، وذلك هوحفظ الكتاب الكريم وسنة النبي المصطفي صلى الله عليه و اله، وطلب الاصلاح والهداية ، والامر
بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهذا كتاب قراءة في سيرة أحد عظماء اهل البيت عليهم السلام، ذلك هو امامنا الحادي عشر أبومحمد الحسن العسكري عليه السلام الذي قال فيه أبوه الهادي عليه السلام: ((ابو
(6)
محمد ابني أنصح ال محمد غريزة وأوثقهم حجة)) .
ويبدو أن أهم مايستوقف الباحث في حياة الامام العسكري عليه السلام هو كونه اخر امام ختمت به الامامة الظاهرة ، ليبدأ بعده عصرالغيبة الذي بدأت
تباشيره وأوشك زمانه ، لذلك وقع علي الامام العسكري عليه السلام العبء الأكبر في ترسيخ مبدأالغيبة وتأصيله في نفوس شيعته للحفاظ علي خطهم الرسالي
من الاضياع والانهيار. وقداستطاع إمامنا العسكري عليه السلام أن ينجز هذه المهمة الخطيرة بكل جدارة وقوة ، وأن يحافظ علي حياة ولده المهدي عليه السلام من
ملاحقة السلطة وأدوات قمعها ، في وقت عصيب عزل فيه الامام عن أصحابه وشددت الرقابة عليه.
وفي هذا الاتجاه استطاع أن يهيء ذهنية شيعته لتقبل عصر الغيبة باتباع عين الاسلوب الذي سيتخذه ولده المهدي عليه السلام في عصرالغيبة ، وهو الاحتجاب
عن الناس واتخاذ الوكلاء الذين يختارهم من خاصته ، والاتصال بأصحابه عن طريق المكاتبات والتواقيع التي صارت سمة بارزة في حياة
الامامين العسكريين عليهما السلام.
وهناك صفحات أخري مشرقة تستوقف الباحث في سيرة هذا الامام العظيم الملأى بالعطاء ، نتركها للقارئ الكريم وهو يتحراها في فصول
هذاالكتاب الذي استطاع مؤلفة أن يوقفنا عند المحطات الرئيسية في سيرة هذا الامام العظيم ، ضمن دراسة جادة موثقة بالمصادر المعتبرة.
الحمدلله رب العالمين ، وسلامه علي عباده المصطفين محمد واله الميامين.
وبعد : إن البحث في سيرة الائمة المعصومين عليهم السلام باعتبارهم قادة رساليين وقدوة حسنة تتمثل بهم خصائص العظمة والاستقامة ، يعكس دورهم الايجابي
في تحريك طاقات الأمة باتجاه الوعي الرسالي للشريعة ، وتعميق حركة الاسلام الاصيل في وجدانها ، وحماية الرسالة من حالة التردي بالوقوف
في وجه التيارات الفكرية المنحرفة.
ويقابل ذلك البحث في سيرة الزماعات المعاصرة لهم عليهم السلام التي نقرأ فيها الوجه المشوه للرسالة علي المستوي النظري والتطبيقي ، علي
الرغم من تماهي أصحاب السلطة والصولجان في كتابه تاريخهم وإغداقهم أسخي الهبات علي كتابهم وشعرائهم.
من هناكان نصيب السيرة الأولي الخلود والسمو والمجد رغم إقصاء رموزها المعصومين عليهم السلام عن مركزهم في زعامة الامة ، ورغم كونهم ملاحقين
ومعزولين عن قواعدهم وشهداء في نهاية المطاف ، وكان نصيبهم أيضا أن تمسكت بهم غالبية الأمة ومنحتهم كل مظاهر التبجيل والثناء والود
والثقة ، لا لأنهم من أبناء الرسول صلى الله عليه و اله لأن المنتسبين إليه كثيرون ، بل لما تستشعره الأمة هن سيرتهم الغيبة با العطاء و دورهم المشرق فى كل اتجاه ذلك لان الأمة لاتمنح ثقتها وحبها اعتباطا ، يقول الامام الكاظم عليه السلام لهارون
الرشيد : ((أنا إمام
(8)
القلوب وانت امام الجسوم.)) (1)
ونحن مع إمامنا الحادي عشر عليه السلام نستشعر تمسك الأمة بالامام وعظم محبته في قلوبهم وهيبته في نفوسهم في عدة مواقف لعل أبرزها حينما
اشخص العسكري مع أبيه عليهما السلام من مدينة صلى الله عليه و اله جدهم إلي عاصمة الملك سامراء بأمر المتوكل ، فقد روى المورخون والمحدثون عن يحيى بن هرثمة
وهوالمكلف بإشخاص الامام عليه السلام أنه قال : « فذهبت إلي المدينة ، فلما دخلتها ضج أهلها ضجيجا عظيما ماسمع الناس بمثله...وقامت الدنيا علي ساق... » (2)وحينما نعاه الناعي إبان شهادته« صارت سامراء ضجة واحدة : مات ابن الرضا...وعطلت الأسواق ، و
ركب سائرالناس إلى جنازته ، فكانت سامراء يومئذ شبيها بالقيامة » (3)ولم يكن ذلك إلا لشعور الامة بعطاء الامام عليه السلام ودوره الفعال في حماية الرسالة ، الامرالذي جعل حتي أعداءه من رجال البلاط يذعنون بفضله وهديه ، ومنهم وزيرالمعتمد عبيدالله بن خاقان الذي قال لابنه أحمد عامل الخراج والضياع في قم في إشارة إلي الامام العسكري عليه السلام : « يابني لوزالت الامامةعن خلفائنابني العباس ما استحقهااحدمن بني هاشم غيره لفضله وعفافه وهديه وصيانته وزهده وعبادته وجميل اخلاقه وصلاحه » (4) ولاريب أن عطاءات الامام العسكري عليه السلام والأدوار التي قام بها علي
(1) ينابيع المودة/ القدوزي 120 : 3 .
(2) تذكرة الخواص/سبط ابن الجوزي : 322 ـ مؤسسة أهل البيت ـ بيروت.
(3) اكمال الدين /الشيخ الصدوق : 43 ـ المقدمه ـ جماعة المدرسين ـ قم.
(4) إكمال الدين : 41ـ المقدمه.
(9)
مستوي الرسالة ، تمتاز بالخصوصية والاستثناء نظرا للمقطع الزماني الخطير الذي عاشه عليه السلام والذي يمتثل في شدة السلطان وإمعانه في عزل الامام ومراقبة حركاته وسكناته ، بل ولجوئه الي شتي وسائل القمع لانهائه والاجهاز عليه و الحاقه بمن سبقه من سلالة هذا البيت الكرام عليهم السلام، وذلك لكونه والد الامام الحجة عليهما السلام الذي عرفوا بمااثر عندهم من الاحاديث والاثار انه يقيم دولة الحق ويقوض اسس الباطل ، ويملا الارض عدلا وقسطا بعدما ملئت جورا وظلما.
قال الامام العسكري عليه السلام: « زعموا انهم يريدون قتلي ليقطعوا هذا النسل ، وقد كذب الله قولهم ، والحمدلله » (1)
لقد ظنوا أنهم يستطيعون النيل من حجة الله المودع بعين الله وحفظه ، فخيب الله ظنهم.
ورغم الظروف السياسية الحالكة استطاع امامنا العسكري عليه السلام ان يقدم للامة عطاء واسعا ، ويمثل دورا فاعلا في ايصال سنن جده المصطفي صلى الله عليه و اله وابائه المعصومين عليهم السلام ان يعد جيشا عقائديا وطليعة واعية تؤمن بالغيبة كمبدا عقائدي اصيل يعيش في وجدانها ، وتمكن بالاشراف علي شيعته عن طريق التواقيع والمراسلات الوكلاءان يخطط لسلوكها ويحمي وجودها وينمي وعيها ويمدها بكل الاساليب التي تساعد علي صمودها ارتقائها الي مستوي الحاجة الاسلامية.
وتمكن الامام العسكري عليه السلام من انقاذالامة من حالة التعثر في مهاوي الضلال والتيه ، عن طريق مقاومة التيارات الفكرية المنحرفة عن الجادة وجس مواقع تاثيرها وتشخيصها وهي في بدايتها تقديرا لشدة مضاعفاتها وتخطيطا.
(1) اكمال الدين : 407 ـ باب38
(10)
للقضاء عليها ، ولعل خير مصاديق ذلك هو اهتمام الامام العسكري عليه السلام بمشروع كتاب يصنفه الكندي حول متناقضات ادعاها في القران الكريم ، اذا اتصل به عن طريق بعض المنتسبين الي مدرسته ، فاحبط المحاولة واقنع مدرسة الكندي بانها علي خطا. (1)
وسنعيش مع فصول هذا الكتاب السبعة ادوارا اخري وعطاءات كثيرة امتدت منذ نشاة الامام عليه السلام حتي وفاته في سامراء شهيدا وشاهدا علي الامة بعد سنين من المحنة و فصول من الجهاد.
ولسنا ندعي هنا باننا قداحطنا بكل جوانب حياة هذا الامام الهمام وسيرته المعطاء ، ولكنا قدمنا جهدا متواضعا نرجوان يفي بعض الحق الذي في اعناقنا لائمتنا الهداةالميامين ، سائلين المولي العزيز ان يسدد خطانا ، ويلهمنا الصواب في القول والعمل ، ومنه تعالي نستمد العون والتوفيق ، وهومن وراء القصد.
(1) راجع : المناقب/ابن شهر اشوب4 : 457 ـ دارالاضواء ـ بيروت ـ 1421هـ.
الحياة السياسية في عصر الامام العسكري (232 ـ260هـ)
لاريب ان الحالة السياسية السائدة في عصر ما تشكل المفصل الاساسي الذي تتحرك عليه مجمل الاوضاع الفكرية والاجتماعية والاقتصادية لذلك العصر ، وتنعكس عليه سلبا وايجابا ، ذلك لان الحاكم يمتلك ـ بسلطته وسطوته وسيطرته علي منابع الثروةـ مفاتيح التغيير الاجتماعي والفكري ببسط اسباب الحرية او الاستبداد ، ويمتلك عوامل الرخاء او الفساد الاقتصادي بعدله او جوره ، وكل ذلك منوط بنوع الجهاز الحاكم وسلوك اجهزتة التنفيذية ، وفيما يتعلق بتاريخ الامام ابي محمد الحسن العسكري عليه السلام الذي عاش في العصرالعباسي الثاني سنقدم قراءة تاريخية للحكام الذين عاصروا الامام عليه السلام منذ الولادة حتي الشهادة ، ثم نذكراهم السمات التي طبعت ذلك العصر.
الحكام المعاصرون للامام :
ولد الامام الحسن العسكري عليه السلام في الثامن من الربيع الاخر سنة232هـ علي القول المشهور في ولادته عليه السلام وذلك في اخرملك الواثق بالله بن المعتصم (227ـ132هـ) وبويع بعده لاخيه جعفربن المعتصم المعروف
(12)
بالمتوكل لست بقين من ذي الحجة سنة232هـ ، وكان عمرالامام العسكري عليه السلام نحوثمانية اشهرونصف ، وقتل المتوكل سنة247هـ ، وتولي بعده ابنه المنتصر بالله زمام السلطة العباسية لستة اشهر ويومين فقط ، ومات سنة248هـ ، فتولي بعده المستعين بالله احمدبن محمد المعتصم سنة248هـ ، وخلع نفسه بعد فتنةطويلة وحروب كثيرةسنة251هـ ، وتولي بعده المعتز بالله بن المتوكل واسمه محمدو قيل : الزبير(252ـ255هـ) واستشهد حجة الله الامام ابو الحسن علي الهادي عليه السلام بعد مضي نحوسنتين ونصف من ايام حكم المعتزبالله ، وذلك في الثالث من رجب سنة 254هـ ، وتولي الامام العسكري مهام الامامة الالهية. ثم جاء الي السلطة المهتدي بالله محمد بن الواثق بعدخلع المعتز وقتله سنة 255هـ ، وحكم نحو سنة واحدة ، ثم قتله الاتراك سنة256هـ ، وتولي بعده احمد ابن جعفر المتوكل المعروف بالمعتمد نحو ثلاث وعشرين سنة حيث قتل سنة 279هـ ، وهكذا استغرقت حياة امامنا العسكري عليه السلام الايام الاخيرة من حكم الواثق ، ثم تمام حكم المتوكل والمنتصر والمستعين والمعتز والمهتدي مع اربع سنين من حكم المعتمد ، حيث استشهد امامنا عليه السلام يوم الجمعة الثامن من ربيع الاول سنة260هـ ، علي القول المشهور في وفاته عليه السلام (1).
(1) راجع : تاريخ الخلفاء/السيوطي : 267 ـ 282 ـ دارالكتاب العربي ـ 1422هـ ، تاريخ اليعقوبي 2 : 484 ـ 507 ـ دار صادر ـ1415هـ ، اعلام الورى/الطبرسي 2 : 111 ـ131 ـ مؤسسة ال البيت لاحياء التراث ـ 1417هـ ، الجوهرالثمين/ابن دقماق1 : 146ـ 157 ـ عالم الكتب ـ 1405هـ ، دلائل الامامة ، الطبري : 409و324ـ مؤسسة البعثة ـ1413هـ ، التتمة في
(13)
اهم سمات هذا العصر
يعتبر هذا العصر بداية لضعف سلطة الدولة العباسية وسقوط هيبتها وانحلالها ، بسبب استيلاء الاتراك علي عاصمة الملك ، وانتقاض اطراف الدولة واستيلاء العمال والولاة عليها ، واعتزال الخلفاء عن شؤون الحكم وانصراف غالبيتهم الي اسباب اللهو والترف والمجون ، وقد انعكست اثار ذلك علي مجمل الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية بشكل مباشر ، وفيما يلي اهم خصائص هذا العصر :
السمة الاولي ـ نفوذ الاتراك وضعف العباسيين
تميز هذا العصر بغلبة الاتراك والفراغنه والمغاربة وغيرهم من الموالي و تدخلهم في مقاليد الحكم ، وكان اول ذلك في عصرالمعصتم الذي اعتني منذ توليه الحكم سنة218هـ ، باقتناء الترك ، فبعث الي سمرقند وفرغانة والنواحي في شرائهم ، وبذل فيهم الاموال ، والبسهم انواع الديباج ومناطق الذهب ، فكانوا يطردون خيلهم في بغداد ويؤذون الناس ، وضاقت بهم البلد ، فاجتمع اليه اهل بغداد وقالوا : ان لم تخرج عنا بجندك حاربناك ، فكان سبب بنائه سرمن راي وتحوله اليها سنة : 220 وقيل : 221هـ (1) .
وبعد ذلك ازداد نفوذ الاتراك في عاصمة العسكر سامراء وتسنموا
تواريخ الائمة عليه السلام /تاج الدين العاملي : 137و142ـ مؤسسة البعثة ـ 1412هـ .
(1) تاريخ الخلفاء/السيوطي : 259 ، معجم البلدان/ياقوت الحموي ـ المجلد الثالث : 10 ـ13ـ (مدينة سامراء) دار احياء التراث العربي ـ بيروت ـ1417هـ .
(14)
مناصب هامة كولاة وعمال وقادة جيش ، ومنهم بغا الكبير ، وابناء موسي ومحمد ، وبابكيال ، وياركوج ، واذكوتكين ، وبغا الصغير الشرابي ، ووصيف بن باغروغيرهم. وبعدعصرالمتوكل ازدادت سيطرتهم علي مقاليد الحكمم فاهانوا الخلفاء العباسيين وسلبوا ارادتهم ، وتدخلوا في شؤون الملك ، وتلاعبوا ببيوت الاموال ، وانتكهوا مصالح الامة ومقدراتها؛فقدقتلوا المتوكل والمهتدي ، وخلعوا المعتز والمؤيدابني المتوكل من ولاية العهد ، واستخلفوا للمستعين ، واستولوا علي الاموال في عهده ، وقاتلوه حين غضب عليهم ، فاعتصم ببغداد وبايعوا للمعتز من بعده.
قال ابن طقطقا : كان الاتراك قد استولوا منذ قتل المتوكل علي المملكة ، واستضعفوا الخلفاء ، فكان الخليفة في يدهم كالاسير ان شاء واابقوه ، وان شاء واخلعوه ، وان شاء واقتلوه. (1)
وقد وصف بعض الشعراء الحالة التي انتهت اليها الخلافة العباسية في زمن المستعين الذي ليس له حول ولاقوة مع امراء الجند الاتراك ومنهم وصيف وبغا بقوله :
خليفة في قفص يقول ما قال له
بين وصيف وبغاكماتقول الببغـا (2)
ومن مظاهر سيطرة امراء الاتراك علي جميع افراد الدولة بما فيهم الخليفة في زمان المعتز بالله ، ما ذكره اليعقوبي في تاريخه حوادث سنة 255هـ ، قال : وثب
(1) الفخري في الاداب السلطانية/ابن الطقطا : 243 ، نشر الشريف الرضي ، قم.
(2) تاريخ الخلفاء/السيوطي : 278.
(15)
صالح بن وصيف التركي علي احمد بن اسرائيل الكاتب وزير المعتز ، وعلي الحسن بن مخلد صاحب ديوان الضياع ، وعلي عيسي بن ابراهيم بن نوح وعلي ابن نوح ، فحبسهم واخذ اموالهم وضياعهم وعذبهم بانواع العذاب ، وغلب علي الامر ، فهم المعتزبجمع الاتراك ، ثم دخل اليه فازاله من مجلسه ، وصير في بيت ، واخذ رقعته بخلع نفسه ، وتوفي بعد يومين ، وصلي عليه المهتدي. (1)
السمة الثانية ـ استئثار رجال السلطة بالاموال العامة
السمة الغالبة في حياة سلاطين هذا العصر ومن سار في ركابهم من القادة والولاة والامراء والقضاء هي الاستئثار ببيت المال وتسخيره لخدمة مصالحهم الخاصه وحرمان الاغلبية الساحقة منه ، ومن مظاهر ذلك الاستئثاران ام شجاع والدة المتوكل حينما ماتت قبله بسنة خلفت اموالا لاتحصر ؛من ذلك خمسة الاف الف دينار من العين وحده (2). ونقل المورخون في احداث سنة 249 ان المستعين اطلق يد والدته ويد اتامش وشاهك الخادم في بيوت الاموال ، واباحهم فعل ما ارادوا ، فكانت الاموال التي ترد من الافاق يصير معظمها الي هؤلاء الثلاثة...ومايفضل من هؤلاء الثلاثة ياخذه اتامش للعباس بن المستعين فيصرفه في نفقاته (3).
وذكروا انه حينما خرج المستعين من سامراء وبويع للمعتز سنة252هـ
(1) تاريخ اليعقوبي : 2 : 504 ، سير اعلام النبلاء/الذهبي12 : 535 ـ مؤسسة الرسالة ـ بيروت ـ 1419 هـ .
(2) سيراعلام النبلاء12 : 41.
(3) الكامل في التاريخ/ابن الاثير6 : 154ـ دارالكتاب العلمية ـ 1415هـ ، البداية والنهاية/ابن كثير11 3ـ مكتبة المعارف ـ 1414هـ .
(16)
خلف في بيت المال بسامراء نحوخمسائة الف دينار ، وفي بيت مال ام المستعين الف الف دينار ، وفي بيت المال العباس ابنه ستمائة الف دينار (1).
وفي احداث سنة 255هـ ذكروا انه ظُفِر لقبيحة ام المعتزوزوجة المتوكل بعد خلع المعتز وقتله ، بخزائن تحت الارض فيها اموال كثيرة ، ومن جملتها دار تحت الارض وجدوا فيها الف الف دينار وثلاثمائة الف دينار ، ووجدوا في سفط قدر مكوك زمرد لم يرالناس مثله ، وفي سفط اخر مقدار مكوك من اللؤلؤ الكبار ، وفي سفط اخر مقداركليجة من الياقوت الاحمر الذي لم يوجد مثله ، فقومت الاسفاط بالفي الف دينار (2).
اما استعراض تفاصيل اموال وضياع الامراء والولاة والقضاء وكتاب الدواوين والجواري والمغنين والشعراء وغيرهم من المقربين الي البلاط ، فبما يخرج بنا عن الغرض ، ويكفي مثالا علي ذلك ان بغا الكبير حينما مات سنة248هـ ترك من المتاع والضياع ما قيمته عشرة الاف الف دينار ، وترك عشر حباب جوهر قيمتها ثلاثة الاف الف دينار (3).
وكانت مؤونة احمد بن طولون الف دينار في اليوم...وحينما مات خلف من العين عشرة الف دينار ، واربعة وعشرين الف مملوك (4).
(1) الكامل في التاريخ6 : 166 ، البلادية والنهاية11 : 7.
(2) تاريخ الطبري9 : 395 بتحقيق محمد ابوالفضل ابراهيم ـ بيروت ، الكامل في التاريخ6 : 202 ، البداية والنهاية11 : 17 ، تاريخ الخلفاء/السيوطي : 280.
(3) البداية والنهاية11 : 2.
(4) سيراعلام النبلاء12 : 94 ـ 95 .
(17)
وكانت غريب جارية المعتمد ذات اموال جزيلة (1).
السمة الثالثة ـ ميل العباسيين الي البذخ والترف واللهو
كان رجال الدولة وعلي راسهم السلطان ينفقون الاموال الطائلة لشؤونهم الخاصة كاقتناء الجواري والسراري والقيان والمغنين وجميع وسائل اللهو والمجون المتاحة في ذلك العصر ، وكانوا يسرفون في الانفاق علي الشعراء وبناء القصور ، بينما تعيش الاكثرية الساحقة من الناس علي الكفاف وينهكها الجوع والفقر وتفتك بها الامراض والاوبئة.
فقد كان المتوكل كثير الانفاق علي الشعراء حتي قيل : ما اعطي خليفة شاعرا ما اعطي المتوكل (2) ، فاجاز مروان بن ابي الجنوب علي قصيدة في مدحه بمائة وعشرين الف درهم ، واعطاه حتي اثري كثيرا فقال :
فامسك ندي كفيك عني ولاتزد
فقدخفت ان اطغي وان اتجبرا
فقال : لا امسك حتي يغرقك جودي (3).
وقرب المتوكل ابا شبل عاصم بن وهب البرجمي ، وكان شاعرا ماجناً ، وانفق عليه حتي اثري ، قال ابوالفرج : نفق عند المتوكل بايثاره البعث وخدمه وخص به فاثري ، وامر له بثلاثين الف درهم علي قصيدة من ثلاثين بيتا (4).
واجاز عبيدالله بن يحيي بن خاقان ابا شبل البرجمي ايضا علي قصيدة في
(1) سير اعلام النبلاء12 : 552.
(2) تاريخ الخلفاء/السيوطي : 270.
(3) تاريخ الخلفاء/السيوطي : 270.
(4) الاغاني/ابوالفرج الاصفهاني14 : 193 ـ داراحياء التراث العربي.
(18)
مدحه خمسة الاف درهم ودابة وخلع عليه (1).
وعن احمد بن المكي ، قال : غنيت المتوكل صوتا شعره لابي شبل البرجمي ، فامرلي بعشرين الف درهم ، فقلت ياسيدي اسال الله ان يبلغك الهنيدة. فسال عنها الفتح ، فقال : يعني مائة سنة ، فامر لي بعشرة الاف اخري (2).
واجاز المتوكل الحسين بن الضحاك الخليع علي اربعة ابيات اربعة الاف دينار (3).
وكان المتوكل مغرما بالجواري اللاتي يجلبن من انحاء البلاد باموال طائلة ، فقد روي عن المسعودي انه قال : كان المتوكل منهمكا في اللذات والشراب ، وكان له اربعة الاف سرية ووطئ الجميع (4).
كما كان ميالا الي التانق في تشييد القصورالضخمة التي تعج بالوان من مظاهر الترف والبذخ والعبث اللهو والمجون ، قال اليعقوبي : بني المتوكل قصورا انفق عليها اموالا عظاماً منها : الشاه ، والعروس ، والشبندار ، والبديع ، والغريب ، والبرج ، وانفق علي البرج الف الف وسبعمائة الف دينار (5).
وقيل : انفق علي الجوسق والجعفري والهاروني اكثر من مئتي الف الف
(1) الاغاني14 : 199.
(2) الاغاني14 : 193 ـ 194
(3) مروج الذهب/المسعودي4 : 388 ـ داراحياء التراث العربي ـ 1422هـ ، سير اعلام النبلاء12 : 40.
(4) تاريخ الخلفاء/السيوطي : 271 ، سيراعلام النبلاء12 : 40.
(5) تاريخ اليعقوبي2 : 491.
(19)
درهم (1).
اما الاسراف في مراسم البلاط الخاصه باولاد الخلفاء وغيرهم فمهما يطول به الحديث ، ومن شواهد ذلك ما نقله ابن كثير عن مراسم تسليم المعتز علي ابيه بالخلافة ، قال : لماجلس[المعتز] وهوصبي علي المنبر وسلم علي ابيه بالخلافة ، وخطب الناس ، نثرت الجواهر والذهب والدراهم علي الخواص والعوام بدار الخلافة ، وكان قيمة مانثر من الجواهر يساوي مائةالف دينار ، ومثلها ذهبا ، والف والف درهم غير ماكان من خلع واسمطة واقمشة مما يفوت الحصر... (2).
اما المستعين فقدقالواعنه : انه كان متلافا للمال مبذرا ، فرق الجواهر وفاخر الثياب ، واختلت الخلافه بولايته واضطربت الامور (3).
وذكروا ان ام المهتدي محمد بن الواثق ، التي ماتت قبل استخلافه ، انها كانت تحت المستعين ، فلما قتل المستعين صيرها المعتز في قصرالرصافة الذي فيه الحرم ، فلما ولي المهتدي الخلافة قال يوم لجماعة من الموالي : اما انافليس لي ام احتاج لها الي غلة عشرة الاف في كل سنة لجواريها وخدمها والمتصلين بها... (4).
وامثله ذلك كثيرة في التاريخ ، وهي تحكي عن حجم التبذير في بيوت
(1) سير اعلام النبلاء12 : 40 ، وراجع : معجم البلدان/ياقوت2 : 60 ـ دارالاحياء التراث العربي ـ عند ترجمة الجعفري ، وتاريخ اليعقوبي2 : 492 ، والبداية والنهاية10 : 346 ، والكامل في التاريخ6 : 130.
(2) البداية والنهاية11 : 17.
(3) سيراعلام النبلاء12 : 46.
(4) تاريخ الطبري9 : 396 ، الكامل في التاريخ6 : 203 ، البداية والنهاية11 : 18.